تفسير سفر أيوب ٣٦ للقمص تادرس يعقوب

اَلأَصْحَاحُ السَّادِسُ وَالثَّلاَثُونَ
حديث أليهو الرابع

أليهو يمجد برّ الله، ويهيئ الطريق لظهور الله

في الأحاديث السابقة وبخ أليهو أيوب على أسلوبه غير اللائق في حواره مع أصدقائه الثلاثة، ولم يكن لدى أيوب ما يجيب به على أليهو، فالتزم الصمت. الآن يتحدث أليهو بصفة عامة لكي يوضح لأيوب المفاهيم الصحيحة بخصوص التعامل معه.

يكمل أليهو حديثه هنا ليوضح أن القدير لن يكف عن أن يحقق العدالة بين البشر دون تحيز [2-6]. فإنه يعمل دومًا لبنيان الأبرار، وإن كان يؤدبهم أحيانًا، ولكن في حبٍ. فإن خضعوا لتأديباته الأبوية يتمتعوا بالخيرات، أما أن تذمروا وتمردوا ولم يخضعوا له، فيُذلون ويكونون موضع غضبه [7-16].

فإن قبل التأديب يمكن أن يرجع أيوب إلى حاله الأول، أما مقاومته لتأديب الرب فيجعل منه مثلاً لعدالة الله مع المقاومين [17-18]. هكذا ينذره أليهو لئلا يقطعه الرب وهو في حالة التمرد، فلا تفديه ثروة ولا قوة ولا أمر منا [18-26]. الله كلي القدرة، ليس من يقدر أن يقاومه، وكلي الحكمة، ليس من يفلت من يديه. إنه كلي النقاوة، حتى تظهر الشمس أمامه خافته جدًا، أصغر من شعاع بسيط أمام كوكب عظيم منير. قداسته تظهر من كراهيته للإثم، وصلاحه يظهر من إشباعه لاحتياجات خليقته.

  1. مقدمة                             1-4.
  2. طرق معاملة الله مع أولاده       5-15.
  3. مشورة صالحة لأيوب             16-21.
  4. الله يعَّلم ولا يلزم بقبول تعليمه    22-23.
  5. عظمة أعمال الله                  24-26.
  6. العاصفة والمطر                  27-31.
  7. نشيد للحكمة القديرة              32-33.

 

  1. مقدمة

جاء وصف أليهو لقوة الله في العاصفة يسبق مباشرة مجيئه وحديثه مع أيوب. العاصفة والمطر هما وكالتا الله للدينونة والبركة [٣١].

وَعَادَ أَلِيهُو فَقَالَ: [1]

أصْبِرْ عَلَيَّ قَلِيلاً،

فَأُبْدِيَ لَكَ أَنَّهُ بَعْدُ لأَجْلِ اللهِ كَلاَمٌ [2].

يطلب أليهو من أيوب أن يطيل أناته عليه، ويستمع إليه، فإن لديه براهين أخرى يتذرع بها بخصوص عدالة الله وعنايته.

أَحْمِلُ مَعْرِفَتِي مِنْ بَعِيدٍ،

وَأَنْسِبُ بِرًّا لِصَانِعِي [3].

يعلن أليهو أنه يحمل معرفته، أو يحفرها كنقشٍ لا يُمحى. يأتي بها من بعيد، لا من مكان بعيد، وإنما من أعمال الله القديرة. وأنه ينسب البرّ لله، بينما يعتقد أن أيوب ينسب له الظلم (أي 34: 10-12).

كأنه يقول: ما سأقوله لك ليس بالأحاديث العامة التي يعرفها الكثيرون، إنما هي ثمرة بحث وإدراك لأعمال الله الفائقة، التي غابت عن الكثيرين.

ولعله يقصد أن معرفته تمتع بها من بعيد، أي من الله كعطيةٍ خاصة.

حَقًّا لاَ يَكْذِبُ كَلاَمِي.

صَحِيحُ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَكَ [4].

يؤكد له أنه لن يتكلم كلامًا بطالاً مثل أصدقائه الثلاثة بل ينطق بالحق، وأنه صاحب معرفة كاملة.

لا يستخف الله بأحدٍ جادٍ، بل يمجد الأبرار، حتى إن سقطوا تحت متاعب. يظهر لهم خطاياهم، ويصلح من أمرهم إن تابوا، ويسمح بهلاكهم إن رفضوا التوبة [٥-١٢]. يسمح الله بالألم لأجل التعليم والتهذيب [15].

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أليهو حاول أن يمدح نفسه مثل القديس بولس ليؤكد أنه يقدم حقائق عظيمة، وأن أيوب سيعرف ذلك فيما بعد.

v   حتى الأبرار كثيرًا ما يميلون إلى مديح ما يقولونه عندما يرون أن السامعين الضعفاء لا يستوعبون كلماتهم. هذا ليس لأنهم شغوفون نحو مديحهم، وإنما لكي يلهبوا سامعيهم برغبة حارة للاستماع إليهم… هكذا يقول القديس بولس لأهل كورنثوس بعد أن تحدث عن أشياء كثيرة عجيبة: “فمنا مفتوح إليكم أيها الكورنثيون، قلبنا متسع”(2 كو 6: 11).

 البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. طرق معاملة الله مع أولاده

هُوَذَا اللهُ عَزِيزٌ،

وَلَكِنَّهُ لاَ يَرْذُلُ أَحَدًا.

عَزِيزُ قُدْرَةِ الْقَلْبِ [5].

الله قدير من جهة القوة والحكمة؛ ليس من أحد مهما كان قدره يحتقره الله، يطلب الكل ويهتم بالجميع، ليحقق لكل شخصٍ العدالة، ولا يتركه مظلومًا. يؤكد أليهو ما سبق فأعلنه (أي 35: 14).

عمل السيد المسيح القدير أن يسند الضعفاء ويهبهم القوة، ولا يستخف بالأقوياء. فإن الرب لا يطرد الأقوياء، لأنه هو نفسه القدير. إنما إن طرح طالبي المجد الذاتي، إنما ليهبهم نعمة التواضع، فينالون من فيض قدرته وقوته، مترنمين: “لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصًا”. (إش 2:12)

يريد الله القدير أن يرى في أولاده روح القيادة والقدرة، فهو لا يرذل الأعزاء أصحاب السلطة. وقد أدرك الرسول بولس المتواضع هذا، فيقول بكل يقين: “أبعصا آتي إليكم، أم بالمحبة وروح الوداعة” 1كو 4: 21).

v   القائد (الحاكم) يرغب بالحق أن يتمثل بالله إن كان يدير قوته السامية بهدف نفع الآخرين.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

لاَ يُحْيِي الشِّرِّيرَ،

بَلْ يُجْرِي قَضَاءَ الْبَائِسِينَ [6].

يظن الأشرار أنهم يحيون باغتصاب حقوق الآخرين والتمتع بالملذات، والسخرية بالأبرار، لكنهم في الحقيقة لا يحيون، إذ يحل بهم الموت الأبدي، أما الأبرار المتواضعون وإن بدت حياتهم مرّة بسبب الضيقات، فحتمًا سيتمتعون بالعدالة الإلهية.

يقصد بالبائسين هنا المساكين والضعفاء الذين يظنون أنه ليس من أحدٍ يسندهم ويدافع عنهم ضد الأغنياء وأصحاب السلاطين، فإن الله نفسه يقضي لهم، ويرد لهم حقوقهم.

v   “لكنه لا يخلص الشرير، ويجري قضاء للمساكين” [6]. غالبًا ما يميل الكتاب المقدس إلى دعوة المتواضعين “المساكين”. وقد أشير إليهم في الإنجيل هكذا مع إضافة: “بالروح” حيث قيل: “طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات” (مت 5: 3)… يهلك الله المتكبرين، ويحرر المتواضعين بقضائه. أو يقضي للمساكين، لأنهم يُظلمون بطريقة شريرة الآن، ويأتون فيما بعد قضاة على ظالميهم.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

لاَ يُحَوِّلُ عَيْنَيْهِ عَنِ الْبَارِّ،

بَلْ مَعَ الْمُلُوكِ يُجْلِسُهُمْ عَلَى الْكُرْسِيِّ،

أَبَدًا فَيَرْتَفِعُونَ [7].

لا تفارق عينا الرب الأبرار، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، في مراكز عالية أو منحطة. إنهم كالكنز الثمين في عيني الله، قد يسمح لهم بالتجارب لكنه لن ينساهم، ولن يتجاهلهم. إنهم يتمتعون بنوعٍ من الكرامة والسلطة، ويحُسبون ملوكًا بينما يتطلع العالم إليهم كمن هم محتقرين ومرذولين وبلا كرامة.

يهبهم الله سلطانًا في هذا العالم، كما يثبتهم إلى الأبد في سلامٍ سماويٍ فائقٍ.

إنه لا يترك الأتقياء (1 بط 3: 12)، بل يكرّمهم (1 صم 2: 8؛ مز 113: 7-8). ينالون كرامة جزئية هنا (1 بط 2: 9؛ 1: 6)، وكرامة كاملة في الدهر الآتي (رؤ 5: 10؛ أي 22: 5).

v   يُظن أحيانًا أن الله يسحب عينيه عن الأبرار لأنهم يُجرحون هنا بظلم الأشرار دون الانتقام منهم. إنه يحلّ عبيده بالأكثر عندما يحل بهم ظلم مضطهدهم. إذ يراهم يحتملون في تواضع. يتطلع بلا شك إلى المكافأة التي سيهبهم إياها هناك. بهذا لا يحّول عينيه عن الأبرار.

أنظر كيف أن الواحد يئن في تواضعه، والآخر يتشامخ ويزدهر في شره. واحد يُخدش قلبه، والآخر يفتخر بكبرياء في شره. أيهما تحوٌل عينا الله بالأكثر عنه: من يعاني من الظلم أم من يسقط الظلم عليه ممن يضطهدهم؟…

بلياقة يُدعى القديسون ملوكًا في لغة الكتاب المقدس، إذ يرتفعون فوق العواطف الجسدية ويضبطون ملذات الشهوة، ويلطفون من لهيب الطمع، ويحنون تشامخ الكبرياء، ويسحقون اقتراحات الحسد، ويطفئون نار الهوى.

إنهم ملوك لأنهم يتعلمون ألا يستسلموا لانفعالات التجارب بقبولها، بل يسيطرون عليها…

إنهم يوُضعون إلى الأبد على عرش ملكوت المجد الأبدي، ويتقبلون سلطان إدانة الآخرين… هكذا يقول الرب لكنيسة لاودكيا: “من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضًا وجلست مع أبي في عرشه” (رؤ 3: 21)…

إنه ليس بالأمر المتضارب أن يعلن في موضع آخر أن تلاميذه سيأتون على اثنى عشر عرشًا (مت 19: 28)، ويقول هنا إنهم يجلسون على عرشه. يوضح بالاثني عشر عرشًا الدينونة العامة، وبعرش الابن يظهر السمو الخاص للسلطان القضائي.

البابا غريغوريوس (الكبير)

إِنْ أُوثِقُوا بِالْقُيُودِ،

إِنْ أُخِذُوا فِي حِبَالِ الذُّلِّ [8].

يصحح أليهو مفاهيم أصدقاء أيوب، فيقول إنه وإن أُلقي الأبرار في سجنٍ، وتعرضوا لمحاكمات ومضايقات قاسية، وإن قيدوا في سلاسل، وصار كمن ألُقوا على سرير الألم، وسُحقوا بنكبات ثقيلة، تبقى عينا الرب عليهم. فلا يُنظر إلى ما صاروا إليه كبرهانٍ أنهم كانوا مرائين، أو أن الله لا يبالي بهم. فإن لله خطة حكيمة بخصوص تأديب البشرية تنتهي بسعادة من يقبلون التأديب ومجدهم في الوقت المناسب.

v   قيود العبودية هي الاحتجاز في الرحلة الحاضرة. رأى بولس أنه مقيد بهذه القيود عندما قال: “لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح” (في 1: 23). لقد أدرك أنه كان مقيدًا برباطات الفقر، متطلعًا إلى الغنى الحقيقي، طالبًا ذلك لتلاميذه أيضًا: “لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين” (أف 1: 18)… عندما نتعلم بالحب الكثير عن المجد السماوي، فإننا نشعر بثقل أكثر عندما نرتكب الخطايا.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

فَيُظْهِرُ لَهُمْ أَفْعَالَهُمْ وَمَعَاصِيَهُمْ،

لأَنَّهُمْ تَجَبَّرُوا [9].

أظهر لهم حياتهم وأعمالهم الشريرة، وذلك بأن أرسل إليهم رسلاً أو أنبياء يعلنون لهم عن حالهم الشرير (أي 33: 23)، أو خلال تأملاتهم الهادئة ومراجعتهم لأنفسهم (أي 33: 27)، أو بعمل الروح القدس الذي يكشف لهم عن حياتهم. غاية أحزانهم وضيقاتهم – كما يقول أليهو – أن يجدوا الفرصة لاكتشاف حياتهم وإصلاح نقائصهم.

يظهر لهم أيضًا كيف صارت معاصيهم عظيمة وخطيرة. فقد ظنوا أنهم أقوياء وعظماء، عوض أن يتكلوا على الله الحيّ، لهذا لا يسندهم عندما تحل بهم الضيقات.

وَيَفْتَحُ آذَانَهُمْ لِلإِنْذَارِ،

وَيَأْمُرُ بِأَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الإِثْمِ [10].

بقوله “يفتح آذانهم” يعني أنه يهبهم فهمًا أو يعلمهم أو يهبهم الرغبة في التعلم ليدركوا السبب الذي لأجله يؤدبون، ويأمرهم أن يعودوا من تلك الشرور التي جعلته يفتقدهم بالأحزان والضيقات.

إِنْ سَمِعُوا وَأَطَاعُوا،

قَضُوا أَيَّامَهُمْ بِالْخَيْرِ،

وَسِنِيهِمْ بِالنِّعَمِ [11].

إن سمعوا لصوته وعبدوه كما يليق، يقضون حياتهم في نجاحٍ وتمتلئ حياتهم بالسرور. بمعنى آخر إن أثمرت الضيقات توبة عن خطاياهم، وطلبوا مراحم الله وعبدوه، فإنهم يحيون في رخاءٍ. وكأن غاية الضيقات ليس تحطيمهم، وإنما رجوعهم إلى لله، لينعموا ببركاته ومراحمه، ويتمتعوا بالسعادة الحقيقية.

كأن أليهو يطالب أيوب ألاَّ يركز أنظاره على اتهامات أصدقائه فتتحطم نفسيته، وفي نفس الوقت لا يظن أن الله عنيف وقاسي، ولا يبرر ذاته أمام الله، بل يطلب التوبة، فينعم بالسعادة التي فقدها.

v   يقصد “بالخير” السلوك المستقيم، أما “بالمجد” (بالنعم)، فيقصد المكافأة السمائية. الذين يتعلمون طاعة الوصايا الإلهية يقضون أيامهم بالخير، وسنيهم بالمجد.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا، فَبِحَرْبَةِ الْمَوْتِ يَزُولُونَ،

وَيَمُوتُونَ بِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ [12].

أما إن تصلف الإنسان وتذمر على الله بسبب الضيقات، تضربه حربة الموت أو سيف الموت فيهلك، ويموت لا بسبب الضيقات، وإنما بسبب عدم المعرفة، أو بسبب غباوتهم.

تذمر الإنسان على الضيقات عوض توبته، لا يرفعها عنه، بل يجعلها تزداد ثقلاً فيتحطم بتذمره. لا يسحب الله يده التي تبدو ثقيلة بالتجارب القاسية حتى يرجع الإنسان إليه، ويكف عن التذمر والشكوى.

عادة يبدأ الله بالتأديبات الخفيفة، فإن أثمرت توبة يرفعها، وإن تقسى قلب الإنسان بالتذمر على الله اشتدت التجربة وتزايدت حتى يدرك ضعفه ويعود بالحكمة إلى الله.

v   يوجد البعض لا تردهم حتى العذابات عن عادتهم الفاسدة. يقول النبي عنهم: “ضربتهم فلم يتوجعوا، عاقبتهم وأبوا قبول التأديب” (إر 5: 3). قيل عنهم تحت رمز بابل: “داوينا بابل فلم تُشفَ” (إر 51: 9). وأيضًا: “اقتل وأبيد شعبي، لم يرجعوا عن طرقهم” (راجع إر 15: 7). هؤلاء يصيرون إلى حالٍ أردأ بمعاقبتهم، لأنه إذ يحلّ بهم الألم إما يزدادون قسوة في عنادهم، أو ما هو أردأ أنهم يندفعون نحو التجديف في سخطٍ.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

أَمَّا فُجَّارُ الْقَلْبِ، فَيَذْخَرُونَ غَضَبًا.

لاَ يَسْتَغِيثُونَ إِذَا هُوَ قَيَّدَهُمْ [13].

يدعو أليهو المتذمرين على الله بالفجار في قلوبهم، أي الأشرار؛ هؤلاء عوض رفع غضب الله عنهم بالتوبة يجمعون بالأكثر غضبه. ومع أن الله في محبته يسمح بأن يقيدهم بالضيقات حتى يصرخوا إليه بروح التواضع، إلاَّ أنهم في عنادهم لا يلجأون إليه ولا يتواضعون قدامه.

بالضيقات يدعوهم الله ليقبلوا صداقته، ويتعرفوا على أسراره، ويدخلوا معه في حوار لائق، لكن من يتشامخ يدخل في عداوة مع الله، ويحكم على نفسه بالهلاك.

يقصد بالفجار هنا فئة من الأشرار يمارسون الشر في تحدٍ مع الله وعنادٍ ظاهرٍ، فيجمعون لهم غضب الله (رو 2: 5).

يرى البعض مثل Umbreit أن المقصود هنا ليس غضب الله، إنما يجمع الفجار الغضب ضد الله، فعوض الصراخ إليه يثورون ضده علانية.

إذ يتحدث هنا عن المرائين فإنهم بريائهم ليس فقط يستحقون السقوط تحت غضب الله الذي يمقت الشر، وإنما بمحاولة الاختفاء تحت ستار البرّ الذاتي، وخداعهم للبشر بأنهم أبرار، يثيرون سخط الله، إذ هم يمارسون الشر عن معرفة، ويضيفون إلى الشر الخداع، وهي سمة عدو الخير المخادع. مثل هؤلاء المرائين يسقطون تحت تأديبات لعلهم يرجعون عن شرورهم، لكن غالبًا ما لا يبالون بالتأديبات مهما بلغت شدتها، كما لا يبالون بالعقوبة الأبدية، فلا يصرخون إلى الله كي يرجعوا إليه ويتركوا رياءهم. إنما كل ما يشغلهم هو تثبيت نظرة الناس نحوهم أنهم أبرار.

يمكننا أن نقسم البشر إلى ثلاث فئات:

  1. فئة الأشرار الذين يصرون على الشر، ولا يخجلون من شرورهم، مهما حلت بهم التأديبات.
  2. فئة المرائين الذين كل ما يشغلهم نظرة الناس إليهم، فيخفون شرورهم ولا يعترفون بها حتى وهم تحت التأديب.
  3. فئة المؤمنين الحقيقيين الذين يعترفون بأنهم خطاة، ويؤمنون بالله غافر الخطية، هؤلاء يدفعهم التأديب إلي النمو الروحي عربون المجد الأبدي.

v   “أما المراءون والمخادعون فيثيرون غضب الله” [13] من كان مرائيًا يرتبك بملاحظة نقطتين على الدوام: أن يتعلم بحيث أن يخفى الحقيقة التي هو عليها، وأن يستعرض ما هو ليس عليه، يطمس أخطاءه الحقيقية ويظهر صلاحًا غير حقيقي… عندما يشير إلى المرائين والمخادعين يضيف بلياقة شديدة لا أنهم مستحقون غضب الله وإنما يثيرونه لأن من يخطئ بجهالة يستحق غضب الله، أما من يقاوم وصاياه عمدًا وهو يعرف ما هو صالح ويستهين به مع قدرته أن يفعل الصلاح ولا يريد ذلك فهو يثير سخط الله

لا يصرخون عندما يقيدون” [13]. كل إنسانٍ شريرٍ لا يطلب أن يظهر مقدسًا عندما يحل به التأديب القاسي لا يخجل من أن يعترف بأنه شرير. أما الشرير الذي تستوقفه أحكام الإنسان بإظهار قداسة حتى عندما يُضرب بالعصا، يمتنع عن إظهار شره لأنه اعتاد أن يظهر قديسًا… لكننا نحن نكون “مقيدين” عندما تحضرنا ضربات العصا. إننا نستغيث بصوتٍ عالٍ عندما نُقيد، كلما اعترفنا بخطايانا، عندما نكون تحت الضربات. عندما تسقط ضربات التأديب على المرائين لا تحضرهم إلى اعتراف أمين. إنهم يخشون من أن يُفضحوا كخطاةٍ، إذا نظر الناس. حينما يُضربون الآن إلى النهاية ومع إدراكهم أنهم منقادون إلى عقوبة أبدية لكنهم لا يزالون يريدون أن يبقوا في نظر الناس كما هم، إذ تعلموا أن يستعرضوا أنفسهم.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

v     الكل يرى اللص “الرياء” يحمل كل شيء أمام عينيّه ويبتهج بذلك! يا لها من لصوصيّة جديدة من نوعها، تجتذب الناس وتبهجهم بينما هم يُسلبون![1312]

v     قد يوجد من يقدّم صدقته قدام الناس لكنّه يتحاشى التظاهر بها، ويوجد أيضًا من لا يقدّمها قدام الناس لكنّه يتباهى بها سرًا. فالله لا يجازي عن الصداقة بحسب صنعها إن كانت أمام الناس أم لا، بل بحسب نيّة فاعلها[1313].

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

v     لقد اعتادوا أن يسيروا مرتدين ثيابًا مكرمة لكي ينالوا تكريمًا عظيمًا بسببها، ويتبعون نفس الأمر في أشياء كثيرة تقودهم للمجد الزمني.

الأب ثيؤفلاكتيوس

يَمُوتُون فِي الصِّبَا،

وَحَيَاتُهُمْ بَيْنَ الْمَأْبُونِينَ [14].

هذا ما يقوله المرتل في المزمور (55: 2).

الترجمة الحرفية: “سيموتون في صبا نفوسهم”، قد يعيشون للشيخوخة حسب الجسد، لكن نفوسهم تُحسب غير ناضجة؛ قضوا أغلب عمرهم بلا نمو روحي ولا نفع لأنفسهم أو لإخوتهم؛ سنواتهم تحسب كيومٍ واحد (مز 90: 4)، أو كساعات قليلة.

حياتهم بين الدنسين”، بين الزناة والفاسقين والفجَّار. جاءت الكلمة المترجمة “المأبونين” لتعني الذين تكرست حياتهم للعبادة الوثنية لممارسة العلاقات الجسدية الخاطئة. وجاءت في الترجمة السبعينية: “حياتهم تُجرح بواسطة الملائكة”.

إنهم يُحسبون كأهل سدوم وعمورة، لا يُقدم بعد لهم حنو أو رحمة، لأنه كان ينبغي عليهم أن يشهدوا للبرّ الحقيقي، يمارسونه ويكرزون به، لكنهم كرسوا حياتهم للفساد.

v   “تموت نفسهم في عاصفة، وحياتهم بين المخنثين” [14]… اعتادت أنفسهم على المديح البشري في هدوء مهلك، لكنها تموت في عاصفة مفاجئة… فإن مديح البشر يعذب الأبرار، بينما يجعل الأشرار في زهوٍ.

يتعذب الأبرار (من مديح البشر لهم) فيتنقون، بينما ابتهاج الأشرار(بمديح البشر لهم) يؤهلهم للعقاب الأبدي. إذ لا يطلبون مجد خالقهم، يبتهجون بمديحهم، أما الذين يطلبون مجد خالقهم، فيتعذبون من مديح الناس لهم، لئلا ما يقولونه عن الخارج لا يكون له وجود في الداخل. ولئلا ما يُقال حتى وإن وُجد في الداخل يصير باطلاً في عيني الله بسبب هذه الكرامات ذاتها. ولئلا يسحب مديح الناس قلوبهم عن الحزم، وينحدر بها إلى الشعور بالاكتفاء.

أما إذا رأوا أن مديحم يقود إلى مجد الله، فيشتاقون إليه ويرحبون به. لقد كُتب: “لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات” (مت 5: 16)…

المتشامخون يكرسون قلوبهم المخنثة للمديح البشري، لأنهم يفسدون بحب الأنا. قيل عن هؤلاء في موضع آخر: “لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم”( 2تي 3: 2)..

 البابا غريغوريوس (الكبير)

يُنَجِّي الْبَائِسَ فِي ذُلِّهِ،

وَيَفْتَحُ آذَانَهُمْ فِي الضِّيقِ [15].

كلمة “البائس” هنا لا تعني مجرد الفقير، إنما المتألم والمُجرب كما أوضح أليهو.

الذين يقدمون توبة ويرجعون إلى الله ينقذهم الله من تجاربهم، ويردهم إلى حياتهم قبل حلول التجارب.

يفتح آذانهم“، واهبًا إياهم فهمًا لتدبيره الإلهي. هذه المبدأ يشغل ذهن أليهو، كرره عدة مرات.

v   المسكين يخلص من ذله عندما يتحرر الإنسان المتواضع من متاعب هذه الرحلة. إذ هو تحت الضغط في تجارب مستمرة لكي يشتاق إلى طلب فرح التعزية الحقيقية. لذلك جاء بعد ذلك: “ويفتح أذنيه في الضيق“… تفتح الضيقة أذني القلب اللتين أغلقهما رخاء هذا العالم.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. مشورة صالحة لأيوب

وَأَيْضًا يَقُودُكَ مِنْ وَجْهِ الضِّيقِ،

إِلَى رُحْبٍ لاَ حَصْرَ فِيهِ،

وَيَمْلأُ مَؤُونَةَ مَائِدَتِكَ دُهْنًا [16].

في وسط الضيق ينتزع الله المؤمنين كما من فم الأسد، ويرفعهم إلى الحرية، كما إلى مكانٍ رحبٍ أكثر مما كانوا عليه قبل التجربة (مز 18: 19؛ 31: 8؛ 118: 5)، ويمدهم بمائدة دسمة (مز 23: 5؛ إش 25: 6).

جاءت العبارة “لا حصر فيه” في النص الوارد في كتابات البابا غريغوريوس (الكبير):ليس تحته أساس“.

v   كل من ينسى طريق الحياة ويطرح نفسه في ظلمة الخطية، يدفع بنفسه في بئرٍ أو حفرة أيا كانت. وإذا تثقل جدًا بعادة ارتكاب الخطية، وصار عاجزًا عن الصعود، يصير كمن هو حبيس بئر حجرة الأعمال الصالحة الفسيحة بعد أن كان في مضيق عادة شريرة، فيقال عنه: “يقودك من وجه الضيق إلى رحب”. فإنه يُقاد الشخص بأمان من وجه الضيق إلى الرحب وذلك متى رجع بالتوبة من حمله نير الشر الثقيل إلى حرية الأعمال الحسنة.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

حُجَّةَ الشِّرِّيرِ أَكْمَلْتَ،

فَالْحُجَّةُ وَالْقَضَاءُ يُمْسِكَانِكَ [17].

يرى البعض أن أليهو يوبخ أيوب قائلاً له إنه إن كان وهو تحت الآلام والتأديبات تمثل بالمتذمرين، فإنه يسقط معهم تحت ذات الحكم. فكل ما رآه أليهو في أيوب أنه متذمرٍ على الله، فيكون كمن يتمم ما يفعله الأشرار، ويتبنى روحهم وفكرهم، فأهَّل نفسه للسقوط معهم تحت العدالة الإلهية.

v   كل خطية ليس لها أساس، إذ ليس لها كيان في طبيعتها. الشر لا كيان له في ذاته… فساد الشر لا قوة له ليقوم بذاته.

البابا غريغوريوس (الكبير)

عِنْدَ غَضَبِهِ لَعَلَّهُ يَقُودُكَ بِصَفْقَة.

فَكَثْرَةُ الْفِدْيَةِ لاَ تَفُكُّكَ [18].

يحذر أليهو أيوب من سلوكه مثل المتذمرين، فيسحبه الله بضربة من عنده، ولا يمكن لفديةٍ ما مهما كان قدرها أن تخلصه، وإن كان أيوب قد صار معدمًا، ليس لديه فدية يقدمها.

فالمتذمر لا تفديه ثروته ولا إخوته، وكما يقول المرتل: “الذين يتكلون على ثروتهم، وبكثرة غناهم يفتخرون، الأخ لن يفدي الإنسان فداء، ولا يعطي الله كفارة عنه” (مز 49: 6-7). الإنسان العنيد الدائم الشكوى والمتذمر يحفظ لنفسه الغضب الإلهي المرعب، ليس ما يفديه ولا من يفديه. تُنزع حياته ويلقى بنفسه في جهنم.

“فاحترزوا من التذمر الذي لا خير فيه، وكفوا ألسنتكم عن الثلب، فإن المنطوق به في الخفية لا يذهب سدى، والفم الكاذب يقتل النفس” (الحكمة 1: 11)

“العبد الحكيم يخدمه الأحرار، والرجل العاقل لا يتذمر” (سيراخ 10: 28)

“ولا تتذمروا كما تذمر أيضًا أناس منهم فأهلكهم المهلك” (1 كو 10: 10)

v   الإنسان الذي له تظلُّم (أو تذمُّر) يثور في قلبه هو بعيد عن رحمة الله.

الأب إشعياء

v   إذا كان الغذاء ينقصك فصلِّ أولاً واطلب من الله، ثم اُخرج من قلايتك ولا تضع رجاءك في مَنْ تذهب إليه مفكرًا هكذا: إنّ إنسانًا سيعطيني، بل قُل: ”إنّ الله هو الذي سيسدّ حاجتي“. إذا ذهبتَ عند أحدٍ وطلبتَ شيئًا ولم يعطِك فلا تتذمر، بل افهم أنّ الله لم يوصِِه أن ينال بركتك.

القديس أرسانيوس

v   الإنسان الذي عرف ضعفه وعجزه قد وصل إلى حدّ التواضع. الموجِّه لإنعامات الله على الإنسان هو الشكر المتحرك في القلب على الدوام. والموجِّه للتجارب على النفس هو التذمُّر. إنّ الله يحمل كل ضعف الإنسان، ولا يحتمل الإنسان الذي يتذمر دائمًا دون أن يؤدّبه. الفم الذي يشكر دائمًا يقبل البركة من الله، والقلب الذي يلازم الحمد والشكر تحلّ فيه النعمة.

v   الذي يماحك قبالة التأديب يبعد عنه المراحم الأبوية. الذي يتذمر مقابل التجارب تتضاعف عليه. الذي لا يتأدب ههنا وينسحق بالتجارب يتعذب هناك بلا رحمة.

القديس مار إسحق السرياني

v   قال شيخ عن لعازر المسكين: “إننا لم نرَ أنه عمل أيّة فضيلة غير أنه لم يتذمّر قط على ذلك الغني الذي لم يرحمه، وكان شاكرًا لله على ما كان فيه، ولذلك فقط رحمه الله”.

بستان الرهبان

هَلْ يَعْتَبِرُ غِنَاكَ؟

لاَ التِّبْرَ وَلاَ جَمِيعَ قُوَى الثَّرْوَةِ! [19].

هل يظن الشرير أن الله يحاربه من أجل غناه وذهبه أو من كل مصادر قوته التي يعتمد عليها.

لعله يشير هنا إلى الغنى الذي عاش فيه أيوب، فإنه لم ينقذه من يد الله. وأيضًا إلى مصادر قوته، إذ عُرف أيوب بحكمته وسمعته وسلطانه ومركزه الاجتماعي وهيبة شيخوخته؛ هذه كلها لم تكن قادرة على إنقاذه من غضب الله، كما يقول أليهو. وكما يقول الحكيم: “لا ينفع الغنى في يوم السخط، أما البرّ فينجي من الموت” (أم 11: 4).

لاَ تَشْتَاقُ إِلَى اللَّيْلِ الَّذِي يَرْفَعُ شُعُوبًا مِنْ مَوَاضِعِهِمْ [20].

واضح أنه يقصد ليل الموت الذي طالما اشتهاه أيوب ليخلص مما فيه. وقد تحدث السيد المسيح عن الموت بكونه الليل حيث لا يعود يقدر الإنسان أن يمارس عملاً ما (يو 9: 4).

إن كان أيوب قد اشتهى الموت للخلاص مما هو عليه من آلام، فإن أليهو يدعوه أن يراجع حساباته، فإنه الموت لا ينقذ الشرير من الألم، إنما التوبة والرجوع إلى الله.

يرى البعض أن هذه العبارة تعني أن بعض الأشرار يشتهون ليل الموت، فيعبروا عن العالم الحاضر ليحل آخرون في موضعهم، وينالوا نصيبهم من الآلام.

يرى البعض أن أليهو يلوم أيوب قائلاً له: لا تشتهِ الموت، بل اترك الأمر بين يدي الله، لئلا يسمع لك الله فيرسل الموت إليك وأنت على هذا الحال، فتُقطع وتصير نفسك في رعبٍ ورعدةٍ.

اِحْذَرْ. لاَ تَلْتَفِتْ إِلَى الإِثْمِ،

لأَنَّكَ اخْتَرْتَ هَذَا عَلَى الذُّلِّ [21].

يقول أليهو: إنك تهين عناية الله التي سمحت لك بالأحزان لتأديبك، فاشتهيت الموت عوض الأحزان. هذه الشهوة أثيمة، إذ تسيء إلى عناية الله وحكمته.

كثيرًا ما يفضل الإنسان الإثم عن الألم، إذ لا يبالي بإثمه، بينما يبذل كل الجهد للتخلص من الضيقات والآلام. وفي غباوةٍ وجهلٍ، إذ يضيف الإنسان إلى آلامه خطايا وآثامًا متزايدة.

  1. الله يُعَّلم ولا يلزم بقبول تعليمه

هُوَذَا اللهُ يَتَعَالَى بِقُدْرَتِهِ.

مَنْ مِثْلُهُ مُعَلِّمًا؟ [22]

غاية أليهو أن يسحب فكر أيوب إلى الله، ويتأمل قدرته وحكمة وأبوته، فيقبله كمعلمٍ سماويٍ إلهيٍ، ولا يوجه إليه لومًا أو اتهامات، ولا يشتكي منه.

جاء في الترجمة السبعينية: “من يُعَّلم مثله؟”، “من هو قدير مثله؟” وكما يقول ميخا النبي: “من هو إله مثلك، غافر الإثم، وصافح عن الذنب لبقية ميراثه، لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يُسر بالرأفة” (مي 7: 18).

المعلم السماوي قدير، يؤدب وهو قادر أن يحيي ويقيم، فلا يليق بنا أن نخطئ إلى حنوه وأبوته!

الله في أبوته يعلم ويؤدب: “طوبي للرجل الذي تؤدبه يا رب، وتعلمه من شريعتك” (مز 94: 12). وإذ هو كلي القدرة والحكمة لا يشرح في الحال ما وراء تعليمه وتأديبه بسبب العجز الفكري البشري عن إدراك خطة الإلهية. لهذا يليق بالمؤمن أن يتقبل تعليم الله، لا أن يظن في نفسه أنه يُعَّلم الله: “من قاس روح الرب، ومن مشيره يعلمه؟ من استشاره فأفهمه، وعلمه في طريق الحق، وعلَّمه معرفة، وعَّرفه سبيل الفهم. هوذا الأمم كنقطة من دلو، وكغبار الميزان تُحسب، هوذا الجزائر يرفعها كدقة” (إش 40: 13-15). ويقول الرسول: “لأن من عرف فكر الرب؟ أو من صار له مشيرًا؟” (رو 11: 34). “لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه، وأما نحن فلنا فكر المسيح” (1 كو 2: 16).

يقوم الله بالتعليم، لكنه لا يُلزم أحدًا بقبول التعليم [٢٢-٢٣].

v     فن الطب – حسب ديموقريطس Democritus – يشفي أمراض الجسد، والحكمة تحرر النفس من هواجسها. أما المعلم الصالح – الحكمة – الذي هو كلمة الآب الذي أخذ جسدًا بشريًا، فيهتم بكل طبيعة خليقته.

إنه طبيب البشرية الذي فيه كل الكفاية. المخلص، الذي يشفي الجسد والنفس معًا[1314].

v     المرشد السماوي، اللوغوس يدعى الهادي عندما يدعو البشرية للخلاص… لكنه إذ يعمل كطبيب أو مربٍ يصير اسمه “المربي”… فإن النفس المريضة تحتاج إلى مربٍ يشفي آلامها. ثم تحتاج إلى المعلم الذي يعطيها الإدراك… “إعلان اللوغوس”. هكذا إذ يريد اللوغوس خلاصنا خطوة فخطوة يستخدم وسيلة ممتازة: إنه في البداية يهدي، ثم يصلح، وأخيرًا يعلم[1315].

v     من هو؟ تعلموا باختصار أنه كلمة الحق، كلمة عدم الفساد، الذي يجدد الإنسان إذ يرده إلى الحق. إنه المهماز الذي يحث على الخلاص. هو محطم الهلاك وطارد الموت. إنه يبني هيكل الله في الناس، فيأخذهم لله مسكنًا له.

يحتاج المرضى إلى مخلص،

ويحتاج الضالون إلى مرشد،

يحتاج العميان إلى من يقودهم إلى النور،

والعطاش إلى الينبوع الحيَّ الذي من يشرب منه لا يعطش أبدًا،

والموتى إلى الحياة،

والخراف إلى راعٍ،

والأبناء إلى معلم؛

تحتاج كل البشرية إلى يسوع![1316]

القديس إكليمنضس السكندري

v   نزل فقيه عظيم من السماء، وصار معلمًا للعالم. استنارت المسكونة بتعليمه، لئلا يشتهي أحد بعد المقتنيات الزائلة. (الرسالة الأولى)

القديس مار يعقوب السروجي

v   كان موسى مُشرعًا، ويشوع كان مشرعًا، والأنبياء أيضًا كانوا مشرعين. يمكننا أن ندعوهم جميعًا مشرعين، لكن لا يوجد أحد مثل هذا الوسيط بين المشرعين.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v    يظهر المسيح لكل واحدٍ حسب احتياجه. فالمحتاجون إلى البهجة يتقدم إليهم ككرمة، والمحتاجون إلى الوجود في حضرة الآب يأتيهم كبابٍ، والمحتاجون إلى من يقدم صلواتهم يجدونه الشفيع فيهم، الكاهن العلي، وللخطاة هو الحمل (المذبوح) لأجل تقديسهم.

إنه كل شيء لكل واحد دون أن تتغير طبيعته بل يبقى كما هو. هو باقٍ، وعمل بنوته لن يتغير، لكنه يكيف نفسه حسب ضعفنا، بكونه طبيبًا ممتازًا أو معلمًا مملوء حنوًا. إنه الرب نفسه، لم يقبل الربوبية عن تقدم، إنما عمل بنوته طبيعي[1317].

القديس كيرلس الأورشليمي

مَنْ فَرَضَ عَلَيْهِ طَرِيقَهُ،

أَوْ مَنْ يَقُولُ لَهُ: قَدْ فَعَلْتَ شَرًّا؟ [23]

هل يأخذ الله تعليمات من إنسانٍ ما وهو يدير العالم، ويعتني بكل الخليقة؟ هل من إنسان يُلزم الله بأمرٍ ما. الله يعمل دومًا ما هو حق، لن يخطئ قط.

لقد تجاسر أيوب وشرح للرب ما كان يجب أن يُعمل (أي 34: 10، 13).

v   كأنه يُقال: كيف يمكن أن يُلام هذا الذي لا يمكن فحص أعماله؟ إذ لا يستطيع أن يحكم أحد فيما لا يعرفه. لذلك يلزمنا أن نبقى بالأحرى صامتين تحت أحكامه بقدر ما نرى أننا لا ندرك علة أحكامه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. عظمة أعمال الله

اُذْكُرْ أَنْ تُعَظِّمَ عَمَلَهُ الَّذِي يَتَرَنَّمُ بِهِ النَّاسُ [24].

عوض اتهام الله سبَّحه ومجده في أعماله (مز 111: 2-8؛ رؤ 15: 3)، بهذا تدرك أن أعماله غير منظورة وغير مدركة، وهو حكيم وصالح. وكما يقول الرسول: “لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته، حتى أنهم بلا عذرٍ” (رو 1: 20).

إذ نحن مدعوون للشركة مع السمائيين أبديًا، حتى نُحسب كمن احتل الرتبة التي سقط منها إبليس، يلزمنا أن نتدرب على التسبيح الداخلي لله، وتمجيده بلا انقطاع على معاملاته معنا.

v   في الكتاب المقدس يُدعى الملائكة أحيانًا “أناس“، وأيضًا الأشخاص الكاملين “أناس“. أما عن دعوة الملاك إنسانًا، يحمل دانيال شهادة بذلك، قائلاً: “إذ بالرجل جبرائيل الذي رأيته” (دا 9: 21).

يغني الناس للرب عندما تظهر لنا الأرواح العلوية أو المعلمون الكاملون قوة الله لنا، مع ذلك فإن عمله لا يُعرف، حتى الذين يكرزون به يوقرون أحكامه التي لا تُدرك. إنهم يعرفون ذاك الذين يكرزون به، لكنهم لا يعرفون علة أعماله، إنهم بالنعمة يعرفون هذا الذي خلقهم، لكنهم لا يستطيعون إدراك أحكامه المعمولة به وهي فوق فهمهم. يقدم المرتل شهادة أن الله القدير لا يُرى بوضوح في أعماله، قائلاً: “الذي جعل الظلمة سترة حوله” (مز 18: 11).

البابا غريغوريوس (الكبير)

كُلُّ إِنْسَانٍ يُبْصِرُ بِهِ.

النَّاسُ يَنْظُرُونَهُ مِنْ بَعِيدٍ [25].

يتطلع كل إنسانٍ إلى الخليقة المنظورة، ويرى فيها حكمة الله وقدرته تتجليان. هكذا يليق بنا أن نتتبع حكمة الله وقوته خلال أعماله، فندرك ما أدرجه رجال الله، قائلين: “يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه، ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصـاء” (رو 11: 33).

v   لما كان الإنسان مخلوقًا عاقلاً لاق به أن يستنتج بالعقل أن الذي خلقه هو الله. يرى الآن من خلال العقل، يرى قوة سلطانه. ولكن عندما يُقال: “كل أناس يبصرونه” بحق يُضاف: “كل أحد ينظره من بعيد”. فإن النظر إليه من بعيد هو النظر إليه أنه حاضر لا بشخصه، إنما أن يُفكر فيه بالكلية بالإعجاب من أعماله.

البابا غريغوريوس (الكبير)

هُوَذَا اللهُ عَظِيمٌ وَلاَ نَعْرِفُهُ،

وَعَدَدُ سِنِيهِ لاَ يُفْحَصُ [26].

الله كلي السلطة، لا يمكننا فحصه، أبدي ليس لوجوده زمن معين يحده. معرفتنا لله جزئية (1 كو 13: 12)، لأنه غير محدود (مز 90: 2؛ 102: 24، 27).

يحدثنا عن أزلية وأبديته، أو سرمديته بلغة بشرية كي يمكننا التلامس معها. “عدد سنيه لا يفحص”، إذ لا يخضع للزمن، بل هو موجده.

v   إذ الله حاضر في كل مكان، لذلك قيل عنه: “هوذا”. قيل بأنه حاضر حتى بالنسبة للذين لا يرونه.

حسنًا يقول إنه يسمو على معرفتنا بالرغم من قوله قبلاً يراه كل البشر. هذا معناه أنه وإن كان يُرى بالعقل، فإن عظمته لا يمكن أن تخترقها حواسنا. فإن ما نعرفه عن بهاء عظمته هو قليل، وكلما نظن أننا ندرك قوته نبتعد بالأكثر عن معرفته. يُخطف عقلنا إلى العلا لكنه يسمو بضخامة عظمته هذا الذي نعرفه جزئيًا عندما نشعر أننا عاجزون عن أن نعرفه خلال استحقاقنا.

البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. العاصفة والمطر

لأَنَّهُ يَجْذِبُ قْطَرَاتِ الْمَاءِ.

تَسُحُّ مَطَرًا مِنْ ضَبَابِهَا [27].

يقدم أليهو مثلاً عمليًا يعيشه الإنسان، خاصة في ذلك العصر، وهو كيف يتبخر الماء من البحر ثم ينزل كمطرٍ يُستخدم في الزراعة، وأيضًا ظهور الأعشاب التي ترعى عليها الأغنام. الله بحكمته يسحب البخار ليصير سحابًا تحركها الرياح يحول السحاب إلى أمطارٍ تُسقط نقاطًا صغيرة ليحيا الإنسان والحيوان.

v     ذاك الذي خطط كل شيء بميزانٍ وقياسٍ؛ الذي بحسب قول أيوب يحصي قطرات المطر (أي 36: 27LXX)، يعلم إلي أيّ مدى يبقى عمله، وإلي أيّ مدى يسمح للنار أن تبيد (العالم)[1318].

القديس باسيليوس الكبير

v   يوجد نوعان من الأبرار في هذه الحياة. أولئك الذين يعيشون باستقامة ولا يعلمون شيئًا، والذين يعيشون باستقامةٍ ويعلمون حسب ما يعيشون. وذلك كما في وجه السماء بعض الكواكب تأتي ولا يتبعها عواصف، وكواكب أخرى تأتي وتسقط مياهًا على الأرض العطشى بأمطار غزيرة.

غالبًا ما يوجد أشخاص في الكنيسة المقدسة يعيشون باستقامة، لكنهم لا يعرفون كيف يكرزون بالاستقامة، إنهم بالحق كواكب، لكنهم يظهرون في جو جافٍ. يمكنهم أن يقدموا نورًا للآخرين بمثال حياتهم الصالحة، لكنهم لا يمطرون بكلمة كرازتهم ويوجد أشخاص آخرون يعيشون باستقامة ويمطرون هذه الاستقامة على آخرين بكلمة الكرازة، فتظهر الكواكب في السماء وتجلب أمطارًا تغير الغير باستحقاقات حياتهم ويمطرون حسنًا بكلمة الكرازة. ألم يظهر موسي ككوكبٍ للمطر؟ الم يظهر في هذه السماء؟… ألم يظهر إشعياء ككوكب للمطر، هذا الذي سبق فرأى نور الحق وتمٌَسك به، وروى جفاف عدم الإيمان بإعلان كلمة النبوة؟

عندما استبعد الرب الأنبياء أرسل الرسل يحتلون موضعهم، ليمطروا مثل دوامات بعد أن توقفت الكرازة بالناموس الخارجي (الحرفي)، عندما انسحب الآباء القدامى… قيل بإرميا عن رفض اليهودية: “كواكب المطر توقفت ولم يعد بعد مطر متأخر” (راجع إر 3: 3).

 البابا غريغوريوس (الكبير)

v     منذ فترة قليلة اجتاحتنا السيول متأخرًا وأهلكتنا. أحصِ قطرات الأمطار التي سقطت على هذه المدينة وحدها. لا بل أقول إن استطعت فأحصِ فقط القطرات التي سقطت على منزلك، وليس على المدينة، لمدة ساعة واحدة! إنك لا تستطيع!

إذن فلتعرف ضعفك، ولتعلم من هذه اللحظة قدرة اللهالمحصي قطرات الأمطار” على المسكونة كلها، ليس الآن فقط، بل خلال كل الأزمنة.

والشمس هي من صنع الله. ومع عظمتها هي أشبه بنقطة وسط السماء. تأمل الشمس، وبعد ذلك تفرّس في رب الشمس مندهشًا. “لا تطلب ما يعييك نيله، ولا تبحث عما يتجاوز قدرتك، لكن ما أمرك الله به فيه تأمل” (ابن سيراخ 3: 22)[1319].

القديس كيرلس الأورشليمي

الَّذِي تَهْطِلُهُ السُّحُبُ

وَتَقْطُرُهُ عَلَى أُنَاسٍ كَثِيرِينَ [28].

جاء في الترجمة السبعينية: “الأمطار تنزل، والسحب تغطي بظلالها جموعًا من الناس. لقد عُين للحيوانات أن تعرف تدبير مساكنها. عند التأمل في هذه الأمور، أما يتحرك عقلك، ويتهيأ قلبك ليترك جسمك؟”

إذ تتقبل السحب البخار الصاعد نحو السماء ترده قطرات أمطار تنزل على جموع كثيرة لنفعهم. هذا الأمر الذي يحدث بكثرة في العالم يتحقق دون أن يفكر فيه البشر، وهو أحد القوانين الطبيعية التي لا تُعد، وضعها الله لأجل نفع الإنسان والحيوان. لقد وهب حيوانات البرية أن تعرف مساكنها، حيث توجد مياه خلال الأمطار أو الينابيع، مع أنها ليست كائنات عاقلة، قادرة على التفكير والتخطيط.

v   “الذي تهطله السحب” [28]… في الكتاب المقدس تشير السحب أحيانًا إلى الناس المتقلبين، وأحيانًا إلى الأنبياء، وأخرى إلى الرسل. يعبر سليمان عن تقلب الفكر البشري بقوله: “من يرصد الريح لا يزرع، ومن يراقب السحب لا يحصد” (جا11: 4). إنه يدعو الروح النجس “ريحًا” والذين يخضعون له “سحبًا”، هؤلاء الذين يدفعهم إلى الوراء والأمام، إلى هنا وهناك، إذ كثيرًا ما تتعاقبهم التجارب في قلوبهم من عواصف الاقتراحات…

أيضًا يقصد بالسحب الأنبياء، كما قيل بالمرتل: “ظلمة المياه في سحب الهواء” (راجع مز 18: 11)، أي أن الحكمة المخفية في الأنبياء.

يُقصد أيضًا بالسحب الرسل كما قيل بإشعياء: “أوصي الغيم أن لا يُمطر عليه مطرًا” (إش 5: 6). إنهم كواكب، إذ يشرقون باستحقاقات حياتهم، وهم سحب إذ يروون أرض قلوبنا الظمأ بمجارى المعرفة السماوية. لو لم يكونوا سحبًا ما كان النبي يقول عند تطلعه إليهم: “من هم الطائرون كسحابٍ” (إش 6: 8)…

وتغطي كل شيء من فوق” [28]. عندما يغطي السحاب الهواء من فوق، فإننا إن رفعنا عيوننا إلى السماء، لا نرى السماء بل السحاب… لأننا جسدانيون عندما نسعى أن ننال السماويات، نرفع أعيننا إلى السماء، كأن نظرنا مرتبط بالأمور الجسدية، فنزيد بها أن نتعلم الروحيات. ولكن لا يُسمح لتعقلنا أن يعبر فوق الأمور الإلهية ما لم تتشكل أولاً بأمثلة من قديسين سابقين، لذلك فإن أعيننا كأنها تتطلع إلى السماء، لكنها ترى مما من خلال السحاب. أنها تطلب أن تدرك الأمور الخاصة بالله لكنها بالجهد تقدر أن تعجب بالأمور المعطاه للبشر.

انظروا، فإننا ملتهبون بالغيرة نحو التكريس للرب وحبه، لكن نتشكل في هذا التكريس والحب بتأملنا في هذه السحب. فمن هو مكرس مثل بطرس؟ ومن هو مملوء حبًا مثل يوحنا؟

إننا نتغطى أيضًا بحياة الآباء (إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وموسي ويشوع وصموئيل وداود) مثل سحب تنتشر فوقنا، حتى نُروى وننتج ثمارًا وفيرة. ونحن نرى أولاً السحب عندما نتطلع إلى السماء، إذ نرى أولاً بعجبٍ أعمال الصالحين وبعد ذلك نتعمق بخبرتنا في الأمور السماوية. لكن حياة وفضائل هذه السحب، أي هؤلاء الآباء القدامى، ما كانت تُفتح لنا ما لم توضحها لنا سحب أخرى، اي الرسل، وذلك بنور كرازتهم.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

فَهَلْ يُعَلِّلُ أَحَدٌ عَنْ شَقِّ الْغَيْمِ،

أَوْ قَصِيفِ مَظَلَّتِهِ؟ [29]

يتساءل أليهو: “من يقدر أن يفهم سرّ انتشار السحب” وضوضاء مظلة، أو صوت الرعد؟ (مز 18: 11، إش 40: 22؛ مز 105: 39).

في بدء التاريخ لم يكن الإنسان قادرًا على فهم الأسباب التي تكَّون السحب، ونزول الأمطار. الآن مع تقدم العلم اكتشف الإنسان بعض هذه الأسرار، فازداد انبهاره بالخالق العجيب، كما أدرك أنه مهما بلغ من العلم يصعب بل ويستحيل عليه السيطرة على الظواهر الطبيعية.

هُوَذَا بَسَطَ نُورَهُ عَلَى نَفْسِهِ،

ثُمَّ يَتَغَطَّى بِأُصُولِ الْبَحْرِ [30].

يرى اليهود في السحب والرعود والبرق عجائب تشهد لقدرة الله ورعايته. هذه الظواهر تبدو كأنها مظلة الله أو خيمته. تنتشر السحب في السماء، ويظهر النور أو البرق منتشرًا أيضًا إلى لحظات. وكأن هذه الظواهر تكشف عن أمورٍ عجيبةٍ تبدو مضادة لبعضها. فالسحاب المنتشر يبسط ظلالاً على الأرض، والبروق التي تحدث بسبب السحب تبسط أنوارًا تخترق السحب.

السحب الكثيفة مع البرق تقدم صورة مثيرة ومبدعة.

يرى المرتل في السحب الكثيفة والبرق أشبه بثوبٍ سماويٍ مبدعٍ، فيقول: “اللابس النور كثوبٍ، الباسط السماوات كشقةٍ، المسقف علاليه بالمياه، الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح” (مز 104: 2-3).

بينما يكشف الله عن سقوط الأمطار خلال البروق المنيرة إذ به يغطي أعماق البحار بفيض الأمطار التي تسقط وتصب في البحار كما لو كانت تغطي أعماقها.

تمتد يد الله للعمل في الأعالي في السماء وسط السحب الكثيفة، وعلى الأرض حيث تهطل الأمطار، وفي أعماق البحار. هو ضابط الكل.

v   “إذ ما نشر السحاب كخيمته، وأضاء بنوره من فوق، فإنه سيغطي أيضًا البحر” ينشر الرب سحابه، وذلك عندما يفتح طريق الكرازة لخدامه، ينشرهم في كل اتجاه في يكل المسكونة. حسنًا يقول: “كخيمته”، لأن الخيمة عادة تُنصب في الرحلة. وعندما أرسل المبشرون القديسون إلى العالم، صنعوا طريقًا لله. في هذه الرحلة، خيام الله هي قلوب القديسين، هذه التي يتغطى بها في الطريق أثناء الراحة…

هذه السحب الآن بحق تُدعى خيمته، لأن الله إذ يأتي إلينا بنعمته يحتجب في قلوب كارزيه؟

 البابا غريغوريوس (الكبير)

لأَنَّهُ بِهَذِهِ يَدِينُ الشُّعُوبَ،

وَيَرْزِقُ الْقُوتَ بِكَثْرَةٍ [31].

يستخدم الله السحب والأمطار والندى والعواصف والزوابع والرياح والأعاصير (هيراكين) والتورنيدو (إعصار) والرعد والبرق والجفاف والطوفان للتأديب من أجل حنوه على الإنسان وبنيانه. وهذه عينها يستخدمها الله ليقدم للبشرية وللحيوانات طعامًا وشرابًا بفيضٍ.

يقول المرتل: “كللت السنة بجودك، وآثارك تقطر دسمًا. تقطر مراع البرية، وتنطق الآكام بالبهجة اكتست المروج غنمًا، والأودية تتعطف برًا، تهتف وأيضًا تغني” (مز 65: 11-13). وكما يقول الرسول بولس: “مع أنه لم يترك نفسه بلا شاهد، وهو يفعل خيرًا، يعطينا من السماء أمطارًا، وأزمنة مثمرة، ويملأ قلوبنا طعامًا وسرورًا” (أع 14: 17).

v   “لأنه بهذه يدين الشعوب، ويرزق القوت لكثيرين من القابلين للموت” [31]. بواسطة كلمات المبشرين، أي قطرات السحب، وبواسطة برق المعجزات، بلا شك يدين الله الشعوب، إذ يدعو قلوبهم المرعبة للتوبة. فإنهم إذ يسمعون الأمور السماوية، وعندما يصغون للأعمال المعجزية يرجعون في قلوبهم ويحزنون على شرورهم السابقة، ويخشون العذابات الأبدية…

 البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. نشيد للحكمة القديرة

يُغَطِّي كَفَّيْهِ بِالنُّورِ،

وَيَأْمُرُهُ عَلَى الْعَدُوِّ [32].

يستخدم الله الأنوار (والبرق) بيديه، بالبرق يؤدب الأشرار، وبالأنوار يشرق على الأبرار.

جاءت الترجمة السبعينية: “يغطي النور في يديه”

كأن البرق الذي لا سلطان لنا عليه يمسك به الله ويوجهه كما يشاء. البرق الذي يظهر سريع الحركة جدًا لا يتحرك إلاَّ بتوجيه من الله، هو أداة طبيعية في يده.

إن كان الله يسمح بأن يحجب نوره عن المتشامخين، فإن نعمته تعمل فيهم بالسماح لهم بالتجارب حتى يرجعوا إليه بقلوبهم فيستنيرون بنوره.

v   يعطي النور عن الأعزاء (القادرين)” [32] الأقوياء في الواقع هم الذين يفتخرون بأفكارٍ متشامخة. قيل بإشعياء ضد هؤلاء::ويل للحكماء في أعين أنفسهم، والفهماء عند ذويهم” (إش 5: 21). ويقول ضدهم بولس: “لا تكونوا حكماء عند أنفسكم” (رو 12: 16). يُخفى النور عن هؤلاء القادرين، لأنه بدون شك يحجز معرفة الحق عن المتشامخين… يوجد كثيرون في الكنيسة يستخفون بان يكونوا صغارًا، ولا يكفون عن ان يكونوا عظماء في أعين أنفسهم عوض التواضع.

v   هنا أيضًا بعد أن قيل عن النور أن ينسحب منهم أضاف: “ويأمروه أن يعود ثانية”.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

يُخْبِرُ بِهِ رَعْدُهُ الْمَوَاشِيَ أَيْضًا بِصُعُودِهِ [33].

الرعد الملازم للبرق يشهد لسلطان الله وعظمته. حتى في صوت الرعود الله يهتم بالغنم، فعظمته لا تظهر فقط في أعماله العظيمة الضخمة، وإنما في حنوه حتى على الغنم وكل الخليقة.

يرى البعض أنه يتحدث هنا صوت مياه الأمطار الغزيرة، فإن الغنم غير العاقل يدرك بالغريزة هطول الأمطار وهي تقترب، فتهرب لتجد لها ملجأ، بينما يرى الإنسان الشر قادمًا نحوه ولا يهرب منه.

v   “يعلن لأصدقائه، أنها ملكه، وأنه يصعد إليها” [33]. صديق الحق هو المحب للسلوك المستقيم. يقول الحق نفسه لتلاميذه: “أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيتكم به” (يو 15: 14). فإن الصديق يدعى “حافظًا للنفس”، وهكذا يسعى لمراعاة إرادة الله في وصاياه، فيستحق أن يُدعى صديقه. لذلك يقول الحق نفسه لذات تلاميذه: “قد سميتكم أحباء، لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” يو 15: 15)…

حسنًا أضيف الوعد: “إنه يصعد إليها” أي شيء أصعب من أن إنسانًا وُلد على الأرض، ويحمل أعضاء أرضية هشة، أن يصعد إلى أعالي السماء، وأن يخترق أسرار الروح العليا؟ لكن خالق هذه الأرواح نفسها جاء إلينا، وأعلن نفسه إنسانًا، بل وصار أقل منا… هذا الذي صار أقل من الملائكة من أجلنا، يجعلنا مساوين للملائكة بتواضعه. علمنا أيضًا بموته ألا نخاف الموت، وبقيامته أن نثق في الحياة، وصعوده ان نعتز بميراث المدينة السماوية…

إذ صرنا واحدًا معه، عاد وحده، فينا، إلى ذات الموضع الذي جاء منه وحده فيه. هذا الذي هو دومًا في السماء يصعد يوميًا إلى السماء، لأن هذا الذي يبقى في لاهوته فوق كل الأشياء يسحب نفسه إلى فوق يوميًا في جسد تأنسه. ليت الضعف البشري لا ييأس بل يتمتع بدم الابن الوحيد إذ التكلفة كثيرة هكذا… ليصنع البشرية في اعتنائها بشغفٍ أين ذهب رأسها قبلها، وليتقوى في الرجاء بقدوته أولئك الذين يرتبطون بوصيته للحياة الصالحة لتشعر البشرية بالتأكد من السماء! لتترجى المدينة السماوية. لتعرف أنها الملائكة، ولتفرح بأنها إذّ ترتبط برأسها صارت نُفضله حتى عن الملائكة!

 البابا غريغوريوس (الكبير)

من وحي أيوب 36

علمني, دربني, فأتمتع بك!

v     علمني أيها المعلم السماوي العجيب.

 فإن بدت يدك قاسية,

 لكن قلبك متسع بالحب لي,

 أنت الأب الحكيم والقدير.

v     تسمح لأولادك بالضيق,

 لكن لن تستقر عصا الخطاة عليهم.

 تحملهم فيك,

 تقيمهم من المزبلة ليجلسوا مع أشراف أشراف شعبك.

v     يمد الأشرار أيديهم عليّ,

 حاسبين أنك لا تنظر ولا تبالي!

 بحبك تسمح بالظلم إلى حين,

 لتعد أعماقي لأمجاد فائقة.

 تعدني ملكا, أتمتع بملكوتك الأبدي.

v     يظن الأشرار أنهم يوثقونني بقيود الظلم.

 ولم يدركوا أنني بالأكثر أتحرر,

 لتنطلق أعماقي إليك وأكون معك!

v     وسط الضيق أستمع إلى صوتك,

 تمتلئ نفسي بالسرور,

 ويتهلل قلبي بك.

 أكتشف خطاياي فتئن نفسي.

 لكني أراك مخلص العالم,

 فألتصق بصليبك.

v     وسط مذلة العالم تفتح أذني بروحك القدوس,

 فأتمتع بوعودك الإلهية.

 تقوض قلبي من الضيق إلى الرحب.

 تتسع نفسي بالحب حتى لمضايقيّ.

 أدخل إلى مائدة الحب.

 أتمتع بدسم وليمتك.

 فتشبع نفسي بك!

v     عوض التذمر علي كثرة مقاوميّ,

 تتهلل نفسي بك,

 ولا تتوقف عن تقديم ذبائح شكرٍ لا تنقطع.

 أقتنيك يا أيها الكنز السماوي.

 فيصير ذهب العالم في عيني ترابًا.

 وثروة العالم كلا شيء!

v     من مثلك معلم عجيب!

 تعلمني بوصيتك,

 وتدربني بحبك,

 وتحملني فيك,

 وتصعد بي إلى عرش نعمتك!

v     أي معلم مثلك يا أيها الأب السماوي!

 تدخل بي إلى التلمذة لك.

 التقي بك معلمًا، تسكب عليّ كنوز علمك ومعرفتك.

 تشفي جراحات نفسي وقلبي وفكري.

 تقيمني من موت الخطية وتهبني الخلود,

 تنزع عني عاري، وتقدم لي شركة المجد السماوي,

 تفتح عيني فلا أتعثر في وادي هذا العالم.

 ترويني بروحك القدوس فلا أعطش إلى حياة العالم.

v     من يقدر أن يفحص حكمتك يا حكمة الله العجيب!

 هل للطين أن يحاور الفخاري؟

 هل للترابي أن يدرك أسرار الخالق السماوي؟

 لكن في أبوتك وتواضعك تطلب أن أحاججك!

 أتكلم معك وأُسر بك!

v     لتهب كالعاصفة علي نفسي فتمتلئ قوة.

 لتمطر بمياه روحك القدوس,فتحول بريتي إلى جنتك!

 لتبسط نورك عليّ, فتتبدد ظلمتي.

 لك المجد يا معلمي المحب الصالح!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى