تفسير سفر أيوب ١٤ للقمص أنطونيوس فكري
تفسير سفر أيوب – الإصحاح الرابع عشر
يستمر أيوب هنا في التحدث مع الله، ومناجاة نفسه
الأيات 1-6:
“الانسان مولود المراة قليل الايام وشبعان تعبا، يخرج كالزهر ثم ينحسم ويبرح كالظل ولا يقف، فعلى مثل هذا حدقت عينيك واياي احضرت الى المحاكمة معك، من يخرج الطاهر من النجس لا احد، فاقصر عنه ليسترح الى ان يسر كالاجير بانتهاء يومه، فاقصر عنه ليسترح الى ان يسر كالاجير بانتهاء يومه”.
الإنسان. . . قليل الأيام= فالإنسان ضعيف يتألم علي الأرض لفترة قليلة ثم يموت. أما الذي ولد من الله فله حياة أبدية. يو 13:1. ولاحظ قوله قليل الأيام فلأن الحياة قصيرة يقيسها بالأيام وليس بالسنين. أما في السماء فحياتنا أبدية وبلا ألام. يخرج كالزهر ثم ينحسم= هذه هي طبيعة الحياة البشرية، يولد الإنسان كزهرة ثم سريعاً ما يذبل (ينحسم= يقطع). ويبرح كالظل= الظل يسير بسرعة، ولا يترك وراءه أثراً. فعلي مثل هذا حدقت عينيك= هل تحضرني أنا الإنسان التافه للمحاكمة معك. من يخرج الطاهر من النجس. لا أحد= إن كان الإنسان يولد من إمرأة خاطئة فهل يمكن أن يولد طاهر من أم خاطئة نجسة “بالخطايا ولدتني أمي” وهذا معني أننا نرث الخطية الأصلية (خطية أبوينا الأولين). ولا أحد يمكنه أن يجعل مولوداً طاهراً، لكن الروح القدس كوَن جسداً طاهراً في بطن العذراء، جسد المسيح الذي صار خطية ليحمل خطايانا، ونولد طاهرين من أم طاهرة هي الكنيسة ومن الروح القدس بالمعمودية. ولكن معني كلام أيوب هنا، يارب أنت تعرف ضعف طبيعتي فلا تحاسبني علي خطاياي بهذا الشكل، فأنا خاطئ بطبيعتي. إن كانت أيامه محدودة= الله حدد أعمار كل البشر. والله يعرف أن أيام الإنسان قليلة، فهل تسمح يارب بأن يقضي الإنسان أيامه القليلة في عذاب خاصة لو كان باراً مثلي. فأقصر عنه= أرفع هذه الألام. وحول نظرك عن تعذيب شخص ضعيف مثلي. إسمح لهذا الإنسان الضعيف أن يلتقط أنفاسه إلي أن يسر كالأجير بإنتهاء يومه= أي إمنحني فرصة لإلتقاط الأنفاس قبل أن أموت. وهنا نلاحظ شعاع من رجاء في أجر سماوي بعد الموت فهو يصور حياة الإنسان هنا كيوم الأجير، بعد أن ينتهي يومه يحصل علي أجرته.
الأيات 7-15:
“لان للشجرة رجاء ان قطعت تخلف ايضا ولا تعدم خراعيبها، ولو قدم في الارض اصلها ومات في التراب جذعها، فمن رائحة الماء تفرخ وتنبت فروعا كالغرس، اما الرجل فيموت ويبلى الانسان يسلم الروح فاين هو، قد تنفد المياه من البحرة والنهر ينشف ويجف، والانسان يضطجع ولا يقوم لا يستيقظون حتى لا تبقى السماوات ولا ينتبهون من نومهم، ليتك تواريني في الهاوية وتخفيني الى ان ينصرف غضبك وتعين لي اجلا فتذكرني، ان مات رجل افيحيا كل ايام جهادي اصبر الى ان ياتي بدلي، تدعو فانا اجيبك تشتاق الى عمل يدك”.
فكرة القيامة بعد الموت غير واضحة عند القدماء. وأيوب هنا يقول أن الشجرة لها أمل، فحتي أن قطعت(جزء من جسمها) تخلف أيضا= تنبت ثانية أغصاناً صغيرة. ولا تُعدم خراعيبها= الخراعيب هي الأغصان. والشجرة سيكون لها ثانية أغصان نابتة من الجذع الموجود في الأرض. ومهما بدا أن الشجرة ذبلت وماتت= ولو قدُم في الأرض أصلها= ومهما كان عمرها. فلها رجاء في خروج أغصان جديدة. فمن رائحة الماء تفرخ= فالموت هو إنقطاع الماء عن الشجرة. أما الرجل فيموت ويبلي= يموت ويتحول جسده إلي تراب ولا رجاء له في عودة أخري بعكس الشجرة. ولكن بعد المسيح تغير المفهوم. فهناك شجرة قطعت هي شجرة عائلة داود ولكن نبت غصن منها هو المسيح إبن داود. (أش 1:11) وهذا رمز لما حدث لكل البشرية، التي كانت الشجرة الأصلية التي قطعت بالموت، حتي خرج منها غصن ليحييها ثانية. وكيف عادت الحياة لشجرة أيوب؟ بالماء آية (9). وكيف عادت الحياة للإنسان؟ كان هذا بالروح القدس الذي إنسكب علي الكنيسة بإستحقاق دم المسيح، والروح القدس رمزه الماء الذي أحيا الشجرة المائتة القديمة التي قدُم في الأرض أصلها ومات في التراب. وشرح بولس الرسول الموت الآن بأنه البذرة (الجسد الميت) التي توضع في التراب حتي تكون هناك شجرة (1كو 35:15-38) وهذا بسبب حياة المسيح التى فيه. قد تنفذ المياه من البحرة= البحرة هي مستنقع الماء المنخفص عن الأرض. وهنا يشبه أيوب حياة الإنسان بالمياه التي تطفو فوق الأرض، سرعان ما تجف ويبتلعها التراب ثانية. هكذا الإنسان يضطجع ولا يقوم والنهر هنا. . . النهر ينشف ويجف= ليس نهر كبير كنهر النيل ولكنه ما سبق وأسماه غدير (أي 15:6). والآية (12) لا يستيقظون حتي لا تبقي السموات= حسب الترجمة اليسوعية الإنسان يضجع فلا يهب إلي أن تزول السموات¨. أي هو موت نهائي بلا أمل في رجوع، حتي لو زالت السموات¨. وعاد بعد ذلك أيوب يطلب الموت= ليتك تواريني الهاوية*= هو يطلب مخبأفي القبر من عذاب آلامه. والهاوية تعني في نظر الأقدمين المكان الذي يذهب له الأموات. وهناك مكانين كهاوية، أولهما للأبرار وثانيهما للأشرار ولكن الأشرار في الهاوية الخاصة بهم لا صلة بينهم وبين الله أو بين الأبرار في هاويتهم. وتخفيني إلي ينصرف غضبه*= أيوب يتصور أن الله في غضبه جلب عليه كل هذه الآلام، وهنا يطلب منه أن يكمل غضبه بأن يميته حتي ينصرف غضبه. ونحن نعلم أن الموت هو آخر عدو يبطل وطالما نموت فهناك غضب. فوجود أجساد القديسين في القبور معناه أن هنالك بقية من الغضب الذي كانوا أبناء له بالطبيعة، وهنالك يبقون خاضعين لبعض نتائج الخطية، ولكن عندما يقوم الجسد ينتهي كل غضب الله، حين ينتهي آخر عدو ويبطل. وتعين لي أجلاً فتذكرني*= كما ذكر نوحفي الفلك الذي خبأه الله فيه، ليس فقط لإهلاك العالم القديم، بل حفظه فيه لإعداد عالم جديد وهنا نجد إشراقة ثانية في إيمان أيوب بحياة بعد الموت فيها يذكر الله أيوب بعد أن عاقبه علي خطاياه [أيوب إذا عبر في كلامه عن فناء الإنسان بعد الموت يكون متكلماً بلسان الإنسان أيوب الذي هو محدود في معلوماته، وإن نطق بأقوال نجد فيها رجاء القيامة يكون الروح القدس هو الذي ينطق علي لسانه لتكون كلماته كنور يشرق في ظلمات العهد القديم، فيري الناس بصيصاً من ضوء يعزيهم بأن هناك رجاء في حياة بعد الموت. ولولا هذه الكلمات وأمثالها ما فهم الفريسيين أن هناك قيامة]
إن مات رجل أفيحيا= هذا تساؤل من عقل إلتبس عليه الفهم، فأيوب لم يري في حياته رجل قام بعد أن مات. لكنه يشعر بإيحاء من الله أن هناك رجاء في ذلك وهو لا يفهم كيف. كل أيام جهادي أصبر إلي أن يأتي بدلي= هو تساءل مثلاً إن مات رجل أفيحيا، وهو هنا يقول لو ثبت هذا لكنت أصبر إلي أن يتبدل حالي من حال الشقاء الذي أعاني منه الأن إلي حال المجد الذي أنتظر أن أجده بعد ذلك. والمسيح أجاب هذا السؤال قائلاً “من آمن بي ولو مات فسيحيا يو 25:11 وهذا الإيمان الراسخ بالقيامة الأن هو الذي يدفع القديسين علي إحتمال آلامهم بصبر ويدفع الشهداء علي إحتمال عذاباتهم بصبر. أما أيوب فكان في مرحلة التساؤل؟ هل ما أشعر به بأن هناك تبديل لحالي بعد الموت، هل هذا الشعور حقيقة أم خيال؟! إذا كان حقيقة فبالتأكيد سوف أصبر. وحين وصل أيوب لهذا صرخ بفرح تدعو فأنا أجيبك= إن كنت ستبدل حالي فأنا أجيبك إلي أي مكان تأخذني إليه، إذا سمحت بألم أو موت فأنا مستعد أن أجيبكإلى أى مكان تأخذنى إليه، إذا سمحت بألم أو موت فأنا مستعد أن أجيبك. ولقد توصل أيوب لهذا بعد أن شعر بصوت في داخله يكلمه عن محبة الله وإشتياقه له= تشتاق إلي عمل يدك ولنلاحظ تضارب المشاعر داخل نفس أيوب، فالله لم يتركه في ضيقته بل كان يعطيه مشاعر معزية أبوية وأن الله فى إشتياق إليه، ومن ناحية أخرى كان إبليس يصيب أيوب بضربات متلاحقة ويُصور له قسوة الله وتخليه. وكم من مرة كان الله يريد أن يغمرنا بمشاعر محبته الأبوية في ضيقتنا ونحن نرفض بسبب إصرارنا علي أن الله سبب مصائبنا فنخاصمه، فنحرم أنفسنا من تعزياته أثناء ضيقنا.
الأيات 16-22:
“اما الان فتحصي خطواتي الا تحافظ على خطيتي، معصيتي مختوم عليها في صرة وتلفق علي فوق اثمي، ان الجبل الساقط ينتثر والصخر يزحزح من مكانه، الحجارة تبليها المياه وتجرف سيولها تراب الارض وكذلك انت تبيد رجاء الانسان، تتجبر عليه ابدا فيذهب تغير وجهه وتطرده، يكرم بنوه ولا يعلم او يصغرون ولا يفهم بهم، انما على ذاته يتوجع لحمه وعلى ذاتها تنوح نفسه”.
قلنا أن مشاعر أيوب كانت متضاربة مثل كل واحد منا في ضيقته وللأسف إستجاب لصوت إبليس، وعاد يكرر الشكوي من الله ثانية. وبهذا خسر صوت التعزية الذي كان قد بدأ يسمعه، وعاد يتألم ويصرخ ثانية. هو شئ يدعو للأسف أن الله كان يحيطه بهذه المشاعر، مشاعر إشتياق الله له ثم يستجيب لصوت التذمر علي الله ثانية. أما الأن فتحصي خطواتي= لتجد لي خطية
ألا تحافظ علي خطيتي= ترصد خطاياي (الترجمة اليسوعية والإنجليزية) معصيتي مختوم عليها في صرة= أنت حفظت خطاياي السابقة والحالية ووضعتها في صرة، كا يحفظ دليل الإتهام ضد المجرم. وتلفق عليَ فوق إثمي= أي بعد أن وضعت خطاياي في صرة خَيَطت عليها حتي لا تضيع خطية. والمعني أنك لا تقبل أن تغفر أبداً بل تعاقب علي كل خطية وتحاسبني علي كل شئ. وحسناً فعل أيوب هنا حين إعترف بأن له خطايا يمكن أن يعاقب عليها، ولكنه أساء إلي صلاح الله إذا حسبه قاسياً مترصداً لكل خطية رافضاً أن يغفر وهو لم يعرف أن الله يعاقبنا، إن عاقب، بأقل مما نستحق وحفظ العقوبة كلها لتقع علي المسيح، وأما ما يسمح به ضدنا فهو للتأديب فقط. وتصل قمة غضب أيوب للآية 18، 19. فإذا بدأ الإنسان الشكوي والتذمر لا يوقفه شئ وقد يصل الأمر للصدام مع الله كما حدث هنا. فأيوب قال هنا كلام في منتهي القسوة عن الله “أنت تبيد رجاء الإنسان. . . تتجبر عليه أبداً فيذهب. . . وأن الله في قسوته يبيد رجاء الإنسان كما لو كان غضبه سيول تجرف تراب الأرض. هو هنا ينظر لثروته التي ذهبت نتيجة غضب الله (في نظره) وقال أن غضب الله أضاع كل رجائي (ثروتي/ أولادي/ صحتي. . . كل ما كان لي). والله عمل ما عمله بتجبره بلا رحمة. فلو كنت جبلاً لما إحتملت، ولو كنت صخراً لكانت مياه الآلام التي أصابتني قد جعلت هذا الصخر يبلي ويتزحزح عن مكانه. . . إن الجبل الساقط ينتثر= أي كما يتفتت الجبل الساقط ويبلي الحجر، هكذا ما حدث لي. تغير وجهه وتطرده= لقد غضبت عليَ يارب فغيرت وجهي (حتي أصحابه لم يعرفوه من نتائج مصائبه). ثم تطرده من هذا العالم نهائياً. يكرم بنوه ولا يعلم أو يصغرون ولا يفهم بهم. إنما علي ذاته يتوجع من شدة الألم الذي يلحق بالإنسان الذي يغضب الله عليه يتوجع، ولا ينشغل بشئ حوله سوي ألمه، فإن أكرم أحد بنيه لن يفرح بسبب غمه، وإن أهان أحد بنيه فلن يغتم بأكثر مما هو مغتم، فغمه وصل إلي حد التشبع.
تفسير أيوب 13 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 15 |
القمص أنطونيوس فكري | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |