تفسير سفر أيوب ٢٠ للقمص تادرس يعقوب
اَلأَصْحَاحُ الْعِشْرُونَ
صورة بشعة للشرير
بدأ صوفر حديثه بمهاجمة أيوب بعنفٍ، وأوضح أنه توجد حقيقة راسخة منذ وُجد الإنسان على الأرض، وهي أن خطايا الأشرار تهلكهم، وأن الشرور التي يمارسها أيوب بالذات تؤدي إلى هلاكٍ مضاعفٍ.
يريد أن يقول إن أيوب لبس في خيمته ثوب الرياء، متظاهرًا بالتقوى والإحسان بسخاءٍ، بينما مارس شرورًا بشعة، بسببها لا تسمع له السماء، وتكره الأرض رجلاً شريرًا مثله، أي أن السماء والأرض تشهدان عليه. لهذا سيحل على بيته الخراب التام.
يعكس حديث صوفر اعتقادًا إسرائيليًا شائعًا أن نجاح الشرير قصير الأمد، وأن هلاكه يقيني، لكن لم يشتمل حديث صوفر قط على أي تنويه إلى أن الأشرار قد يتوبون ويرجعون ويستعيدون رضا الله. ما يريد أن يؤكده هو أن أيوب شرير بدليل تعاسته التي من مظاهرها أن جسده معتل، وثروته ضاعت، وأبناءه هلكوا، وسمعته ساءت.
كان المتوقع أن يكشف حديث أيوب الأخير لأصدقائه عن إخلاصه في إيمانه، وسموه حتى على الألم. لكنهم لم يبالوا بشيءٍ، بل استمرت اتهاماتهم له؛ هذا ما وضح من أخذ صوفر دوره للدخول في حوارٍ جديدٍ كالصديقين الآخرين.
يرى الأب هيسيخيوس الأورشليمي أن صوفر ومن معه اهتموا بالمناقشات اللاهوتية في جدال فارغ دون روح وبلا تقوى. يقول:
[عندما تُحرث الأرض تُنتج زهورًا وفواكه، وأما التأمل في الشريعة فينتج فضائل. هذا هو السبب الذي لأجله يُطلب ممارسة الشريعة بغيرة (مز 119: 40، 47، 48)، لا بتغليفها بكلمات، بل بالعمل بها، ليس بمناقشة لغة الكلمات الإلهية بطريقة غير مجدية بل بالتصديق عليها بسلوكنا، وإقرارها في أعمالنا. فكما أن المعرفة تجعل القراءة مجيدة، هكذا العمل يهب المعرفة بهاءً.
فما هي فائدة كرمٍ لم تُغرس فيه كروم، ولا قُلمت، ولا دُبر أمر العناقيد؟
أليس باطلاً يخرج فارس إلى مكان طلق فسيح وهو لم يدَّرب بعد خيله؟…
على أي الأحوال لم يسلك أيوب هكذا، وإنما من البداية سلحَّ نفسه بالفضائل، ودرَّبها على المعركة خلال التقوى. قدر ما وجد نفسه في غنى ورخاء كان يقدم كل يومٍ عند قيامه ذبائح (أي 1: 5). قبلما كان النور المنظور (الشمس) يشرق، كان يحيي النور غير المنظور. إذ يقفز من سريره، يجري نحو واهب النوم والتسبحة على شفتيه (مـز 127: 2)، يبدأ أنشطة اليوم بالاقتراب من خالق النهار…
كم من المرات أغلق أيوب فم أليفاز الذي أراد أن يستعرض البلاغة!…
كم من مرة أبطل تشامخ بلدد وازنًا كلماته، هذا الجندي الحقيقي للبرّ! بل لاحظوا أن صوفر أيضًا نشر غلبته في مقدمة أحاديثه! ليتنا نتفحص بإدراك كلماته.]
- مقدمة عنيفة 1-3.
- نجاح الأشرار مؤقت 4-9.
- تعاسة الأشرار 10-29.
- مقدمة عنيفة
فَأَجَابَ صُوفَرُ النَّعْمَاتِيُّ: [1]
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ هَوَاجِسِي تُجِيبُنِي،
وَلِهَذَا هَيَجَانِي فِيَّ [2].
يبدو أن صوفر قد استاء جدًا مما قاله أيوب، وظن أنه يبرر نفسه بالرغم من تأكده من شره.
تضايق صوفر أن أيوب يتحدث عن رجائه في السماء والخلاص كما لو كان رجلاً بارًا وصالحًا. لهذا هاجمه بعنفٍ قائلاً إن أفكاره تدفعه دفعًا إلى عدم السكوت على ما قال، بل يلتزم أن يجيب عليه.
اعترف صوفر بأن الهواجس ملأت أفكاره، والهياج سيطر عليه. ولعله هنا يعَّبر عما في داخله وفى داخل صاحبيه من ثورةٍ داخليةٍ وغضبٍ. هذا الغضب الذي يسد الآذان عن الاستماع بالحق، والعيون عن رؤية الحق مهما كان واضحًا، فلم يروا في أيوب سوى كتلة من الشرور الخفية غطاها بالرياء والعطاء الباطل والحنو الكاذب. هذا ما دفع صوفر إلى النقد اللاذع والتوبيخ القاسي، والتهديد المُرْ لما سيحل بأيوب من الشرور.
v الغضب يجعل الألسنة مطلقة العنان، والأحاديث بلا ضابط. العنف الجسماني وتصرفات الاستهزاء، والسب والاتهامات والضرب وغير ذلك من الأعمال الشريرة غير المحصية تولد من الغضب والسخط[926].
القديس باسيليوس الكبير
v الذهن المريض لا يضبط أحكامه، لذلك يظن أن كل ما يقترحه عليه الغضب حق[927].
البابا غريغوريوس (الكبير)
تَعْيِيرَ تَوْبِيخِي أَسْمَعُ.
وَرُوحٌ مِنْ فَهْمِي يُجِيبُنِي [3].
“تعبير توبيخي اسمع“، يترجمها البعض: “لقد سمعتك تصد توبيخي“.
حسبوا كلمات أيوب إهانة، وأنه غير مستحق أن يتحدثوا معه، أو يقدموا له مشورة. ولعلهم كانوا قد وضعوا في قلوبهم أن يتوقفوا عن الحوار، لأنه لا يجدي مع إنسانٍ شريرٍ كهذا. لكن صوفر استفزه قلبه جدًا فاضطر أن يتكلم.
- نجاح الأشرار مؤقت
أَمَا عَلِمْتَ هَذَا مِنَ الْقَدِيمِ،
مُنْذُ وُضِعَ الإِنْسَانُ عَلَى الأَرْضِ: [4]
لجأ صوفر إلى معرفة أيوب نفسه قبل حلول التجارب عليه، حاسبًا أنها تطابق ما يقولونه له، بينما الآن يعترض عليه ويرفضه. إنه مبدأ ثابت كان يردده أيوب نفسه قبلاً، وقد جاءت خبرات الأجيال تؤكده منذ القديم. هذه الحقيقة المنقوشة في فكر كل إنسانٍ منذ بدء الخليقة: إن شر الأشرار يهلكهم.
v “أما علمت هذه الأمور من القديم، منذ وُضع الإنسان على الأرض؟” بقوله بهذه الكيفية سبّ صوفر أيوب، حاسبًا إياه جاهلاً بهذه الحقيقة (أو يتجاهلها)، مع أن أيوب أعلنها على وجه الخصوص في عبارته التالية.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v واضح أنه إذ انتفخ صوفر بمعرفته شوَّه العبارات التي نطق بها ضد الأشرار، إذ كان هدفه توبيخ أيوب الطوباوي. لأنه رأى فيه أنه سلك أولاً الطرق المستقيمة وبعد ذلك عانى من العقوبة، وبهذا حسب أن كل ما سبق فرآه إنما مارسه أيوب من قبيل الرياء، إذ لا يعتقد أنه يمكن لعبدٍ بارٍ أن يسقط في ضيقٍ بواسطة الله العادل.
البابا غريغوريوس (الكبير)
ماذا تسلمنا منذ سقوط أبوينا الأولين آدم وحواء، سوى أننا في حاجة إلى عمل الله، لكي يهدم كل شرَ فينا، ويبني كل ما يليق ببرَّه. فلا نعجب إن كانت دعوة الله لرجاله أن يقلعوا ويهلكوا، وينقضوا الشعوب الشريرة والممالك الفاسدة التي تشير إلى الشر، لكي يبنوا ويغرسوا ما هو لله كما قيل لإرميا النبي عند دعوته للخدمة (إر 1: 10). لابد من هدم الشر لقيام البرّ، فإن أصر الأشرار على تمسكهم بالشر، يبيدون مع الشر.
ليس لنا اختيار إلا بين أمرين لا ثالث لهما، إما أن تكون أعماقنا جنة إلهية تحمل ثمر الروح القدس الذي يفرح قلب الله أو ملهى لعدو الخير كي يربض فيه ويقيم. إما أن تكون قلوبنا هيكلا يسكنه الروح القدس، أو مسرحا يمارس فيه عدو الخير شروره!
v “لتقلع وتهدم” (إر 1: 10). يوجد بناء من الشيطان ويوجد بناء من الله. البناء الذي”علي الرمل” هو من الشيطان، لأنه غير مؤسس علي شيء صلب ثابت، أما البناء الذي “علي الصخر” فهو من الله. أنظر ماذا يُقال للمؤمنين: “أنتم فلاحة الله، بناء الله” (1 كو 3: 9).
إذًا يوجه كلام الله “علي الشعوب وعلي الممالك ليقلع ويهدم، ليهلك وينقض“. إذا قلعنا ولم نقم بإهلاك الشيء المقلوع، فإن هذا الشيء يبقى؛ وإذا هدمنا ولكن بدون أن نُزيل حجارة الأساس، فإن ما تهدم يظل باقيًا. فمن مظاهر صلاح الله وحبه أنه بعدما يقلع يهلك، وبعدما يهدم يبيد ما قد هُدم.
أما فيما يختص بالأشياء المقتلعة والمهلكة، فاقرأ بعناية كيف يتم إهلاكها: “احرقوا القش بنار لا تُطفأ، واجمعوا الزوان حرقًا والقوها في النار“. هذه هي طريقة الإبادة والإهلاك بعد القلع؛ أتريد أن ترى أيضًا الهلاك الذي يحدث للأبنية الفاسدة بعد هدمها؟ فإن ذلك البيت الذي كان يهدم بسبب البَرص يتحول إلي تراب، ثم يُؤخذ هذا التراب ويُلقي خارج المدينة (لا 14: 41)، حتى لا يبقي حجر واحد، كما في العبارة: “سوف أبيدهم كما وَحل الشوارع” أو(سوف أساويهم بالأرض).
يجب ألا تبقي الأشياء الفاسدة مطلقًا؛ إنما يتم إهلاكها لتجنب استخدام بقاياها في بناء أبنية جديدة يعملها الشيطان، كما أنه يتم اقتلاع الأشياء الفاسدة حتى لا يجد الشيطان فيها بذورًا أخرى يزرعها من جديد، لذلك يتم إهلاكها حتى لا تُوجد فرصة للشيطان لكي يزرع الزوان مع الحنطة…
لذا فإن أول شيء هو أن نستأصل ونقلع كل ما هو شرير من نفوسنا؛ فإن الله لا يستطيع أن يبني حيث توجد مبانٍ فاسدة وشريرة. “لأنه أية شركة للحق مع الباطل؟ أية شركة للنور مع الظلمة؟” يجب أن يُقتلع الشر من أساسه. يجب أن يُهدم بناء الشرير تمامًا من نفوسنا، حتى تقوم كلمات الله بعمل البناء والغرس فينا.
لأنه لا يمكنني أن أفهم تلك العبارة بطريقة أخرى: “ها قد جعلت كلامي في فمك” لماذا؟ “لتقلع وتهدم وتهلك“. نعم إنها كلمات تقلع شعوبًا. كلمات لهدم ممالك، ولكن ليست الممالك المادية التي في هذا العالم، وإنما يجب عليك أن تفهم بطريقة سامية المقصود بالكلمات التي تقلع والكلمات التي تهدم.
وعند ذلك تُمنح قوة من الله كما هو مكتوب: “الرب يعطي كلمة للمبشرين بعظم قوة“، قوة تقلع ما تصادفه من عدم الإيمان (الرياء) أو الرذيلة. قوة تهلك وتهدم إذا ما تواجدت أوثان مُقامة في داخل القلب، حتى إذا ما هُدم الوثن يُقام مكانه هيكل للرب، في هذا الهيكل يتراءى مجد الله ويظهر، ولا يعود ينبت زوان، وإنما فردوس لله في هيكل الله، في المسيح يسوع، الذي له المجد الدائم إلي أبد الآباد. آمين[928].
العلامة أوريجينوس
شتان ما بين غرس عدو الخير وغرس الرب، وبناء إبليس وبناء الروح القدس. عدو الخير يزرع عشبًا، يظهر سريعًا ويجف سريعًا، ويكون نصيبه النار. وغرس الرب هادئ، يغرس صليبه، شجرة الحياة فينا، يغرسها على مجاري مياه الروح القدس، تثمر ويكون ثمرها أبديًا.
نجاح الأشرار سريع ومؤقت، أما الأبرار فنجاحهم خفي، إذ تحوط بهم التجارب لكي تتلألأ أكاليلهم بالأكثر، ويصيروا كواكب منيرة ترافق شمس البرّ في السماء عينها.
إَنَّ هُتَافَ الأَشْرَارِ مِنْ قَرِيبٍ،
وَفَرَحَ الْفَاجِرِ إِلَى لَحْظَةٍ! [5]
هتاف الأشرار لن يدوم. يهللون لكن إلى لحظات، فيتحول هتافهم إلى نوحٍ وعويلٍ. قد ينجح الأشرار ويشعرون بالطمأنينة وتراهم ظافرين فرحين، مفتخرين بثروتهم وسلطانهم وعظمتهم ونجاحهم، لكن هذا كله إلى حين، سرعان ما يزول في هذا العالم.
هذا المبدأ سليم، لكن لله أحكامه وتدابيره تختلف مع كل شخصٍ حسبما يكون لبنيانه. هذا ومن جانب آخر لم يكن صوفر نقي الفكر، ولا دافع عن مبدأ لاهوتي معين، إنما غالبًا كل ما كان يعنيه تأكيد شر أيوب.
v “مرح الأشرار هو علامة السقوط، وفرح الفاجر هو دمار!” [5 LXX]. يتحدث صوفر في هذه العبارة بوقاحة، إذ يسب أيوب بشدة، ويفتري عليه كما فعل صديقاه الآخران. لقد شوَّه سمعته للسبب التالي: إنه من البدء، منذ وجود الجنس البشري وُجد فرح ومرح لسقوط الأشرار، ودمار للفاجرين، من بينهم أيوب كما رأى صوفر.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
ليس فقط يفقد الأشرار فرحهم العالمي الزائل، وإنما حتى الأرض تحزن وتنوح (إر 12: 4)، بل والطبيعة تئن بسببهم، وأيضًا السماء بملائكتها تحزن عليهم. هذا هو فعل الشر الذي يحرم الإنسان من الفرح الحقيقي، وبسببه يئن الكثيرون عليه.
v “حتى متى تنوح الأرض، وييبس عشب كل الحقل، من شر الساكنين فيها؟” (إر 12: 4) يتحدث النبي هنا كما لو كانت الأرض كائنًا حيًا، حيث يقول إنها تنوح من شر الذين يمشون فوقها.
الأرض بالنسبة لكل واحدٍ منا تكون إما نائحة بسبب شرنا، وإما متهللة بسبب فضائلنا. وما يُقال بالنسبة للأرض يُقال بلا شك بالنسبة لكل الأشياء. فبالمثل يمكنني أن أقول: إن الملاك المسئول عن الماء[929](كمثالٍ) يتهلل أو ينوح؛ فيجب علينا أن نعرف أنه حتى يتم تنظيم وإدارة الكون كله، يوجد ملاك مسئول عن الأرض، وآخر مسئول عن الماء، وآخر عن الهواء وآخر عن النار. ارتفع بعقلك لتتأمل النظام السائد عند الحيوانات والنباتات والكواكب السمائية؛ فإنه يوجد ملاك مسئول حتى عن الشمس، وآخر مسئول عن القمر، وآخرون عن النجوم[930].
كل هؤلاء الملائكة الذين يرافقوننا طوال حياتنا على الأرض، إما أنهم يفرحون لنا أو ينوحون علينا عندما نخطئ.
يقول إرميا إن الأرض تنوح بسبب الساكنين فيها: ويقصد بكلمة “أرض” أي الملاك الساكن فيها، فإنه أيضًا قيل: “أما الخشب المصنوع صنمًا فملعون هو وصانعه” (حك 14: 8)، ليس أن اللعنة تقع على الشيء الجامد نفسه، وإنما يقصد بكلمة “صنم” أي الشيطان الساكن فيه، والذي يتخذ من “الصنم” اسمًا له. وبنفس الطريقة أستطيع أن أقول إن “الأرض” يقصد بها الملاك المسئول عن الأرض، و”الماء” الملاك المسئول عن الماء، والذي كُتب عنه: “أبصَرَتَك المياه يا الله أبصرتك المياه ففزعت. ارتعدت أيضًا اللجج. سكبت الغيوم مياهًا أعطت السحب صوتًا. أيضًا سهامك طارت” (مز 77: 17-18)[931].
v يجب عليك أيها الخاطئ أن تذوق هذه المرارة الشديدة الآن التي يوقعها الله بك، حتى ترتد عن طريقك فتخلص[932].
العلامة أوريجينوس
وَلَوْ بَلَغَ السَّمَاوَاتِ طُولُهُ،
وَمَسَّ رَأْسُهُ السَّحَابَ [6]
افترض صوفر أن نجاح الشرير قد بلغ من العلو ما لم يتصوره إنسان، يرتفع حتى إلى السماء. وإن نما حتى بدا كأن رأسه تمس السحاب، هكذا يكون ارتفاعه وتشامخه فلا يفكر أحد أن يقترب إليه بشرٍ أو يتخذ معه موقف مقاومة.
v إن ارتكبت خطية، فإن خصمك هو كلمة الله… إنها عدو إرادتك إلى أن تصير الكلمة هي أمان خلاصك. يا له من عدو مخلص ومعين![933]
القديس أغسطينوس
كَجُلَّتِهِ إِلَى الأَبَدِ يَبِيدُ.
الَّذِينَ رَأُوهُ يَقُولُونَ: أَيْنَ هُوَ؟ [7]
هذا الذي يبلغ كل هذه العظمة يبيد مثل جلته (برازه أو روثه). الذين كانوا في دهشة من عظمته التي لا يُمكن وصفها يتطلعون إليه، وإذا به غير موجود، لقد هلك تمامًا! كل ما تبقى رائحته التي لا تُطاق ولا تُحتمل.
v قيل عن كبرياء المرائي أنه يصعده إلى السماء، حيث فكره المتشامخ يبدو كمن يقوده إلى الحياة السماوية. وكأن رأسه قد بلغ إلى السحاب، عندما يُظن أن العضو القائد، عقله المفكر، مساوٍ لاستحقاقات القديسين الذين سبقوه. لكنه “يبيد أخيرًا مثل المزبلة”، لأنه عند موته، حيث يُقاد إلى العذابات. إذ يكون مملوءً من روث العادات الشريرة يسقط تحت أقدام الأرواح الشريرة. فإن مباهج الحياة الحاضرة التي يظنها الأشرار صلاحًا عظيمًا يتطلع إليها الأبرار كروثٍ. لذلك مكتوب: “الإنسان الكسلان يُرجم بروث الثيران” (ابن سيراخ 22: 2). فمن لا يتبع الله يصير خاملاً في حب الحياة الأبدية…
“الذين رأوه يقولون: أين هو؟” [7]. هذا يحدث عادة حين تُكشف حياة المرائي بواسطة كل البشر في النهاية، لتكون موضع دينونة أبدية…
الذين رأوه يعمل في أيامهم سيقولون عنه عند موته: أين هو؟ فإنه لم يعد يُرى هنا، حيث كان منطلقًا في وسع، ولا هو بموجود في الراحة الأبدية حيث كان متوقعًا…
البابا غريغوريوس (الكبير)
v لاحظوا هؤلاء الناس المتكبرين المستهترين، لاحظوا الثور وهو يُعد للذبح، يُترك ليجول في حرية، يدمر ما يريد، حتى يوم ذبحه… يشير الكتاب المقدس إليه في موضع آخر كذبيحةٍ وإنه يُترك لحرية شريرة (أم 7: 22)[934].
v هؤلاء ينتعشون في سعادة هذا العالم، ويهلكون في قوة الله. ليس فيما هم ينتعشون يهلكون بذات الأمر؛ لأنهم ينتعشون إلى حين ويهلكون أبديًا. ينتعشون في خيرات غير حقيقية، ويهلكون في عذابات حقيقية[935].
القديس أغسطينوس
كَالْحُلْمِ يَطِيرُ فَلاَ يُوجَدُ،
وَيُطْرَدُ كَطَيْفِ اللَّيْلِ [8].
يعبر بكل ما بلغه من عظمة وغنى وكرامة، فإذا به كحلمٍ يبحث عنه الإنسان عند يقظته فلا يجد أثرًا له، يصير أشبه بطيفٍ عبر، ولا وجود له!
v هكذا يا اخوتي هي حياتنا، نحن الذين نعيش حياة زمنية. هكذا هي اللعبة التي نمارسها على الأرض. جئنا إلى الوجود من العدم، وبعد وجودنا ننحل. إننا أحلام لا جوهر لها، رؤى غير مُدركة، كطائرٍ عابرٍ يطير، وكسفينةٍ لا تترك أثرًا على البحر (الحكمة 5: 10-11)، نحن ذرة تراب، بخار، ندى الصباح، زهرة تنمو في لحظةٍ وفي لحظةٍ تذبل. أيام الإنسان مثل عشبٍ وزهرة حقل هكذا ينتعش (مز 15:103).
حسنًا داود المُلهم بالروح ناقش ضعفنا، وقال: “لأعرف قصر أيامي”، وعرف أيام الإنسان أنها في طول الشبر (39: 4-5)[936].
القديس غريغوريوس النزينزي
v إنه يشبه حلمًا أو رؤية ليلٍ. يسب صوفر أيوب بذات الوقاحة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v ما هي حياة المرائي سوى رؤية خيال (أحلام يقظة) يظهر في مظهر خارجي ولا يقتني شيئًا بالحق؟ لذلك بعدل شُبه بالحلم، حيث أن كل مديح أو مجد يكون كما لو قد تركه.
غالبًا في “طيف الليل” يندهش بعض الفقراء إذ يصيرون أغنياء، يرون الكرامات تنهال عليهم، يرون أكوامًا من الغنى، وجموعًا من الحاضرين، ثيابًا غاية في الجمال، وفيضًا من الطعام يُقدم لهم… لكن فجأة إذ يستيقظون يجدون بطلان كل البهجة التي كانوا يشعرون بها، ويحزنون أنهم استيقظوا، حيث تنتزعهم الحاجة الحقيقية ليستيقظوا. هكذا بالنسبة لأذهان المرائين ما يفعلونه شيء، وما يظهرون به أمام الناس شيء آخر… وبينما يُمدحون من الناس في مبالغة يظنون أن ما يبتهجون به يجعلهم مشهورين لدى الخلائق زملائهم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v يعلمنا الرب أن الذي يسلم نفسه إلى الأعمال المعيبة يتعرى من ثوبٍ ليس مصنوعًا من الصوف، بل من الفضيلة الحية، لأن ثوب الفضيلة أبدي لا زمني[937].
القديس أمبروسيوس
عَيْنٌ أَبْصَرَتْهُ لاَ تَعُودُ تَرَاهُ،
وَمَكَانُهُ لَنْ يَرَاهُ بَعْدُ [9].
الذين رأوه كشخصيةٍ بارزة جدًا، ناجحة وغنية وصاحبة سلطان، لم يعودوا بعد ينظرونه. يبحثون عنه حيث كان، فإذا بالموضع خالٍ منه تمامًا.
v بالرغم من أن صوفر يقول هذا بخصوص كل الأشرار دون الإشارة إلى أحدٍ، إلا أنه من الواضح أنه يشير بكل كلماته إلى أيوب. لأن “عين” أصدقائه الآخرين ومعارفه تركته في استخفاف، وإن كانت (عيونهم) قد سبقت ورأت كل ما كان في البداية، حتى عندما يستعيدون النظر إليه.
“ومكانه” يعني هؤلاء الذين كانوا في الأصل معه في “مكانه”، ومن وطنه، لا يعودون يتعرفون عليه. إذ يرون مدى أحزانه الممتدة ويُصعقون.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v ما هو “مكان” المرائي سوى قلب المتملقين له؟ فإنه يستريح في الموضع الذي يجد فيه من يحبونه… ولكن مادام حيًا لا يكف عن أن يعلم أتباعه ذات الأمور التي يمارسها، وخلال جسارة طريقه الخاطئ يلد آخرين أيضًا على شاكلة الخداع الباطل الذي له.
البابا غريغوريوس (الكبير)
تنزع الشرور الإنسان من موضع راحته، فيكون كمن لا وجود له. هذا ما حدث مع قورح وجماعته الذين في شرورهم تجاسروا على الوصية الإلهية، وأرادوا اغتصاب الكهنوت عنوة، فابتلعتهم الأرض وصاروا كمن لا وجود لهم (عد 16: 32).
v (عن قورح وداثان وإبيرام) لقد فصلوا أنفُسهم عن الجماعة المقدسة. لقد ابتلعتهم الأرض وهم أحياء، كرمز منظور للعقوبة غير المنظورة[938].
القديس أغسطينوس
- تعاسة الأشرار
بَنُوهُ يَتَرَضُّونَ الْفُقَرَاءَ،
وَيَدَاهُ تَرُدَّانِ ثَرْوَتَهُ [10].
يقدم لنا هنا أمثلة للشرور التي يرتكبها المرائي سرًا في هذا العالم، وما تجلبه عليه من قصاص:
أولاً: شهوة الجسد [11-14].
ثانيًا: محبة العالم [15-16].
ثالثًا: محبة المجد الباطل [17-18].
رابعًا: ظلمه للمساكين [19].
خامسًا: النهم [20-21].
v “ليت السفليين يدمرون بنيه [10 LXX]“. ربما يشير صوفر بهذه الكيفية إلى الشياطين، فهم “سفليون” بالنسبة للبشر، بسبب سقوطهم من العلا. فإن هؤلاء هم الذين حطموا القصر الذي مات فيه أبناء أيوب ودمروه (1: 19).
“ويداه تشعلان نيران الأسى” حينما كان أيوب يحك قروحه بشقفة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “بنوه يترضون بالفقر”. مكتوب: “لا تدخل الحكمة في نفسٍ حاقدةٍ” (حك 1: 4). ويعلن المرتل: “الأغنياء احتاجوا وجاعوا” (مز 34: 10). وهكذا بنو المرائي “ينهارون بالعوز” (أي 20: 10)، لأن الذين يولدون في الرياء في سطحية، إذ لا ينالون جوهر الحق، يصيرون كلا شيء، يعانون من فقر القلب.
“ويداه تردان حزنه”. ماذا يعني باليدين سوى الأعمال؟ هكذا فإن يديه تردان حزنه، لأنه يحصد دينونة أبدية عادلة من حياته الشريرة.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v إن قال أحد إنه لا يريد ملكوت الله، إنما يطلب راحة أبدية، يخدع نفسه. فإنه يوجد موضعان لا ثالث لهما. إن لم يتأهل أحد ليملك مع المسيح، فبالتأكيد يهلك مع إبليس[939].
قيصريوس أسقف آرل
أولاً: شهوة الجسد [11-14].
عِظَامُهُ مَلآنَةٌ قُوَّةً،
وَمَعَهُ فِي التُّرَابِ تَضْطَجِعُ [11].
يسقط في الشهوات الشبابية التي تملأ عظامه، وتمسك به ولا تفارقه إلى يوم موته.
v (برى صوفر أن) الفساد الذي ينبعث من أيوب يفسد عظامه بانحلال جسده، فيتلف جمال “شبيبة”أيوب. تنام عظامه معه في التراب، إذ يصير أيوب ترابًا من القيح وروث المزبلة حيث كان مُلقى هناك.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v ما هي “شبيبة” المرائي إلا بدء شر شبابه عندما تاق واشتهى احتضان هوى المجد… فما بدأه بشرٍ يزيده يوميًا ويتقوى خلال العادة الشريرة… لذلك كُتب في الأمثال: “رَبِ الولد في طريقه، فمتى شاخ أيضًا لا يحيد عنه” (أم 22: 6). هذه العظام عينها ترقد معه في التراب، لأن الممارسات الشريرة تستمر معه حتى تسحبه إلى تراب الموت.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v الجسم في ذاته ليس عائقًا، إنما بالحري بسبب شرنا لا نستطيع أن نرث ملكوت الله[940].
القديس يوحنا الذهبي الفم
إِنْ حَلاَ فِي فَمِهِ الشَّرُّ،
وَأَخْفَاهُ تَحْتَ لِسَانِهِ [12].
يستعذب الشهوات، فيصير الشر عذبًا في فمه، ويخفيه تحت لسانه حتى لا تفارقه اللذة، كأشهى ما يجده.
v “إن حلا في فمه الشر… لكن لا يقدر أن يسنده” [12]. في هذه العبارة يحذر أيوب. إنه يقصد أن أيوب يستعذب شره بكلماته، بمعنى آخر يغطي عليه ويخفيه بأسلوبه، بالكلمات التي يعبر بها عن نفسه… بهذا لا يقدر أن يسند نفسه. بسبب الشرور التي حلت به يظهر كشريرٍ؛ وهو يؤنبه، إذ يود أن يخفي تصرفاته من الخارج، ولم يراعِ أنه يستحيل إخفائها.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “عندما يصير الشر حلوًا في فمه، يخفيه تحت لسانه” [12]. الشر حلو في فم المرائي، حيث يستعذب الشر في فكره. لأن فم القلب هو الفكر، حيث كُتب: “الشفاه الغاشة تنطق شرًا في قلب مخادع” (مز 12: 2). الآن، الشر الحلو في فم المرائي مخفي تحت اللسان، حيث أن عنف التصرفات الشريرة يكمن مخفيًا في الذهن، مختفيًا تحت ثوب الذهن الناعم…
البابا غريغوريوس (الكبير)
v تؤذي الخطايا النفس بخطورة أعظم من أذية الدود للجسم. ومع هذا فنحن لا ندرك فسادها، ولا نشعر بإلحاح ضرورة التطهر منها. وذلك كالسكران الذي يعجز عن أن يعرف كيف أن مذاق الخمر مشمئز، أما المتعقل فيمكنه تمييز ذلك بسهولة. هكذا بالنسبة للخطايا، فمن يعيش في وقارٍ يميز بسهولة الوحل والفساد، وأما من يعيش في الشرٍ فيكون كالمخمور بالمسكر، فلا يتحقق من أنه مريض. هذا هو أشر ما في الخطية أنها لا تسمح للساقطين فيها أن يدركوا حالة المرض الخطير التي هم فيها، وإنما يكونون كمن يرقدون في وحلٍ ويظنون أنهم يتمتعون بالأطياب. فليس لديهم أدنى رغبة للتحرر. وإذ يعمل فيهم الدود يفتخرون كمن لديهم حجارة كريمة. لهذا لا يريدون قتل (الخطية)، بل أن ينعشوها ويضاعفوها حتى تعبر بهم إلى الدود الذي في الحياة العتيدة[941].
القديس يوحنا الذهبي الفم
أَشْفَقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ،
بَلْ حَبَسَهُ وَسَطَ حَنَكِهِ [13].
إذا ما أمسكت به اللذة يخفيها فيه كمن يحبسها تحت لسانه. يكون كالزانية التي قيل عنها: “وأكثرت زناها بذكرها أيام صباها التي فيها زنت” (حز 23: 19).
إخفاء اللذة وإبقاؤها تحت اللسان يدل على جهده الذي يبذله في إخفاء شهوته المحبوبة لديه جدًا.
لكن ذاك الذي يعرف ما في القلب والفكر يعرف أيضًا ما يخفيه الشرير من لذة يخفيها تحت لسانه.
v “يشفق عليه ولا يتركه، بل يحبسه في حنجرته[942]” [13]. يشفق على الشر الذي يتلذذ به. إذ لا يمارس الندامة، يصطاده في داخله. لذلك أُضيف أيضًا: “ولا يتركه”، فإنه لو كان لديه فكرة عن تركه لما كان يشفق عليه، بل يتعقبه بإحكام. الآن “يحتفظ به في حنجرته”، إذ يحتجزه في الفكر، فلن ينطق به قط في حديثه.
البابا غريغوريوس (الكبير)
فَخُبْزُهُ فِي أَمْعَائِهِ يَتَحَوَّلُ!
مَرَارَةُ أَصْلاَلٍ فِي بَطْنِهِ [14].
إذ تصير الشهوة طعامه اليومي الذي يملأ أمعاءه، تتحول إلى سمٍ قاتلٍ في أعماقه. بينما يظن في اللذة سرّ حياته وسعادته، بدونها ليست له حياة، إذا بها ترديه قتيلاً بسمها الذي أخفاه فيه.
v فخبزه في بطنه يتحول إلى مرارة أصلال فيه” [14]. يدعو صوفر سم الشر “مرارة الصل”، فإنه إذ تنتشر مرارة الصل في الأحشاء لا يمكن تفاديها بعد، إذ تقتل من تنتشر في أحشائه. هذا أمر واضح ومعروف للكل. هكذا سم الشر يعمل في كل الذين يكتمونه.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v يوجد نوعان من الطعام، واحد يخدم الخلاص، والآخر يناسب الهالكين… يليق بنا ألا نسيء استخدام عطايا الآب… لنستخدمها في تجردٍ، ونحفظها تحت سيطرتنا. بالتأكيد أُمرنا أن نكون سادة وأرباب للطعام وليس عبيدًا له[943].
القديس إكليمنضس السكندري
v الخبز في البطن مثل الشبع بالملذات الأرضية في الذهن. لهذا فليشبع المرائي الآن إلى التمام بالمديح الذي لا يقدر على مقاومته! ليمرح بالكرامات!
“خبزه في بطنه يتحول إلى مرارة أصلالٍ” [14]، لأن الملء بالمُتع الوقتية يتحول في يوم الدينونة النهائي إلى مرارة، فما يعبر هنا كمديح للعظمة ينكشف أنه “مرارة أصلال”، أي زهو أرواح شريرة… الفرح بالمتعة الوقتية حلو عندما يُذاق هنا بمضغ الأسنان، لكنه يتحول إلى مرارة في البطن عندما يعبر الفرح، ويُبتلع إلى دمار الشخص.
البابا غريغوريوس (الكبير)
ثانيًا: محبة العالم [15-16].
قَدْ بَلَعَ ثَرْوَةً فَيَتَقَيَّأُهَا.
اللهُ يَطْرُدُهَا مِنْ بَطْنِهِ [15].
في محبته للعالم يجمع الثروات ويخزنها كمن يبتلع طعامًا بنهمٍ شديدٍ لأنه جائع. ليس فيه من كفاية أو شبع إنما قيل: “للعلوفة بنتان: هات هات؛ ثلاثة لا تشبع؛ أربعة لا تقول كفا” (أم 30: 15). يكون كمن يملأ معدته، لكنه يتقيأ على الدوام كل ما أكله، فيبقى جائعًا على الدوام.
v “الثروة المجموعة ظلمًا يتقيأها”… فإنه من المستحيل أن تُصلح بدون أذية… مكافأة الأشرار محفوظة للحياة العتيدة (كو 3: 25). لهذا فإن التي تُجمع ظلمًا سيتقيأها بصرخات عظيمة بهلاكٍ عظيمٍ للنفس حينما يُطلب الغنى الذي جُمع ظلمًا للدينونة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v يشتهى المرائي أن يعرف إعلانات الله، لكنه لا يمارسها. يود أن ينطق بالحكمة، لكنه لا يحيا حكيمًا. لهذا إذ لا يمارس ما يعرف أنه يجب عمله، يفقد حتى ما يعرفه. حيث لا يربط الممارسة النقية بمعرفته، مستهينًا بنقاوة الممارسة الحقيقية، فيفقد المعرفة ذاتها. لهذا فإن غنى الناموس المقدس الذي “ابتلعه” بالقراءة، يتقيأه بنسيانه، ويطرده الله من بطنه. في هذا إذ لا يهتم أن يحفظ الممارسة العملية، فإنه بحكمٍ عادلٍ يُقتلع الله من ذاكرته، حتى أنه يحجم عن حفظ وصايا الله في لسانه، مادام لا يحفظها في حياته. هكذا قيل بالنبي: “وللشرير قال الله: ما لك تحدث بفرائضي، وتحمل عهدي على فمك” (مز 50: 16).
البابا غريغوريوس (الكبير)
v يُذرى الأشرار بمرارة (كزوانٍ خفيفٍ)، أما الأبرار فيخلصون كحنطةٍ ثقيلةٍ. لذلك لاحظوا ما يقوله الرب لبطرس: “هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك” (لو 22: 31). الذين يُذرون مثل زوانٍ يهلكون، أمـا الذي لا يهلك فهو مثل البذرة التي تسقط وتنمو وتزيد وتأتي بثمرٍ كثيرٍ (لو 8: 8)… يُشبه الشر بالعصافة التي تحترق سريعًا وتصير ترابًا[944].
القديس أمبروسيوس
سِمَّ الأَصْلاَلِ يَرْضَعُ.
يَقْتُلُهُ لِسَانُ الأَفْعَى [16].
إذ يغرف المرائي من محبة العالم يرضع من سم الحيات التي لا تنفع فيها الرقية، والذي لا يوجد شيء أكثر منه فتكًا وقتلاً. هذا ما يجمعه مُحب العالم لنفسه. يضم في أعماقه أفعى الخطية التي تقتله بلسانها.
v “لسان الأفعى أيضًا يقتله” [16]. هذا الذي منذ البداية أخضـع آدم وحواء (تك 3: 4-5)، والآن لا يكف عن أن يستعبد الخطاة، إذ يعلمهم أن يجدوا لذة في الأعمال الشريرة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “سم الأصلال يرضع، يقتله لسان الأفعى” [16]... فإنه في البداية يتسلل (الروح الدنس) إليهم بلطفِ، لكنه بعد ذلك يسحبهم بعنف. هكذا “سم الأصلال يرضع” حيث يُقدم في البداية اقتراحًا خفيًا يصدر في القلب، لكن “يقتله لسان الأفعى” حيث يقتل النفس الأسيرة بعد ذلك بسم التجربة العنيفة,
البابا غريغوريوس (الكبير)
ثالثًا: محبة المجد الباطل [17-18].
لاَ يَرَى الْجَدَاوِلَ أَنْهَارَ سَوَاقِيَ عَسَلٍ وَلَبَنٍ [17].
v لا يرون المكسب من القطيع الذي يرعى، ولا ينالون لبنًا وزبدة، في الدهر الآتي. إذ لا يقدرون أن يتمتعوا بلذةٍ في الأمور التي يفتخرون بها هنا. لتعليم هؤلاء تناسبهم كلمات الرب: “يا غبي، هذه الليلة تُطلب نفسك. فهذه التي أعددتها لمن تكون؟” (لو 12: 20).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “لا يرى جداول نهر العسل والزبدة الجارف[945]” [17]. يقول الرب في الإنجيل: “من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي” (يو 7: 37). ويكمل الإنجيلي: “قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه”. هكذا فإن “مجاري النهر” هي مواهب الروح القدس. الحب هو مجرى النهر، والإيمان مجرى النهر، والرجاء مجرى النهر. ولكن ليس من مراءٍ يحب الله أو قريبه، عندما يجعل مجد العالم غايته، لذا فإنه لا يرى مجارى النهر، حيث لا يرتوي بفيض الحب.
الابن الوحيد للآب العلي، وهو الله الذي فوق الكل صار إنسانًا وسط الكل، إذ زودنا بعذوبة طبيعته الإلهية وسرّ تجسده، أشبعنا بالعسل والزبدة.
البابا غريغوريوس (الكبير)
تقدم الشرور عسلاً ولبنًا أو زبدة، تخفي سمًا مهلكًا. أما مسيحنا الغافر للخطايا، فقدم لنا عسل السلام العذب، سلامنا الداخلي مع أنفسنا كما مع الله وملائكته وقديسيه. الخلاص من الخطية بعمل الفداء يردنا لا إلى جنة عدن مع آدم وحواء، ولا إلى كنعان التي تفيض لبنًا وعسلاً، وإنما إلى المصالحة الفائقة مع السماء.
v من يطلب السلام يطلب المسيح، لأنه هو سلامنا (كو 1: 20)، الذي يجعل الاثنين واحدًا (أف 2: 14)، صانعًا السلام بدم صليبه سواء على الأرض أو في السماء[946].
القديس باسيليوس الكبير
v انشقت الأرض عن السماء، وصار الملائكة أعداءً للبشر، إذ رأوا الرب يُهان منهم…
ما فعله المسيح على الصليب هو أن يُصعد إلى السماء الطبيعة البشرية (الخاطئة) والتي كانت في عبودية الشرير. هكذا في الواقع أحضر العدو المكروه للملائكة. ليس فقط جعل ما على الأرض في سلام، بل أحضر لهم ذاك الذي كان عدوهم. بهذا صار السلام عميقًا جدًا. ظهرت الملائكة من جديدٍ على الأرض، لأن البشرية من جانبها ظهرت في السماء[947].
القديس يوحنا الذهبي الفم
يَرُدُّ تَعَبَهُ وَلاَ يَبْلَعُهُ،
وَبِمَكْسَبِ تِجَارَتِهِ لاَ يَفْرَحُ [18].
إنه يتوقع أن يغرف من العالم كما من جداول وسواقٍ تخرج عسلاً ولبنًا، فلا يكف عن العمل ليلاً ونهارًا لكي يخزن من ثروات العالم. لكنه سرعان ما يكتشف أنه فقير، لا يملك ما ترجاه، فلا يتسلل إليه الفرح، إذ لا يجد سعادة في كل ما اقتناه.
من يجمع مالاً ظلمًا يرد ما جمعه بإرادته أو بغير إرادته، فلا يبقى معه شيء، بل يصير معدمًا.
v “يتعب باطلاً وبغير منفعة، ذاك الذي يتعلق بالثروة التي سوف لا يذوقها” [18 LXX]. ما هي فائدة فخامة قصر يقطر ذهبًا إن كان الشرير نفسه يدفن ستة أقدام تحت (الأرض)؟ ما هي فائدة كثرة أثواب الفرح وتنوع الملابس لشخص تجرده الهوام؟
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
سيكتشف الشرير أنه خرج من العالم عريانًا، لأنه لا يلبس المسيح نفسه برّنا. وينفضح عريه يوم الدينونة، وينطلق مع عدو الخير الذي عرىّ نفسه وملائكته وتابعيه من بني البشر. لقد فقد الكل ما يستتر به بفرح!
v لقد سُلب منه (يوسف) ثوبه (تك 39: 12)، لكنه لم يكن عاريًا، لأنه كان لا يزال متغطيًا بثوب الطهارة.
ليس أحد عاريًا إلا الإنسان الذي ينكشف ذنبه.
في الأزمنة الأولى لدينا هذه الحقيقة أن آدم إذ عصا وصية الله وصار مدينًا بخطية خطيرة، صار عريانًا؛ لهذا السبب قال: “سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت” (تك 3: 10). يؤكد آدم أنه عريان لأنه فقد زينة الحماية الإلهية. واختفى لأنه لم يكن لديه ثوب الإيمان الذي ألقاه جانبًا بعصيانه.
إنكم ترون حقيقة هامة: آدم كان عريانًا مع أنه لم يفقد رداءه، ويوسف نُزعت عنه ثيابه التي تركها في يد الزانية، ولم يكن عريانًا[948].
الأب قيصريوس أسقف آرل
رابعًا: ظلمة للمساكين [19].
لأَنَّهُ رَضَّضَ الْمَسَاكِينَ وَتَرَكَهُمْ،
وَاغْتَصَبَ بَيْتًا، وَلَمْ يَبْنِهِ [19].
في محبته للعالم يسلك بروح القسوة والظلم، فيسحق المساكين ويتركهم، وينهب البيوت ويغتصبها لنفسه، كما اغتصب آخاب كرم نابوت اليزرعلي، فاغتصب لنفسه الموت والعار.
إذ يسيطر الطمع على الإنسان، ليس فقط لا يعطي مما لديه للمحتاجين، بل يسلب ما هو للغير فيكسر بيوت الفقراء ويجردها؛ لا يخجل من أن يحطمها بالعنف.
من يتصدّق بأموال ظلم بها اخوته، لا يحمل في صدقته حبًا روحيًا، ولا حتى بشريًا، إذ يعطي إنسانًا ويظلم آخر.
v إذا قدّمت للإله جزءً ممّا اقتنيته ظلمًا واغتصابًا، فلن يقبل الإله عطيّتك…
فلترحم من ظلمته، صانعًا معه رحمة ومحبّة، عاملاً بالصلاح، وبذلك تقدّم رحمة وحقًا. فالله لا يشاركنا جشعنا، ولا يشاطر اللصوص والسالبين، ففي استطاعته أن يطعم الفقراء الذين عهد لنا بهم، لكنه يطلب ثمار البرّ ومحبّة الناس.
البابا أثناسيوس الرسولي
v إذا اختطفت أموالاً وأعطيتها للغير… فما هو عذرك؟
أتريد أن تعلم مقدار ما تصنعه من الشرّ؟ اسمع ما يقوله سليمان إن الذي يقرّب ذبيحة من أموال الفقراء كمن يقتل أمام الأب ابنه!
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
خامسًا: النهم [20-21].
لأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ فِي بَطْنِهِ قَنَاعَة،ً
لاَ يَنْجُو بِمُشْتَهَاهُ [20].
في كل جهاده الذي لا ينقطع لا تعرف أعماقه (بطنه) هدوء البال (قناعة)، إنما يحاصره القلق ويسيطر عليه. قد ينال الكثير، لكنه هو نفسه لا ينجو.
v يلزمنا أن نضبط البطن، ونحفظها تحت توجيه السماء. فإن الله في النهاية سيحطم كل ما هو للبطن كما يقول الرسول[949].
القديس إكليمنضس السكندري
لَيْسَتْ مِنْ أَكْلِهِ بَقِيَّةٌ،
لأَجْلِ ذَلِكَ لاَ يَدُومُ خَيْرُهُ [21].
ما ناله يهرب منه، كمن يأكل لكن لا يشبعه الطعام لأنه يتقيأه…
v لأن الشرير يأكل دون أن يشكر (رو 14: 6)، يتذوق دون أن يبارك، وليس للفقير موضع على مائدته (لو 16: 21). “ليست لديه مئونة” [21]. إذ ليس للشرير بقية يضيف داود نفسه: “بقية الأشرار تهلك تمامًا”.
“خيره لا يدوم”، لماذا؟ لأن خيراته بلا أصل، وهى تنتج ثمارًا شريرة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “لا تدوم خيراته”… لأنه وهو يجري وراء كل شيء ولا يخشى الديان، وإذ يخرج من هذه الحياة يذهب عاريًا إلى الديان.
البابا غريغوريوس (الكبير)
مَعَ مِلْءِ رَغْدِهِ يَتَضَايَقُ.
تَأْتِي عَلَيْهِ يَدُ كُلِّ شَقِيٍّ [22].
بعد أن وصف صوفر الارتباكات التي تحل بالظالم القاسي، يبين هلاكه التام. فمع نوال ما كان يشتهيه بطريقٍ أو آخر، تتحول أيدي الأشقياء إلى سبله. ما فعل يُفعل به. كما كانت يده على الغير ظالمة، تمتد أيادي الأشرار عليه.
v “عند ملء كفايته يتضايق[950]” [22]. أولاً يركض لاهثًا ليكدس الأشياء التي يجمعها بالطمع، وإذ يجمع الكثير جدًا، كما في بطن الطمع “عند ملء كفايته يتضايق”، إذ يمتلئ بالقلق كيف يحفظ ما قد ناله، فيصير ملؤه موضوع ضيقه. فإذ أنتج حقل أحد الأغنياء محصولاً ضخمًا، وليس لديه موضع للتخزين قال: “ماذا أعمل، لأن ليس لي موضع أجمع فيه أثماري. وقال: أعمل هذا. “أهدم مخازني وأبني أعظم” (لو 12: 17-18). إذن هذا الذي تضايق بفيض الخيرات قال: “ماذا أعمل؟”. كان في همٍ، كما لو أن كثرة الطعام قد ضغطت عليه.
v “يحترق بالحرارة، ويسقط عليه كل ويلٍ” [22]. بعد اقتنائه عطايا من الثروة، يحقق مشتهاه، ويحضره إزعاج آخر. يحل به الخوف والقلق ليحفظ في أمان ما قد كلفه من متاعبٍ لا حد لها لكي يقتنيه. من كل جانب يرتعب من المتآمرين، ويخشى لئلا يحل به ما فعله هو بالغير. يخشى لئلا يتعرض لعنفٍ من شخصٍ أقوى منه. عندما ينظر فقيرًا يتطلع إليه كلصٍ. يخشى الأشياء ذاتها التي ذخرها، لئلا بسبب ضعف طبيعته الموروثة تضيع بالإهمال. في كل هذه الأمور فإنه بسبب الخوف ذاته من العقوبة يعاني البائس بشدةٍ من الخوف مما قد يعانيه.
لكن إنه لأمان عجيب للقلب الذي لا يطلب ما هو ليس لنا، بل يقنع بما يناله يومًا فيومًا.
الأب غريغوريوس (الكبير)
v “عندما يحسب نفسه شبعانًا، يسقط في القلق” [22 LXX]. هذا يعني أن الثمرة تتعفن عند نضوجها. لكن كما قلنا مرارًا كثيرة إن ما قاله أصدقاء أيوب ليس ليحطوا من الأشرار والأثمة، بل بالحري ليزعزعوا صبر أيوب.
ولما كان المصارع يحتمل الأحزان التي حلت عليه بنفسٍ عظيمة، واثقًا في المنافع التي يجلبها الصبر، هدده (صوفر) بأن المستقبل سيكون أشر من الماضي.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v حقًا أن حياة الإنسان لا تقوم علي ممتلكاته خلال ما لديه من فيض، إنما يُحسب مطّوبًا وذا رجاء مجيد من كان غنيًا بالله[951].
القدِّيس كيرلس السكندري
v حينما نربح فلسًا نمتلئ فرحًا، وحينما نخسر نصف فلس نغرق في الحزن[952].
القدِّيس جيروم
يَكُونُ عِنْدَمَا يَمْلأ بَطْنَهُ،
أَنَّ اللهَ يُرْسِلُ عَلَيْهِ حُمُوَّ غَضَبِهِ،
وَيُمْطِرُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ طَعَامِهِ [23].
ليس من أمرٍ يبعث حمو غضب الله على الإنسان مثل ظلمه لأخيه. بينما يظن أنه يملأ بطنه بظلمه لأخيه، إذا بحمو الغضب الإلهي يمطر عليه نارًا وكبريتًا. “يمطر على الأشرار نارًا وكبريتًا” (مز 11: 6).
يباغته وهو في لحظات تمتعه بالولائم، عند تناوله طعامه. ولعل صوفر يشير هنا إلى موت أبناء وبنات أيوب أثناء إقامة وليمة.
يشير هنا أيضًا إلى ما حدث في أيام الطوفان، وإلى الخراب الذي حلّ بسدوم وعمورة، إذ يقول السيد المسيح: “كانوا يأكلون ويشربون، ويُزَوِجون ويتزوجون إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك وجاء الطوفان وأهلك الجميع. كذلك أيضًا كما كان في أيام لوط، كانوا يأكلون ويشربون، ويشترون ويبيعون، ويغرسون ويبنون. ولكن اليوم الذي فيه خرج لوط من سدوم أمطر نارًا وكبريتًا من السماء، فأهلك الجميع” (لو 17: 27-29).
v “لتملئ بطنه، فيلقي الله غضبه عليه، ويمطر حربه عليه[953]” [23]… “مطر حرب الله” هو ضرب القلوب المتشامخة عليه، وجرح النفس البغيضة بسهام حكمه… بينما كان يليق (بالطماع) أن يذّكر نفسه كيف قد طمع فيما ليس له، وبأكثر شرٍ وضع في نفسه أن يجمع الأمور التي اشتهاها. وفي وقتٍ آخر سيحزن أنه سيفارق الأشياء التي جمعها.
البابا غريغوريوس (الكبير)
يَفِرُّ مِنْ سِلاَحِ حَدِيدٍ.
تَخْرِقُهُ قَوْسُ نُحَاسٍ [24].
سوف يكون هلاكهم محتمًا دون أية إمكانية للنجاة منه. “يفر من سلاح حديدٍ“. الهروب يشير إلى الإثم، حيث لا يفكر الشرير في الاعتراف بخطاياه في تواضعٍ أمام الله ليصطلح معه، بل كل ما يفكر فيه هو النجاة من الانتقام الذي يتعقبه، ولكن بدون جدوى. فإنه إن نجا من السيف “تخرقه قوس نحاس“، أو قوس من الصلب. كأن الله يستخدم السيف للذين يظنون أنهم يحاربونه بقوتهم، والقوس للذين يظنون أنهم قادرون على الهروب منه بمكرهم. فمن يظن أنه قادر أن ينجو من قصاصٍ يجد قصاصًا آخر يلاحقه.
v “هذا يعني أنه سيغمره (الله) بالآلام… ولكن ما هي هذه الآلام؟ لننتبه. “ليفر بأية وسيلة من قوة السيف، وليجرحه القوس النحاسي. ويطعنه السهم في جسمه، لتكن الكواكب ضد مسكنه، ولتحل المخاوف عليه” [24-25 LXX]. لم يسقط أيوب تحت هذه الضربات، فقد منع الله الواشي (الشيطان) من قتله، لذلك لم يقدر الحديد ولا النحاس ولا أي رمح أن يقترب إليه من جنود الشيطان المرتزقة. قدرما جلبوا عليه… لم تلتهب نار عليه، أي النار التي مصدرها ليس الأرض. لأنه ليس للشيطان سلطان أن يحرك رعب السماوات عليه.
هدد صوفر أيوب بهذه الأمور، إذ أراد أن يرعب المصارع بالخوف من كل جانب. أما من جهة أيوب، فلم يقل كيف أو من أين تأتي هذه الأمور عليه، إذ كان واثقًا في برّه.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “سيهرب من الأسلحة الحديدية، ويندفع نحو القوس النحاسي[954]” [24]. يلزمنا أن نعرف أن الطمع أحيانا يتسلل إلى الناس عن طريق الكبرياء، وأحيانًا عن طريق الخوف. لذلك فإن البعض يهدفون نحو الظهور بسلطانٍ أعظم، ويلتهبون نحو نوال ما هو للغير. أيضًا يوجد أناس يخشون لئلا يصيروا في عوزٍ إلى ضروريات الحياة، فيسلمون أذهانهم للطمع ليطلبوا ما هو للغير، متخيلين أن ما لديهم لا يكفيهم. الآن، تعبير “الحديد” يتناسب مع كل “الضروريات”. فهو يزعج حياة المعوزين بجراحات الحزن. هو تعبير عن الحاجة إلى الضروريات التي تقود إلى حياة مؤلمة… “يدخل الحديد إلى نفسه” (مز 105: 18). إذن ما هي الأسلحة الحديدية سوى ضروريات الحياة الحاضرة التي تضغط على حياة المحتاجين بقسوة؟ الحديد يتلف بالصدأ، أما النحاس فيتلف به بأكثر صعوبة. لهذا فالحديد يشير إلى الضروريات الحاضرة المؤقتة، وأما النحاس فإلى المصير الأبدي.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v أتريد أن تبني مدينتك حسنًا؟ “القليل مع مخافة الرب خير من كنز عظيم بدون مخافة” (راجع أم 15: 16). غنى الإنسان يلزم أن يعمل على خلاص نفسه لا هلاكها. الغنى يكون للخلاص إن استخدمه أحد حسنًا، وهكذا يكون فخًا إن لم يعرف أحد كيف يستخدمه (أم 13: 8). لأنه ما نفع مال إنسان لا يسنده في رحلته؟[955]
القديس أمبروسيوس
جَذَبَهُ فَخَرَجَ مِنْ بَطْنِهِ،
وَالْبَارِقُ مِنْ مَرَارَتِهِ مَرَقَ.
عَلَيْهِ رُعُوبٌ [25].
يكون الهلاك كاملاً عندما يخترقه القوس يخرج من مرارته، فتحل به أهوال ورعب عنيف جدًا، وتكون آلام موته مؤلمة للغاية. هكذا يحل الموت بالشرير منقضًا عليه فيذيقه المرارة.
v “المرعبون يأتون ويحلون عليه” [25]. من هم الذين يدعون هنا بالمرعبين سوى الأرواح الشريرة الذين يجب أن تخشاهم الأذهان التقية وتتجنبهم؟ يُعتقد أن هذه الأرواح الشريرة عينها تلتصق كل بمفردها برذائلٍ معينة. عندما يترك هذا الإنسان الشرير مجموعة من الأخطاء إلى لحظة ويبدأ يرتكب مجموعة أخرى، فبالتأكيد “المرعبون يأتون ويحلون عليه، حتى إذ تترك نفس الشرير مجموعة من العادات الشريرة تأسرها مجموعة أخرى. فكثيرًا ما ترون إنسانًا شريرًا له سلطان أرضي تثيره أهواء صاخبة، ويتمم كل ما يقترحه عليه غضبه. وإذ يهدأ غضبه تثير الشهوة نفسه. وإذ تتوقف الشهوة إلى حين حالاً يحتل قلبه الاعتداد بالذات على أساس أنه عنيف، ولكي يظهر للغير أنه مُخيف يهدف نحو إبراز نفسه كموضوع رعبٍ… هكذا بحق يُقال لذاك الذي تتلقف رذيلة ذهنه محل رذيلة أخرى: “المرعبون يأتون ويحلون عليه”.
البابا غريغوريوس (الكبير)
كُلُّ ظُلْمَةٍ مُخْتَبَأَةٌ لِذَخَائِرِهِ.
تَأْكُلُهُ نَارٌ لَمْ تُنْفَخْ.
تَرْعَى الْبَقِيَّةَ فِي خَيْمَتِهِ [26].
الظلمة التي يلتحف بها الشرير مختبئة، وهي ظلمة دامسة لا يخترقها شعاع نور واحد. ظلمة داخلية تجتاز إليه إلى حيث يظن أنه في أمان، مختبئ في مكان لا يقدر أحد أن يبلغ إليه. ولعله يقصد بالمخبأ ضميره، إذ يعاني الشرير من الظلمة التي تحل في أعماقه، ليجد نفسه في ظلام وحيرةٍ، ليس من يقدر أن يخلصه منهما سوى رجوعه بالتوبة إلى النور الحقيقي واهب السلام.
تشتعل في داخله نار مُهلكة لم تنفخ، أي لا يُسمع لها صوت. يرى الكل دمار الشرير واحتراقه دون أن يقدر أن يعرف السبب. وذلك كما رأى يونان اليقطينة قد يبست، ولكنه لم يرَ الدودة التي سببت لها الذبول (يونان 4: 7).
وبقوله “نار لا تُنفخ” يشير إلى أن نار الخطية المهلكة وقودها سريع الاحتراق جدًا لا تحتاج إلى نفخ. “كل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشًا، ويحرقهم اليوم الآتي” (مل 4: 1).
“ترعى البقية في خيمته“: شره يتسلل إلى خيمته، أو إلى أسرته، فيكون سببًا لهلاك الكثيرين من أهل بيته.
v “كل ظلمة مختبئة في أماكنه السرية” [26]… يقال: إن كل “ظلمة مختبئة في أماكنه السرية”، وذلك لأنه لا يستعرض كل شروره التي فيه، لكنه ينبغي أن يحل بها جميعًا على زملائه في الخليقة.
“تأكله نار لم تُشعل”، هذه الكلمات القليلة تعلن عن نار جهنم بطريقة غاية في الدهشة. فالنار المادية لكي تصير نارًا تحتاج إلى وقود مادي. ولكي تستمر، يلزم أن تُمَّون بالخشب الذي يكوَّم فوقها كما نعلم. لا وجود لها ما لم تُشعل، ولا تستمر ما لم تُخدم بالوقود. على عكس هذا، فإن نار جهنم بينما هي نار تُهلك أبناء الهلاك الذين يلقون فيها جسديًا، لا تُشعل بجهود بشرية، ولا تستمر بإلقاء خشب فيها. ولكنها إذ توجد مرة، تبقى غير قابلة للانطفاء، ولا تحتاج إلى إشعالها، ولا تنقص حرارتها… عدالة القدير إذ سبق فعرفت الأحداث المقبلة، فمن بداية العالم خلقت نار جهنم التي كان يجب أن تبدأ لمعاقبة الأشرار ولن تتوقف حرارتها ولا تحتاج إلى وقود…
قيل بالمرتل: “تجعلهم مثل تنور نار في زمان غضبك. الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار” (مز 21: 9). هكذا يُظهر الكتاب المقدس أن المفقودين يحترقون داخليًا وخارجيًا. إنه يشهد أنهم يؤكلون بالنار، وفى نفس الوقت يصيرون فرنًا ناريًا، فبالنار يتعذبون في الجسد، وبالحزن يحترقون في الروح.
“إذ يُترك في خيمته، تصير معه في المحنة”، فإذ وضع كل بهجة في الحياة الجسدية “يسكن في خيمة الجسد”.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v لماذا لم يدخل (الشيطان) في الطوباويين بطرس ويعقوب ويوحنا أو أحد بقية الرسل؟
لماذا دخل في يهوذا الإسخريوطي؟
ماذا وجد فيه الشيطان؟
لم يستطع الشيطان أن يقترب من أحد الذين أشرنا إليهم لأن قلوبهم كانت مستقيمة، ومحبتهم للمسيح ثابتة. كان في الخائن مكان للشيطان. المرض الخبيث، الطمع، الذي قال عنه الطوباوي بولس إنه أصل كل الشرور (1 تي 6: 10)، قد سيطر عليه. الشيطان ماكر في عمل الشر. عندما ينال ملكية في نفس إنسان، لا يحاربه برذيلة عامة. بل بالحري يبحث للشخص الذي سيطر عليه عن وسيلة بها يجعله فريسة له[956].
القديس كيرلس الكبير
v جاء لإبراهيم ثلاثة رجال (تك 18: 1-2) في حرَّ النهار؛ وأما في حالة سدوم فجاء ملاكان في المساء (تك 19: 1). الأمور الصالحة تشَّبه بالنور، والشريرة بالمساء، حتى يشرق شمس البرَّ عليهم (مل 4: 2). فإن عقاب الأشرار هو ليل وظلمة، أما الأبرار فسيضيئون كالنور (أم 4: 18؛ مت 13: 34)[957].
الأب ثيؤدور أسقف المصيصة
v قال للآخرين: “اذهبوا عني يا ملاعين” (مت 25: 41). لم يقل إنهم يُلعنون بواسطة الآب، لأن الآب لم يلقِ باللعنة عليهم، إنما أعمالهم التي تفعل ذلك. لم يقل أن النار الأبدية معدة لأجلهم وحدهم، بل “لإبليس وملائكته”. فإنه بخصوص الملكوت حقيقة عندما قال: “تعالوا رثوا الملكوت”، أضاف لقد أعددته لكم منذ تأسيس العالم (مت 25: 34). أما عن النار لم يقل هذا، بل “المُعدة لإبليس”. أنا أعددت لكم الملكوت، أما النار فلم أعدها لكم بل لإبليس وملائكته، لكن أنتم تلقون أنفسكم فيها. أنتم نسبتم إياها لكم[958].
القديس يوحنا الذهبي الفم
السَّمَاوَاتُ تُعْلِنُ إِثْمَهُ،
وَالأَرْضُ تَنْهَضُ عَلَيْهِ [27].
إله السماء الذي يرى الخفيات يعلن عن شرور الأشرار المُصرين على شرهم، وتكتشف الأرض آثامهم وتنتقم منهم. “الأرض تكشف دماءها” (إش 26: 21). فالسماء لا تطيق الإثم، والأرض تنهض ضده، ولا يجد الأشرار لهم موضعًا هنا أو هناك، إنما يستقرون في جهنم.
v “السماوات تعلن إثمه، والأرض تنهض عليه” [27]. ماذا نفهم بالسماوات سوى الأبرار، والأرض سوى الخطاة؟ هكذا في الصلاة الربانية يُصلى: “لتكن إرادتك على الأرض كما في السماء”، لتعني أن إرادة خالقنا كما تتحقق في الأبرار، ليتها تتحقق في كل الخطاة أيضًا. علاوة على هذا قيل عن الأبرار: “السماوات تعلن مجد الله” (مز 19: 1). وللإنسان عندما أخطأ، أُعلن الحكم: “أنت تراب وإلى تراب تعود”. وهكذا عندما يُسحب الإنسان الشرير إلى الدينونة الرهيبة، يُقال: “السماوات تعلن إثمه، والأرض تنهض عليه”، فإن الإنسان الذي لم يشفق هنا على الصالحين أو الأشرار، عند استجوابه الرهيب تشهد عليه حياة الأبرار والخطاة…
لكن يمكن أيضًا أن تشير “الأرض” ليس إلى الحياة الخاطئة المُستنكرة، وإنما إلى أولئك الذين ينهمكون في الأمور الأرضية، وخلال الصدقة وبالدموع ينالون الحياة الأبدية. عن هؤلاء يقول المرتل عندما أُعلن عن الرب أنه قادم للدينونة: “يدعو السماوات من فوق، والأرض على مداينة شعبه” (مز 50: 4). فإنه يدعو السماوات من فوق، حين يترك أولئك كل ما لديهم ويتمسكون بالنزعة نحو الحياة السماوية، يُدعون ليجلسوا معه في الحكم، ويأتوا معه كقضاة…
ليس من أمر ارتكبه الشرير يكون مخفيًا عن بصيرة زمن الدينونة، وإن كان بالحق كثير من الأعمال مخفية الآن عن الخلائق رفقائه خلال الخداع يظهر في يوم الدينونة في النور.
البابا غريغوريوس (الكبير)
إن كانت السماوات تعلن عن إثم الشرير، والأرض تفضحه وتقاومه، لذا يليق بالكنيسة أن تطلب من المؤمنين الهروب من الأشرار المصممين على الشر، وليس عن الخطاة الذين في حاجة إلى من يشهد لإنجيل المغفرة أمامهم.
يبرز القديس كبريانوس ليس فقط ما يحل بالأشرار المقاومين للحق من عقوبات إلهية مشددة، وإنما يطالب أولاد الله باعتزالهم حتى لا يحل غضب الله عليهم. [نجد هذا واضحًا في سفر العدد، عندما ادعى قورح وداثان وإبيرام الحق في تقديم ذبائح مقاومة لهرون الكاهن. فإن الرب يعلم خلال موسى أن الشعب ملتزم باعتزالهم لئلا يرتبطوا بذات إثم المذنبين، ويلوثوا أنفسهم بذات جريمتهم. “فكلم الجماعة قائلاً: اعتزلوا عن خيام هؤلاء القوم البُغاة، ولا تمسوا شيئًا مما لهم لئلا تهلكوا بجميع خطاياهم” (عد 16: 26)[959].]
v افعلوا ما استطعتم لاستبعاد الشخص الشرير، فإنه ما أن يخرج حتى يسكن المسيح فيكم[960].
العلامة أوريجينوس
v أنت تحتقر الذهب، آخر يحبه.
أنت تزدري بالثروة، هو يجري وراءها بشغفٍ.
أنت تحب السكون والضعف والحياة السرية الخاصة، أما هو فيجد لذة في الحديث في الساحات العامة بوقاحةٍ كما في الشوارع والمحلات العامة…
لا تكن معه تحت سقفٍ واحدٍ. لا تعتمد على عفتك القديمة. فأنت لست أكثر قداسة من داود ولا أكثر حكمة من سليمان… إن كنت في عملك الكهنوتي تلتزم بزيارة أرملة أو عذراء لا تدخل البيت وحدك. لا تجعل رفقاءك يستخفون بك… لا تجلس بمفردك مع امرأة بطريقة سرية دون شاهد معك. إن كانت تريد أن تكشف عن أمر خاص وسري، لديها مربية أو مدبرة بيت أو عذراء أو بتول أو زوجة. لا يمكن أن تكون بلا أصدقاء سواك حتى تفيض عليك بأسرارها الخاصة[961].
القديس جيروم
تَزُولُ غَلَّةُ بَيْتِهِ تُهْرَاقُ فِي يَوْمِ غَضَبِهِ [28].
ذريته التي هي غلة بيته تُستأصل، حيث يحل بهم الموت في غير أوانه، أو يضطرون إلى الهروب من بلادهم فيتشتتون ويُستأصلون.
كما تتدفق الثروة على الشرير بسرعة خلال الظلم والخداع، تتبدد أيضًا بذات السرعة عندما يحل الغضب الإلهي عليه.
v عندما يُعلن غضب الديان، يُسلم (الشرير) إلى نيران الغضب، يُنزع من رؤية (الديان). لأن ذاك الذي في الحياة لم يرد أن يرتفع بفكره إلى العلويات، إذ تحدره خطاياه إلى أسفل، سيسقط من أمام وجه الديان في أعماق العقوبة. أما الآن فإن الديان يرى ويحتمل الخاطي في خطاياه، لأنه يوم اللين، وليس يوم الغضب، لأنه ينتظر مترقبًا هداية كل أحدٍ. الآن يوم اللين، وإذ يبقى المرائي جامدًا دون تحرك، ممارسًا شرورًا كثيرة غير مؤدب بجلدات، فسيُطرد في يوم الغضب ، حيث يُحمل إلى عقوبة النقمة؛ يُقطع من وجه الديان الأبدي.
البابا غريغوريوس (الكبير)
هَذَا نَصِيبُ الإِنْسَانِ الشِّرِّيرِ مِنْ عِنْدِ اللهِ،
وَمِيرَاثُ أَمْرِهِ مِنَ الْقَدِيرِ [29].
ما يجمعه الشرير لنفسه ليس الثروة التي اقتناها إلى حين، بل الغضب الذي يحل عليه. هذا هو نصيبه الدائم، وميراثه الأبدي في نار جهنم.
هذا هو خطاب صوفر، وقد حمل شيئًا من الحق، لكنه كان مخطئًا إذ ظن أن هذا كله يلزم أن يحل على كل شريرٍ وهو في هذا العالم. وأن كل من تحل به ضيقة في هذه الحياة يكون ذلك إشارة إلى شر الساقط تحتها.
قدم صوفر تفسيرًا سليمًا لعمل الشر في حياة الشرير، لكنه أخطأ في تطبيق هذه العقيدة، كما لم يقدم الفكر خالصًا، إنما يشوبه الميل الشرير نحو أيوب ومحاولة تأكيد أنه مراءٍ.
حقًا الشر مرهب والخطية خاطئة جدًا، لكن ليس لنا أن نحكم وندين الغير حسب نظرتنا البشرية.
v لو أنه حين كان في هذه الحياة اهتم أن يعمل باستقامة، لكان نصيبه الشركة مع الرب في ملكوت السماوات. لكنه إذ اختار أن يخضع للشهوات الشريرة فإن نصيبه من الرب أن يوجد في عذابٍ، إذ لم يطلب أن ينال شركة في نعمة هذا الرب…
الآن لا يشتهي القديسون أن ينالوا نصيبًا من الرب، بل ينالوا الرب نفسه نصيبًا لهم. لهذا يصلى النبي قائلاً: “نصيبي الله إلى الدهر” (مز 73: 26).
أما الشرير فإذ لم يسعَ ليكون الرب نفسه نصيبه، يجد النار نصيبه لا الرب. وإذ يُنزع من وجه الله، لأنه لم يطلب أن يجد فرحًا فيه، يُعذب وهو غير جدير بالله.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v أولئك الذين يرضون بالإثم لا يكون لهم نصيب بين الخالدين[962].
القديس أنطونيوس الكبير
v لنرَ بعد ذلك ماذا يوصينا الله أن نفعل، فهو يقول: “أعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم علي الجبال العتمة، فتنظرون نورًا” (إر 13: 15). فهو يريد أن من يعطي الرب مجدًا، يعطيه مجدًا في وجود النور، لأن مجد الرب لا يمكن أن يُعلن حينما يأتي الظلام. فمتي إذًا يأتي الظلام، ومتي لا يأتي؟ “اعملوا مادام النور فيكم”. فإن النور في الواقع هو موجود فيك، طالما تحمل في داخلك السيد المسيح الذي قال عن نفسه: “أنا هو نور العالم“. وطالما هذا النور موجود فيك أعطِ إذًا مجدًا للرب؛ ولكن اعلم إن الظلام يمكن أن يأتي، فلا يجب أن تنتظر وقوع هذا الظلام، بل أعطِ مجدًا للرب قبل مجيئه.
v ربما يمكننا أن نفهم بوضوح هذا الموضوع إذا استعنا بكلام السيد المسيح: “اعملوا مادام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل“؛ فهو يقصد بالنهار وقتنا الحاضر، وبالظلام والليل، انتهاء العالم وفنائه بسبب عقاب الأشرار. ويقول عاموس النبي: “ويل للذين يشتهون يوم الرب. لماذا لكم يوم الرب. هو ظلام لا نور” (عا 5: 18). فإذا عرفت كم سيكون الحزن والشقاء عند هلاك العالم، سيصيب الحزن تقريبًا معظم الجنس البشري الذين يُعَاقَبون علي خطاياهم، وعندئذ ستعرف أن الجو سيصبح معتمًا ومظلمًا بحيث لا يستطيع أحد أن يمجد الله، لأنه حتى الأبرار أوصاهم الله قائلاً: “اذهب يا شعبي. ادخل إلي بيتك، واغلق عليك بابك، اختبئ قليلاً أو كثيرًا حتى ينتهي حمو غضبي”[963].
v كما أن ما أعده الله للذين يحبونه، يفوق العقل، كذلك أيضًا ما أعده من عذابات للأشرار، يفوق العقل[964].
v كل واحدٍ منا يجلب على نفسه عقوبة عن خطية، حجم العقوبة حسب نوع المعصية وطبيعتها… محصل الديون قادم ليتمم عمله، وأنا أقاومه. إنني أعرف أنه إذا كنت غير مدينًا بالمرة، ليس له سلطان عليَّ. إن كان عليَّ دين فسيرسلني محصل الديون إلى السجن[965].
العلامة أوريجينوس
من وحي أيوب 20
صوتك يقطع لهيب شروري!
v نفسي تئن في داخلي:
من يقدر أن يطفئ لهيب شروري، ومن يسكب مياه برّك في داخلي صوتك الحلو!
v منذ سقوط آدم تعلمنا أنه لابد من اقتلاع شجرة الشر، لكي تُغرس فينا شجرة برِّك.
ليُقتلع هيكل إبليس برجاساته، لكي تقيم بروحك القدوس فينا هيكلك المقدس.
لتقطع وتهلك وتنقض ما هو ليس لك فيّ، وتغرس وتنشئ ما هو لك،
فأصير جنتك المقدسة، وهيكلك المقدس.
v لتهدم يا رب كل بناءٍ غريبٍ أبرص، ولتُنقض حجارته، وتُطرح خارجًا.
لا يبقى في داخلي حجر دنس، لأني مدينتك المقدسة.
لتنزع من قلبي كل شوكٍ و تغرس فيّ جنتك، فأصير كرمك المحبوب إليك جدًا.
أقدم لك مما لك، من ثمر روحك القدوس.
لكي ما تدعو أصحابك السمائيين، قائلاً:
“كلوا أيها الأصحاب، اشربوا واسكروا أيها الأحباء” (نش 5: 1).
تعال أيها الرب يسوع، ولتسكن في أعماقي حيث جنتك المفرحة، وهيكل قدسك!
v أنا أعلم أن عدو الخير يقدم مباهج وملذات، لكنها مملوءة سمًا.
أفراح رئيس هذا العالم لن تدوم!
الآلام التي نتقبلها بشكرٍ من يديك، أعذب من كل ملذات العالم!
v خطاياي تحطمني! تارة في كبرياء لا أبالي بما أفعله،
وأخرى في إحباطٍ، فيملك اليأس على كل كياني.
أنا أعلم أن خطاياي خلقت عداوة مع كلمتك ووصيتك.
لكن كلمتك في عذوبة حبها تؤدب، لا لتهلكني، بل لتردني إليك، فأتمتع بخلاصك!
v شروري حطمت كل صلاحٍ فيّ، فاحت رائحتها الدنسة في داخلي!
أعيش كما في حلمٍ، كل ما تقدمه لي شروري من ملذات يزول،
استيقظ لأجد نفسي قد جمعت ريحًا، وتمسكت بظلٍ وخيالٍ!
شروري تنزع عني سلامي، لأنه لا سلام لي إلا في أحضانك الإلهية.
شروري أفسدت نفسي، أكثر مما يفعله الدود بجسدي.
v لماذا اكتنز شروري ككنزٍ ثمينٍ، لماذا أخفيها كمن يشفق عليها؟
وهي علة هلاكي الأبدي؟
تبث سمومها في أحشائي، وتكنز لي مرارة أبدية!
v صارت لي شروري طعامًا قاتلاً، عوض التمتع بالمن السماوي،
جسدك ودمك واهبين الحياة الأبدية.
شروري نزعت عني عذوبة الحياة الحقيقية.
لأرجع إليك يا غافر الخطايا، فأتمتع بك، فأنت هو الحياة.
تردني، لا إلى جنة عدن ولا إلى أرض الوعد، لكن إلى الأحضان الإلهية.
فأشبع من عذوبة حبك. وأتهلل بالوحدة مع السمائيين!
v أنت هو الحب كله. تشتهي خلاص الكل، لكن شروري هي التي تدينني!
أنت أعظم من كل شرٍ.
أنت تهبني برَّك، فأعيش معك. أحيا لك ومعك.
ألتقي بك على السحاب، وأتمتع بالمجد الذي أعددته لي منذ تأسيس العالم.
تفسير أيوب 19 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 21 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |