تفسير سفر أيوب ٥ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الخامس
كيف يمكنك أن تطَوَّب؟
بعد أن دعَّم أليفاز حجته بخبرته الشخصية وبرؤيا إلهية سماوية، الآن في هذا الأصحاح يقدم القديسين كشهودٍ أمناءٍ لحق الله. وفي تلميحٍ يوضح لأيوب أنه ليس من جماعة القديسين. كما يوضح الحقائق التالية:
v أن الذين يتهمون الله هم جهلاء (مز ١٤: ١).
v يبدو الأغبياء كأنهم في رخاءٍ ولكن إلى حين، وفجأة تتبدد ممتلكاتهم، إذ أن الله يلعنهم.
v لا ينمو الألم مثل الورود، لكن البشر يجلبونه لأنفسهم خلال غباوتهم الشريرة، وتظهر من فوق كالبرق.
بلا شك نطق أصدقاء أيوب ببعض الحقائق الصادقة، وأيوب البار نطق أيضًا ببعض الحقائق الصادقة وأحيانًا بعبارات لا تمثل الحق. هذا إن درسنا كلماتهم منفصلة عن الأحداث، وبعيدًا عن النيات التي في قلوبهم وأفكارهم.
أخيرًا يقول أليفاز لأيوب: لو كنت في موضعك، لرجعت إلى الله، الذي يسحق الأشرار ويبارك المساكين والأبرار. فإنه هو وحده يصلح أمرك، ويهبك كل بركة مادية تشتهيها [١٧-٢٧].
- القديسون شهود على حكمة الله 1.
- الخطية تقتل الأغبياء 2-5.
- الإنسان مولود للمشقة 6-7.
- الله ملجأ المتضايقين 8-16.
القديسون شهود على حكمة الله
اُدْعُ الآنَ، فَهَلْ لَكَ مِنْ مُجِيبٍ؟
وَإِلَى أَيِّ الْقِدِّيسِينَ تَلْتَفِتُ؟ [1]
كان أليفاز واثقًا جدًا من موقفه، لذا وضع أمام أيوب أن يختار المُحَكِمين. يقول له: “أدع الآن، فهل لك من مجيب؟” بمعنى فلتفتش بنفسك في كل العالم، هل يوجد من بلغت به الكوارث مثلك؟
هل من قديسٍ في وسط كل البشرية لحق به ما لحق بك؟ لم يتعامل الله مع أي قديس بهذه الصورة، فحتمًا أنت لست منهم.
هل يوجد بين القديسين من سب يوم ميلاده كما فعلت؟
هل ثار قديس ما ثورتك، وتسرع في الحكم هكذا؟
“إلى أي القديسين تلتفت؟” أنهم جميعًا يوافقونني على رأيي. كلهم يقفون في صفي، ويؤيدون ما أقوله.
نطق أليفاز بهذه العبارات، حاسبًا أن أيوب مستحق للوم. لقد انتفخ بكبرياء الحكمة.
v “وإلى أي القديسين تلتفت”. إنه ينطق بهذا في سخرية: إنك لا تقدر أن تقتني القديسين لمساندتك في ضيقتك، هؤلاء الذين لم ترد أن يكونوا في صحبتك وأنت في وسعك.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v “أدعُ الآن، فهل لك من مجيب؟ وأي الملائكة القديسين تنظر؟” (LXX) كأن أليفاز يقول: إنك تلهو بنفسك عندما تظن أن الله شاهد معك، وأنت عاجز عن التمتع بزيارة ملاك لك في صلواتك. لقد التقيت بمحتالٍ خدعك، وأقنعك أنه مُرسل من الله. جعلك تعتقد بهذا، لكن من الواضح أن الله لم يقدم شهادة بذلك لك.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
أما عن فاعلية صلوات القديسين، فقد جاء في سفر الأعمال أن ملاكًا ظهر في رؤيا للقديس بولس، وقال له: “لا تخف يا بولس ينبغي لك أن تقف أمام قيصر، وهوذا قد وهبك الله جميع المسافرين معك” (أع 27: 24).
v إن كان هنا وُجدت سفينة في خطر تعاني من الغرق وقد خلص المساجين من أجل بولس (أع 27: 24)، تأملوا ماذا يكون الأمر بالنسبة للشخص القديس في بيته، فإنه كثيرة هي التجارب التي تهاجمنا، تجارب أكثر خطورة من تجارب الطبيعة، لكن الله قادر أن يهبنا أن نخلص إن كنا فقط نطيع القديسين كما فعل الذين في السفينة، إن كنا نتمم ما يأمروننا به. فإنهم ليس فقط خلصوا، وإنما ساهموا في إيمان آخرين.
بينما كان القديس في قيود صنع أعمالاً أعظم ممن هم في حرية.
انظروا فإن الحال هنا هو هكذا: كان قائد المائة الحر في حاجة إلى سجينه المقيد، كان ربان السفينة الماهر في عوزٍ إلى من لم يكن ربانًا، بل بالحري كان هو الربان الحقيقي. فإنه قاد كربان سفينة ليست من هذا النوع (أرضية) بل كنيسة العالم كله، متعلمًا من ذاك الذي هو رب البحر أيضًا. قادها لا بفنٍ بشريٍ، بل بحكمة الروح. في هذه السفينة يوجد تحطيم كثير للسفن، أمواج كثيرة، أرواح شر “من خارج خصومات، من داخل مخاوف” (2 كو 7: 5)؛ فكان هو الربان الحقيقي[217].
v لتحث أولئك الذين لهم حديث ودي مع الله ليقدموا صلوات أكثر، بأكثر مثابرة لكي تهدأ العاصفة التي تحطم العالم كله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v العالم مستمر في الوجود فقط من أجل الصلوات المقدمة من المسيحيين.
أريستيدس من أثينا
v صلواتنا عامة وعلنية؛ حينما نصلي لا نصلي من أجل شخصٍ واحدٍ، بل من أجل كل الشعب، لأننا نحن جميعنا الشعب كله هو واحد.
v ليته لا تتوقف الصلوات من أجل الإخوة والأخوات في حضرة مراحم الآب.
الشهيد كبريانوس
- الخطية تقتل الأغبياء
لأَنَّ الْغَيْظَ يَقْتُلُ الْغَبِيَّ،
وَالْغَيْرَةَ تُمِيتُ الأَحْمَقَ [2].
يُحسب الخطاة أغبياء، إذ لا يقبلون حكمة الله. هؤلاء يقتلهم الغضب، وتُفسد الغيرة عظامهم. لعل أليفاز يقصد بهذا أن ما يحل بأيوب إنما ثمر طبيعي لغباوته، ناسبًا له الحماقة والغباوة.
يقول بأن المحتال خدعه فأثار فيه الغضب، وأنه سخر به ليقتل أيوب نفسه. وفي هذا يود أن يبرر نفسه لكن قد ظهرت غباوته.
v “الغضب يقتل الغبي، والحسد يميت الطفل” (راجع أي 2:5). يلزم ملاحظة أن الذي يغضب هو غبي، والذي يحسد يُحسب طفلاً. لأن الأول ليس بدون مبررٍ يعلن عن أنه غبي، إذ يجلب الموت على نفسه بإرادته، ويترك نفسه تُثار بالغضب. والأخير يبرهن بحسده على أنه طفل غير ناضج، لأنه حين يكون حاسدًا يشهد بأن من كان في وسعٍ يعذبه وهو أعظم منه[218].
القديس يوحنا كاسيان
v لا يوجد شيء يفوق الحب، وبالتالي لا يوجد شيء أدنى من الغضب. يلزمنا ألا نهتم بشيء مهما بدا نافعًا وضروريًا حتى نتجنب الغضب الذي يسبب اضطرابًا، ولا نرتبك بالأمور حتى التي نحسبها ليست كمالية حتى نحفظ هدوء الحب والسلام بغير نقصٍ، لأنه يلزمنا أن ندرك أن لا شيء مهلك مثل الغضب والتكدر، وليس شيء مفيدًا مثل الحب[219].
الأب يوسف
v ليس شيء أكثر خطورة من الحنق، ولا أقسى من الغضب!
v يوجد سُكر بالغضب أكثر خطورة من السُكر بالخمر![220]
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
v لنتأمل في مدى خطورة خطية الغضب (الغيظ)، التي بها ننفصل عن الحنو، وتفسد التشبه بصورة العلي.
بالغضب تُطرد الحكمة، فنبقى في جهالة في كل ما نفعل، وما نلتزم بعمله، كما هو مكتوب: “الغضب يستقر في حضن الجهال” (جا 7: 9). فبانسحاب نور الفهم يُفسد الهياج الذهن.
بالغضب تضيع الحياة، حتى الحكمة تبدو محتجزة. كما هو مكتوب: “الغضب يحطم الحكماء” (أم 1:15)…
بالغضب يبطل البٌر، كما هو مكتوب: “غضـب الإنسان لا يصنع بٌر الله” (يع 20:1)…
من لا يضبط مشاعره بالتعقل اللائق بالإنسان يلزمه أن يعيش في عزلة كحيوانٍ.
بالغضب يفسد الانسجام، كما هو مكتوب: “الرجل الغضوب يهيج الخصومة، وبطيء الغضب يسكن الخصام” (أم 15:18)…
بالغضب يُفقد نور الحق. كما هو مكتوب: “لا تغرب الشمس على غيظكم” (أف 26:4). لأن الغضب يجلب ظلمة التشويش. يخفي الله عنه أشعة معرفة نفسه. بالغضب يُغلق على بهاء الروح القدس. من الجانب الآخر كُتب حسب ترجمة قديمة: “على من يستقر روحي، إلا على من هو متواضع ومسالم والمرتعب من كلامي” (إش 2:66).
البابا غريغوريوس (الكبير)
v إن كان الشخص يغضب بكونه إنسانًا، فإنه يضع حدًا للغضب بكونه مسيحيًا.
القديس إيرونيموس
v من كان غضوبًا فهو خالٍ من طول الأناة والمحبة، يقلق سريعًا من الأقوال التافهة، ويثير الخصام لأمر يسير حقير، وحيثما لا يكون له مكان يطرح نفسه… فمن لا ينوح على مثل هذا؟ فهو مرذول عند الله والناس.
مار أفرام السرياني
v يُسمى الروح القدس سلام الروح، ويُدعي الغضب قلق النفس، فلذا يجب أن نستنتج أن لا شيء يُبعد عنا حضور (عمل) الروح مثل الغضب.
القديس يوحنا الدرجي
ليس بالأمر العجيب أن يتهم أليفاز أيوب بالغيرة أو الحسد وهما خطيتا أليفاز، إذ يُسقط أخطاءه عليهقائلاً: “وَالْغَيْرَةَ تُمِيتُ الأَحْمَق” [2].
v لا يعتبر الحسود الكوارث التي تحل به محنة، بل المحنة بالنسبة له هي الخير الذي يحل على غيره، وبالعكس النجاح ليس هو أن يكون سعيدًا، بل أن تحل المحن بغيره. يحزن الحاسد لرؤية الأعمال الطيبة للناس، ويُسر بالكوارث التي تحل بهم. ويقال إن الجوارح التي تلتهم الجثث الميتة تقضي عليها الرائحة الطيبة (العطر)، فإن طبيعتها تتفق مع ما هو شرير وفاسد. وأي شخص يقع تحت سيطرة هذا المرض (الحسد) تقضي عليه سعادة أقربائه وجيرانه، ولكنه إذا رأى تجربة شريرة يطير إليها ويضع منقاره المعوج فيها ويخرج الكوارث المخفية[221].
القديس غريغوريوس النيسي
v قبل كل شيء يليق بالإنسان الذي وُضع عليه النير أن يكون ثابتًا في إيمانه… ليطرد عنه الحسد والغضب، وينزع الشفاه المخادعة[222].
القديس أفراهاط الحكيم الفارسي
v يكون الضرر تافهًا والخطر بسيطًا عندما تُجرح الأطراف بسيفٍ، فيكون الشفاء هيّنًا مادام الجرح واضحًا ويُستخدم الدواء. فالقرحة التي تُرى يُمكن علاجها بسهولة. أما جراحات الحاسدين فهي خفيّة وسرّية، ولا تقبل علاجًا لشفائها، فتغلق على نفسها آلامًا مخفية داخل مكامن الضمير.
v مثل هؤلاء لا يهنأون بطعامٍ أو يتمتعون بشرابٍ.إنهم على الدوام يتأوّهون ويتنهّدون ويحزنون، فطالما لا يُطرد الحسد تتمزق قلوبهم نهارًا وليلاً بلا انقطاع.
كل الشرور لها حدود، وكل خطأ ينتهي بارتكاب الجريمة. فالزاني تنتهي معصيته عند حد ارتكاب التعدّي، واللص تقف جريمته عندما يقتل، والسالب يضع حدًا لجشعه، والمخادع يضع نهاية لغشّه، أما الحسد فليست له حدود.
إنه شر يعمل على الدوام، وخطية ليس لها نهاية.
الشهيد كبريانوس
v “الحسد يميت الضعيف (الأقل little one)” (راجع أي 5: 2). يستحيل علينا أن نحسد إلا من نظن أنهم أفضل منا في جانبٍ معينٍ. لذلك قيل “الأقل” يقتله الحسد. فإن الحاسد يحمل شهادة ضد نفسه أنه أقل من غيره، حيث يعذبه الحسد منه…
هكذا كان قايين الذي انحدر ليقتل أخاه، فقد جُن حين رُفضت تقدمته، من ذاك الذي قبل الله تقدمته وفُضل عنه (تك 4)…
وهكذا التهب عيسو باضطهاد أخيه، لأنه فقد بركة الباكورية، إذ حرم منها من أجل طبخة عدس (خضار) (تك 27: 38؛ 29:25)…
وهكذا باع الاخوة يوسف للإسماعيليين العابرين، إذ أُخفي عنهم سٌر الإعلان، فوضعوا أنفسهم في موقف المقاومة لتقدمه، فلا يكون رئيسًا عليهم (تك 5:37-11).
وهكذا اضطهد شاول خادمه داود بأن رماه برمحٍ، إذ خشي أن يبلغ الرجل إلى قامة أعظم منه، إذ أدرك بلوغه النمو اليومي في الفضيلة (1 صم 10:18-11).
فمن يقتله الحسد إنما هو الضعيف(الأقل)، فإنه لو لم يشعر بأنه الأقل لما حزن على صلاح الآخرين. إذ يُفسد الحسد الذهن يقتل كل ما يجده صالحًا. قال سليمان: “حياة الجسد هدوء (سلام) القلب، ونخر العظام الحسد” (أم 30:14)…
فمن اشتاق أن يكون كاملاً وصحيحًا فليتجنب سم الحسد، ويركز عواطفه على الميراث الذي لا يقل بكثرة الوارثين، هذا الذي هو ميراث واحد للكل، وكامل بالنسبة لكل أحدٍ. والذي يظهر ميراثًا أعظم كلما زاد عدد الذين يمنحونه… فحينما لا يشتاق الشخص إلى الأمور الرديئة لا يوجد شيء يقف أمام الحب.
البابا غريغوريوس (الكبير)
إِنِّي رَأَيْتُ الْغَبِيَّ يَتَأَصَّلُ،
وَبَغْتَةً لَعَنْتُ مَرْبِضَهُ [3].
يرى أليفاز أن أيوب سبق فتأصل ونجح، لكن إذ هو غبي لم يدم حاله. وها هو يلعن مربضه. وكأن أليفاز يقدم اتهامًا جديدًا ضد أيوب، فبجانب اتهامه بالرياء، وأنه يخفي وراء أعماله التي تبدو صالحة شرورًا خفية لا يعلمها غير الله، لهذا حلت به كوارث لم يُسمع عنها في تاريخ البشرية، فإنه كان غبيًا يجري وراء الغنى ومحبة العالم. اتهام أبعد ما يكون عن حياة هذا البار!
ربما لا يعني هذا أن أليفاز اشتهي دمار أيوب، وإنما إذ اكتشف – حسب فكره – أن ما حل به هو من قبيل غضب الله عليه بكونه شريرًا، أدرك أن هذا من قبيل عدل الله أن يسقط أيوب تحت اللعنة، ليستأصله من هذا العالم وكل غناه، لأن قلبه ارتبط به.
يحذرنا الكتاب من محبة العالم والتعلق به. “لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب، لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم” (1 يو 2: 15-16). “أيها الزناة والزواني، أما تعلمون أن محبة العالم عداوة لله، فمن أراد ان يكون محبًا للعالم فقد صار عدوا لله” (يع 4: 4).
v يتأصل الغبي في الأرض ويتمسك بها، إذ هو متمسك بحب الأرض بكل شهوة قلبه. إنه يتشامخ بتأصله، عندما يتشبث في هذا العالم بالخيرات الزمنية، حتى ينال ما يرغبه، ولا يخضع لسلطانٍ، ويسود على الضعفاء دون مقاومة، ويقاوم الذين يمارسون السلطة حسنًا، ويبلغ ظروفًا أفضل بوسائل شريرة، حتى أنه بتركه الحياة الحقيقية، يعيش هذا الزمن في أكثر سعادة.
لكن إذ يرى الضعفاء أن الأشرار يزدهرون، يصيرون في ذعرٍ ويضطربون داخليًا، بما للخطاة من وسعٍ، وتترنح خطوات ذهنهم.
بنفس الطريقة أعلن المرتل: “أما أنا فكادت تُزل قدماي، لولا قليل لزلقت خطواتي، لأني غرت من المتكبرين، إذ رأيت سلامة الأشرار” (مز 2:73-3).
ولكن عندما يرى الأقوياء مجدهم للحال يثبتون أذهانهم على العقوبة (التأديب) الذي يتبعه المجد. وبفكر داخلي عميق للقلب يزدرون بالأمور التي تبتلع المتكبرين من الخارج بازدياد الغرور الباطل. حسنًا قيل: “رأيت الغبي يتأصل، وبغتة لعنت جماله“. فإن لعن جمال الغبي هو إدانة مجده بحكم مدروس، فإنه قدر ما يغرق في العذابات يتعالى بالأكثر في الخطية. فإن تشامخه مؤقت، لكن عقوبته دائمة.
من يبدأ طريقه بالكرامة ينتهي بالدينونة. على كل حالٍ كلما أوجد الشرير له طريقًا في هذا العالم سحب عددًا أكثر إلى الدمار، لذلك بحق قيل: “بنوه بعيدون عن الأمن“. فإن أبناء الغبي هم الذين يقتدون به، يولدون في طموح هذا العالم. إنهم بعيدون عن الأمن، خاصة بالنسبة لممارستهم الشر إن قورن بتحررهم من الضعف.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v تريد الآن أن ترث الأرض، حذار من أن ترثك الأرض.
إن كنت وديعًا ورثتها، أو قاسيًا ورثَتكََ…
سوف ترث الأرض حقًا متّى تمسكت بصانع السماء والأرض!
القدّيس أغسطينوس
v من ذاق حلاوة ثمار شجرة الحياة، ويريد أن يجري نحو ثمار (محبة) العالم النتنة؟[223]
v كما أن النار لا تثبت في الماء، هكذا معرفة الله لا تثبت في القلب المشتبك بشهوات العالم[224].
v ليس من رذل العالم بالكمال، إلا ذاك الذي تتقد فيه نارك دائمًا يا رب[225].
القديس يوحنا سابا
v النفس التي أوشكت أن تقبل الكلمة اللوغوس، يجدر بها أن تموت عن العالم (غل14:6) وتُدفن في المسيح (رو 4:6، كو 12:2)، فلا تجد إلا المسيحَ، فهذا هو الاستقبال اللائق الذي يطلبه منها لنفسه[226].
القديس أمبروسيوس
بَنُوهُ بَعِيدُونَ عَنِ الأَمْنِ،
وَقَدْ تَحَطَّمُوا فِي الْبَابِ، وَلاَ مُنْقِذَ [4].
ربما كان الباب مرتفعًا فسقط على بني أيوب ومن في الوليمة يحسبون أنهم في سلام وأمانٍ. سقط بثقله فسحقهم تحته، ولم يوجد من ينقذ. فشر أيوب – في رأي أليفاز – قد حلّ على بنيه وأهلكهم.
v هذا معناه: لماذا أنت مرتعب من موت أولادك؟ فإن أبناء الأغبياء لا يهلكون بسبب عدم الخلاص، وإنما يحزنون وهم في الحياة… وليس من أحدٍ ينقذهم، إذ بعدلٍ جازاهم الله. أيضًا ربحهم الذي نالوه ظلمًا يأخذه منهم الأبرار، مادام لا يوجد من يخلصهم من الشر، وتضيع قوتهم كلها في الملذات وتنفد، تهلك بأمر الله.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
من هم الذين يظنون أنهم في أمان، قائمون داخل بيت به باب مغلق، ليس من يقدر أن يقتحمه ليؤذيهم؟ في نظر أليفاز أولاد وبنات أيوب الذين – في رأيه – هم أشرار ومراءون كأبيهم، وها هم يظنون أنهم سعداء في الوليمة، لا يتوقعون ضررًا يتسلل إليهم. إنهم في أمان، داخل الباب، وتحت حراسة خدمهم وعبيدهم! لكنهم ليسوا في أمان، بل الباب الذي هو مصدر أمانهم يسقط عليهم فيُهلكهم.
لقد حمل هذا القول نبوة عن السيد المسيح القائل: “أنا هو الباب، إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى” (يو 9:10). هذا الباب آمن به الأمم فدخلوا إلى الإيمان، وخرجوا إلى الحياة السماوية، فوجدوا مرعى إلهيًا. صار هذا الباب عينه عثرة لمن ظنوا أنهم في أمان، حيث تمسكوا بحرف الناموس، وظنوا أنهم دون غيرهم داخل الأبواب الإلهية.
لقد رفضوا الإيمان بالسيد المسيح، فصار الباب – مدخل المؤمنين – عثرة لهم، إذ يقول: “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم” (يو 22:15)
v ليتنا لا نرتبك أيها الإخوة في فهمه، إذ يحمل تشبيهات بكونه هو الباب وأيضًا البواب. لأنه ما هو الباب؟ طريق الدخول. من هو البواب؟ ذاك الذي يفتح الباب. إذن من هو ذاك الذي يفتحه إلاَّ هو نفسه حيث يكشف عن ذاته ليُرى؟[227]
v هذه الخطية العظمى هي عدم إيمانهم بالمسيح الذي جاء خصيصًا لكي يجدد إيمانهم. لو لم يأتِ لتحرروا من هذه الخطية.
بمجيئه صارت حياة غير المؤمنين بالأكثر محفوفة بالدمار كما صارت لخلاص الذين يؤمنون. فإنه هو رأس الرسل ورئيسهم، صار كما أعلنوا: “للبعض رائحة حياة لحياة، وللبعض رائحة موت لموت” (٢ كو ٢: ١٦)[228].
القديس أغسطينوس
v “وقد تحطموا في الباب…” كما أن مدخل المدينة يُدعى بابًا، هكذا في يوم الدينونة هو باب الملكوت، حيث يدخل منه كل المختارين إلى مجد مدينتهم السماوية… “ولا منقذ لهم” [4]. فإن الحق يخلص من الويل الأبدي هؤلاء الذين في حالتهم المؤقتة قد تضايقوا بالتأديب. من يرفض الضيق يُترك في ذلك الحين دون وجود وسائل للخلاص. فبالنسبة له (للمخلص) لم يهتموا أن يقبلوه أبًا لهم يدربهم، لذلك فإن الأشرار في وقت محنتهم لن يجدوه منقذًا لهم يعينهم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v الآن فلنتأمل ما تقوله الأناجيل في ضوء الوعود بالخيرات. ولابد لنا من القول: إن الخيرات التي يعلن عنها الرسل في هذه الأناجيل هي ببساطة “يسوع”.
أحد الخيرات التي يعلنون عنها هي القيامة. ولكن القيامة، على وجه ما، هي يسوع، فهو القائل: “أنا هو القيامة”…
كما يقول إشعياء: “ما أجمل على الجبال أقدام المبشرين بالخير” (إش 7:52). إنه يرى كم هو جميل وملائم إعلان الرسل الذين قد ساروا (في المسيح)، وهو القائل: “أنا هو الطريق”. يمتدح أقدام السائرين في الطريق المفكرين في يسوع المسيح، ويذهبون من خلال هذا الباب إلى الله (الآب).
إنهم يعلنون عن الخيرات، عن الأقدام الجميلة، أي يسوع[229].
العلامة أوريجينوس
الَّذِينَ يَأْكُلُ الْجَوْعَانُ حَصِيدَهُمْ،
وَيَأْخُذُهُ حَتَّى مِنَ الشَّوْكِ،
وَيَشْتَفُّ الظَّمْآنُ ثَرْوَتَهُمْ [5].
صارت ثروة أيوب وبنيه نهبًا للسبائيين والكلدانيين. فقد اخترقوا الحواجز المصنوعة من الشوك، وسلبوا الثروة.
ربما يشير هنا إلي اللص الذي يسرق كل المحصول حتى المختلط بالأشواك، أو إلي العادة التي أشار إليها دكتور طومسون Thomson في شرحه لهذه العبارة حيث يقول إن الفلاحين بعد دراسة الحبوب غالبًا ما يضعونها بجوار القش في مكان خاص، ويغطونها بشجيرات كثيفة مملوءة أشواكًا حتى لا تقترب إليها الحيوانات ويأكلوها، وإذ يريد اللصوص سرقة الحبوب يلتزمون بإزالة هذه الشجيرات المملوءة أشواكًا أولاً[230].
جاء في الترجمة اليسوعية (دار الشرق ببيروت): “يأكل الجائع حصيده، خطفًا من بين الأشواك، ويبتلع العطشى ثروته“. فمن لا يفتح قلبه بالحب الداخلي الحقيقي للجائعين والعطشى والمحتاجين، يصير نهبًا للغير. يقتحم الجائع مخازنه، ويُسلب الحصاد من بين الأشواك، ويعطش كثيرون إلى ثروته، فيحسبون من حقهم أن يبتلعوا كل ما له ولا يتركون له شيئًا.
هكذا يتطلع أليفاز إلى أيوب وأولاده أنهم لم يكونوا أسخياء في الحب، إنما من أجل المظهر والمجد الباطل يعطون بسخاء، أما قلوبهم فكانت جافة وقاسية، فاستحقوا نهب ممتلكاتهم من الجائعين والعطشى.
في مرارة صرخ طوبيت إلى الرب، قائلاً: “لأننا أخطأنا إليك، ولم نطع وصياك، فأسلمتنا إلى النهب والجلاء والموت، وأصبحنا أحدوثة وأضحوكة وعارًا في جميع الأمم التي بددتنا بينها” (طو 4:3). ويقول المرتل: “تُرجعنا إلى الوراء عن العدو، ومبغضونا نهبوا لأنفسهم. جعلتنا كالضأن أكلاً، ذرَّيتنا بين الأمم، بعت شعبك بغير مالٍ وما ربحت بثمنهم… (مز 10:44-14). ويقول الرب: “ثروتك وخزائنك أدفعها للنهب، لا بثمنٍ، بل بكل خطاياك وفي كل تخومك” (إر 13:15 – راجع إر 3:17، 6:30، 37:50، حز 21:7، 46:23، إش 13:10).
v “ثروتك وخزائنك أدفعها للنهب، لا بثمنٍ، بل بكل خطاياك” (إر 15: 13). ما هي ثروات الخطاة التي يدفعها الله للنهب في مقابل كل خطاياهم؟ هل الثروات التي يجمعونها على الأرض؟ كل إنسانٍ في الواقع يكنز لنفسه، إما على الأرض إن كان إنسانًا شريرًا، أو في السماء إذا كان إنسانًا صالحًا، كما يخبرنا الإنجيل (مت 19:6-20). هل يقول لهذا الشعب: إنه بسبب خطاياكِ أدفع خزائنك وثرواتك للنهب، قاصدًا بتلك الثروات الأنبياء مثل إرميا وإشعياء وموسى؟! لقد نزع الله هذه الكنوز عن هذا الشعب، وقال من خلال السيد المسيح: “إن ملكوت الله ُينزع منكم، ويُعطى لأمة تعمل أثماره” (مت 43:21). هذه الأمة هي نحن، فقد دفع الله ثروات هذا الشعب (الأنبياء) إلينا.
هم أُستؤمنوا على أقوال الله أولاً (رو 2:3)، ثم أُستؤمنا نحن من بعدهم على هذه الأقوال؛ فقد نُزعت منهم وأُعطيت لنا. كذلك يمكننا أن نقول إن عبارة: “ملكوت الله يُنزع منكم وُيعطى لأمة تعمل أثماره” التي قالها المخلص تحققت فيه. ليس أن الكتاب المقدس نُزِع منهم، بل أنهم حاليًا لا يملكون الناموس ولا الأنبياء، لأنهم لا يفهمون ولا يُدركون المكتوب فيه. توجد عندهم الأسفار، لذلك فإن ملكوت الله الذي يُنزع عنهم هو “معنى الأسفار المقدسة“. إنهم لا يهتمون بمعرفة أي شرح للناموس والأنبياء، لكنهم يقرأونه دون فهم. وبمجيء السيد الرب تحققت بالفعل النبوة التالية: “فقال: اذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعًا ولا تفهموا، وأبصروا إبصارًا ولا تعرفوا. غلظ قلب هذا الشعب” (إش 9:6-10؛ مت 14:13-15). كما تحققت أيضًا نبوة إشعياء: “فإنه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ومن يهوذا السند والركن، كل سند خبز وكل سند ماء. الجبار ورجل الحرب، القاضي والنبي، والعراف والشيخ، رئيس الخمسين والمعتبر والمشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية” (إش1:3-3). كل هذا قد نزعه الله منهم، ودفعه لنا نحن الذين جئنا من الأمم…
يقول: “لا بثمنٍ بل بكل خطاياكِ وفي كل تخومكِ”، كأنه يقول لهذا الشعب: إن خزائنك وثروتك أدفعها للنهب بسبب خطاياكِ التي ملأت كل تخومك، لأنه لا يوجد مكان عند هذا الشعب لم يمتلئ بالخطية. كيف لا تمتلئ كل تخومهم بالخطايا وهم الذين قتلوا الحق، بما أن السيد المسيح هو الحق، وقتلوا الحكمة، بما أن السيد المسيح هو الحكمة، وقتلوا العدل، بما أن السيد المسيح هو العدل؟ بحكمهم على ابن الله بالموت فقدوا كل ذلك الحق والحكمة والعدل. وحينما قام رب المجد يسوع من بين الأموات لم يظهر أبدًا للذين قتلوه… إنما ظهر فقط للذين آمنوا به، ظهر لهم وحدهم حين قام من الأموات.
“وأُعبِّرُك مع أعدائك (وأخضعك للعبودية في وسط أعدائك) في أرض لم تعرفها، لأن نارًا قد اشتعلت بغضبي تُوقد عليكم”. لقد أُخضع هذا الشعب بالفعل للعبودية في وسط أعدائه وفي أرض لم يعرفها. وبعد كلام التهديد هذا الموجه للشعب، يواصل إرميا أو السيد المسيح صلاته ويضيف إلى أقواله السابقة هذه الكلمات: “أنت يا رب عرفت. أذكرني وتعهدني وانتقم لي من مضطهديَّ. بطول أناتك لا تأخذني” أو “لا تكن طويل الأناة عليهم” (LXX)[231].
العلامة أوريجينوس
- الإنسان مولود للمشقة
إِنَّ الْبَلِيَّةَ لاَ تَخْرُجُ مِنَ التُّرَابِ،
وَالشَّقَاوَةَ لاَ تَنْبُتُ مِنَ الأَرْضِ [6].
بعد أن دلل أليفاز على كل ما فقده أيوب هو قصاص عادل من قبل الله، بدأ كمن يشجعه حتى لا يسقط في اليأس.
“إن البلية لا تخرج من التراب، والشقاوة لا تنبت من الأرض“. أنها ليست كالمحاصيل الطبيعية تنبت في أوقاتٍ معينةٍ، وتصدر كالعشب من التراب، لكن كل ما يحدث هو من قبيل العناية الإلهية. أو بمعنى آخر: لا تلقي باللوم على التربة حين ظهرت البلية، فهي ليست من صنعها، بل عليك، لأن العلة هي في داخلك. “إن استهزأت، فأنت وحدك تتحمل” (أم 9: 12).
كما لا نتوقع ظهور أشجار من تربةٍ دون غرس بذور، هكذا يليق بنا ألا نظن أن ضيقات تحل بأناسٍ دون أن يرتكبوا شرورًا. فما حلّ بأيوب ليس اعتباطًا، إنما هو حصاد الغرس الشرير.
هذه الحقيقة كشفها لنا ربنا يسوع خالق النفس، والعالم أن داء النفس في ذاتها، وليس خارجًا عنها. فالنفس البشرية تشبه إناءً خزفيًا واحدًا لا يختلف إلا في طبيعة ما بداخله، فإن كان ما بداخل الواحد بنزينًا وبداخل الآخر ماء، سيصطحب اقتراب جمرة نار التهاب الأول وانفجاره، أما الثاني فيطفئ الجمرة.
كتب القديس يوحنا الذهبي الفم أكثر من مقالٍ يؤكد أنه لا يستطيع أحد أو ظرفٍ ما أن يؤذي إنسانًا ما لم يؤذي الإنسان نفسه.
v قد يقول قائل: ألم يؤذِ الشيطان آدم، إذ أفسد كيانه، وأفقده الفردوس؟
لأن إنما السبب في هنا يكمن في إهمال من أصابه الضرر، ونقص ضبطه للنفس، وعدم جهاده. فالشيطان الذي استخدم المكائد القوية المختلفة لم يستطع أن يخضع أيوب له، فكيف يقدر بوسيلة أقل أن يسيطر على آدم، لو لم يقدر آدم بنفسه على نفسه؟!
ماذا إذن؟ ألا يصيب الأذى من يتعرض للافتراءات ويقاسي من نهب الأموال، فيُحرم من خيراته، ويُطرد من ميراثه، ويناضل في فقرٍ فادحٍ؟
لا، بل ينتفع إن كان وقورًا، لأنه هل أضرت هذه الأمور الرسل؟ ألم يجاهدوا دائمًا مع الجوع والعطش والعري؟! وبسبب هذه الأمور صاروا مُمجدين ومشهورين وربحوا لأنفسهم معونة أكثر من الرب؟!
وأيضًا أي ضرر أصاب لعازر بسبب مرضه وقروحه وفقره وعدم وجود من يقيه؟ ألم تكن هذه الأمور تضفر له إكليلاً من زهور النصر؟!…
إخوة يوسف مثلاً أضروا يوسف، لكن يوسف نفسه لم يصبه الضرر.
وقايين ألقى بشباكه لهابيل، ولكن هابيل لم يسقط فيها. وهذا هو السبب الذي لأجله وُجدت التأديبات والعقوبات.
فالله لا يرفع العقوبة عن مدبر الضرر لمجرد حدوث الصلاح الذي يتمتع به محتمل الضرر، بل يؤكد عقوبته بسبب شر صانع الإثم. فإنه بالرغم من أن الذين يسقط عليهم الشر، يصيرون أكثر مجدًا على حساب المكائد المدبرة ضدهم، لكن هذا لم يكن في نية الإنسان ألا يضره غيره، بل ينال نفعًا عظيمًا على يدي مناضليه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ مَوْلُودٌ لِلْمَشَقَّةِ،
كَمَا أَنَّ الْجَوَارِحَ لاِرْتِفَاعِ الْجَنَاحِ [7].
خلق الإنسان ليعيش في سلام وراحة وتهليل قلبٍ، لكن بالتعدي على الوصية وإعطاء ظهره لله مصدر سعادته صار “الإنسان مولودًا للمشقة“، إذ وُلد في الخطية (مز 51: 5). وصارت المشقة كأنها جزء لا يتجزأ من كياننا، أو كأننا خُلقنا لكي نعاني منها، كما خلقت الجوارح لتحلق بأجنحتها في العلي. ليس لنا أن نستغرب البلوى التي تصيبنا كأنه قد أصابنا أمر غريب (1 بط 4: 12). يلزمنا أن نأكل خبزنا بعرق وجوهنا (تك 3: 19).
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن حياة الإنسان جهاد مستمر مع عدو الخير، يدخل في معركة لا تتوقف، لكن هذه المعارك تؤول لنصرة المجاهدين وإكليلهم.
v يقول: هذا القنوط هو نابع من داخل الناس. لاحظوا كيف التزم مرة أخرى أن يُظهر أن كلماته تتطابق مع الطبيعة، حتى لا يُنتقد حديثه. فإن الطبيعة البشرية خُلقت هكذا. فالأرض لا تنتج شيئًا جديرًا بالشفقة أكثر من الإنسان، فيليق بنا ألا ندهش ولا نستغرب: نولد لكي نسبب ألمًا و نتألم. هذا أيضًا ما قاله النبي: “لأن كل أيام سنيننا… أفخرها تعب وبلية ” (مز 10:90). وقال يعقوب: “أيام سنيّ حياتي قليلة وردية” (تك 9:47). “ولكن الإنسان مولود للمشقة”. يقول إنه في طبيعتنا يستحيل أن نهرب من الألم. فإنه لا يريد أحدًا يعترض مرة أخرى بأن أيوب بار. يقول: إنه بار لكن الطبيعة البشرية عادة خُلقت لتحتمل الشرور. لاحظوا أنه خرج من الطبيعة ليؤكد أن أيوب ليس بلا لوم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يلزمنا ألا ننسحب من جهادنا في السهر بسبب اليأس الخطير، لأن “الآن ملكوت الله يُغصَب، والغاصبون يختطفونهُ” (مت 12:11). فلا يُمكن نوال فضيلة بغير جهاد، ولا يمكن ضبط العقل بغير حزن قلبي عميق، لأن “الإنسان مولود للمشقَّة“. ومن أجل الوصول “إلى إنسانٍ كاملٍ، إلى قياس قامة مِلْءِ المسيح” (أف 13:4) يلزمنا أن نكون علي الدوام في جهاد عظيم مع عناية لانهائية[232].
الأب سيرينوس
v ليكن لنا حذر عظيم واجتهاد من جهة الظروف الخارجية عندما نُصاب بثقل الحزن، حتى نبلغ الرجاء في نوال الأمور العلوية. يقف الذهن لينال العلويات خلال هذه التأديبات الخارجية.
v “الإنسان مولود للمشقة، كما أن الطائر للطيران”… إذ يتمتع الإنسان بالعقل يدرك أنه من المستحيل عليه أن يعبر زمن سياحته دون حزنٍ. لذلك عندما عدد بولس ويلاته لتلاميذه بحق أضاف: “فإنكم أنتم تعلمون أننا موضوعون لهذا” (1 تس 3:3).
فإنه إذ يُضرب الجسد بضربات يرتفع الذهن طالبًا العلويات. كما يقدم بولس مرة أخرى شهادة بذلك، قائلاً: “وإن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدد يومًا فيومًا” (2 كو 16:4). هكذا فإن “الإنسان مولود للمشقة، كما أن الطائر للطيران“، فإن الذهن يطير في حرية نحو العلى بنفس السبب الذي لأجله يعاني الجسد من الانحناء إلى أسفل في ثقل.
كلمة “الإنسان” هنا تمثل الحياة حسب الجسد. هكذا يقول بولس: “إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق ألستم جسديين” (1 كو 3:3)، مكملاً بعد ذلك: “ألستم بشرًا” (1 كو 4:3 Vulgate).
في هذه الحياة “يولد الإنسان للمشقة“، فكل إنسان جسداني، إذ يطلب الأمور المؤقتة يحمل نفسه بثقل شهواته.
إنها مشقة صعبة أن تطلب مجد الحياة الحاضرة، لتقتني ما تطلبه، وأن تصونها باجتهاد عندما تغلب. إنها مشقة صعبة بآلام لا تحد أن تمسك بأشياء، وأنت تعلم أنها لا تدوم لزمانٍ طويلٍ. أما القديسون إذ لا يشغفون بالزمنيات، ليس فقط لا يسقطون تحت ثقل الشهوات الوقتية، بل هم متحررون من التعب حتى إن ثارت الصلبان، في هذه الأحوال وفي الضعفات.
فإنه أي شيء أقسى من الجلد؟ ومع هذا كُتب عن الرسل عندما جُلدوا: “وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع، لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه” (أع 41:5). أي شيء يمكن أن يُقلق أذهان الذين حين تأدبوا بالضربات لم يضطربوا؟
“يولد الإنسان للمشقة”، لأنه بالحق يشعر بشرور الحال الحاضر عندما يتوق نحو الصالحات… لذلك حسنًا أضيف: “والطائر للطيران“.
فالنفس تنسحب من آلام المشقة وهي تقوم بالرجاء في العلويات. ألم يكن بولس كالطائر وُلد للطيران، هذا الذي احتمل صلبان لا عدد لها، قائلاً: “محادثتنا في السماء”. وأيضًا: “لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي، فلنا في السماوات بناء من الله بيت غير مصنوع بيدٍ أبدي” (2 كو 1:5). إنه كطائر صعد فوق المناظر الدنيا. مع أنه كان سالكًا على الأرض في الجسد، كان جناحا الرجاء يحملانه في العلويات.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v مخاوف المجاهد تصير له علة حياة لخلاصه، وعلى العكس تصير لعار أعدائه والسخرية بهم. يرد كل هجماتهم ويجعلها باطلة، ويصد كل إغراءاتهم… يقدم العدو معركة لأيوب ضد (شيطان) في الهواء، يتحرك بطريقة رهيبة بين السماء والأرض. فقد سقط (لوسيفر) من السماوات (إش 12:14)، ولم يدعه القديسون الذين على الأرض يستريح عليها، مع أنه يرغب في أن يتمتع بدمارنا. فإنه إذ هزمه أيوب مرارًا لم يوقف المعركة، دون انتظار إلى النصرة الحاسمة، بل يتطلب مرارًا أن ينهك البار.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
4. الله ملجأ المتضايقين
لَكِنْ كُنْتُ أَطْلُبُ إِلَى اللهِ،
وَعَلَى اللهِ أَجْعَلُ أَمْرِي [8].
إن استبعدنا نية أليفاز ونظرته الخاطئة لأيوب، فإن كلماته لا يشوبها عيب. إن كان الإنسان بسبب تعديه على وصية الله صار مولودًا للمشقة، فليس من علاجٍ آخر سوى الرجوع إلى الله، والاتكال عليه، فهو السند الحقيقي للمتألمين. كأن أليفاز يقول له: لو كنت في موضعك يا أيوب، ما كنت أتذمر وألعن يوم ميلادي، وإنما ألجأ إلى الله، وأخضع لمشيئته، بكونه مصدر كل خيرٍ وتعزيةٍ. أبسط أمري أمام الله، ما يحسن في عينيه يفعله (1 صم 3: 18). وكما يقول المرتل: “سلٌَم للرب طريقك، واتكل عليه، وهو يجري” (مز 5:37). “أقول للرب: ملجأي وحصني، إلهي فأتكل عليه” (مز 2:91). وقول الرسول: أعلى أحد بينكم مشقات فليصلِ” (يع 13:5).
v إذ وجدت حالي هكذا، يقول، فإن ثقتي لا تشبه ثقتك، إنما أنتظر عالمًا إن الله هو السيد. أنت تربك نفسك، أما أنا فأنتظر الله دون التوقف عن دعوته ودون فقدان الرجاء. فهو على الدوام قادر أن يستبدل الظروف ويغيرها. إني أجد نفسي في وسط الشرور، لكن الله قادر أيضًا أن يضعني في وسط الخيرات، إذ ينقلني من حالي السابق إلى هذا الحال. يقول: “الرب هو القدير، بمعنى أنه سيد الكل، ضابط كل الظروف، وكل الأماكن والأشياء.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يقول له: أنت في الواقع لست أهلاً للصلاة. أنا نفسي سأدعو رب الكل. فإنك إذ أنت معتد بنفسك لم تعد تدعو رب الكل، ولهذا هاجمتك هذه الشرور الحاضرة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v أيها الرب، إنك تتوجنا بترس إرادتك الصالحة. ماذا يعني هذا؟ إنك تحرسنا، وتجعلنا منتصرين، وبعد النصرة تعطينا إكليلاً[233].
القديس جيروم
v أشر إليه بما يؤلمك، أشر إليه بما تشتهيه![234]
v “تقول للرب: ملجأي وحصني إلهي، فأتكل عليه” (مز 2:91).
من الذي يقول هكذا للرب؟ “الساكن في ستر العلي”، وليس في ستره هو. من هو هذا الذي يسكن في ستر العلي؟ ذاك الذي لا يتكبر مثل هذين اللذين أكلاً (من شجرة معرفة الخير والشر) ليصيرا إلهين، ففقدا خلودهما الذي خُلقا عليه. لقد اختارا أن يسكنا في سترهما، لا في ستر العلي. هكذا أنصتا إلى مشورة الحية (تك 5:3)، واستخفا بوصية الله، وأخيرًا اكتشفا أن ما هدد به الله تحقق فيهما وليس وعد الشيطان لهما. لذلك لتقل أنت أيضًا: “عليه أتكل، فهو ينجيني، ولست أنا أنجي نفسي[235].
v ليس أحد يعينه الله ما لم يصنع هو شيئًا. إنه سيُعان إن صلي[236].
v الأثر الكامل للإيمان هو هذا: يجعلنا نسأل فنأخذ، نطلب فنجد، نقرع فيُفتح لنا. بينما الإنسان الذي يجادل يغلق باب رحمة الله أمام نفسه[237].
v خلقتنا لك يا رب، ولن تستقر قلوبنا حتى تستريح فيك[238].
القديس أغسطينوس
الْفَاعِلِ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ،
وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ [9].
لا نخشى من تسليم ذواتنا كما كل أمورنا بين يدي الله، فهو الصانع العظائم والعجائب بلا حصر. هو القدير، عظائمه لا يُمكن إدراكها. “لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية” (جا 3: 11).
v تجاسر الهراطقة بالتجديف عليه… تجاسروا بالتجديف على من أعلن عنه الأنبياء أنه الله القدير. أما أنتم فاعبدوا الله الواحد القدير، أبًا ربنا يسوع المسيح. اهربوا من خطأ الإيمان بآلهة كثيرة. اهربوا من كل هرطقة، وقولوا: “أطلب من الرب القدير، الفاعل عظائم لا تفحص، وعجائب لا تُعد“… الذي له المجد إلى أبد الأبد، آمين[239].
القديس كيرلس الأورشليمي
يُدعى الله بالصانع العجائب، ليس استعراضًا لقوته بأنه يفعل ما يفوق الطبيعة التي خلقها، ولا رغبة في كسر نواميسها، إذ هو مُوجدها، ولكن من أجل محبته للإنسان يصنع عجائب، ليجعل من شعبه عجبًا! محبته الفائقة لبني البشر أمر عجيب للغاية! يجد رجال الله مسرتهم وسعادتهم في التسبيح لله أنه صانع عجائب!
“عظيم أنت وصانع عجائب، أنت الله وحدك” (مز 86: 10).
“السماوات تحمد عجائبك يا رب وحقك أيضًا في جماعة القديسين” (مز 89: 5).
“حدثوا بين الأمم بمجده، بين جميع الشعوب بعجائبه” (مز 96: 3).
“رنموا له، أنشدوا بكل عجائبه” (مز 105: 2).
“فليحمدوا الرب على رحمته وعجائبه لبني آدم (مز 107: 8).
“من هو فنغبطه، لأنه صنع عجائب في شعبه” (سيراخ 31: 9)
v يخبر بعجائب الله (مز 1:9) من يراها تتحقق ليس فقط علنًا في جسده، وإنما أيضًا بطريقة غير منظورة في نفسه، بل هذه العجائب أكثر سموًا ورفعة. فالبشر كأرضيين وينقادون بما يرونه بالعين يتعجبون بالأكثر أن لعازر الميت يقوم في الجسد، أكثر من تعجبهم أن بولس المضطهد يقوم في الروح (يو 11؛ أع 9). ولكن تدعو الأعجوبة المنظورة النفس للتمتع بالنور، أما بغير المنظورة يعبر الإنسان ليدرك غير المنظورة فيتحدث عن كل عجائب الله[240].
v أن تفرح بأعمال الله (العجيبة) تنسى حتى نفسك، إذ يمكنك أن تبتهج فيه وحده. فإنه أي شيءٍ أفضل منه؟ ألا ترى هذا أنك إذ ترجع إلى نفسك، إنما ترجع إلى أمر خاطئ. “أتذكر عجائبك منذ القدم” (مز 11:77)… “أنت الإله الصانع العجائب وحدك” (مز 14:77). بالحقيقة أنت الإله العظيم، تصنع عجائب في الجسد كما في النفس، أنت وحدك الصانع لها. الصم يسمعون، والعميان يبصرون، والضعفاء يشفون، والأموات يقومون، والمفلوجون يتشددون. لكن هذه العجائب تمت في ذلك الحين في الجسد. لننظر تلك التي تمت في النفس. هؤلاء الذين كانوا منذ قليل سكرى صاروا عاملين، هؤلاء الذين كانوا منذ قليل عبدة أصنام صاروا الآن مؤمنين، هؤلاء الذين كانوا قبلاً يسلبون الآخرين الآن صاروا يقدمون عطايا للفقراء[241].
v “السماوات تحمد عجائبك يا رب” (مز 5:89)… فإنه في كل عمل رحمة من نحو النفوس المفقودة، عمل تبرير للخطاة، ماذا نسبح سوى أعمال الله العجيبة؟ أنتم تحمدونه لأن الموتى يقومون، أحمدوه بالأكثر لأن المفقودين قد خلصوا. بالأمس قد رأيت يا إنسان دوامة سكر، الآن ترى جمالاً لضبط النفس. بالأمس كنت ترى مجدفًا على الله، الآن تراه مسبحًا له. بالأمس كان عبدًا للمخلوق، اليوم صار عابدًا للخالق. هكذا تحول البشر عن هذه الأحوال الرهيبة. ليتهم لا يتطلعون إلى استحقاقهم الذاتية. ليصيروا سماوات ويحمدوا عجائب ذاك الذي جعلهم سماوات”[242].
القديس أغسطينوس
الْمُنْزِلِ مَطَرًًًا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ،
وَالْمُرْسِلِ الْمِيَاهَ عَلَى الْبَرَارِيِّ [10].
يقدم لنا مثلاً من الطبيعة على عظائم الله. “المُنزل مطرًا على وجه الأرض“. غالبًا ما نستخف بالمطر، لكنه عمل عظيم يكشف عن قدرة الله، بدونه كان يمكن أن تتدمر الحياة.
في وسط آلامنا وضيقاتنا إذ نصرخ إلى الله خالق السماء والأرض، يتطلع إلينا فيغطي نفوسنا بالسحاب بكونها سماواته، ويمطر على حياتنا بمياه روحه القدوس واهب التعزيات السماوية. فنقول: عند كثرة همومي في داخلي… تعزياتك تُلذذ نفسي” (مز 19:94). يرى القديس جيروم أن السحاب الذي يغطي النفس السماوية هم جماعة الأنبياء والرسل، وأن المطر الذي يهبه الله إيانا هو وصيته المفرحة أو تعاليمه الإلهية.
v كل واحد غير أهلٍ لفهم التعليم الإلهي، فبالنسبة له هذا التعليم مُغطى بالسحاب. “المهيئ للأرض المطر” (مز 8:147) تحتاج الأرض إلى المطر، فإن لم تتقبل أرضنا المطر، الذي هو ينبوع التعليم الإلهي، لا تخرج ثمرًا[243].
v كان موسى سحابة لذلك يقول: “يهطل كالمطر تعليمي” (تث 1:32) رسالته هي مطر روحي ينزل علينا. كواقعٍ حقيقيٍ ماذا يقول بولس في رسالته إلى العبرانيين؟” لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة” (عب 7:6). مرة أخرى يقول: “أنا غرست وأبولس سقى” (كو 6:3)[244].
v السحاب هم الأنبياء والرسل الذين يسقون قلوب البشر القفر بأمطار تعاليمهم[245].
القديس جيروم
يترجم البابا غريغوريوس (الكبير) هذه الآية: “المرسل المياه على البراري” بأنها “على كل شيءٍ“، وأن الإنسان يمثل كل شيءٍ. فإن أعظم العجائب هي خلقة الإنسان الممثل للمسكونة كلها: [الإنسان يشترك مع الحجارة في الوجود، ومع الأشجار في الحياة، ومع الحيوانات في الإحساس، ومع الملائكة في التمييز. إنه بحق يمثل لقب “المسكونة”، إذ فيه تُحتوى كل المسكونة. هكذا يقول الحق لتلاميذه: “اذهبوا إلى كل العالم، وبشروا بالإنجيل لكل الخليقة” (راجع مت 19:28-20). فإن كل الخليقة هي من أجل الإنسان وحده، الذي فيه خلق ما هو عام بكل الأشياء.]
v لم يدخل الإنسان البشري إلى عالم الموجودات بعد (أي حتى اليوم السادس)… فإنه لا يليق بالحاكم أن يظهر قبل ظهور الأمور التي يسيطر عليها.
لكن ما أن صارت سلطنته مستعدة، حيث أعد الخالق كل الأشياء كمسكنٍ ملوكيٍ للملك القادم، حتى أُعلن عن الحاكم!
هذا المسكن الملوكي هو الأرض والجزائر والبحر والسماء التي هي كقوسٍ يحوط فوق الكل أشبه بسقفٍ لها.
في هذا القصر اختزن غنى من كل نوع: كل عالم النباتات والحيوانات، كل ما له جسد ونَفَسْ وحياة. وإن أراد أحد أن يحصي الأمور المادية كغنى يجد أيضًا كل ما هو جميل وذات قيمة في نظر الإنسان، من ذهبٍ وفضةٍ وحجارةٍ كريمةٍ، يتمتع بها.
لقد خبأ الخالق هذه الأشياء بفيضٍ في حضن الأرض، كما لو كانت كنزًا ملوكيًا، حتى متى ظهر الإنسان البشري في العالم، يتأمل بعضها، ويسيطر على البعض الآخر. فإنه إذ يتمتع بهذه الأمور يشكر واهب الخيرات. وإذ ينظر جمال الأمور التي يراها وضخامتها ينجذب إلى قوة خالقها العظيمة غير المدركة[246].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
v يعطى القدير مطرًا على الأرض، عندما يروي قلوب الأمم الجافة بنعمة الكرازة السماوية، ويرسل المياه على كل الأشياء، إذ بملء الروح يحول عقم الإنسان المفقود إلى الإثمار، كما يقول الحق نفسه بشفتيه: “من يشرب من الماء الذي أنا أعطيه لن يعطش” (يو 14:4).
البابا غريغوريوس (الكبير)
الْجَاعِلِ الْمُتَوَاضِعِينَ فِي الْعُلَى،
فَيَرْتَفِعُ الْمَحْزُونُونَ إِلَى أَمْنٍ [11].
أما المثل التالي فهو قدرة الله التي تتجلى في المتواضعين حيث يرفعهم العلي، وعملهم في حياة الحزانى فيهبهم أمانًا.
دفعت النكبات المتوالية أيوب لينزل إلى المزبلة، إذ لم يُعد له موضع يسكن فيه ويستريح. لكن إذ يتواضع بدون تذمر يصير في العلا، أي يحلق في السماوات، فالتواضع هو السلم الذي تصعد به النفس بالمسيح يسوع إلى حضن الآب.
حقًا إن الحزن يسحق الإنسان ليصير كمن هو منحدر إلى المرارة والدمار، لكنه إذ يحزن في الرب يصعد إلى الأمان الحقيقي.
الْمُبْطِلِ أَفْكَارَ الْمُحْتَالِينَ،
فَلاَ تُجْرِي أَيْدِيهِمْ قَصْدًا [12].
المثل الثالث تدخل الله في شئون البشر، فمع ما وهبهم من حرية إرادة لكنه لا يترك الأمور تسير بلا ضابط، فهو “يبطل أفكار المحتالين“، فلا تُترك أيديهم تستقر على رؤوس الصديقين.
بالالتجاء إلى الله يتمتع المؤمن بالحق الإلهي، فلا يستطيع المحتالون أن يضعوا أياديهم على المؤمن. ولا يقدر الباطل والخداع أن يتراءى في وجود الحق، لأن الحق نور يبدد الباطل، الظلمة. ففي وسط الظهيرة تصير حياتهم ليلاً قاتمًا للغاية. ليس لملكوت النور أن يملك عليهم، بل تسيطر عليهم مملكة الظلمة.
كثيرًا ما كانت القيادات اليهودية في مكرٍ يظنون أنهم قادرون على اصطياد السيد المسيح، أما هو فكان يسمح لهم أن يجربوه، وخلال مكرهم يحكمون على أنفسهم بأنفسهم. فالمكر والخداع لا يستطيعان الوقوف أمام الحكم. إنما يحملان الفساد في داخلهما.
v عندما يحتالون بأمورٍ شريرةٍ يُظهرون أنفسهم ما هم عليه، وإذ لا يستطيعون إتمام مقاصدهم يحفظ (الله) الذين يدبرون الشرور ضدهم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
الآخِذِ الْحُكَمَاءَ بِحِيلَتِهِمْ،
فَتَتَهَوَّرُ مَشُورَةُ الْمَاكِرِينَ [13].
اقتبس الرسول بولس هذه الآية في رسالته الأولى إلى كورنثوس [٣: ١٩].
يستطيع الله بسهولة فائقة أن يهدم مؤامرات الماكرين، الذين يحسبون في أنفسهم أنهما حكماء، ليس من يقدر أن يقف أمامهم. لقد أبطل ويبطل مشورات الكثيرين كمشورة أخيتوفل الذي كان يخطط لأبشالوم ليقتل أبيه داود ويستلم عرشه، وأيضًا أبطل مشورة سنبلط (نح 4: 7-23)، ومشورة هامان (اس 8). حقًا كل آلة صورت ضد كنيسة الله لن تنجح (إش 54: 17).
“في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم” (مز 9: 15). “سقط في الهوة التي صنع، يرجع تعبه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظُلمه” (مز 7: 15-16).
يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) مثلين كيف يأخذ الله الحكماء بحيلتهم، الأول من العهد القديم والثاني من العهد الجديد. ففي العهد القديم أراد إخوة يوسف الخلاص من أخيهم لئلا يسمو عليهم ويخضعوا لسلطانه، وبحسب حكمتهم البشرية باعوه عبدًا. فاستخدم الله تصرفهم هذا وبتدبيره الإلهي صار عظيمًا في مصر، وسجدوا هم أمامه. أما الثاني فهو حكمة العبرانيين في العهد الجديد حيث أراد الكهنة والقيادات الدينية الخلاص منه لئلا يسير العالم كله وراء السيد المسيح (يو 19:21)، حكموا عليه بالموت، وإذا بذات الوسيلة – الصليب – سار العالم كله وراءه.
v كيف يأخذ الله الحكماء بمكرهم؟ بأنهم وهم يظنون أنهم قادرون أن يعملوا بدون الله يجدون أنفسهم بالأكثر محتاجين إليه. يسقطون في مأزق ليظهروا أنهم أقل من صيادي السمك والأميين الذين لا يستطيعون الآن أن يعملوا بدون حكمتهم[247].
القديس يوحنا ذهبي الفم
v تملق الرئيس يسوع (لو 18:18)، وحاول أن يخدعه، فتظاهر أنه يتخذ موقفًا متعاطفًا معه. ولكن بماذا أجاب العالم بكل شيءٍ وهو كما هو مكتوب عنه: “الآَخذ الحكماء بمكرهم” (13:5)؟[248]
القديس كيرلس الكبير
فِي النَّهَارِ يَصْدِمُونَ ظَلاَمًا،
وَيَتَلَمَّسُونَ فِي الظَّهِيرَةِ كَمَا فِي اللَّيْلِ [14].
المؤمن الحقيقي حياته نهار مستمر بلا ظلمة، وكما يقول الرسول: “جميعكم أبناء نور، وأبناء نهار، لسنا من ليلٍ ولا ظلمةٍ” (1 تس 5:5). كان لوط لا يعرف الظلمة حين استقبل الملاكين وألح أن يستضيفهما ويبيتا في منزله، لكن الأشرار كانوا في ظلمة ولم يدركوا أنهما ملاكان من نور، فأرادوا أن يعرفوهما ويرتكبوا معهما شرًا مفسدًا، فأصيب الرجال بالعمى، وصاروا كمن في ظلمة وعجزوا عن أن يجدوا باب البيت (تك 11:19)، هكذا عوض التمتع بالنور الملائكي سقطوا في ظلمة الشر، وفقدوا بصيرتهم الداخلية والخارجية.
v “في النهار يصدمون ظلامًا“، لأنه في حضور الحق ذاته قد أُصيبوا بالعمى بخداع عدم الإيمان… هكذا فإن النور نفسه ينصحهم قائلاً: “سيروا مادام لكم النور لئلا يدرككم الظلام” (يو 35:12).
إذ يرى الأشرار جيرانهم يصنعون شيئًا حسنًا يُصابون بألم حسدهم، ويعانون من عذابات حقدهم المؤلم، عندما يرون بقلوبهم المفعمة بالحسد أمورًا صالحة في الآخرين. لذلك حسنًا قيل: ” في النهار يصدمون ظلامًا” عندما تحزن أذهانهم لأجل سمو الغير يحدث ظلاً من شعاع النور…
ينشغلون بغيرة وبفحصٍ شديدٍ ليجدوا شيئًا يمَّكنهم أن يتهموا به الآخرين. إنهم بالحق يرون كل الأعضاء سليمة لكن بعيون قلوبهم المغلقة يطلبون أن يجدوا بالمشاعر بلوى للغير…
البابا غريغوريوس (الكبير)
v أشر ما في الحسد أنه داء يُطوى في الكتمان. ترى الحسود خافض البصر، كالح الوجه، يشتكي باستمرار من عذاب داخلي مما يذبل وجهه ويضني جسده، فيهزل ويضعف. فهو يستحي أن يقول: “إني حسود، اشعر بالمرارة والحزن للخير الذي حصل عليه إنسان غيري، وإني أتعذب لسعادة أصدقائي، ولا أطيق نجاح أترابي. إني أرى أن سعادة الآخرين سيف يمزق أحشائي ويطعنني في الصميم”. هذا ما كان يجب أن يبوح به الحاسد. لكنه يفضل أن يحفظه في قلبه ويصمت، وهكذا يبقى الداء في ذاته، فيضنيه العذاب، ويفنى جسمه قليلاً قليلاً[249].
القديس باسيليوس الكبير
v تتألم الوحوش والطيور والدبابات لآلام أجناسها التي في الطبيعة، وتتعاون معًا ضد المضادين لها، أما الحاسد فيفعل عكس هذا، يفرح بسقوط الأخ والقريب والبعيد والنسيب والصديق.
v يحسب الحاسد مصائب الآخرين فائدة لنفسه أكثر من أي نجاح له… صائرًا كعدوٍ عامٍ ضد البشرية وصفعة لأعضاء الكنيسة. لأنه أي شيء أقرب إلى الجنون من الحسد؟!
v الشيطان حاسد، لكنه يحسد البشرية، ولا يحسد شيطانًا آخر، أما أنت فإنسان تحسد أخاك الإنسان، وبالأخص الذين هم من عائلتك وعشيرتك، الأمر الذي لا يصنعه الشيطان.
v ليس داء أشر من الحسد والحقد فعلى أساسه دخل الموت إلى العالم (حك 2: 24)، لأن إبليس لما أبصر الإنسان مكرمًا لم يحتمل حُسن حاله، فعمل كل ما أمكنه حتى قتله. وبالحسد ذُبح هابيل، وقارب داود أن يُقتل، وقُتل آخرون كثيرون من ذوي البر، وصار اليهود قتلة المسيح.
القديس يوحنا الذهبي الفم
الْمُنَجِّيَ الْبَائِسَ مِنَ السَّيْفِ،
مِنْ فَمِهِمْ وَمِنْ يَدِ الْقَوِيِّ [15].
تهدف مشورة الماكرين إلى إبادة المساكين، لكن الله ينجيهم من سيفهم كما من فمهم وأياديهم. هو ضابط الكل، يعمل لحساب المساكين، ولا تقف مشورات الأشرار ولا أياديهم القوية ولا سيوفهم أمامهم.
إذ يلقى المؤمن بحياته كلها في يد الرب لا يخشى سيف إبليس القاتل للنفس، ولا يفقد رجاءه بسبب هذا القوي. فإن كان إبليس يحمل سيف الافتراء والتدمير، وهو قتال منذ البدء، لكن الذي معنا أعظم من الذي علينا. معنا إلهنا الذي ينجي بنفسه، كما يرسل ملائكته لحراستنا. فيه تتمتع بالرجاء، ولا يقدر اليأس أن يسيطر على قلوبنا أو أفكارنا.
v “صوت الرب مُكسٌَر الأرز” (مز 5:29)، لأن المسيح يعتمد، والشياطين التي كانت قبلاً منتفخة متعالية تتحطم في كومة الدمار “يكسرهم الرب. مثل عجلٍ، يقذف بهم في الهواء كقطعٍ من الأشجار ويبعثرهم في أماكن بعيدة في أجزاء[250].
v “اخرس” (مر 25:1)! ليكن صمتك مديحًا لي. لا أطلب صوتك يمدحني، بل عذابك وعقوبتك مديح لي. لست أُسر بمديحك لي، أفرح بمفارقتك. “أخرس وأخرج من الرجل” (راجع مر 25:1). كأنه يقول: أخرج من مسكني، ماذا تفعل في حجرتي التي للضيوف؟ أريد أن أدخل. أخرس وأخرج من الرجل (الحيوان العاقل). أخرج من الرجل، أترك حجرة الضيافة التي أُعدت لي. الرب يريد مسكنه… إنها ليست إرادتي أن تقتنيه… لقد أخذت أنا جسدًا بشريًا… الجسد الذي تقتنيه الآن يشارك جسدي، أخرج منه![251]
v إنهم يهدفون إلى إطلاق أسهمهم في الظلمة نحو القلب المستقيم… لأنني أقف في خط المعركة، متيقظًا ومتمنطقًا مستعدًا للمعركة. إنني لن أغفل عن الجهاد الذي بدأ، خاصة وأنكم تقولون إنهم قد شدوا أوتار أقواسهم، وصارت السهام مُعدة في جبعتهم، وها هم ينتظرون في الظلمة ليجرحوا قديسيَّ، لكنهم ليسوا بعد قادرين على تصويبها. لقد شدوا الوتر، لقد ملأوا الجعبة. إنهم مستعدون لتصويب سهامهم في الظلمة في القلب الصادق. الآن إذ استعدوا تمامًا أضع نفسي بينهم، وأقف مقابل سهامهم، حتى بألمي لا يشعر خدامي بالألم، وبجراحاتي يُشفون، وبآلامي لا يتألمون، بل يقولون: “كأنه بترس تحيطه بالرضا” (مز 13:5)[252].
القديس جيروم
v يضيف أن الله يعمل ما هو مضاد عندما يُظهر اهتمامًا بالضعفاء. “يعطى الضعفاء رجاء، ويبكم أفواه الظالمين“… كان أليفاز مشغولاً بأن يقيم حوارًا، به يحط من شأن أيوب. لكن من عادة الله أن يرفع الضعفاء ويذل الأقوياء ويُخزى المخادعين.
القديس يوحنا الذهبي الفم
فَيَكُونُ لِلذَّلِيلِ رَجَاءٌ،
وَتَسُدُّ الْخَطِيَّةُ فَاهَا [16].
إذ يتطلع البائس إلى الماكرين ينهار في اليأس، لكن إذ يتطلع إلى الله يمتلئ رجاءً، فتُسد أفواه الماكرين، ولا تستطيع الخطية الكامنة فيهم أن تنطق بكلمةٍ، لأن الله نفسه تِكلم.
v حتى وإن كانت هذه القوى (الشريرة) ترتفع وتغلب، فلتعلم أن هذا تأديب الله، فإنهم وإن انتصروا لكنهم سيُدانون بدينونة عادلة. لتكن متأكدًا من هذا، أن الوحش سيُذبح في الوقت المعين. وأما أنت يا أخي فلتكن غيورًا في التماس الرحمة لكي يكون سلام شعب الله[253].
القديس أفراهاط
هُوَذَا طُوبَى لِرَجُلٍ يُؤَدِّبُهُ اللهُ،
فَلاَ تَرْفُضْ تَأْدِيبَ الْقَدِير [17].
يميز أليفاز بين تأديب الرب لمؤمنيه وبين العقوبة التي يفرضها على الأشرار. فهو يقدٌَر تأديب الله الأبوي للمؤمن متى سقط.
يقدم أليفاز في آخر حديثه الأول تعزية، كان أليفاز نفسه محتاجًا إليها، وهي قبول تأديب الرب القدير.
ما حلّ بأيوب لم يكن إلا تأديبًا من الله القدير المحب. ومن الحماقة والجنون مخاصمة الرب وتجاهل أبوته الحانية حتى في لحظات التأديب نفسها.
جاءت الكلمة العبرية المترجمة “لا ترفض” تعني “لا تكره”، فيليق بالمؤمن أن يخضع بسرورٍ لإرادة الله وتأديباته، حتى وإن كانت مرة، فنحن في حاجة إلى عصا التأديب، ولنحسب أن ما يحل علينا نستحقه، وهو دواء مرّ نافع لشفائنا.
كما تعني أيضًا لا تسيء بتفكيرك عنه، ولا تستخف بما عمله، بل تنحني أمامه وتثق في حكمته وعنايته.
كما تعني ألا تتغاضى عنه، كأن ما حلّ هو من قبيل الصدفة، وليس عن خطة إلهية حكيمة ومحكمة. لتحسب التأديب هو صوت الرب ورسالته السماوية.
هكذا يليق بنا قبول تأديب الرب، وتقدير حكمته، والخضوع له بخوفٍ ورعدةٍ، واثقين أنه لبنياننا الأبدي. إنه يفطمنا عن العالم والخيرات الزمنية لكي نلتصق بواهب الخيرات نفسه ويهيئنا للمجد الأبدي.
ما أجمل أن يوجه القائد نفسه ومن هم حوله نحو بركات تأديب الرب لمؤمنيه. فمع ما فيها من مرارة ومتاعب، لكنها غير مدمرة، إنها وقتية، تهب قوة ليقف المؤمن حتى أمام وحوش الأرض، لأنه يشعر أن ما يحل به هو بسماحٍ من الله لبنيانه وإصلاحه وتزكيته.
لكن هدف أليفاز هنا ليس تشجيع أيوب على قبول الألم من يد الله، إنما يدعوه إلى أن الله لا يطلب تأديبه بل تدميره، لأنه تعدى الحدود، وبهذا لم تعد آلامه إلا عقوبة، وإن بدت عنيفة للغاية، لكنها ليست إلا عربونًا لما يليق بأيوب أن ينتظره في يوم الدينونة، لأنه أشر الأشرار.
v الرمانة مغطاة بقشرة جامدة ومرّة، فإن هذه القشرة الخارجية غير صالحة للأكل، ولكن الداخل جميل المنظر، وبه بذور منسقة بعناية، وطعمه حلو. وهكذا حياة الفلسفة (الحكمة الروحية)، تبدو من الخارج جافة وغير مبهجة، ولكن عندما تنضج تكون مليئة بالآمال الطيبة. وعندما يفتح البستاني (الله) رمانة الحياة في الوقت المناسب ويظهر جمالها المخفي، فإن الذين يذوقونها يستمتعون بحلاوتها. ويقول بولس الرسول: “وأي تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن (أي أول انطباع عن الرمان بالنسبة لقشرته)، أما أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر برّ السلام” (عب 12: 11) (أي حلاوة الثمرة من الداخل)[254].
القديس غريغوريوس النيسي
لأَنَّهُ هُوَ يَجْرَحُ وَيَعْصِبُ،
يَسْحَقُ وَيَدَاهُ تَشْفِيَانِ [18].
بينما سمح الله بالقروح في جسد أيوب كجراحات مرة، لكنه جرّاح ماهر، يعصب الجراحات الداخلية للنفس، ويهبها تعزيات روحه القدوس الشافية.
في تأديبه يبدو كمن يسحق، لكنه يرد لمؤمنيه كل كرامةٍ ومجدٍ على مستوى أبدي، بهذا يداه تشفيان. يرتل موسى النبي: “فرحنا كالأيام التي فيها أذللتنا، كالسنين التي رأينا فيها شرًا” (مز 90: 15). ويقول هوشع النبي: “هو افترس فيشفينا” (هو 6:1).
v إذ يجرح يشفي، فإننا إذ نُطعن برمح مخافته يردنا إلى الحس السليم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v لذلك فإذا رأى أحد في أي وقت الشر في أشخاص كثيرين، ولكن غضب الله لا يحل على الجميع، وإنما على البعض فقط، يجب أن يُدرك أن التأديب يُطبق بحبٍ على الجنس البشري. فإن الضربات لا تحل على الجميع، ولكن الضربات التي تحل على البعض تؤدب الجميع ليرجعوا عن الشر[255].
القديس غريغوريوس النيسي
v “لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله” (عب 12: 6). أولاً يجرح، وبعد ذلك يشفي. فهو يجلب ألمًا ثم يعصب.
على نفس الوتيرة يقول: “قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك، لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس” (إر 1: 10). مهما يكن الأمر فإنه يلزم أولاً إزالة ما هو رديء منا (من داخلنا)، فالله لا يقدر أن يبني حيث يوجد بناء حقير. فأية شركة بين البرّ والشر، وأيّ اتفاق بين النور والظلمة (2 كو 6: 14).
يلزم اقتلاع الشر من جذوره، يلزم هدم بناء الشر من نفوسنا، حتى يمكن للكلمة أن تبني وتغرس[256].
v عندما لا تُنزع الشرور أولاً، لا نقبل الصلاح. إنه يحطم المباني الهزيلة التي لعدم الإيمان، إذ هو السيد الذي يبني الخيمة الحقيقية التي يصنعها هو وليس إنسانًا (عب 8: 2)، والتي قال عنها بولس: “أنتم بناء الله” (1 كو 3: 9)[257].
v “وأيضًا في تلك الأيام يقول الرب أفنيكم” (إر 5: 18)…
يتمهل الله في إدانته للذين يستحقون العقاب، حتى يعطيهم فرصة للتوبة. فهو لا يعاقب على الخطية في الحال، ولا يوقع الفناء بالخاطئ، بل يتمهل في العقاب.
نجد مثالاً على هذا في سفر اللاويين: في اللعنات التي قيلت للذين يخالفون الشريعة، فبعد الإعلان عن العقوبات الأولي، قيل: “وإن كنتم مع ذلك لا تسمعون لي أزيد على تأديبكم سبعة أضعاف” (لا 26: 18). ثم يذكر أيضًا عقابًا آخر: “وإن كنتم بذلك لا تسمعون لي بل سلكتم معي بالخلاف، فأنا أسلك معكم بالخلاف ساخطًا” (لا 26: 27). من هنا يتضح لنا أن الله يوقع العقوبات ببطءٍ شديدٍ، لأنه يريد أن يقود الخاطئ إلى التوبة بدلاً من أن يجعله يدفع الثمن في الحال.
هذا أيضًا ما حدث مع الشعب، فقد كان الرب يتوعد بالآلام التي سوف تحل به، ثم قال له بعد ذلك: “وأيضًا في تلك الأيام لا أفنيكم”[258].
v “لأن هذا زمان انتقام الرب”. يوضح الكتاب المقدس أن العقوبات تُوقع على الإنسان الذي يحتملها ويصبر في احتمالها. فعندما لا يعاقب الإنسان على الأرض يظل هكذا بدون عقاب حيث يتم عقابه في يوم الدينونة. ويقول الرب على لسان هوشع النبي: “لا أعاقب بناتكم لأنهن يزنين، ولا كناتكم لأنهن يفسقن” (هو 4: 14). الله لا يعاقب الخطاة بسبب غضبه عليهم، كما يظن البعض، أو بمعني أخر إن الله عندما يوقع عقابًا بإنسان خاطئ، فإنه لا يوقعه بدافع الغضب من هذا الإنسان، بل على العكس، فإن علامة غضب الله على الإنسان تتمثل في عدم توقيع العقاب عليه. لأن الإنسان المُعاقب حتى ولو تألم تحت تأثير هذا العقاب، إلا أن القصد هو إصلاحه وتقويمه. بقول داود: “يا رب لا توبخني بغضبك ولا تؤدبني بسخطك” (مز 6: 1). لو أردت أن تؤدبني، فكما يقول إرميا: “أدبني يا رب، ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني” (إر 10: 24). كثيرون أُصلحوا بسبب عقوبات الرب وتأديباته لهم. كما يقول الكتاب، إن أبناء السيد المسيح حينما يخطئون يتم عقابهم لكي تكون أمامهم فرصة للرحمة من قبل الرب: “إن ترك بنوه شريعتي، ولم يسلكوا بأحكامي، إن نقضوا فرائضي، ولم يحفظوا وصاياي، افتقد بعصا معصيتهم وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنهم” (مز 89: 30-33).
من ذلك نفهم أنه إذا ارتكب أحد الخطايا ولم يعاقب حتى الآن يكون علامة عن عدم استحقاقه للعقاب بعد[259].
العلامة أوريجينوس
فِي سِتِّ شَدَائِدَ يُنَجِّيكَ،
وَفِي سَبْعٍ لاَ يَمَسُّكَ سُوءٌ [19].
كان الحديث السابق عامًا، أما الآن فيوجه حديثه بوجه خاص إلى أيوب مباشرة، مقدمًا له مواعيد الله الثمينة، ومعلنًا عن مراحمه العظيمة.
حقًا لم يكن أصدقاء أيوب مسترشدين برَوح الله في كل ما قالوه، لكنهم قدموا وعودًا إلهية عرفوها بالتقليد الشفوي. وإن كانوا أحيانا نطقوا على الله وعلى أيوب كلامًا غير مستقيم.
بقوله: “في ست شدائد ينجيك، وفى سبع لا يمسك سوء” يؤكد تكرار الضيقات والمتاعب، مع تكرار العون والخلاص. مادمنا في العالم نتوقع ضيقات، لكننا نثق في عون الله أبينا واهتمامه بخلاصنا وسلامنا. يقول الرسول بولس: “أية اضطهادات احتملت، ومن الجميع أنقذني الرب” (2تى 3: 11).
“لا يمِسك سوء” لن تسبب الضيقات أضرارًا حقيقية، فالشرير لا يمس أولاد الله (1 يو 5: 18)، بل هم محفوظون في يد الله مخلصهم.
v بماذا يشير رقم 6 الذي تلاه رقم 7 إلا إلى التعب في فترة الحياة الحاضرة؟ فإن الله بعد أن أكمل كل شيء في اليوم السادس خلق الإنسان واستراح في اليوم السابع. هذا اليوم السابع عينه بدون مساء، إذ ليس بعد أية نهاية لينهي الراحة التي تبعتها. فعندما أُكملت كل الأشياء تبع ذلك الراحة، فإنه بعد الأعمال الصالحة للحياة الحاضرة تأتي بعدها مكافأة الراحة الأبدية. لهذا فإنه “في ست شدائد ينجيك الرب“، وهكذا “في سبع لا يمسك سوء“. فإنه بتوجيه الحنو الأبوي يدربنا على متاعب الحياة الحاضرة. ولكن عند مجيء الديان يخفينا من البلاء… بل يحضرنا إلى خلاصه الأكثر تأكيدًا.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v إن كان أيوب هو أحد هؤلاء الذين يحذرهم الله ويُصلح من أمرهم، وليس الذين يضربهم بالعقوبة والدمار، لهذا في ست شدائد ينجيه الله، هذه التي تنهكه، لكنه إذ هو خادمه وصديقه وجنديه، فإن الشر لن يمسه في المرة السابعة، فإن عون الله يحفظه. لكن يبدو أن الحال ليس هكذا، كما عني أليفاز. هنا الكارثة التي حلت بك المرة الأولى هي احتراق القطيع، والثانية الغارة على الثيران، والثالثة فقدان الأتن، والرابعة سلب الجمال، والخامسة موت الرعاة، والسادسة موت أبنائك وبناتك المفاجئ، وبعد ذلك السابعة الشر قد مسك أنت وهو الألم الجسدي وقروح أعضائك. على أي الأحوال، فإن الله لا ينجيك، ذاك الذي يضرب ويشفي، الذي يسبب الألم ويداوي، لتستحق الافتقاد الإلهي.
ما قاله أليفاز عني به أن يقود أيوب إلى اليأس. لم يكن يعلم أن هذا شجع المصارع بالأكثر. فإن الله في ست مرات نجاه من الشدائد، فإن المصائب الست التي عددناها الآن قد حلت عليه من العدو. أما الله إذ يتطلع إلى البار، فقد وضع مقدمًا حدودًا لا يتعداها العدو. “انظر، ها أنا أسلمه لك، لكن احترم نفسه” ( راجع 12:1). بمعنى “لك أن تمس خارجه، لكن هذه الكلمات لن تعطيك سلطانًا أن تدخل إليه في داخله… لاحظوا كيف حفظ الله أيوب من هذه المحن، وباطلاً قال أليفاز لأيوب الأمور السابقة واللاحقة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v لاحظوا كيف يحطم كل نفعٍ فيما يقوله ويقدم لطمة عنيفة. كيف وبأية وسيلة؟ بإظهار أن أيوب لم يكن طرفًا بين الذين يتقبلون تحذيرًا، ولا الذين ينالون رجاءً. لكن في الواقع ما قاله ينطبق على شخص أيوب تمامًا. لكن مُحادثته كان لها تطبيقها العام، إذ قال أن هذا هو ما رأيناه وسمعناه. فإن كان هذا لم يحدث في حالتك، إن كنت باقيًا في شدائدك، فإنها لفائدتك لتعرف ضلالك.
القديس يوحنا الذهبي الفم
فِي الْجُوعِ يَفْدِيكَ مِنَ الْمَوْتِ،
وَفِي الْحَرْبِ مِنْ حَدِّ السَّيْفِ [20].
لن يقدر الجوع أن يهلكهم، إذ “في أيام الجوع يشبعون” (مز 37: 19). “لينجي من الموت أنفسهم، وليستحييهم في الجوع” (مز 33: 19). يحتاج الإنسان إلى كلمة الله – لا بصفته المخلِّص الذي يعيد نفس الإنسان إلى طبيعتها الأولى فحسب، بل أيضا لإشباع جميع الاحتياجات. فهو يقدم نفسه للإنسان كأنه كل شيء بالنسبة إليه. ففي السيد المسيح لا يقدر الجوع أن يحطمنا لأن السيد هو شبعنا. يقدم المسيح ذاته لأولئك الذين يشعرون بأنهم في حاجة إليه. فهذا الشعور يمنحهم استحقاق تواجده وسكناه في قلوبهم. وهو واحد، يقدم ذاته لكل مؤمن حسب حالته الروحية.
v ربما، كما يقول الرسول لأولئك “قد صار لهم الحواس مدّربة على التمييز بين الخير والشر” (عب 14:5)، قد صار المسيح كلاً من هذه الأشياء، حتى يلائم الحواس المختلفة للنفس.
فقد دُعي النور الحقيقي، حتى تجد أعين النفس شيئًا ينيرها.
وهو(اللوغوس)، حتى تجد آذانها شيئًا تسمعه.
ثم هو خبز الحياة، حتى تجد للنفس شيئًا تتذوقه.
وبشكل ما دُعي بالناردين أو الدهن، حتى يمكن لحاسة الشم عند النفس أن تعي الرائحة الذكية للكلمة.
ولنفس السبب قيل أيضا أنه قادر أن يُحَسُ ويُمسك به، ودُعي باللوغوس المتجسد، حتى تلمسه يد النفس الداخلية فيما يتعلق بكلمة الحياة (يو 1-4:1، 1 يو1:1).
ولكن كل هذه الأمور هي الواحد – كلمة الله ذاتها – الذي يتكيف مع الانفعالات المختلفة للمصلي، تبعا لتلك المسميات المتعددة، فلا يتركُ بذلك أيا من قدرات النفس خالية من نعمته[260].
v حقا، يمكنني القول أنه يصير كل شيء يحتاجه كل مخلوق قادر على التحرر. لذلك فهو يصبح نور الناس، إن كانوا – وهم في ظلمة الشرور – يبحثون عن ذلك النور الذي يسطع في الظلام الذي لا يدركه. فلم يكن ليصبح نورا للناس لو لم يصيروا في الظلمة[261].
العلامة أوريجينوس
ينجي الرب الإنسان من سيوف الأعداء، مهما بلغ عددهم، فلا تقدر حروب الشياطين أن تهلكنا. “يسقط عن جانبك ألف، وربوات عن يمينك، إليك لا يقرُبُ” (مز 91: 7).
v يسوع ابن اللَّه، ربي، يهبني ويأمرني أن أسحق تحت أقدامي روح الزنا، وأن أطأ عنق روح السخط والغضب، وشيطان الجشع الخ[262].
v كما أن الآب “له وحده عدم الموت” (1تي16:6)، أخذ الرب يسوع، حبًا فينا، على نفسه ثِقَل الموت نيابة عنا.
وعلى النمط نفسه ينطبق هذا الوصف على الآب وحده: “ليس فيه ظلمة”. فإن المسيح، لمنفعة البشر، أخذ على نفسه ظلامنا، حتى يمكنه بسلطانه أن يأتي بموتنا إلى لا شيء naught وأن يبدد ظلمتنا الداخلية[263].
v قبل مجيء ربنا ومخلصنا، ملكت كل الشياطين على عقول الناس وأبدانهم، واستقرت في أرواحهم. ثم ظهرت نعمة الرب المخلص ورحمته على الأرض، تعَلِّمنا كيف يجدر بنفس كل إنسان أن تستعيد الحرية، وتسترد صورة الله التي خُلِقَت عليها…
من هو هذا، إذا لم يكن يسوع المسيح، الذي بجلداته قد شفينا نحن المؤمنين به، عندما “جَرَّدَ الرئاسات والسلاطين” الذين في وسطنا و”أَشْهَرَهُم جهارا” فوق الصليب؟ (كو 15:2)[264].
v لقد سقطنا تحت سلطان أعدائنا، أي “مَلِكُ هذا الدهر” وأعوانه من قوى الشر. لهذا نشأت حاجتنا إلى الفداء بواسطة ذاك الذي يشترينا حتى نعود من حالة التغرب عنه. لذلك بذل مخلصنا دمه فدية عنا…
ولما كانت “مغفرة الخطايا”، وهي تتبع الفداء مستحيلة قبل أن يتحرر الإنسان، لابد لنا أولاً أن نتحرر من سلطان ذاك الذي أخذنا أسرى، واحتفظ بنا تحت سيطرته، نتحرر بعيدًا عن متناول يده، حتى نتمكن من أن نحظى بغفران خطايانا والبُرْء من جراحات الخطية، حتى ننجز أعمال التقوى وغيرها من الفضائل[265].
العلامة أوريجينوس
مِنْ سَوْطِ اللِّسَانِ تُخْتَبَأُ،
فَلاَ تَخَافُ مِنَ الْخَرَابِ إِذَا جَاءَ [21].
كما يحمي الله أولاده من السيف في المعركة، كذلك يحميهم من لسان الأشرار الذي هو أحد من السيف؛ يحميهم من الاتهامات والافتراءات الموجهة إليهم باطلاً. هكذا في وقت الحرب كما في وقت السلم يعيش المؤمن تحت مظلة الله في سلامٍ، لا يخاف من الخراب، حتى إن رآه قادمًا.
يقدم أليفاز اتهامًا ضد أيوب في شكل نصيحة: “من سوط اللسان تُختبأ، فلا تخاف من الخراب إذا جاء”. كأنه يقول: لقد انهزمت في التجربة، لأنه إذ حلّ بك الضيق، كان يجب ألا تخطئ بلسانك، بل تختبئ من هذا الخطأ. لسانك يشهد على شرك، فقد سقطت في فخ اللسان، وانحنيت لجلداته القاتلة. لم يدرِ أليفاز أن ما يقوله لا ينطبق على أيوب، لأن الله نفسه يشهد أنه في هذا كله لم يخطئ، ولم ينسب لله جهالة (22:1)، إنما الذي سقط في شراك اللسان وتحت جلداته هو أليفاز نفسه الذي أراد بها أن يسقط أيوب البار. أما أيوب فينطبق عليه قول المرتل: “لأنه ينجيك من فخ الصياد، ومن الكلمة القاسية” ( مز 3:91).
v أحب قديسو الرب حفظ الصمت، لأنهم أدركوا أن صوت إنسان هو بدء الخطية. فقال قديس الرب[266] في نفسه: “قلت أتحفظ لسبيلي من الخطأ بلساني”. لأنه عرف ما سبق فقرأه أن من علامات الحماية الإلهية للإنسان أن يختبئ من جلدات لسانه، ومن شهادة ضميره.
إننا نؤدب بواسطة توبيخات أفكارنا، وحكم الضمير.
نؤدب أيضًا بجلدات أصواتنا، عندما ننطق بأشياء تصيب نفوسنا إصابات قاتلة، ويُضرب ذهننا بجراحات دامية. لكن أين ذاك الإنسان الذي تنقى قلبه من نجاسات الخطية، فلا يخطئ بلسانه؟
هكذا إذ رأى أنه لا يوجد أحد أمكنه أن يحفظ فمه متحررًا من الكلام الرديء وضع لنفسه قانون البرّ بالتزامه بأحكام الصمت. وضع نصب عينيه أن يتجنب بالصمت السقطة التي كان يصعب عليه الهروب منها بالكلام[267].
القديس أمبروسيوس
v “لا تخف من الخراب إذا حلّ” [22] فإذ يرى القديسون أنفسهم منهمكين مع المقاوم في أشكال متنوعة، يجهزون أنفسهم بأساليب مختلفة في معركتهم.
لهم معونة كلمة الله في مواجهة المجاعة.
ولهم درع ضبط النفس في مواجهة سيف الحرب.
ولهم حصن الصبر في مواجهة سوط اللسان.
ولهم عون الحب الداخلي في مواجهة الأذى الذي للكوارث الخارجية.
هكذا بطريقة عجيبة يجتازون التجارب المتنوعة التي يجلبها عليهم العدو الخبيث، فينالون غنى أعظم في الفضيلة كجنود الله.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v “أفنيتهم، وأبوا قبول التأديب” (إر 5: 3). الله في عنايته ورحمته، حينما يقوم بعمله التطهيري من أجل خلاص النفس، فإنه يذهب في عمله حتى النهاية (حتى الفناء)، على الأقل من جانبه. فإذا كان كل الذي يأتي علينا من قبل العناية الإلهية يهدف إلى كمالنا وإلى تأديبنا، ومع ذلك لا نقبل التأديبات الإلهية التي تقودنا إلى الكمال، فإن الذي يفهم معنى هذه الفقرة يمكنه أن يقول للرب: يا رب، لقد أفنيتهم (أدبتهم)، وأبوا قبول التأديب[268].
العلامة أوريجينوس
تَضْحَكُ عَلَى الْخَرَابِ وَالْمَجَاعَةِ،
وَلاَ تَخْشَى وُحُوشَ الأَرْضِ [22].
يتطلع المؤمن إلى مؤامرات الأشرار وهياج وحوش البرية، وفى طمأنينة يستخف بهم، لأنه محفوظ في الله. هذا هو حال بولس الرسول الذي لم يخشَ آخر عدو وهو الموت، وأكمل تسبحته قائلاً: “أين شوكتك يا موت؟” (1 كو 15: 55)، “لكننا في هذه جميعها، يعظم انتصارنا بالذي أحبنا” (رو 8: 35).
v “على الخراب والمجاعة يضحك”… حسنًا قيل بالمرتل: “فيرى الصديقون ويخافون، وعليه يضحكون، هوذا الإنسان الذي لم يجعل الله معينه” (مز 6:52-7). الآن ينظر الأبرار إلى الأشرار ويخافون، يتطلعون فيما بعد ويضحكون. إنهم يُمسكون الآن بالخوف خشية أن يتمثلوا بهم، ولكنهم إذ لا يقدرون أن يصلحوا من سقطوا تحت الحكم الأبدي لا يضمرون لهم عطفًا.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v تجد أجزاء كثيرة في الكتاب المقدس يتشبه فيها الله بصفات الإنسان. فإذا سمعت يومًا كلمات “غضبالله وثورته” لا تظن أن الغضب والثورة عواطف وصفات موجودة عند الله، إنما هي طريقة بها يتنازل الله ويتكلم ليؤدب أطفاله ويصلحهم.
لأننا نحن أيضًا حينما نريد أن نوجه أولادنا ونصحح أخطائهم نظهر أمامهم بصورة مخيفة ووجه صارم وحازم لا يتناسب مع مشاعرنا الحقيقية، إنما يتناسب مع طريقة التأديب.
إذا أظهرنا على وجوهنا التسامح والتساهل الموجود في نفوسنا ومشاعرنا الداخلية تجاه أطفالنا بشكل دائم، دون أن نغير ملامح وجوهنا بحسب تصرفات الأطفال، نفسدهم ونردهم إلى الأسوأ. بهذه الطريقة نتكلم عن غضب الله، فحينما يقال أن الله يغضب، فإن المقصود بهذا الغضب هو توبتك وإصلاحك، لأن الله في حقيقته لا يغضب ولا يثور، لكنك أنت الذي ستتحمل آثار الغضب والثورة عندما تقع في العذابات الرهيبة القاسية بسبب خطاياك وشرورك، في حالة تأديب الله لك بما نسميه غضب الله![269]
العلامة أوريجينوس
لأَنَّهُ مَعَ حِجَارَةِ الْحَقْلِ عَهْدُكَ،
وَوُحُوشُ الْبَرِّيَّةِ تُسَالِمُكَ [23].
متى كان المؤمن في سلام مع الله تصير له صداقة مع كل الخليقة. يقيم عهدًا حتى مع حجارة الحقل، فلا تصدم بحجر رجله. يقيم عهد سلامٍ حتى مع وحوش البرية. “وأقطع لهم عهدًا في ذلك اليوم مع حيوان البرية وطيور السماء ودبابات الأرض، وأكسر القوس والسيف والحرب من الأرض، وأجعلهم يضطجعون آمنين” (هو 2: 18). من كان في عهدٍ مع خالق السماء والأرض، وتشتهي السماء والأرض مصالحته وتجد مسرة في خدمته.
v هكذا إنه لأمر إلزامي علينا أن نجاهد، وأن نصلح من أخطائنا، ونصحح سلوكنا، فبدون شك متى تم هذا باستقامة نصير في حالٍ أفضل جدًا حتى مع الحيوانات المفترسة والوحوش، ولا أقول عن الكائنات البشرية.
هذا يطابق ما دُوِن في سفر أيوب الطوباوي: تكون الوحوش المفترسة في سلامٍ معك” (23:5 LXX). لن تخشى هجمات تصدر عن الخارج، ولن تقدر أن تؤثر فينا عثرة في الخارج مادامت جذورها لم يُسمح لها بالدخول وأن تُغرس فينا. فإن “سلامة جزيلة لمحبي اسمك، وليس لهم معثرة” (مز 165:119)[270].
القديس يوحنا كاسيان
v “ووحوش الأرض في سلام معك” [23]. واضح أن الشياطين خضعت له، ليس بإرادتها، بل تحت إلزام. إذ يفهم ذلك كله بشجاعة وصبر… إنه يعرف أن يحرس بيته في سلام، إذ لم يكن جسد أيوب في صراع ضد الروح (1 كو 16:3)، وعواطف الجسد لم تقاوم ناموس الروح.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v عدونا المخادع يُدعى “وحش الأرض“، إذ يفترس بعنف طبيعته المتوحشة، ممسكًا بنفوس الخطاة في ساعة موتهم… أما الصالحون، فإنهم إذ يخضعون بكل قلوبهم لخوف الله يزول عنهم كل ثقل الخوف الحال من الخصم.
v أعطى “الحق” السلام لتلاميذه في البداية عندما قال: “سلامًا أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم” ( يو 27:14). اشتهى سمعان السلام الكامل عندما طلب إليه قائلاً: “الآن أطلق عبدك بسلام حسب قولك” ( لو 29:2). فإن سلامنا يبدأ بشوقنا للخالق، ويكمل بالرؤية الواضحة. فإنه سيكون كاملاً عندما لا تعمى أذهاننا بالجهل، ولا تتأثر بهجمات جسدية. فإننا إذ نلمسه في بداياته، إما تخضع النفس لله أو يخضع الجسد للنفس، فيُقال عن خيمة البار إنها في سلام، أي في جسده الذي يسكنه عقله، فتكون العواطف المتمردة والتي للشهوات تحت قيادة يد البرّ.
البابا غريغوريوس (الكبير)
فَتَعْلَمُ أَنَّ خَيْمَتَكَ آمِنَةٌ،
وَتَتَعَهَّدُ مَرْبِضَكَ،
وَلاَ تَفْقِدُ شَيْئًا [24].
في المصالحة مع الله يتحقق السلام في البيت والأسرة. من يسكن في ستر العلي (مز 91: 1)، يسكن العلي في بيته، ويتعهد خلاص أسرته.
ما هي الخيمة إلا الجسد الذي يتقدس بالسيد المسيح، فيصير ممجدًا وفي أمانٍ على مستوى أبدي؟
v لسنا نريد أن نتخلص من الجسم، وإنما من الفساد الذي فيه. جسمنا هو ثقل علينا، ليس لأنه جسم بل لأنه فاسد وقابل للألم. ولكن إذ تحل الحياة الجديدة، فإنها تنزع هذا الفساد، أقول هذا الفساد لا الجسم نفسه[271].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v أرانا موسى النبي كمثالٍ، بواسطة مجد الروح الذي سطع على وجهه الذي لم يستطع أحد أن يتفرّس فيه، كيف أنه في قيامة الأبرار ستتمجد أجساد أولئك المستحقين، بمجدٍ تحصل عليه منذ الآن النفوس المقدسة الأمينة، إذ تُحسب أهلاً لاقتناء هذا المجد في داخلها، في الإنسان الباطن[272].
القديس مقاريوس الكبير
v إنهم بعدل ينالون مكافأة آلامهم في الجسم الذي تألم فيه الأبرار وحزنوا وتزكوا بالآلام بكل وسيلة. وفي ذات الجسم الذي فيه قُتلوا من أجل محبتهم لله، فيه ذاته سيحيون، وفي ذات الجسم الذي فيه احتملوا العبودية فيه سيملكون[273].
القديس إيريناؤس
وَتَعْلَمُ أَنَّ زَرْعَكَ كَثِيرٌ،
وَذُرِّيَّتَكَ كَعُشْبِ الأَرْضِ [25].
فقد أيوب كل بنيه، وها هو أليفاز يقول له إنه إن رجع إلى الله يكثر زرعه وتزدهر ذريته.
ذرية الأبرار كثيرة كعشب الأرض، إذ يعطى الله كلمة ونعمة للأبرار فيكسبون نفوسًا كثيرة للرب كأولاد له.
v عندما نكون خاضعين بالكامل لله، نُزود أيضًا بكلمة الكرازة. ويخلف نفوس المؤمنين ذرية ضخمة عندما يُمنحون أولاً الكرازة المقدسة… تُشَّبه ذرية البار بعشب الأرض حيث أن من يولد في صورة منه بينما ينزع فساد المجد الزمن الحاضر، يصير أخضر بالرجاء في الأبديات.
البابا غريغوريوس (الكبير)
تَدْخُلُ الْمَدْفَنَ فِي شَيْخُوخَةٍ،
كَرَفْعِ الْكُدْسِ فِي أَوَانِهِ [26].
الرجوع إلى الله يهبه طول العمر، فيتمم رسالته ويدخل القبر في شيخوخة صالحة في الأوان اللائق كما يُجمع القمح ويُخزن في أوانه.
v “تدخل قبرك في كمال (الشيخوخة)، ككدس (كومة) الحنطة في أوانها”. ماذا يعنى بالقبر سوى حياة التأمل، فإنها كمن تدفنا نحن الموتى عن العالم، وتخفينا في العالم الداخلي بعيدًا عن الشهوات الأرضية. فإن الذين هم موتى عن الحياة الخارجية هم أيضًا مدفونون بالتأمل، هؤلاء الذين يقول لهم بولس: “لأنكم قد متم، وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” (2 كو 3:3)…
فمن يُخضع غطرسة الجسد فيه يترك له هذا العمل: أن يدرب العقل بتداريب مقدسة. ومن يفتح ذهنه في الكلمات المقدسة يسمو ويمتد متمتعًا بالتأمل الداخلي. فإنه ليس بكارز كامل من يتكرس للتأمل متجاهلاً الالتزام بالعمل الموكل إليه أو بسبب الالتزام بالعمل يترك الالتزام بالتأمل…
بالتأمل يقومون في حب الله، وبالكرازة يعودون إلى خدمة قريبهم…
وقت العمل يأتي أولاً وبعد ذلك التأمل. لهذا يلزم كل إنسان كامل أن يبدأ بتدريب فكره بالعادات الفاضلة وبعد ذلك يستلقي في أكداس حنطة الراحة… “أرجع إلى بيتك وحدث بكم صنع الله بك” (لو39:8)…بعد أن نُشفي يرسلنا الرب إلى بيتنا. إنه يأمرنا أن نروي الأمور التي صنعها معنا، حتى تنشغل النفس أولاً بالعمل وبعد ذلك تنتعش بالتأمل. تبعًا لهذا خدم يعقوب من أجل راحيل واقتنى ليئه. وقد قيل له: “ليس من عادة مكاننا أن تُعطى الصغيرة قبل البكر” (تك 26:29)… ماذا يُعنى براحيل سوى الحياة التأملية؟
البابا غريغوريوس (الكبير)
هَا إِنَّ ذَا قَدْ بَحَثْنَا عَنْهُ، كَذَا هُوَ.
فَاسْمَعْهُ، وَاعْلَمْ أَنْتَ لِنَفْسِكَ [27].
إذ أبرز أليفاز صلاح الله القابل التائبين ليرد لهم سلامهم وسعادتهم وخيراتهم، يختم محادثته الأولى بتقديم ضمانٍ أكيدٍ لحكمته التي قدمها لأيوب.
لقد تسلمنا الإيمان بالله خلال التقليد المقدس، هذا لا يعني تراخينا، بل يلزمنا أن نبحث عنه ونطلب أن يتجلى في حياتنا، ونتعرف عليه كل يوم، فنحبه ونقتنيه. ننصت إلى صوته، ونتعلم منه لتكون لنا خبرة شخصية في التعامل معه.
يطالب أيوب أن يبحث عن ما سمعه بخصوص وحوش الأرض وأكداس الحنطة والقبر، حتى لا يأخذ المعاني حرفيًا، بل يدرك أسرارها الروحية العميقة فيتمتع بالتأمل في الله.
v بمعنى لتكن أنت قاضيًا لنفسك، الحكم لضميرك وجهًا لوجه. لكن أعمال أيوب مضيئة، وأفكاره الخفية أكثر إشراقًا من أعماله المنظورة، وذلك خلال المعركة التي أثارها العدو ضده.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
من وحي أيوب 5
أنت هو سر الطوبى!
v شهوة اشتهيت أن أثبت فيك إلى الأبد.
أنت هو القيامة والحياة الأبدية.
أقتنيك، فأنعم بسرّ الحياة الأبدية المطوّبة.
v يرتفع قلبي لينعم بشركة القديسين.
في حبهم يصلون عني، ويطلبون خلاص نفسي.
لكن ما هو نفع صلواتهم ما لم ارجع إليك بالتوبة؟
كيف أشاركهم نصيبهم ما لم أتجاوب مع غنى نعمتك؟
v حرمتني الخطية من التمتع بك يا أيها الحب السرمدي.
نزعت عني الحب، فتملك الغضب والحسد عليّ.
تحولت إلى الغباوة والجهالة، فصرتُ جافًا.
اقتلعتني الخطية من جذوري،
فلم أعد أقطن فيك يا سرّ الحياة.
حُرمت من السلام الداخلي والأمان الحقيقي.
في غباوة تعثرت فيك، يا أيها الباب الإلهي.
بدد العدو مواهبي، وحطٌم طاقاتي.
صرت مأكلاً له، ومشربًا لملائكته الأشرار.
تحولت حياتي إلى برية مملوءة أشواكًا وحسكًا.
أعترف بكل ما حلٌ بي من مرارة.
هو ثمرة تهاوني وجهلي!
من ينقذني من العدو، ويحملني إليك إلا نعمتك الغنية؟
v الآن أرجع إليك، طالبًا حضرتك في داخلي.
أنت هو الصانع العجائب،
بروحك القدوس تجدد طبيعتي،
وتقيم من بريتي الجافة فردوسًا روحيًا.
تحول أرضي إلى السماء،
وبشريتي الضعيفة إلى حياة سماوية.
تملأني بروحك القدوس، المطر السماوي،
يحملني بجناحيه ويطير بي إلى الأحضان الإلهية.
يرفعني إلى العلا، وهناك تستقر نفسي.
تجعلني عجبًا، يا أيها العجيب!
v لتؤدب، فإني ابنك موضوع رعايتك الفائقة.
لتسحقني يداك فتشفيانني.
لتسمح بست شدائد، وفي السابعة تنجيني.
لتسمح بالجوع، لكي تقدم لي ذاتك خبزًا سماويًا.
ليضرب العدو بسيفه، فإنه يرتد عليه،
لأني في أحضانك.
ليصمت لساني، لأن قلبي يناجيك.
ليته ينهار العالم الشرير،
فإني مترقب مجيئك على السحاب.
لأتكئ على صدرك،
فلا أخشى وحوش البرية الكاسرة.
لتسكن فيٌ وأنا فيك،
فيتقدس جسدي مع عقلي ونفسي.
تصير خيمة جسدي في آمان،
ونتبارك ثماره المقدسة بروحك القدوس.
أحيا كل أيام غربتي في عزك،
وبالفرح انطلق شبعان الأيام التي باركتها.
تفسير أيوب 4 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 6 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |