تفسير سفر أيوب ٧ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السابع
شهوة الموت
في هذا الأصحاح يقدم لنا أيوب صورة حية لما يليق بالمؤمن أن يفعله وسط متاعبه، خاصة مع المقاومين له. إنه لم يتجاهلهم، بل تحدث معهم بحكمةٍ وهدوءٍ وصدقٍ، لكن بين الحين والآخر يحول وجهه عنهم ليرفعه نحو الله، ويدخل معه في حديث صريح. هكذا جاء هذا الأصحاح صلاة تخرج من قلبٍ يذوق المر من قلوب أصدقائه، فيلجأ إلى قلب الله واهب التعزيات، صديقه السماوي الفريد، ومخلص نفسه.
يعود أيوب فيكرر أنه يلتمس لنفسه العذر في تطرفه في شهوة الموت، مقدمًا الحجة لذلك.
أغلب الأصحاح موجه إلى الله. في وسط آلامه تطلع أيوب بنظرة تشاؤمية حيث يرى كل البشرية أشبه بالعبيد والخدم الذين يشتهون دومًا عبور الزمن للدخول إلى المساء لينالوا شيئًا من الراحة، ويستلمون أجرة تعبهم. إذ كانت أتعابه تلازمه كان يشتهي حلول الليل لكي يستريح من أتعاب النهار.
يصرخ أيوب بأن آلام النهار وأحلام الليل المرعبة جعلته يشتاق أن يحل به الموت عوض استمرار الحياة. إنه يتساءل: هل الإنسان الضئيل هام جدًا لدى الله، حتى يضع الله عينه عليه، ويتحين كل فرصة لكي يعاقبه؟ (١٧-١٨؛ ١٤: ١-٣).
يعترف أيوب أنه أخطأ، لكنه يتعجب كيف أن خطيته تجعل الله يلقي به أرضًا، كما لو كان حملاً ثقيلاً. إنه يطلب من الله ألاَّ يتأخر في الإعلان عن المغفرة، لئلا يموت قبل أن يتمتع بالغفران.
- أيامه كأيام الأجير مملوءة شقاءً 1-6.
- الموت يضع حدًا للشقاء الحاضر 7-10.
- وصف لحالته التعيسة 11-16.
- صرخة إلى الله لإنقاذه 17-21.
- أيامه كأيام الأجير مملوءة شقاءً
أَلَيْسَتْ حَيَاةُ الإِنْسَانِ جِهَادًا عَلَى الأَرْض،
وَكَأَيَّامِ الأَجِيرِ أَيَّامُهُ؟ [1]
يلتمس أيوب لنفسه العذر حتى في تطرفه في شهوة الموت، مدعمًا رأيه بأن حياة الإنسان كلها تعب، فهو “قليل الأيام وشعبان تعبًا” (أي 14: 1). كل إنسانٍ يدرك أن أيامه قليلة، له ما يبرره في اشتهاء الموت عن قريب، لهذا يدهش كيف يعتبرونه قد ارتكب جريمة شنيعة عندما اشتهى ذلك.
بقوله “على الأرض” هذه التي أعطاها الله لبني البشر (مز 115: 16)، ينم عن وضاعة الإنسان، فإن مكان إقامته لا يزال أسفل على الأرض، وليس بين الطغمات السماوية. حقًا لا يسكن كعدو الخير في جهنم، إنما إلى حين على الأرض. نعيش مؤقتًا هنا لا يحكمنا القدر الذي للرواقيين، ولا الحظ الأعمى للأبيقوريين، إنما مشورة الله وخطته الإلهية السمائية العالية.
أما عن حالة الإنسان هنا فهي “جهاد، كأيام الأجير” في حالة جهادٍ مستمرٍ، كجنودٍ في معركة لا تتوقف. أعداؤنا لا يكفون عن المقاومة، ولا ينامون الليل. بالموت تُحسم المعركة، إما لكي نكلل أبديًا أو نصير في خزي وخجلٍ.
أيامنا كأيام الأجير نعمل طوال النهار لنقدم حسابًا في نهايته. كأجير يود أن ينتهي اليوم سريعًا حتى يستريح من الإجهاد في العمل المستمر. يرحب الأجير بعبور النهار وحلول الليل للراحة، كما يفرح الحارس بعبور الليل بنور الصباح (مز 130: 6). يشتاق الأجير إلى نهاية اليوم، لأن “نوم المشتغل حلو” (جا 5: 12).
v أليست حياة الإنسان على الأرض بمثابة جهاد، وحياته كأيام الأجير؟ كالعبد الذي يكمن في الظل خوفًا من سيده، أو كالأجير الذي يترجى أجرته؟ هكذا أيضًا أنتظر شهورًا فارغة وليالي شقاء قُسِمت لي. إذا اضطجعت أقول متى يطلع النهار؟ وإن قُمت أقول ثانية، متى يحل المساء؟ إني مملوء ألمًا من الليل حتى مطلع الصباح. جسدي أنتن بتلوث الدود، وبلّلت كتل الأرض بحك قروحي التي تخرج إفرازات قيح! أيامي أتفه من كلام فارغ، وتنتهي بغير رجاء. أقول: “سيُعزّيني فراشي”، لكنك تروعني في الأحلام، وتُخيفني في الرؤى” (أي 1:7-6، 13، 14 LXX)[291].
v ما أتعس حال الإنسان! كالأجير، يتعب ويكد لأجل الآخرين وهو نفسه في عوزٍ! ولا يقوى على مساندة نفسه، إلا بواسطة تعاطف الآخرين! كل يوم يتكبد عبودية مُرّة تحت قهر الخوف والفزع. ولئلا يمسك به سيده، يظن أنه يستطيع أن يختبئ منه في ظل هذا العالم؛ الظل الجائل الهائم الهارب! فكِّر في ذاك الذي يتحدث عنه سيراخ في سفر الحكمة Ecclesiascticus “كل إنسان يخطئ على فراشه مستهينًا وقائلاً في نفسه: “من يراني؟ فالظلمة حولي، والحيطان تخفيني؛ ممن أخاف؟” (سيراخ 18:23). ألا تظنوا أن ذلك الإنسان أجير مسرف؟…، مثل الشاب الذي ورد في الإنجيل الذي نقرأ عنه أنه تسلم من أبيه نصيب الميراث، وعندما صار في عوزٍ وفي حاجة، بدأ يرعى قطعان الآخرين كوسيلةٍ لإشباع جوعه وسداد نفقاته بما يتقاضاه (لو 11:15-16)، لكنه على الأقل قد اهتدى في النهاية وتاب، لأنه عاد إلى أبيه، ولم يكتم خطاياه بل كشف عنها.
لكن الإنسان الذي يظن أن الله لا يراه، ذاك الذي يرى كل شيء، وأن آثامه يمكن أن يخفيها الظلام، إنما يعيش في الظل، لكنه عبثًا يظن أنه يهرب من المراقبة، حيث عين الرب، الأبهى من الشمس، تكشف عن كل الأسرار والخفايا، وتنير كل ظلمة، وتدخل إلى معرفة عمق القلب، وتخترق إلى العلو والأعماق (يو 19:3-20؛ سيراخ 19:23(28)). ولهذا فالإنسان الذي يظن أنه في حماية الظلام، ظنه باطل؛ لأنه لا يقوى على الهروب من النور الذي ينير في الظلمة، والظلمة لم تمسك به (يو 5:1).
من ثمة يُكتشف كهاربٍ وأجيرٍ شريرٍ، ويتم التعرف عليه قبل أن يُخفي نفسه! لأن كل الأشياء معروفة للرب، قبل أن يفحصها، لا بالنسبة للأحداث الماضية فقط، بل والمستقبلة أيضًا[292].
v من يظن أنه يخفي جُرمه، إنما يُفقد في رجاءٍ فارغٍ، لأن ذلك مجرد حديث واهٍ وليس الحق. حقًا “حديث الخطاة الفارغ مكروه” (سيراخ 13:27(14))، لا يعطي ثمرًا، بل بكاءً فقط! لأن “حديث الأحمق مثل حِمْلٍ في الرحلة” (سيراخ 16:21 (19))، وما الخطية إلا ثقلٍ؟ إنها ثقلٌ على كاهل عابر السبيل في هذا العالم، حتى أنه يتثقل بحملٍ ثقيلٍ من الجُرم! فإن كان راغبًا في عدم الخضوع لحمل الثقل، عليه أن يلتفت إلى الرب الذي قال: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين وثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم” (مت 28:11)[293].
القديس أمبروسيوس
v الله في قديسيه عندما يُجربون، والقداسة تتبع التجربة. يستحيل على أيٌ شخص، حتى وإن كان قديسًا أن يجتاز هذا العالم بدون تجربة. وكما يقول أيوب: “حياة الإنسان على الأرض نضال (جهاد)” (أي 7: 1)[294].
v نقرأ في سفر أيوب كيف أنه بينما كان رسول الشر الأول يتحدث جاء أيضًا آخر (1: 16). وفي نفس السفر كتب: “ألا توجد هنا تجربة” وبحسب النص العبري الأفضل: “توجد حرب ضد الإنسان على الأرض”. إننا نجاهد في هذه الحياة لكي ما نكلل في الحياة العتيدة، ولهذا الهدف نخاطر بحياتنا؛ في معركة هذا العالم (مت 4: 1 الخ). يشهد الكتاب المقدس عن إبراهيم أن الله جربه (تك 22: 1 الخ). ولهذا السبب أيضا يقول الرسول: “نفتخر في الضيقات… عالمين أن الضيق ينشئ صبرًا، وفي الصبر رجاء، والآن الرجاء لا يخزى” (راجع رو 5: 3-5). وفي موضعٍ آخر: “من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟ كما هو مكتوب: إننا من أجلك نُمات كل النهار، قد حُسبنا مثل غنم للذبح” (رو 8: 35- 36). يعزي إشعياء النبي مثل هؤلاء بالكلمات: “أنتم المفطومون عن اللبن، المفصولون عن الثدي، أنظروا تجربة فوق تجربة بل، وأيضا رجاء فوق رجاء (إش 28: 9- 10 LXX) فكما عبر الرسول: “آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا” (رو 8: 18)[295].
القديس جيروم
v عندما تهرب من مصر تأتي إلي مصاعد علوية جدًا للعمل والإيمان. تواجه برجًا وبحرًا وأمواجًا. طريق الحياة لا نسلكه دون أمواج التجارب. يقول الرسول: “جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون” (2 تي 3: 12). أيوب أيضًا لم يعلن بأقل من هذا: “حياتنا على الأرض تجربة” (أي 7: 1)[296].
العلامة أوريجينوس
v أيوب بدوره ردد قول أليفاز: لكن الإنسان مولود للمشقة (5: 7). ماذا يعني هذا بالنسبة لأيوب؟ لقد جاء إلى النتيجة النهائية بأن هذا ليس هو الظلم الوحيد، بل هو نابع عن طبيعة الإنسان نفسها التي تثير هذه التجارب، كما أن الله يقرر أن حياة الإنسان يجب أن تكون مؤلمة. لكن أيوب أضاف”على الأرض“، إذ لا تكون بعد هكذا “في السماء”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v ما هذه الحياة إلا ملء من الشباك؟
نحن نسلك بين شباك (ابن سيراخ 9: 13)؛ إننا نعيش بين تجارب عديدة. “ما هي حياة الإنسان على الأرض إلا حالة من التجربة” (أي 7: 1 LXX).
حسنًا أضاف “على الأرض”، لأنه يوجد من هو حياته في السماء.
حياته “على الأرض” أجرة أجير، كلها تعبِ وشدةِ، أوهى من القصص الباطلة (أي 7: 1-2، 6LXX )، تسبح في كلمات وتفيض بكلمات.
سكناها في مساكن من طين، والحياة ذاتها وحل. ليس من ثبات للفكر ولا جَلَده. في النهار يتوق الإنسان إلي الليل، وفي الليل يبحث عن النهار (راجع أي 7: 4)[297].
القديس أمبروسيوس
v الشرور التي تحل عليكم ستعبر، وذاك الذي تنتظرونه بصبرٍ سيأتي. أنه سيمسح عرق التعب. أنه سيجفف كل دمعة، ولا يكون بكاء بعد. هنا أسفل يلزمنا أن نئن وسط التجارب، إذ يتساءل أيوب: “ما هي حياة الإنسان على الأرض سوى محنة؟” (أي 7: 1)[298].
v أحزاني الشريرة تناضل مع أفراحي الصالحة، وفي أي جانب تتحقق النصرة؟ لست أعرف.
الويل لي! تراءف يا رب عليٌ!
الويل لي! هوذا لم أخفِ جراحاتي!
أنت الطبيب، وأنا مريض.
أنت رحوم وأنا بائس. أليست حياة الإنسان على الأرض تجربة؟
من يرغب في مصادر الإغاظة والمصاعب؟ إنك تأمر بأن نحتمل المتاعب، لا أن نحبها.
لقد أمرت أن نحتمل لا أن نحبها. فإنه ليس من إنسانٍ يحب ما يحتمله، وإن كان يجب أن يحتمل[299].
v لا تظنوا أنكم بلا خطية مادمتم في هذه الحياة، إذ نقرأ عن هذا في الكتاب المقدس “أليست حياة الإنسان على الأرض تجربة؟” لهذا مادمنا في هذا الجسد حتما يلزمكم أن تقولوا في الصلاة كما علمنا الرب: “أغفر لنا معاصينا، كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا”. تذكروا أن تغفروا سريعًا. ان أخطأ إليكم أحد وسأل الغفران، حتى يمكنكم أن تصلوا بإخلاص وتفوزوا بغفران خطاياكم[300].
v “الحياة البشرية على الأرض تجربة” (أي 1:7 LXX)، ليس أحد قط في آمان تام، ولا يلزمه أن يكون هكذا حتى يأتي إلى تلك المدينة، حيث لا يخرج منها صديق ما، ولا يلتحق بها عدو ما. الآن ونحن في ذات مجد الكنيسة نتعرف على أصوات تجاربنا، وكأعضاء المسيح نخضع لرأسنا في رباط الحب، ونسند بعضنا البعض بروحٍ مشتركٍ، ونقول من المزامير ما نجده فيها عن الشهداء الذين سبقونا قائلين إن التجارب عامة على كل البشر من البداية حتى النهاية[301].
v قدر ما يحب (الشخص) وطنه السماوي تصير رحلته الأرضية هي في ذاتها تجربة عظمى… في هذه التجربة، أي في هذه الحياة، من يثبت فوقها يطلب الله[302].
v أنتن بالفعل تعشن في عفة وقداسة ونقاوة وبتولية، ومع هذا ما هي حياتكن هنا؟ أما تتواضعن عند سماعكن: “ما هي الحياة البشرية على الأرض إلا تجربة” (أي 7: 1 LXX)؟
ألا يسحبكن من الاعتداد بالذات في زهوٍ القول: “الويل للعالم من العثرات” (مت 18: 7)؟
أما ترتعبن لئلا تُحسبن بين الكثيرين الذين تبرد محبتهم بسبب الإثم (مت 24: 12)؟
أما تقرعن صدوركن عند سماعكن: “من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط” (1 كو 10: 12)؟
وسط هذه الإنذارات الإلهية والمخاطر البشرية، هل نجد الأمر صعبًا أن نحث العذارى القديسات على التواضع؟[303]
v لا يليق بإنسانٍ ما أن يشعر بالضمان في هذه الحياة، التي في كليتها تُدعى تجربة (أي 1:7). فإن ذاك الذي استطاع أن يبلغ إلى حالٍ أفضل مما كان عليه من السوء، ليته لا يتحول مما هو أفضل إلى ما هو أسوأ. رجاؤنا الوحيد، وثقتنا الوحيدة ووعدنا الأكيد الوحيد هو مراحمك[304].
v إني أقول: آه! يا ليت لي جناحين مثل حمامة، فأطير بعيدًا وأكون في راحة!
إذن لأتجول بعيدًا وأبقى في البرية.
بل وحتى في البرية ربما سأمارس ذات الخبرة، إذ قيل: “انتظرت ذاك الذي يخلصني من الضعف ومن العاصفة” (مز 5:558 LXX).
حقًا، حياة الإنسان على الأرض هي حياة تجربة[305].
v ليس أحد يتأكد من الحياة الأبدية هذه التي يعد بها الله غير الكاذب أبناء الوعد قبل أزمنة الأبدية. ليس أحد يتأكد ما لم يكمل حياته التي هي حالة من التجربة على الأرض (أي 7: 1). فإن الله يحثنا على المثابرة فيها حتى نهاية هذه الحياة، إذ نقول له كل يوم: “لا تدخلنا في تجربة” (مت 6: 13)[306].
v لا يوجد إنسان يمكن أن يقول عنه البشر بتأكيدٍ كاملٍ أنه بار حتى يرحل من هذا العالم. فإنه في حياته التي هي تجربة على الأرض يلزم لمن كان قائمًا أن يحذر ألا يسقط (1 كو 10: 12)[307].
v هناك سنكون مثله، نراه كما هو (1 يو 3: 1). أما الآن، مادام الجسد الفاسد يضغط على النفس (حك 9: 15)، والحياة البشرية على الأرض كلها تجربة (أي 7: 1)، فإن في نظره ليس من إنسان حي يتبرر (مز 143: 2)[308].
v لقد ظهر بما فيه الكفاية أنه في هذه الحياة، التي هي بكليتها تجربة، يليق ألا يفتخر أحد كما لو كان قد تحرر من كل الخطايا[309].
v من سوى المتكبر، يظن أنه قادر أن يعيش هكذا دون حاجة أن يقول لله: “اغفر لنا ما علينا”؟ مثل هذا الشخص ليس بالإنسان العظيم، بل المنتفخ بالباطل، ومقاوم لله الذي يعطي بفيض نعمة للمتواضعين (يع 4: 6، 1 بط 5: 5)[310].
القديس أغسطينوس
v “أليست أيامه مثل أيام أجير؟”… هكذا أيام الإنسان إذ تتشرب بمعرفة الحق والأبديات تقارن بأيام الأجير، إذ يحسب الحياة الحاضرة طريقه وليست مدينته، هي نضال وليست سعف النصرة. إذ يرى أنه بعيد عن مكافأته، ينسحب بالأكثر ببطء ليقترب من غايته…
الآن قيل بصوت المخلص: “مملكتي ليست من هذا العالم” (يو 18: 36). إذن كلنا نحن الذين وهبنا الرجاء في السماء نرتدي متاعب الحياة الحاضرة، وننشغل بالاهتمام بالغير. إذ غالبًا ما يحدث أننا حتى إن أُكرهنا على خدمة أبناء الهلاك نلزم أنفسنا أن نرد للعالم ما هو له، ونهتم بما للغير لننال المكافأة التي لنا. هكذا ننشغل بأمور الآخرين بأمانة حتى نبلغ إلى مكافأتنا. على عكس هذا يقول الحق للبعض: “إن كنتم لستم أمناء فيما هو للغير، فمن يأتمنكم على ما هو لكم؟” (لو 16: 12).
هكذا يقول مواطنو الأرض العليا لخالقهم كلمات المرتل: “من أجلك نُمات كل النهار” (مز 44: 22). ويقول بولس: “أموت كل يوم يا إخوة لمجدكم” (راجع 1 كو 15: 31)؛ وأيضًا: “لهذا السبب احتمل هذه الأمور أيضا لكنني أخجل، لأنني عالم وموقن أنه قادر أن يحفظ ما التزم به لأجله إلى ذاك اليوم” (2 تي 1: 12)…
v يليق بنا أن نلاحظ أنه لم يُقل أن حياة الإنسان تلحقها تجربة، بل وُصفت أنها هي ذاتها صارت تجربة. فإنه إذ كان (للإنسان) حرية الإرادة انحرف عن الشكل المستقيم الذي خُلق به وصار خاضعًا إلى حالة الفساد الدنيئة. بينما أنجبت حياة الإنسان من ذاتها الأذى لذاتها، صارت هي نفسها ذات الأمر الذي انحدرت إليه… لقد صارت حياة الإنسان بطريقة ما هي “تجربة“. فإننا حتى إن كبحنا أنفسنا لكي لا نخطئ، فإننا ونحن نمارس الأعمال الصالحة يغشانا تذكر الأعمال الشريرة بضباب النفس.
البابا غريغوريوس (الكبير)
يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) أمثلة كثيرة كيف صارت حياة الإنسان حتى في جهاده الروحي “تجربة” يعاني منها.
على سبيل المثال يذكر أن الإنسان وهو يجاهد أن يمتنع عن الحياة المترفة المُبالغ فيها، فإن امتناعه هذا أو نسكه يمكن أن يصير تجربة له. فبالنسك يصير وجهه شاحبًا، وإذ يلاحظ الآخرون وجهه الشاحب يحسبونه مستحقًا للكرامة فيمدحونه، وخلال مديحهم له يتسرب المجد الباطل إلى ذهن الناسك.
يقدم لنا مثلاً آخر: قد يوهب لإنسان معرفة الناموس الإلهي، فيبتهج بأنه نال فهمًا أكثر من غيره، فيرتفع ببهجة تحمل أنانية، وبتشامخه يفسد عطية الفهم التي نالها. ففي يوم الدينونة يكون حاله أسوأ من غيره بذات الأمر الذي بدا فيه أكثر من غيره بهاء في هذه الحياة.
هكذا يقدم أمثلة كثيرة لفضائل متنوعة تتحول إلى تدميره بسبب فساد طبيعته، فيصير ما هو للبنيان هو عينه لهلاكه، لأن حياته “تجربة“.
يتساءل القديس أغسطينوس أنه إذ قيل في سفر أيوب “أليست حياة الإنسان على الأرض تجربة؟ (أي 1:7 LXX) فلماذا نصلي: ” لا تدخلنا في تجربة؟“
يجيب بأنه يلزم أن نميز بين نوعين من التجارب، النوع الأول الذي فيه حث على الخطية، عن هذا قيل: “لا يقل أحد إذا جُرب أني أجرب من قبل الله” (يع 13:1)، وتوجد تجربة للتذكية هذه التي قيل عنها: “لأن الرب إلهكم يمتحنكم (يجربكم)، لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم” (تث 3:13). الله يعلم ما في القلب، إنما يعني هنا “إننا نحن نعلم” ما في قلوبنا”[311].
v هذا أنا أعرفه أن حياة الإنسان على الأرض تجربة (أي 1:7)، وأنه يوجد نير ثقيل على أبناء آدم (ابن سيراخ 1:40). لكن ما يسرني بالأكثر هو أن أناقش السؤال الخاص بهذا البناء، إذ نقول إننا نزلاء أو غرباء على الأرض، إذ وجدنا مدينتنا العليا، حيث ننال هنا العربون، وعندما نبلغها لن نفارقها[312].
القديس أغسطينوس
كَمَا يَتَشَوَّقُ الْعَبْدُ إِلَى الظِّلِّ،
وَكَمَا يَتَرَجَّى الأَجِيرُ أُجْرَتَهُ[2].
يشتاق العبد الذي يكد في حر النهار إلى الظل، هكذا يشتاق أيوب إلى الخروج من نهار هذا العالم بالموت ليستظل في القبر.
يشير طول الظل إلي نهاية اليوم بأتعابه، حيث يكون العامل مشتاقًا أن ينهي يومه. في الهند كان يُقاس الزمن حسب طول ظل الشخص. إذ سأل إنسان عن طول يوم عمله يُسال أن يقف في مكان به شمس ويُقاس طول ظله فيخبرونه عن الزمن. فمن يرغب في ترك عمله غالبًا ما يقول كم هو طول ظلي القادم؟[313]
v “أنقذني من أعدائي يا رب، إليك التجأت” (مز 9:143). أنا الذي هربت منك مرة، الآن أهرب إليك. فقد هرب آدم من وجه الله، واختفى بين أشجار الفردوس، فقيل عنه في سفر أيوب: “كعبدٍ يهرب من سيده، ويجد ظلاً” (أي 2:7 LXX). لقد هرب من وجه سيده ووجد ظلاً. الويل له إن استمر في الظل، لئلا يُقال بعد ذلك: “كل الأمور تعبر كظلٍ” (الحكمة 9:5)[314].
القديس أغسطينوس
v “مثل عبد يشتاق بشغفٍ نحو الظل، وأجيرٍ يتطلع إلى نهاية عمله، هكذا أنا أقتني أشهر الباطل، وأحصي الليالي المتعبة…” يركض بولس لاهثا ليمسك بهذا الظل، مشتاقًا أن ينطلق ويكون مع المسيح (في 1: 13). هذا الظل يقتنيه بالفعل القائلون بكل شهوة قلوبهم: “نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر” (مت 20: 12)… هذا هو السبب الذي لأجله يرتفع بولس على الدوام بجسارة في مواجهة النكبات، فإنه “كالأجير الذي يتطلع إلى نهاية عمله”… إذ يعلن أنه تثقل فوق الطاقة، قائلاً: “إننا تثقلنا جدًا فوق الطاقة حتى أيسنا من الحياة” (2 كو 1: 8). لكن كيف مسح من نفسه مجاري هذا التعب الشديد بمنشفة مكافأته، يخبرنا بنفسه عن هذا قائلاً: “فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا” (رو 8: 18) هكذا كأجير يتطلع إلى نهاية عمله، مهتمًا أن يزيد من المكافأة.
البابا غريغوريوس (الكبير)
هَكَذَا تَعَيَّنَ لِي أَشْهُرُ سُوءٍ،
وَلَيَالِي شَقَاءٍ قُسِمَتْ لِي [3].
حسب أيوب وسط معاناته أنه قد ضاع كل عمره بلا نفع، فظن أن كل أشهر حياته سوءً، ولياليه شقاء. بعد المنحة لم يكن قادرًا في مرضه أن يعمل فنسي كل ما سبق فعمله في أيامه صحته ورخائه، أما الله فلن ينساها. شعر أن وجوده على الأرض يمثل عبئًا على الجماعة، فهو بلا عمل، ولم يدرك كيف يعتز به خالق السماء والأرض، وبه يتبارك الكثيرون.
يشتاق المؤمن إلى الراحة الأبدية كظلٍ يلتجئ إليه بعد معاناته من حرارة شمس التجارب والضيقات في هذا العالم. وهو في هذا يدرك أن حياته رحلة قصيرة لا تبلغ السنة أو السنوات لكنها شهور محصية، شهور باطلة وليالٍ قاسية، ليالي شدة وتعب. إنها حياة عابرة، لكن إلى أبدية مجيدة. كلما أدركنا قصر الزمن عبرنا متهللين إلى الأبدية غير مبالين بثقل الحياة ومتاعبها.
يحسب حياتنا شهور سوء أو شهورًا باطلة، وليالي سوء أو شتاء وتعب، وهي محصية ومحددة “قسمت لنا“. يذكر الشهور التي تضم الأيام كما لا ينسى الليالي، فالمؤمن يهتم بخلاصه ككلٍ، أو حياته كوحدةٍ واحدة، كما يهتم بكل ليلة وحدها. يهتم بكل صغيرة وكبيرة في تصرفاته، كما بالحياة في مجملها.
إِذَا اضْطَجَعْتُ أَقُولُ مَتَى أَقُوم.
اللَّيْلُ يَطُولُ، وَأَشْبَعُ قَلَقًا حَتَّى الصُّبْحِ [4].
صارت لياليه طويلة للغاية، لأن النوم لم يجد له فيه مكانًا، فبالكاد تعبر الدقائق، وفى نفس الوقت لا يترقب نهارًا يجد فيه راحة.
ليس المكان ولا الزمان يهبان راحة حقيقية للإنسان، إنما سلام القلب الداخلي، فمن يهرب من الآلام بالنوم ليلاً، يجد في نومه قلقًا وأهوالاً ربما أشد مما يعانيه في نهاره.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في هذه العبارات صرخات الكنيسة المقدسة مادامت في هذه الحياة المملوءة فسادًا، فتولول غير مقتنعة بما هي عليه من عدم استقرار. تود أن تصعد بالتأمل الدائم في الله لتستقر فيه، وأن تتحصن به لتخدم خالقها بحبٍ، ولا يقدر الفساد أن يقترب إليها ويلمسها. أفسدت الخطية حياة الإنسان وحرمته من الاستقرار، فصار في صراعٍ دائمٍ إن استراح كما بالليل يطلب أن يعمل، وإن عمل يطلب أن يستريح. إذ أفقدته الخطية اقتناء الله لم يعد فكره يجد راحة. راحته الحقيقية هي في الله ينبوع الراحة.
وللبابا غريغوريوس تفسير آخر، وهو أن النوم هنا يشير إلى السقوط في الخطية التي تجلب للإنسان الفساد.
v هذا أيضًا يمكن أن يُفهم بمعنى آخر. فإن النوم هو الانبطاح في الخطية. لو أن النوم ليس رمزًا للخطية ما كان يمكن لبولس أن يقول لتلاميذه: “اصحوا للبرّ ولا تخـطئوا” (1 كو 15: 34). ولذات السبب يعهد بسامعه الآتي: “استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات، فيضيء لك المسيح “(أف 5: 14). وأيضًا: “إنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم” (رو 13: 11).
بموافقتنا للممارسات الشريرة نهلك بالفساد، وأما بالسماح لصور الأعمال الشريرة أن تقوم في القلب، نتدنس بوصمات التراب، لذا يقول: “جسدي يلتحف بقذارة التراب”.
البابا غريغوريوس (الكبير)
لَبِسَ لَحْمِيَ الدُّودُ مَعَ الطِّينِ.
جِلْدِي تَشَقَّقَ وَتَقَيَّحَ [5].
قروحه ولَّدت دودًا ملأ جسمه، فصار الدود حول جسمه في جروحه أشبه برداء يلبسه، ولا يقدر الخلاص منه. وقشور القروح صارت مثل أكداس التراب، أما جلده فتقلص وتمزق. هكذا من يقدر أن يصف منظر أيوب الذي صار أشبه بكومة تراب مشحونة بالدود، رائحتها كريهة للغاية، دبَّ الفساد فيها، من ينظر إليه يشمئز تمامًا.
v كانت قروح جسمه تعد له إكليل السماء[315].
القديس جيروم
أَيَّامِي أَسْرَعُ مِنَ الْمَكُّوكِ،
وَتَنْتَهِي بِغَيْرِ رَجَاءٍ [6].
إن كان أيوب يشتهى سرعة الموت، فلأن حاله يكشف عن ذلك. اعتقدَ أن ما هو عليه يسرع به إلى نهاية حياته على الأرض، لم يبقَ له سوى أيام قليلة، فبالطبيعة لا يقدر جسمه على مقاومة هذا المرض. حياته تنتهي بلا رجاء في العودة إلى حال رخائه الأول.
- الموت يضع حدًا للشقاء الحاضر
اُذْكُرْ أَنَّ حَيَاتِي إِنَّمَا هِيَ رِيحٌ،
وَعَيْنِي لاَ تَعُودُ تَرَى خَيْرًا [7].
ربما لاحظ أيوب أن أصدقاءه وإن كانوا لم يقاطعوه في كلامه، لكنهم لم يعودوا يحتملون التطلع إليه في منظره البشع، ولا أن يسمعوا صوته، لذا تحول من الحديث معهم إلى الحديث مع الله، فهو وحده طويل الأناة، يصغي إلى القلوب المجروحة، ولا يستنكف من الأجسام المريضة مهما تشوهت صورتها. لقد صرخ نحو الله قائلاً: “أذكر أن حياتي إنما هي ريح“. هكذا أراد أيوب أن يجلب حنو الله وعطفه بكونه مخلوقًا ضعيفًا للغاية، تعبر حياته سريعًا دون توقف كما تعبر الريح. وكما يقول المرتل: “أذكر أنهم بشر، ريح تذهب ولا تعود” (مز 78: 38-39).
هكذا كان أيوب يضع نصب عينيه حقيقة واضحة عن قِصَرْ الحياة، وعن يقينه بموته وعدم الإفلات منه. هذه الحقيقة تجعلنا لا نضع رجاءنا في العالم، ولا نرتبط بالأمور المنظورة، ولا تسيطر علينا الأمور الحسية. فسعادتنا هنا تقوم على إدراكنا أننا غرباء يلزمنا أن نسلك بأمانة، وبروح متهلل حتى نعبر إلى مسكننا الدائم.
v عين الميت لا تعود ترى خيرًا، إذ لا تعود تمارس النفس الأعمال الصالحة ما أن تجردت من الجسد. لهذا السبب فإن الغني الذي كان يهلك في نار جهنم عرف أنه لا يقدر أن يُصلح من أمره بأعمال صالحة، فإنه لا يعود ثانية لممارسة ما هو لخيره، إنما طلب لإخوته الذين تركهم: “أسألك إذا يا أبتِ إبراهيم أن ترسله إلى بيت أبي، لأن لي خمسة إخوة، حتى يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هنا” (لو 16: 27-28).
البابا غريغوريوس (الكبير)
لاَ تَرَانِي عَيْنُ نَاظِرِي.
عَيْنَاكَ عَلَيَّ وَلَسْتُ أَنَا! [8]
لاحظ أيوب أن أصدقاءه قد أحاطوا به وجلسوا حوله سبعة أيام لا ينطقون، لكن وهم ناظرون إليه كانوا كمن هم عميان لا يرون أيوب في حقيقته، أما عينا الله فتنظران إليه وسط محنته حتى وإن بدأ بسبب شدة الكوارث كمن هو غير موجود، أو كمن فقد حياته وكيانه!
يحتاج الإنسان إلى نظرات الرب إليه، فهو وحده ينظر إلى القلب، وقادر على تعزيته، بل وتجديده. حينما تطلع ربنا يسوع وسط محاكمته إلى سمعان بطرس لم يحتمل عيني السيد، فخرج خارجًا يبكي بكاء مرًا حتى يلتقي به ثانية بعد قيامته فيقيمه من قبر جحوده، ويرده إلى عمله الرعوي!
لقد أدرك ايوب المجٌَرب أنه ليس من طريق للشكوى فيما حلٌَ به بسماح من الله إلا أن يرفعها لله نفسه.
سيعبر الزمن سريعًا ولا يرانا من ينظروننا الآن، “نذهب فلا نوجد” (مز 39: 13)، نترك ما هو منظور لنتمتع بغير المنظورات.
بقوله “عيناك عليّ ولست أنا” يكشف البار أيوب أنه يثق في رعاية الله وعنايته به، وإنه سيرسله إلى الأبدية ليتمتع بها، لا عن فضل من جانب أيوب. لهذا يقول: “لست أنا“، فمن جهتي أموت لكن من يقيمني سواك؟ ومن يدخل بي إلى المجد إلا أنت؟
v “لا تراني عين إنسان” [8]. لأن “عين الإنسان” هو حنو المخلص، الذي يلين قسوة جفافنا عندما يتطلع إلينا. هكذا يشهد الإنجيل، قائلاً: “فالتفت الرب ونظر إلى بطرس، فتذكر بطرس كلام الرب… فخرج بطرس إلى خارج وبكى بكاء مرا” (لو 22: 61-62). لكن إذ تتجرد النفس من الجسد، لا تعود بعد تلتفت “عين الإنسان”، إذ لن تخَّلص إنسانًا بعد موته، إن كانت النعمة لم تهبه المغفرة قبل موته. لهذا يقول بولس: “هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص” (2 كو 6: 2). هكذا يقول المرتل: “لأن رحمته لحال الكائن الحالي” (راجع مز 118: 1).
فمن لا تنقذه الرحمة الآن في الحال الحاضر، تسلمه العدالة وحدها للعقوبة. يقول سليمان: “وإذا وقعت الشجرة نحو الجنوب أو نحو الشمال، ففي الموضع حيث تقع الشجرة هناك تكون” (جا 11: 3). ففي لحظة سقوط الكائن البشري، يتقبل الروح القدس أو الروح الشرير النفس الراحلة من حجرات الجسد، فيحتفظ الروح بها إلى الأبد دون تغير.
فإن كانت قد تمجدت لا تطرح في الويلات، ولا إن انطرحت في الويلات الأبدية تعود فتقوم لتجد وسيلة للهروب…
بعد الحياة الحاضرة لا يعود الإنسان بعد “يرى بعين إنسان“، لذا يضيف في الحال: “عيناك علي، وأنا لست واقفًا!” وكأنه يقول بكلمات واضحة: عندما تأتي في صرامة للدينونة لا ترى لكي تخلص، بل ترى لكي تعاقب. فالشخص الذي لم تلتفت إليه في الوقت الحاضر بعنايتك المخلصة المترفقة تتطلع إليه فيما بعد بناموس العدل.
البابا غريغوريوس (الكبير)
السَّحَابُ يَضْمَحِلُّ وَيَزُولُ.
هَكَذَا الَّذِي يَنْزِلُ إِلَى الْهَاوِيَةِ لاَ يَصْعَدُ [9].
في حديثه مع الله يعترف أيوب أنه ذاهب إلى مقره الأخير بلا عودة إلى هذا العالم، حياته هنا على الأرض أشبه بسحاب يتحرك ويضمحل بلا عودة.
v إذا قيل: “ليس الأموات يسبحونك يا رب” (مز 115: 17). فهذا يُظهر أن هذه الحياة فقط هي الوقت المعين للندم والمغفرة. “والذي يهبط إلى الهاوية ولا يصعد” [9]، فالذين يسرون بهذه الحياة هم الذين سيُسبحون الله. أما الذين ماتوا في الخطايا، فلا يبقى لهم وقت أن يسبحوا بعد الموت كالمتمتعين بالبركات. إنما ينوحون على أنفسهم، لأن التسبيح لمن يشكر، والنحيب لمن هو تحت العقاب. لذلك يقوم الأتقياء بالتسبيح، أما الذين ماتوا في الخطايا فليس لهم وقت للاعتراف (الحمد) بعد ذلك[316].
v بخصوص العبارة: “هكذا الذي ينزل إلى القبر ولا يصعد” (أي 7: 9). لاحظ ما جاء بعد ذلك “لا يرجع بعد إلى بيته“، ولما كان العالم كله سينتهي، وكل بيت سيخرب، كيف يرجع ثانية إلى بيته عندما تكون أرض جديدة مغايرة؟ لكن كان يجب أن يسمعوا أيوب يقول: “لأن للشجرة رجاء، إن قطعت تُخلف أيضًا ولا تعدم خراعيبها. ولو قدم في الأرض أصلها ومات في التراب جذعها، فمن رائحة الماء تفرخ، وتنبت فروعًا كالغرس. أما الرجل فيموت ويبلى. الإنسان يسلم الروح، فأين هو؟ إنه يتكلم بعتاب ولوم! يقول إذا كانت الشجرة تقع ثم تحيا ثانية، ألا يحيا الإنسان مرة ثانية الذي من أجله وُجد الشجر كله؟ ولكي لا تتصور أنه ختم الكلمات اقرأ ما يتبع ذلك: “ويقول إن مات رجل فيحيا” (أي 14:14) ، وحالاً يضيف: “سأنتظر إلى أن أقوم”. وفي موضع آخر: “بعد أن يفنى جلدي هذا وبدون جسدي أرى الله” (أي 26:19). وفي إشعياء: “تحيا أمواتك، تقوم الجثث” (أش 16:26). وفي حزقيال: “ها أنذا افتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم” (حز 37: 12). وفي دانيال: “وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار والازدراء الأبدي” (دا 2:12)[317].
القديس كيرلس الأورشليمي
v أنه كمن يقول بوضوح إن من يطير إلي العلا (كالسحاب) يضمحل، إذ يفتخر بذاته، مندفعًا إلى الدمار.
v بحق تُشبه قلوب اليائسين بالسحاب، إذ تصير مظلمة بضباب الخطأ، وكثيفة بالعديد من الخطايا، ولكن إذ تضمحل تزول، حيث يشرق عليها لهيب الدينونة الأخيرة فتتبدد بالرياح.
البابا غريغوريوس (الكبير)
لاَ يَرْجِعُ بَعْدُ إِلَى بَيْتِهِ،
وَلاَ يَعْرِفُهُ مَكَانُهُ بَعْدُ [10].
يعلم أيوب تمامًا أن بموته لا يعود بعد إلى بيته في هذا العالم، لا يعود يمتلك شيئًا، ولا يتمتع بعد بالأرضيات، ولا يمارس أعماله الزمنية. إنه يترك كل شيءٍ لمن يأتي بعده ويحتل موضعه.
“ولا يعرفه مكانه بعد“: ليس فقط لا يعود أيوب بعد موته إلى موضعه، وإنما الموضع ومن يسكنون فيه لا يعرفون أين هو أيوب، إذ تنقطع الصلة تمامًا بين أيوب ومن يسكن في موضعه.
v ما أن يُسلم إنسان إلى العقوبات الأبدية لا يُستدعى مرة أخرى من هناك، حيث يمكن أن يربط ذاته بالحب…
البابا غريغوريوس (الكبير)
عندما شفي السيد المسيح الرجل المجنون، “قال له: اذهب إلى بيتك” (مر 5: 19)، أي يرجع إلى أعماقه، فيحرص ألا يخطئ مرة أخرى، أما بعد الموت فلا يستطيع أن يرجع إنسان إلى بيته ليُصلح من أعماقه فلا يخطئ.
v خُلق الإنسان ليتأمل خالقه، فيبقى دومًا يطلب أن يكون على مثاله، ويقطن في بهجة حبه. أما إذا طُرد خارجًا عن ذاته بالعصيان، يفقد أساس ذهنه. إذ يُترك خارجًا في الطرق المظلمة يجول بعيدًا عن مسكن النور الحقيقي.
v “ولا يعرفه مكانه بعد“، فإن مكان الإنسان – ليس المكان المحلي – فقد صار الخالق نفسه، الذي خلقه لكي يكون فيه، كمكانٍ للإنسان. لكنه ترك المكان عندما أنصت لكلمات المخادع، متخليًا عن محبة الخالق… لكن يوجد كثيرون جدًا بعدما نالوا عون المخلص، انحدروا في ظلام اليأس وهلكوا مرة أخرى في يأسٍ شديدٍ، إذ يستخفون بأدوية الرحمة المقدمة لهم. وبحق قيل عمن يُحكم عليه بالهلاك الأبدي: “ولا يعرفه مكانه بعد“. يلاحظ على وجه الخصوص أنه لا يقول: “ولا يعرف مكانه بعد”، بل يقول: “ولا يعرفه مكانه بعد”. فان كلمة “يعرف” لا تنسب للشخص بل للمكان، هذا الذي في حزم يقول للقاطنين في الشر في النهاية: “لا أعرفكم من أين أنتم” (لو 13: 25).
البابا غريغوريوس (الكبير)
- وصف لحالته التعيسة
أَنَا أَيْضًا لاَ أَمْنَعُ فَمِي.
أَتَكَلَّمُ بِضِيقِ رُوحِي.
أَشْكُو بِمَرَارَةِ نَفْسِي [11].
عندما أدرك داود النبي بطلان الحياة الزمنية قال: “صمت. لا أفتح فمي” (مز 39: 3)، أما أيوب فإذ عرف ذات الحقيقة لم يتوقف عن الكلام، بل أعلن عن شكواه بمرارة لكي يقدم وصيته الأخيرة لأصدقائه ومن هم حوله.
يليق بنا في الأنفاس الأخيرة أن نعترف بخطايانا كما نسبح ونشكر الله، لننطلق في سلام الله عوض الشكوى والتذمر.
v “أنا أيضا لا أمنع فمي” فإن الإنسان الذي يخجل من أن يعترف بالشر الذي فعله “يمنع فمه”… لذا يقول المرتل: “لتأتي إلى حضرته بالاعتراف” (مز 95: 2). تسلمنا من سليمان: “من يكتم خطاياه لا ينجح، ومن يقر بها ويتركها يُرحم” (أم 28: 13). كما كُتب أيضًا: “الإنسان البار هو الأول في اتهام نفسه” (راجع أم 18: 17).
v “سأتكلم بضيق روحي“، لأن “ضيق الروح” يهيئ اللسان للكلام، فيكون صوت الاعتراف ضد ارتكاب الشر. فإنه يليق أن نضع في ذهننا أن الفاسدين غالبًا ما يعترفون بالخطايا، لكنهم يفتخرون بها جدًا، ولا يبكون عليها. أما المختارون فيعَّبرون عن إدانتهم المرة لأنفسهم بالدموع، هذه التي تكشف كلمات الاعتراف. لهذا حسنًا بعد أن تعهد الطوباوي أيوب ألا يمنع شفتيه أضاف للحال ضيق الروح.
“إني أتحدث بمرارة نفسي (روحي)“… مرارة الروح لها لسانها الخاص في قلب البار، فينطق بأكثر دقة ويسمع إليه أكثر (من اللسان الجسماني). لذلك لم يقل: “أتكلم في مرارة روحي” بل قال: “سأتحدث (أحاور) بالمرارة“، حيث أن قوة الحزن تأخذ كل خطية على حدة وتثير الذهن المخدر للنواح.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v حين تنشغل بخطيةٍ ما كن متهمًا لنفسك ( أم 18: 17)، ولا تنتظر الآخرين ليقدموا الاتهام. بهذا تصير أشبه بإنسانٍ بارٍ يتهم نفسه في أول حديث له في المحكمة، أو تكون كأيوب الذي لم يعقه جمهور الشعب في المدينة من الإعلان عن جريمته أمام الكل”[318].
القديس باسيليوس الكبير
v ينصت الآب إليك وأنت تتكلم في داخل نفسك، ويسرع لمقابلتك. عندما تكون لا تزال بعيدًا يراك ويركض.
إنه ينظر ما في داخل قلبك، ويُسرع حتى لا يؤخرك أحد، بل ويحتضنك.
“مقابلته لك” هي سبق معرفته، و”احتضانه لك” هو إعلان رحمته، وتعبير عن حبه الأبوي.
يقع على عنقك لكي يقيمك أنت الساقط تحت ثقل الخطايا، ولكي يرجعك إلى السماء إذ اتجهت إلى الأرض، فتطلب خالقك.
يقع المسيح على عنقك، لكي يخلص عنقك من نير العبوديَّة، فيحملك نيره الهين (مت 11: 30)…
يقع على عنقك بقوله: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم” (مت 11: 28).
هكذا يحتضنك الرب عندما تتوب[319].
القدِّيس أمبروسيوس
أَبَحْرٌ أَنَا، أَمْ تِنِّينٌ حَتَّى جَعَلْتَ عَلَيَّ حَارِسًا؟ [12]
تطلع داود المرتل إلى الله وهو يفكر في عبوره من العالم، فصمت بفمه لكي يسبح قلبه الله، ويتأمل فيما أعده الله له من أمجاد، أما أيوب فتطلع إلى نفسه وفكر في آلامه، فصار في ثورةٍ عارمةٍ، وقد أعطى لنفسه عذرًا بقوله: “أبحر أنا أم تنين؟” [12]. هل أنا بحر هائج بلا توقف يحتاج إلى أن يلتزم بحدوده؟ أو تنين يلزم كبح جماحه حتى لا يلتهم كل سمك البحر.
v لست في قوةٍ تماثل البحر، فقد جعلته عظيمًا بين المخلوقات، وبسببه وضعت رمالاً حوله كحارسٍ له، الذي بأمرك يضع البحر في حدوده ويكسر سلطانه…
وليس لي خبث التنين، فقد أقمت عداوة بينه وبين الإنسان.
لقد أشرت إليه أن يحفظ نفسه بعيدًا عن الإنسان كعدوٍ له، مقدمًا له تحذيرًا في هذا الشأن: “أضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. إنه يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه” (تك 3: 16).
على أي الأحوال: “جعلت عليَّ حارسًا” بمعنى أنك أقمت حارسًا حاقدًا عليَّ، الخائن، الذي يلاحظ كل تصرفاتي وكل كلماتي. إنه يفحص حتى أفكاري ويخونني في كل ما أفعله.
علاوة على هذا يضع لي في شكل اتهام أمرًا لم يكن في اعتباري. لم احفظ وصيتك لكي ما أنال السعادة الزائلة، بل أحب الله من أجل الحياة العتيدة، كعبدٍ أمينٍ (مت 24: 25؛ 25: 21، 23). لقد جعله العدو كحارسٍ لدي، تحت حراسته كان مربوطًا وموثقًا في حالة بائسة وبتجارب قاسية للغاية. وأنت مددت يد معونتك إليه، وليس إليَّ، لذلك حلت التجارب بي.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
إِنْ قُلْتُ: فِرَاشِي يُعَزِّينِي،
مَضْجَعِي يَنْزِعُ كُرْبَتِي [13].
كان يرجو كما اعتاد كثير من البشر أن يجد في النوم هروبًا مما يحل به، فيترقب مجيء الليل لعله ينعس ولو إلى حين.
v في الكتاب المقدس عادة ما تُستخدم الكلمات: “سرير” أو “مضطجع” أو “المهد” الذي من القش الذي ترقد عليه الحيوانات لتشير إلى أسرار أعماق القلب. لهذا فإن كل نفس منفردة إذ يطعنها العريس برماح الحب المقدس تقول في نشيد الأناشيد: “في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي” (نش 3: 1)…
هكذا يقول الحق لمحبيه أنفسهم: “ملكوت الله داخلكم” (لو 17: 21) مرة أخرى: “إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي” (يو 16: 7) وكأنه يقول بوضوح: “إن لم أسحب جسدي من انتباهكم المركز عليه لن أقودكم بالمعزي الروح، وتدركون غير المنظور. لذلك قيل بالمرتل عن الأبرار: “ليبتهج الأتقياء بمجدٍ، ليرنموا على مضاجعهم” (مز 149: 5)، حيث أنهم إذ يهربون من الأذى للأمور الخارجية، يتمجدون في سلامٍ داخل أعماق قلوبهم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v يشبه ذلك الملائكة الذين لا ينامون لأنهم دائمًا قائمون على الحراسة. لذلك فإنك تقول الصدق وهكذا تقلد الملائكة التي لا تنام والتي لا تهرب من مواجهة الحق بواسطة خيالات غير واقعية[320].
v ينام الإنسان بعد ما يدخل في غيبة، وفي أثناء النوم يتم هضم الطعام وتُحفظ صحة من يشاركون في مائدة الاحتفال. لذلك تنام العروس بعد الاحتفال. ويُعتبر هذا النوم غير مألوفٍ، ويختلف عن النوم العادي الذي لا يكون الشخص فيه غير واعٍ بما حوله. وكلاهما يضادان بعضهما البعض، لأن النوم والاستيقاظ يتلو أحدهما الآخر. ونرى في العروس خليط من التعارض المميّز: تقول “أنا نائمة، وقلبي مستيقظ” (نش 2:5) ماذا نفهم من هذه الآية؟ يشبه هذا النوم الموت، وفيه تتوقف كل وظائف الإحساس: فلا توجد رؤية أو سمع أو شم أو تذوق أو إحساس باللمس ولكن ينخفض ضغط الدم. وينسى الشخص القلق أثناء النوم، ويهدأ انفعال الخوف، ويقلل الغضب وينخفض القلق من التجارب المريرة، ويجعل الشخص غير واعٍ بالشرور. لذلك نتعلم من العروس أنها ارتفعت وتفخر قائلة: “أنا نائمة، وقلبي مستيقظ”[321].
القدِّيس غريغوريوس النيسي
v اِطرح عنك نوم الغفلة لتقرع باب المسيح. لقد طلب بولس إن يُفتح له هذا الباب ليتكلَّم عن سِرّ المسيح (كو 3: 4)، ربَّما هذا هو الباب الذي رآه يوحنا مفتوحًا: “بعد هذا نظرت، وإذا باب مفتوح في السماء، والصوت الأول الذي سمعته كبوق يتكلَّم معي قائلاً: اِصعد إلى هنا، فأُريك ما لابد إن يصير بعد هذا” (رؤ 4: 1) فُتح الباب ليوحنا وأيضًا لبولس لينالا من أجلنا أرغفة لغذائنا، لأنهما ثابَرَا وقرعا الباب في وقت مناسب ووقت غير مناسب (2 تي 4: 2)، ليُعيد الحياة للأمم الذين تعِبوا وأُرهَقوا من طريق العالم بوفرة الغذاء السماوي[322].
القدِّيس أمبروسيوس
تُرِيعُنِي بِالأَحْلاَمِ،
وَتُرْهِبُنِي بِرُؤًى [14].
لم يستطع الليل أن يهرب به من التعب، ولا النوم أن يسحبه من الضيق، بل صارت الأحلام ترعبه والرؤى ترهبه. صار الليل مزعجًا ليس بأقل من النهار.
إننا محتاجون إلى يد الله القوية، هذا الذي وحده يقدر أن يحفظنا، ها حارسنا الذي لا ينعس ولا ينام.
v ماذا نفهم هنا عن الأحلام والرؤى سوى تصورات عن الفحص الأخير في الدينونة…
لولا أن الأحلام غالبًا ما تحمل صورًا مخادعه تصدر عن عدونا الخفي ما كان الحكيم يشير إليها بقوله: “لأن الأحلام والتصورات الباطلة تخدع الكثيرين” (ابن سيراخ 34: 7).
البابا غريغوريوس (الكبير)
فَاخْتَارَتْ نَفْسِي الْخَنْقَ،
وَالْمَوْتَ عَلَى عِظَامِي هَذِهِ [15].
لم يبالِ بأي نوع يموت، إنما ما يشغله أن يسمح الله له بالموت. إنه لا يطلب الخلاص من الضيقة، بل من الحياة الزمنية ككلٍ.
قَدْ ذُبْتُ. لاَ إِلَى الأَبَدِ أَحْيَا.
كُفَّ عَنِّي، لأَنَّ أَيَّامِي نَفْخَةٌ! [16]
بجانب الكوارث التي حلت بالطوباوي أيوب سواء بخصوص ممتلكاته وموت بنيه ومقاومة زوجته له يضيف القديس يوحنا الذهبي الفم الأمور التالية التي جعلت من التجربة مرارة فائقة:
[أولاً: عدم معرفته الأكيدة عن ملكوت السماوات والقيامة، الأمر الذي بالحق تحدث عنه حزينًا: “لا إلى الأبد أحيا، فيلزمني أن أحتمل الكثير” (أي 16:7LXX ).
ثانيًا: شعوره بأنه مارس أعمالاً صالحة كثيرة.
ثالثًا: شعوره بأنه لم يمارس شرًا.
رابعًا: افتراضه أن ما حلٌ به من يدي الله، فلو أنها من يدي الشيطان لكان في هذا يخفف من مضايقته.
خامسًا: سماعه من أصدقائه الذين يتهمونه بالشر، قائلين: “الله يغرمك بأقل من إثمك” (أي 6:11).
سادسًا: يرى الذين يعيشون في الشر في رخاء، وينتفخون عليه.
سابعًا: ليس أمامه آخر يتطلع إليه قد عانى بمثل هذه الأمور[323].]
v “لتحرر حياتي من روحي، ونفسي من جسدي، وعظامي من الموت. فإنني لا أحيا إلى الأبد فألتزم أن أحتمل بصبرٍ“… كانت له الرغبة أن ينتقل من هنا… حتى صار جسمه منحلاً. لم يبالِ أيوب من تعرية عظامه. لماذا هذا؟ لأنه يقول بأن الحياة الحاضرة سريعة الزوال. “لا أحيا إلى الأبد“. واضح أن أيوب يتكلم عن الحياة الأرضية. كيف يكون طويل الأناة في هذا الأمر؟ فقط لأن نوال السعادة يتطلب طول الأناة والصبر، أي السعادة العتيدة… حديث أيوب يحمل بوضوح تلميحًا عن الحياة المادية أنها ضعيفة، وفاسدة، غير مستقرة، سريعة الزوال، لا تحمل سمات الحياة الأبدية.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
- صرخة إلى الله لإنقاذه
مَا هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَعْتَبِرَهُ،
وَحَتَّى تَضَعَ عَلَيْهِ قَلْبَكَ [17].
في ضيقته شعر أيوب أن الإنسان أتفه من أن يكون موضع التفات الله ومخاصمته وامتحانه. كأنه يقول لله: لماذا تشغل نفسك بكائنٍ ضعيفٍ هكذا؟ لماذا تتعهده منذ الصباح وتمتحنه؟ إنه أتفه من أن يقف أمامك، عاجز كل عجز عن أن يدخل في بوتقة التجارب. يقول المرتل: “من هو الإنسان حتى تذكره، وابن آدم حتى تفتقده” (مز 8: 4).
ولعل أيوب وقف مندهشًا أمام اهتمام الله الفائق بالإنسان، فمع ضعف الإنسان وحقارته، لكن الله مشغول به، يمتحنه لكي يزكيه ويمجده.
يعجب أيوب أن يضع الله قلبه على الإنسان فيكون عزيزًا عليه، كشخصٍ يعطف عليه، ويقيم له موضعًا في قلبه الإلهي. يتعهده كل صباح بمراحم جديدة كما يحرص الصديق على حب صديقه له، أو كما يسأل الطبيب كل صباح عن حال مريضه. وفى كل لحظة يمتحنه، كمن يجس نبضه ويغار عليه.
في حديث القديس غريغوريوس النيسي عن خلقة الإنسان يرى أن الله قد خلق العالم بكل إبداعٍ كقصرٍ عظيمٍ أعده لأدم وحواء كملكٍ وملكةٍ. وأن الله قدم للإنسان كل إمكانية السعادة والسلطان على الخليقة التي أوجدها الله من أجله.
وفي حديثه عن العظمة الحقيقية والعظمة الباطلة تحدث القديس مار يعقوب السروجي[324] في إبداع حيث يبرز حب الله الفائق نحو الإنسان. فقد زين السماء بالكواكب وهيأ الأرض بالمخلوقات الجميلة، وقدمهما للإنسان لتكونا تحت سلطانه. لقد أراد الله للإنسان أن يكون صاحب مجد وسلطة، لكن بحسد إبليس سقط في العظمة الباطلة، ففقد عظمته الحقيقية. ومع هذا فقد سمح الله لآدم إن يعود إلى ما كان عليه من تراب لا ليذله، بل لكي لا يحيا إلى الأبد فاقدًا عظمته، إنما باكتشاف حقيقته ينال المجد خلال عمل المخلص.
v يمجد الله الإنسان بأن يغنيه بفيض من عطية العقل، ويفتقده بإلهام النعمة، ويمجده بعظمة عطية الفضيلة، فمع أنه هو لا شيء في ذاته، لكنه خلال سخاء حب الله المترفق يهبه أن يكون شريكًا في معرفة الله ذاته. يضع الرب قلبه على الإنسان، وهكذا يمجده فيأتي به إلى الدينونة بعد أن يهبه عطاياه، يزن استحقاقاته بدقةٍ، وبحزمٍ يحاكم أثقال الحياة، ويقدم عقوبة دقيقة بعد أن وُهب مزايا كثيرة.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v منْ مِنَ الكائنات الأرضية خُلق على صورة الله إلا الإنسان؟
ولمن أُعطى السلطان على كل الطبيعة ومخلوقاتها ليختصها لذاته؟
إنه لشرف أصيل يكلل جبينه، ويسمو به إلى السماء، فوق الكواكب، أرفع من الشمس تشامخًا وعزة… ومع أنه أوضع منزلة من الملائكة لارتباطه بجسدٍ ماديٍ فقد وُهب قوة لفهم ومعرفة ربه وخالقه[325].
القديس باسيليوس الكبير
v بسط السماء، ووضع فيها جميع الأنوار: الشمس والقمر وجميع الكواكب، تطوف فيها.
لم تسأل السماء، بل هو زينها بمناظر حسنة، تُبهر عيون الناظرين.
ليس للشمس فم لتطلب منه نورًا عظيمًا يضيء على الخليقة جميعها.
زيَّن جميع أجناس الطيور والبهائم بألوان شهية وبهية منذ البدء.
زين الخليقة، وفى كمالها لم تتغير زينتها.
أتقن بيت الخليقة جميعها كما قيل، وزينها بصور جميلة.
قام البيت من بناء مملوء عجبًا.
ملأه جميعه حُسنًا، بزيناتٍ لا يُنطق بها.
ولما أتقن البيت بجميع ما فيه طلب الصانع أن يقيم فيه من هو ممتلئ جمالاً.
أخذ ترابًا وجبل آدم، ونفخ في وجهه نسمة حياة محيية.
أتقن نفسه، فصار مثالاً مملوء عجبًا!
صنعه كشبهه، وملأه مجدًا وبهاءً!
اشتعل ضوءه، وانطفأ أمامه نور الشمس لما فيه من مجدٍ وهبه إياه سيده عندما خلقه.
القديس مار يعقوب السروجي
v لم يُخلق آدم لكي يموت، بل لكي يجاهد من أجل الخلود. ولكي يظهر مصداقيته. هذا ويقدم برهانًا عليه أضاف: “الذي أعطانا غيرة الروح”… والآن يعمل خلال المعمودية، ويهبنا عربونا ليس بقليلٍ: الروح القدس[326].
القديس يوحنا الذهبي الفم
وَتَتَعَهَّدَهُ كُلَّ صَبَاحٍ،
وَكُلَّ لَحْظَةٍ تَمْتَحِنُهُ! [18]
v بماذا تغنى داود مشابهًا هذه العبارة؟ “يا رب من هو الإنسان حتى تعرفه؟ أو ابن الإنسان حتى تهتم به؟” (مز 144: 3-4) لماذا قال داود هذا عن البشر، وما هو تفكيره عندما شرح ما جاء بعد ذلك: “الإنسان مثل الباطل، تعبر أيامه كظل”. لماذا بكل الحق، يمجد الله هذا الإنسان الضعيف، ويعيره اهتمامًا لحال الشر الحاضر؟ يسأل الأبرار الله بسبب جهلهم… ذلك لأنه “صانع الخيرات ومحب للإنسان “(حك 7: 12)، يفتقد الذي خلقه مرارًا ويعطيه اهتمامًا عظيمًا. لهذا يضيف أيضا داود: “يا رب طأطأ سماواتك وانزل” (مز 144: 5؛ 18: 9). بهذا يظهر اهتمام الله الشديد بالبشر، فإنه إذ يطأطأ السماوات ينزل بنفسه إلينا “الكلمة صار جسدًا” (يو 1: 14)، فإنه شاركنا حالنا، يقوي ويحصن ضعفنا. أما أيوب فيُظهر بإسهاب مدى الخير الذي يلحق بالإنسان الذي يذكره الله.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “وتتعهده كل فجرٍ (صباح)، وتمتحنه فجأة” [18]… يتحول الليل إلى نور عندما تستنير ظلمة خطأنا بمعرفة الحق. يتحول الليل إلى نورٍ، عندما ينير بهاء البرّ قلوبنا، هذه التي غطاها عمى الخطية الكثيف. رأى بولس الفجر قد ظهر في أذهان التلاميذ عندما قال: “قد تناهي الليل وتقارب النهار” (رو 13: 12).
لكن لنلاحظ أن الله بعد أن يفتقد الإنسان في الفجر يمتحنه فجأة، فإنه باقترابه يرفع قلوبنا إلى الأعالي الفاضلة، وإذ ينسحب يسمح له أن يُهاجم بالتجربة. بعد نوال عطايا الفضائل، فإنها إن لم تتحرك النفس بهجوم التجربة تنتفخ، وتظن أن ما نالته هو من عندها…
هكذا إيليا أُفتقد عند الفجر، ففتح أبواب السماء بكلمة، لكن حالاً جُرب، فهرب إلى البرية كمن بلا عون، خوفًا من سيدة وحيدة (1 مل 19: 3).
وهكذا بولس إذ رًفع إلي السماء الثالثة، واخترق أسرار الفردوس نال تأملاً. ومع هذا إذ عاد إلى نفسه كان يصارع ضد هجمات الجسد، وخضع لناموس آخر في أعضائه، فكان حزينًا بسبب تمرده متطلعًا إلى أن ناموس الروح صار مهددًا (2 كو 12: 2 الخ).
البابا غريغوريوس (الكبير)
حَتَّى مَتَى لاَ تَلْتَفِتُ عَنِّي،
وَلاَ تُرْخِينِي رَيْثَمَا أَبْلَعُ رِيقِي؟ [19]
يطلب من الله أن يرفع عصاه عنه ولو إلى لحظات لكي يتنفس.
عالج القديس يوحنا الذهبي الفم في مقاله: “العناية الإلهية” مشكلة الذين يتعثرون في محبة الله بسبب الضيفات التي تحل بهم:
v لنسرع إذن بإصلاح الذين يتعثّرون بسبب الضيق ناسين عناية الله وحبه، فنجنّبهم السقوط تحت هذه العقوبة، موضّحين لهم علّة دائهم.
ما هي علّة هذا الخطر العظيم: تجاهل عناية الله؟!
إنّه طيش الفكر وفضوليّته. اشتهاء تفهّم كل علل الأحداث التي تحل بنا، والرغبة في مقاومة عناية الله غير المدركة ولا موصوفة، تلك العناية الفائقة لكل فحص واستقصاء! ومع هذا لا يخجل الإنسان من هذا الموقف الفضولي المملوء تهورًا.
تُرى من فاق بولس في حكمته؟ اخبرني، ألم يكن إناءً مختارًا؟ ألم يأخذ نعمة الروح الفائقة غير المنطوق بها؟ ألم يتكلّم المسيح فيه؟ ألم يكشف الله له عن أمورٍ لا يُنطق بها؟ ألم يسمع ما لا يحق لإنسان أن ينطق به؟ ألم يُختطف إلى الفردوس ويرتفع إلى السماء الثالثة؟ ألم يَجُبْ البحار والبر يجذب الوثنيّين إلى المسيحيّة؟ ألم ينل من مواهب الروح المتنوّعة؟… ومع هذا كلّه، فإن هذا الرجل بعظمته وحكمته وقوّته وامتلائه بالروح – إذ خصّه الله بهذه الامتيازات، عندما يتطلّع إلى عناية الله، لا في كل جوانبها، بل في جانب واحد منها، تأخذه الدعوة منسحقًا، ويتراجع سريعًا خاضعًا لله غير المدرك. فإنه لم يبحث عن عناية الله بالملائكة ولا رؤساء الملائكة أو الشاروبيم والسيرافيم وكل الطغمات غير المنظورة، ولا في عنايته بالشمس والقمر والسماء والأرض والبحر، ولا في سهره على الجنس البشري بأكمله واهتمامه بالحيوانات غير العاقلة والزرع والعشب والأهوية والينابيع والأنهار… لكنه عناية الله الخاصة باليهود واليونانيين وأفاض في بحث النقطة، وشرح كيف دعي الله الأمم ورفض اليهود ثم أوضح كيف حقق الخلاص… وحينما أدراك هذا، اكتشف الرسول أنه أمام محيط واسع، وإذ حاول فحص أعماق هذه العناية ارتجف متحققًا استحالة تفسير عللها، وارتعب قدام عنايته اللانهائية غير المحدود ولا موصوفة ولا مفحوصة ولا مدركة، فتراجع في مهابة متعجبًا،وهو يقول: “يا لعمق غني الله وحكمته وعلمه”! (رو 11: 33)
لقد أوضح بعد ذلك كيف تلامس مع أعماقها دون أن يفلح في استقصائها، قائلاً “ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء؟!”
إنه لم يقل أن أحكامه عن الفحص فحسب وإنما بعيدة أيضًا عن الاستقصاء. ليس فقط لا يقدر الإنسان على فهمها، بل ولا حق له أن يبدأ في الاستقصاء. يستحيل عليه أن يدرك غايتها أو حتى يكتشف بدأ تخطيطها؟!
وإذ قال “ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء” أنهى حديثه – وقد امتلأ عجبًا ورعدة – بأنشودة شكر قائلاً: “لأن من عرف فكر الرب، أو من صار له مشيرًا. أو من سبق فأعطاه فيُكافأ؟! لأن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى أبد الأبد. آمين”[327].
القديس يوحنا الذهبي الفم
أَأَخْطَأْتُ؟
مَاذَا أَفْعَلُ لَكَ يَا رَقِيبَ النَّاسِ؟
لِمَاذَا جَعَلْتَنِي هَدَفًا لَكَ،
حَتَّى أَكُونَ عَلَى نَفْسِي حِمْلاً! [20]
شهد الله عن أيوب أنه كامل ومستقيم، أما أيوب فيعترف أنه مخطئ. يقول “أأخطأت؟” أو إني “أخطأت”. إن كان أمام أصدقائه يعلن أنه بريء لم يرتكب إحدى الخطايا الشنيعة التي ربما ظن الأصدقاء أنه ارتكبها سرًا، إذا به يعلن أمام الله أنه لن يتبرر قدامه، لأنه يخطئ. كيف يبرر نفسه أمام الله “رقيب الناس”، الذي يعرف ما في قلوبهم وأفكارهم ويشغله قداستهم ونقاوتهم.
يعلن أيوب أمام الله عجزه عن التصرف، فقد أخطأ ولكن ماذا يفعل لله؟ إنه لا يوجد من يرضي العدل الإلهي، لكن نطلب مراحمه، ونختفي تحت ظل جناحيه، ونتهيأ لعمل نعمته، فنصير موضع سروره.
v يقول: “إن كنت قد أخطأت، فماذا أفعل، يا من تدرك ذهن البشر؟” [20] أليس أنت الذي دعوتني “بلا لوم، حقًا، بارًا، تقيًا، لا يوجد فيَّ شر؟” (1: 8؛ 2: 3). إنك لم تقدم هذه الشهادة عن جهل، فأنت تعرف الإنسان بكليته، إذ خلقت ما بداخله وما بخارجه؛ لكن إن كان الذين يشتمونني ويحتقرونني قائلين إنني مخطئ، يستخفون بأعمالي البارة التي تأهلت لشهادتك، فماذا أفعل؟
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v يقول هذا لا ليتهم الله شخصيًا، حاشا! وإنما لأن ما حدث له سبب اتهامًا عظيمًا ضد الله.
لهذا يقول: “أنت تدرك ذهن البشر“. فإنهم وإن لم يتكلموا فأنت تعرف أفكارهم السرية، كل الانعكاسات الشخصية.
لقد احتمل مثل هذا الإنسان الكثير. فإنه لم يقل: “أنا بار”، بل قال: لديهم فكرة صالحة عني. أنظر إنهم يوجهون اتهامًا ضدك بسبب تجاربي.
القديس يوحنا الذهبي الفم
وَلِمَاذَا لاَ تَغْفِرُ ذَنْبِي،
وَلاَ تُزِيلُ إِثْمِي،
لأَنِّي الآنَ أَضْطَجِعُ فِي التُّرَابِ؟
تَطْلُبُنِي فَلاَ أَكُونُ! [21]
في صلاة حارة صرخ يطلب المغفرة: “لماذا لا تغفر ذنبي، ولا تزيل إثمي؟” واضح أنه لم يطلب مجرد الراحة الزمنية، ورفع التجربة عنه، إنما يطلب رضا الله حتى يُرجع إليه سروره الداخلي.
يطلب المغفرة الآن وهو في العالم، لأنه إن مات واضطجع في التراب لا يكون للتوبة موضع، وتنقطع علاقته بالله.
v بهذه الكلمات عينها، ماذا يعلن سوى الرغبة في الوسيط المتوقع، الذي يقول عنه يوحنا: “هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 9). أو بالحري تنزع الخطية تمامًا عن البشرية عندما يتحول فسادنا إلى مجد عدم الفساد.
فإننا لا نستطيع أن نتحرر قط من الخطية مادمنا ممسكين في الجسد المائت. لذلك يتوق الشخص إلى نعمة المخلص لأجل كمال القيامة عندما يتطلع الشخص إلى الشر أنه قد زال تمامًا. لهذا فإنه في الحال بعدما تحدث عن العقوبة التي كان يستحقها (خلال ميراثه من آدم) والدينونة التي يرتعب منها بسبب أفعاله يكمل: “الآن أضطجع في التراب، تطلبني في الصباح فلا أكون. لقد قيل للإنسان الأول عندما أخطأ: “أنت تراب، وإلى تراب تعود” (تك 3: 19). الآن في الصباح، أي في الإعلان عن النفوس، عندما تصير الأفكار عارية عند مجيء الديان، يحل النور عوض ظلمة الليل. قال المرتل في هذا: “في الصباح أقف أمامك وأنظر” (مز 5: 3).
البابا غريغوريوس (الكبير)
v أنا الخاطي على الدوام، أحتاج دومًا إلى علاج[328].
v كلما قبلناه (بالتناول) نعلن موت الرب. بالموت نعلن غفران الخطايا. إن كان سفك الدم من أجل غفران الخطايا، فيليق بي دائمًا أن أقبله لكي يغفر دومًا خطاياي.
القديس أمبروسيوس
v إنك تُدعى إنسانًا فهذا من عمل الله، وأن تُدعى خاطئًا فهو من عمل الإنسان ذاته.
امحُ ما تفعله أنت لكي يخَّلص الله ما قد فعله.
يليق بك أن تكره عملك الذاتي فيك، وتحب عمل الله فيك.
عندما لا تسرك أعمالك الذاتية، في هذا تبدأ أعمال الله الصالحة، إذ تجد خطأ في أعمالك الشريرة.
الاعتراف بالأعمال الشريرة بداية الأعمال الصالحة.
إنك تعمل الحق وتأتي إلى النور. كيف تعمل الحق؟ إنك لا تدلل نفسك ولا تهادنها ولا تتملقها، ولا تقول: “إني بار”، بينما أنت غير بار؛ هكذا تبدأ تفعل الحق.
إنك تأتي إلى النور لكي ما تعلن أعمالك أنها بالله معمولة، لأن خطيتك، الأمر ذاته الذي تكرهه، لا يمكنك أن تبغضه ما لم يشرق الله فيك ويظهره الحق لك.
أما من يحب خطاياه حتى بعد نصحه، فهو يبغض النور الذي ينصحه ويهرب منه، فالأعمال التي يحبها لا تظهر له أنها شريرة. من يفعل الحق يتهم أعماله الشريرة فيه ولا يبرر نفسه، ولا يصفح عن نفسه حتى يغفر له الله.
فمن يرغب في أن يغفر له الله هو نفسه يعرف خطاياه ويأتي إلى النور، حيث يشكر على إظهار ما يلزمه أن يبغضه في نفسه. إنه يقول لله: “ردّ وجهك عن خطاياي”. ولكن بأي وجه يقول هذا ما لم يضف “لأني أنا عارف بآثامي، وخطيتي أمامي في كل حين” (مز 51: 11)؟
لتكن آثامك أمامك يا من لا تريدها أن تكون أمام الله.
لكن إن وضعت خطاياك خلفك، فسيدفعها الله ليجعلها أمام عينيك، يحدث هذا في الوقت الذي لا يعود يوجد فيه ثمر للتوبة[329].
القديس أغسطينوس
من وحي أيوب 7
أيامنا تجربة لا تنقطع
v ماذا أرى في حياتي على الأرض؟
سلسلة لا تنقطع من التجارب.
أعيش كالأجير الذي يترقب نهاية اليوم،
ليستريح من تعبه وينال أجرة لمعيشته.
v يسلمني النهار بكل مشقته لليل،
ويسلمني الليل برعبه للنهار.
متى أجد راحتي؟
شهور حياتي تسرع بي للرحيل.
أيام غربتي تعبر سريعًا كالبخار،
تعبر وتتبدد بلا عودة!
v إن نزلت إلى الهاوية لا أعود للحياة على الأرض،
ولا يعود مسكني على وجه البسيطة يعرفني بعد
v وسط الضيقات أصرخ،
من أنا التراب والرماد حتى تهتم بي وتؤدبني؟
من أنا الترابي حتى تفتقدني؟
v أنت هو رجائي وسروري وكنزي!
بك لا أرهب الموت،
بك تتحول رحلتي الشاقة إلى عبور مفرح!
لترافقني في طريق آلامي،
فتتحول أحزاني إلى أغانٍ وتسابيحٍ لا تنقطع!
تفسير أيوب 6 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 8 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |