تفسير سفر أيوب ٨ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثامن
حكمة القدامى

 

لم يعلق أليفاز على إجابة أيوب إنما ترك الأمر لبلدد الذي يحمل ذات تفكيره في هذا الأمر. فالأصدقاء الثلاثة كانوا يعتقدون في يقين أن ما حلّ بأيوب هو عقاب إلهي عادل عن خطايا خفية لا يعرفها أحد سوى الله.

يوبخ بلدد أيوب بسبب ما سبق أن قاله، ثم يؤكد بلدد إن الله يعمل بحكمةٍ، أي أنه يكافئ البار ويعاقب الشرير، ويتعجب من أن أيوب يتهم الله بعدم الإنصاف. كذلك عندما ينسى الناس الله، فإنهم يهلكون هلاكًا عادلاً، وافترض أن الموت المفاجئ لأبناء أيوب كان عقابًا إلهيًا عن خطاياهم؛ فكان ذلك سيفًا غرسه في قلب أيوب الذي يعاني الألم.

من الصعب أن ندعو أحاديث بلدد “محاورة”، فإنه إنسان تقليدي يهتم بحكمة القدامى، دون التمتع بخبرة شخصية. يبدو أنه لم يدخل في آلام أو تجارب شديدة. يرى أن ما حلّ بأيوب هو ثمرة طبيعية لسلوكٍ شرير من جانب أيوب أو أولاده، وأنه لو كان بارًا لالتمس من الله أن يرد له البركات المفقودة، فيردها له الله بأكثر وفرة عما كان لديه قبلاً [٢-٧].

يوبخ أيوب لأن خبرته لا تقارن بحكمة الشيوخ القدامى.

قدم بلدد أمثلة من الطبيعة، فأوراق البردي تحتاج إلى مياه كثيرة لكي ينمو، وإلاَّ جفت. الإنسان الشرير يفقد ماء بركات الله [١١-١٣]. إنه يظن أن بيته وممتلكاته في أمان، لكنها تتبدد سريعًا مثل نسيج العنكبوت. كما يشبه عشبًا سرعان ما يظهر وسرعان ما يقتلع من جذوره فيزول ليحل محله آخر [١٦-١٩].

في رأيه أن أيوب كان يجب أن يبلغ إلى النتائج اللائقة بسبب الكوارث التي حلت به. وأن براءته تتحقق إن أُصلح حاله [٢٠-٢١].

لا يمكننا أن نرفض آراء بلدد تمامًا، لكن يجب مقابلتها بما ورد في لو ١٣: ٤؛ يو ٩: ٢-٣.

  1. أقوال أيوب ضد الحق الإلهي    1-2.
  2. الله عادل فيما يحلّ بالمؤمنين     3-4.
  3. نصيحة مدمرة              5-7.
  4. اتهام أيوب بالرياء       8-19.
  5. دعوة للكمال            20-22.

أقوال أيوب ضد الحق الإلهي

فَأَجَابَ بِلْدَدُ الشُّوحِيُّ: [1]

إِلَى مَتَى تَقُولُ هَذَا؟

وَتَكُونُ أَقْوَالُكَ رِيحًا شَدِيدَةً! [2]

في حدة شديدة يحاول بلدد أن يبكم فم أيوب وينتقد ثورته النفسية. احتد بلدد مهاجمًا أيوب: “إلى متى تقول هذا؟” وكأنه يقول إن أقوال أليفاز فيها كل الكفاية، وكان يلزم أيوب الصمت والخضوع. لقد شبَّه ثورة أيوب بريح شديدة عاصفة، لكنها لن تقدر أن تقف أمام العدل الإلهي.

يرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن بلدد قد اندفع في هجومه على أيوب البار، فلو أنه صمت وتأنى لأدرك أن ما قاله أيوب ليس إلا رد فعل طبيعي للآلام الشديدة والتجارب التي لم يسقط فيها آخر غيره. هذا ومع عتابه لله لم ينكر أنه خاطي يطلب منه المغفرة. لكن الثرثرة أو اندفاع بلدد في الكلام أسقطه في إدانة البار وفي النقد المُبالغ فيه، حتى رأى في كلمات البار الصالحة شرًا. لم يدرك بلدد أن تعبير الإنسان المتألم عما يعاينه من تعبٍ هو أمر تقتضيه الطبيعة البشرية بالضرورة.

v     هل قال (أيوب) إنه يعاني من الظلم؟

ها أنتم ترون (أصدقاء أيوب) لم يبلغوا هدفهم بأية طريقة، لأنه لم يقل هذا قط. لكن أيوب تحدث عن ضعف طبيعته، قائلا: “أبحر أنا أم تنين؟” (7: 12)، “هل قوتي قوة الحجارة؟” (6: 12) ما هي حياتي؟ “فإنني لا أحيا إلى الأبد فأحتمل بصبرٍ” (7: 16). علاوة على هذا فقد عرف خطاياه: “لماذا لا تغفر ذنبي؟” (7: 12)…

بعد ذلك، دان بلدد نفسه في ثرثرته، إذ فشل في فهم أن الذين يختبرون الألم بالفعل يجدون تعزية في التعبير عن أنفسهم، إذ قال أيوب نفسه: “أنا أيضًا لا أمنع فمي، إذ في ضيق” (7: 11). علي أي الأحوال يقول إن هذه الكلمات التي أعبر بها تستلزمها الضرورة.

v     لا يُستعمل الوعاء الذهبي للأشياء الدنيئة لغِلوّ ثمنه، فكم بالحري الفم، فهو أثمن من الذهب والمرجان، فلا يجوز أن ندنِّسه بالكلام القبيح والشتم وطعن الآخرين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     كلمات الأبرار دائمًا محزنة بالنسبة للظالمين، وما يسمعونه للبنيان يحملونه ثقلاً على كاهلهم. هذا ما يشير إليه بلدد الشوحي بوضوح بالنسبة له، حيث يقول: “إلى متى تقول هذا؟” من يقول: “إلى متى” يُظهر أنه غير قادر بعد على احتمال كلمات البنيان.

يفتخر الظالمون جدًا بأنهم يقولون ما هو صواب، ويجدون أخطاء في الأقوال الصالحة…

عندما يكون النقد مبالغًا فيه بالتأكيد يفقد الحديث معناه…

يلوم الأشرار الأمور الصالحة، لئلا يظهروا هم أنفسهم أنهم لا يعرفون ما هو صالح.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لقد حذرنا الكتاب المقدس كما الآباء من خطية بلدد: الثرثرة في الكلام باندفاع والتي ولَّدت الإدانة والنقد اللاذع المُبالغ فيه:

“كثرة الكلام لا تخلو من معصية، أما الضابط شفتيه فعاقل” (أم 19:10).

“لأن الحلم يأتي من كثرة الشغل، وقول الجهل من كثرة الكلام” (جا 3:5).

“ذلك من كثرة الأحلام والأباطيل، وكثرة الكلام، ولكن اخشَ الله” (جا 7:5).

v     لم يقل الرسول إنه لا يوجد من يُذَل اللسان، بل لا يستطيع أحد (من البشر) أن يُذَلل اللسان، حتى متى أُلجِم نعترف بأن ذلك بفضل حنان نعمة الله ومعونته[330].

v     يستطيع الإنسان ترويض الوحوش المفترسة، أما لسانه فلا يقدر أن يُلجِمه!…

يستطيع الإنسان تهذيب كل شيء ما عدا ذاته، فما يقدر عليها!

يقدر على تهذيب كل ما يخاف منه، أو يجدر به أن يخافه، أما ذاته التي لا يخافها فلا يقدر عليها!

إذن لنلجأ إلى الله الذي يستطيع أن يُلجِمه. أنتم لا تقدرون على إقناع ألسنتكم لأنكم بشر… فلنطلب من الله لكي يروضنا قائلين له: يا رب ملجأ كنت لنا.

هل يستطيع (الإنسان) صورة الله أن يُرَوِّض الأسد، ويعجز الله عن ترويض صورته؟

إن رجاءنا يكمن في هذا المُرَوِّض لنخضع له ملتمسين رحمته… لنحتمله حتى يُرَوِّضنا، فنصير كاملين، لأنه كثيرًا ما يسمح لنا بتأديبات. فإن كنتم تستخدمون الأسواط في ترويض الحيوانات المفترسة، أمَا يستخدم الله ذلك ليحوِّلنا نحن وحوشه إلى أولاد له؟[331]

القديس أغسطينوس

v     الثرثرة هي عرش الغرور، ومن هذا العرش تظهر محبة إبراز الذات والمباهاة والافتخار.

الثرثرة إشارة إلى الجهل، وباب الاغتياب، وموصل إلى الهزل والضحك، وخادم للكذب والرياء.

v     هي دليل النوم وتشتيت الذاكرة، تُزِيل اليقظة وتبرد الحرارة وتفتر الصلاة[332].

القديس يوحنا الدرجي

v     احذر اللسان الثرثار والأذنين المتلهفتين (لسماع الأخبار). لا تحط من شأن الآخرين ولا تصغي إلى من يحط من شأن الغير.

القديس جيروم

v     لا تتسرع بلسانك، فالفم مصيدة الموت.

المدعو برناباس

v     من يحذر بلسانه لن يُسلب كنزه منه إلى الأبد. فم الساكت يترجم أسرار الله. ومن يتكلم بسرعة يبعد عن خالقه[333].

الشيخ الروحاني

v     علينا ألا نستخدم التوبيخ إلا نادرًا. وإذا اضطررنا إلى استخدامه يجب علينا أن نسعى بشغفٍ إلى خدمة الله لا أنفسنا.

ليكن لنا هدف واحد، فلا نفعل شيئًا بقلب مزدوج. لنخرج من أعيننا خشبة الحسد أو الحقد أو التصنع، حتى نتمكن من الإبصار فنخرج القذى من عيني أخينا. للنظر إلى القذى بعيني الحمامة، اللتين لعروس المسيح (نش 1:4)، التي اختارها الله لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن، أي نقية لا غش فيها (أف 27:5)[334].

القديس أغسطينوس

v     لا تكن ديانًا لأخيك، لتؤهل أنت للغفران، فربما تراه دائمًا مخطئًا، لكنك لا تعلم بأية خاتمة يفارق العالم. فاللص المصلوب مع يسوع كان قاتلاً وسفاكًا للدماء، ويهوذا كان تلميذًا للمسيح ومن الأخصاء، إذ كان الصندوق عنده، إلاَّ أنهما في زمن يسير تغيرا، فدخل اللص الفردوس، واستحق التلميذ المشنقة وهلك.

القديس أنسطاسيوس

  1. الله عادل فيما يحلّ بالمؤمنين

هَلِ اللهُ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ،

أَوِ الْقَدِيرُ يَعْكِسُ الْحَقَّ؟ [3]

حسب بلدد في ثورة أيوب هياجًا ضد الله، وكأن الله يعوج القضاء ويعكس الحق. حاشا لأحدٍ أن يظن هذا. الإنسان في ضعفه قد يلجأ إلى عكس الحق بسبب خوفه، أما الله فهو “القدير“، فلا يكون ظالمًا ولا يفعل ما هو باطل.

v     لم ينكر الطوباوي أيوب ذلك في حديثه، ولا كان يجهله عندما كان يمسك لسانه. لكن كل الوقحين يتكلمون بالحقائق المعروفة بكلمات ضخمة لكي يظهروا بهذا أنهم متعلمون.

إنهم يستنكفون من أن يحفظوا سلامهم بروح التواضع، لئلا يُظن أنهم صامتون عن جهلٍ. إنما من المعروف أنهم يمدحون استقامة عدالة الله عندما يكونون هم في أمانٍ من المصائب، ويتمتعون برخاء حياتهم بينما يكون الغير يعانون من كوارث.

إنهم يسلكون في الشر، ومع هذا يظنون أنهم أبرار. إذ هم في رخاءٍ يتصورون أن هذا بفضل استحقاقاتهم، ويستنتجون أن الله لا يعمل ظلمًا… ولكن إن لمست حياتهم قوة للتصحيح (بالتأديب) ولو إلى أقل درجة، يندفعون للحال مهاجمين السياسة الإلهية، بينما كانوا منذ قليل – إذ لم يصبهم أذى – يطرون في المديح والإعجاب بالتدبير الإلهي.

إنهم يرفضون أي حكم أن يكون عادلاً متى حلّ بهم… حسنًا ينطق المرتل ضد اعتراف الشرير: “يحمدك إذا أحسنت إليه” (مز 49: 18)… لهذا لا نعجب أن يحمد بلدد عدالة الله مادامت لا تمسه شخصيًا.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في أصدقاء أيوب رمزًا للهراطقة، فإنهم إذ يرون الكنيسة المقدسة في ضيقة لبنيانها يحسبون أن ما حلّ بها هو من قبيل العدالة الإلهية، وأن ما يتمتعون به من رخاء هو من أجل فضائلهم.

غالبًا ما يسند عدو الخير الهراطقة في كل الأجيال بالإمكانيات المادية والكرامة الزمنية ليقتنصوا أولاد الله من أحضان العروس المقدسة، تارة بالفلسفات البّراقة المخادعة، وأخرى بالإغراءات المادية، وثالثة بحفظهم من الضيق الذي تعانيه العروس شريكه المصلوب.

هذا هو دور بلدد الذي ظن في جهله حكمة، وحسب أيوب مجدفًا على الله القدير ومتذمرًا على العدالة الإلهية.

v     اخترع (عدو الخير) الهرطقات والانشقاقات لكي يتلف الإيمان، ويفسد الحق، ويحطم الوحدة.

وإذ يعجز عن أن يحفظنا في طرق الخطأ الجديد المظلمة يسحبنا إلى متاهة جديدة للخداع.

إنه يصطاد الناس بعيدًا عن الكنيسة نفسها، وإذ يظنون أنهم اقتربوا من النور وهربوا من ليل العالم يغمرهم في ظلمة جديدة وهم غير مدركين لها.

ومع أنهم لا يتمسكون بالإنجيل ونظام المسيح وناموسه يدعون أنهم في النور خلال مداهنات العدو المخادعة، هذا الذي يقول عنه الرسول أنه يغير نفسه إلى ملاك نور ويزين خدامه  كخدام للبرَ.

يدعون الليل نهارًا، والموت خلاصًا، واليأس رجاءً، والخيانة أمانة، وضد المسيح المسيح، ويثبط الحق بالخداع بإبراز الحق بصورة كاذبة.

هذا هو ما يحدث يا إخوتي عندما لا نعود إلى ينبوع الحق، عندما لا نتطلع إلى الرأس ونحفظ التعليم الصادر من السماء[335].

القديس كبريانوس

v     من عادة إبليس أن يقلد الأمور الخاصة بالله. إنه يقيم رسلاً كذبة ليقاوموا الرسل الحقيقيين، ويأخذ شكل ملاك لكي يخدع  البشر[336].

ثيؤدورت أسقف قورش

v     يوجد فلاسفة لهم مناقشات بارعة عن الفضائل والرذائل، يميزون بينها، ويقدمون تعريفات لها، وفي النهاية يقدمون تسلسلاً عقليًا دقيقًا، يملأون الكتب، ويحمون حكمتهم بأحاديث ثرثارة؛ هؤلاء يجسرون ويقولون للناس اتبعونا، انضموا إلى فرقتنا إن أردتم أن تعيشوا سعداء. لكنهم لا يدخلون من الباب؛ هؤلاء يريدون أن يحطموا ويذبحوا ويقتلوا[337].

v     إن وجدنا هذه الشخصيات الثلاث أيها الأخوة القديسون، نجد من يليق بنا أن نحبهم، ومن يجب علينا أن نحتملهم، ومن يلزمنا الحذر منهم. فالراعي يُحب، والأجير يُحتمل، واللص يُحذر منه[338].

القديس أغسطينوس

v     “الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه، عالمًا أن مثل هذا قد انحرف، وهو يخطئ، محكومًا عليه من نفسه” (تي 10:3-11). ليتنا كبحارة حكماء نبحر في إيماننا في المسلك السليم حتى نعبر بأكثر أمانٍ، ونتبع سواحل الأسفار المقدسة.

القديس أمبروسيوس

إِذْ أَخْطَأَ إِلَيْهِ بَنُوكَ دَفَعَهُمْ إِلَى يَدِ مَعْصِيَتِهِمْ [4].

يحاول بلدد أن يثير أيوب بأن ينسب ما حلّ بأبناء أيوب هو ثمرة خطيتهم وشرهم، فنالوا مجازاة عادلة من الله. ما ألهب جراحات أيوب بالأكثر، أن بلدد حسب موت أبناء أيوب بهذه الصورة البشعة ليس له تفسير آخر سوى أنهم عصوا الله، فدفعهم إلى يد معصيتهم. لقد اعترف أيوب بأنه خاطئ، وكان يقدم محرقات بأسماء أبنائه لئلا يكون قد عبر بأفكارهم فكر خاطئ ضد الله. لكن لا يمكن الحكم بأن ما حدث هو ثمر طبيعي لعصيانٍ قد ارتكبوه.

  1. نصيحة مدمرة

فَإِنْ بَكَّرْتَ أَنْتَ إِلَى اللهِ،

وَتَضَرَّعْتَ إِلَى الْقَدِيرِ [5].

يقدم بلدد نصيحة طيبة لأيوب أن يسرع ويبكر طالبًا ومتضرعًا إلى الله، لكن بلدد لم يكن يشعر بأن أيوب يستحق أن ينال ما هو أكثر مما كان عليه. يشير عليه بالصلاة والطلبة من الله ليرد له أضعافًا مما فقده إن كان زكيًا مستقيمًا.

يا للعجب، يقدم بلدد نصيحة مدمرة لأيوب تكشف عن دمار قلب بلدد نفسه. لقد طالبه بالصلاة إلى القدير مبكرًا. هذه تبدو نصيحة كتابية رائعة، فالمؤمن يطلب من القدير، يطلب وينال لأنه يبكر إلى الله لكنه لا يجعل الصلاة لا للتمتع بواهب العطايا بل لاقتناء عطايا زمنية، حاسبًا ان استجابة الصلاة بالتمتع بالزمنيات علامة رضا الله وقداسة المصلي. إنه مؤشر خطير يفسد الإيمان بالله الذي يود ان نطلب ملكوت الله وبرٌه وهذه كلها تزاد لنا.

ليس ما يمنع أن نسأل الله كأبٍ لنا في كل شيء حتى الأمور التافهة، علامة شركتنا الحية معه، لكن لن تكون الإجابة بنوال ما نسأله علامة تقديسنا ومحبة الله لنا.

ولعل بلدد هنا كان متيقنًا أن أيوب لن يسترد ما فقده، فيكون ذلك علامة شره، مثله مثل أبنائه الهالكين. ومن جانب آخر يضع بلدد مقياس البرّ والاستقامة هو تمتع الشخص بالأمور الزمنية. يقول البابا غريغوريوس (الكبير) [يحسب الناس الأشرار الملذات الوقتية هي بركة خاصة للمكافأة الإلهية. ما يجرون هم وراءه باهتمام وشوق شديد، يعدون به الآخرين كأمر عظيم.]

الصلاة – في ذهن القديس أغسطينوس – هي لغة شوق النفس نحو الله. إنها المترجم لاشتياق القلب.

v     الصلاة هي بلوغ العقل المملوء حبًا إلى الله، إنها تشغل الذهن والقلب، الفكر والرغبة، المعرفة والحب. الحياة الكاملة للمسيحي الصالح هي رغبة مقدسة[339].

v     وآسفاه. إنه من السهل أن تطلب أشياء من الله ولا تطلب الله نفسه، كأن العطية أفضل من العاطي[340].

v     الله لا يمنع محبة هذه الأشياء بل أن نجد سعادتنا في حبنا لها. يليق بنا أن نجعل حب خالقنا هو غاية تقديرنا لهذه الأشياء… فالمهر يُقدم للمخطوبة لكي في مهره لها تحبه هو. هكذا يعطيك الله كل شيء، فلتحب ذاك الذي صنعها[341].

v     أي شيء ثمين يطلبه من الله من يستهين بتقديره لله نفسه؟![342]

v     لا تطلب شيئًا من الله، بل عطية ذاته لك[343].

v     أن تترجى الله من الله، هذا هو أن تحب الله صاحب النعمة[344].

v     ليس بعدل يُحب ما يأتي من الله إن كان الله نفسه يُنسى بسببه[345].

v     لا تجد شيئًا يقدمه لك أفضل من ذاته، لكن أن كنت تجد ما هو أفضل منه أطلبه بكل وسيلة[346].

v     هل لا يوجد لدى الله مكافأة؟ لا توجد إلا عطية ذاته![347]

القديس أغسطينوس

يتطلع الأب أفراهاط إلى الصلاة بكونها لقاء داخليًا للقلب النقي مع الله القدوس، فالصلاة هي حديث القلب، الذي لن يكون موضوع سرور الله القدوس ما لم يكن طاهرًا ونقيًا.

v     الصلاة جميلة وأعمالها مستقيمة، الصلاة المقبولة تُشعر الإنسان بالراحة. تُسمع الصلاة عندما نشعر بالغفران فيها.

الصلاة المحبوبة هي الصلاة النقيَّة الخالية من كل غش. وتكون الصلاة قويَّة عندما تعمل قوَّة الله فيها.

عزيزي، كتبت إليك أن الإنسان عندما يلتزم أن يتمم مشيئة الله، وتكون المحور الأساسي لصلاته، يسمو الإنسان في صلاته. قلت لكم هذا: لا تهملوا الصلاة.

يلزم أن تشتاقوا إلى الصلاة ولا تكلُّوا منها. كما قال ربنا وهو مكتوب: “انه ينبغي أن يُصلى كل حين ولا يُمل” (لو 18: 1)، يجب أن تتُوقوا إلى السهر، واِنزعوا عنكم الغفلة والنوم. يجب أن تكونوا مستيقظين في كل وقت بالنهار والليل ولا تفتروا[348].

القديس أفراهاط

v     هل كان أيوب محتاجًا إلى تعليمك هذا؟

ألم يكن خلال كل حياته دائما يصلي؟ وأنت تقول: “بكر في الصلاة إلى الرب القدير“.

إنه ليس فقط لم يتوقف عن الصلاة مبكرًا للرب، بل كان يقدمها مبكرًا (1: 5) وخلال النهار وفي كل لحظة، يسبح الله سبع مرات في اليوم (مز 119: 37، 164) نهارًا وليلاً، فإن هذا بالنسبة له لم يكن غباوة. نهاية تجاربه تظهر هذا، نتيجة صراعاته (أبرزت أنه رجل صلاة)…

لقد أسأت الحكم (يا بلدد) وظلمت المصارع، فإن أيوب لم يفشل في رؤية الله الذي تتحدث أنت عنه لتنتقد البار، وليس لتمجد الله.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

إِنْ كُنْتَ أَنْتَ زَكِيًّا مُسْتَقِيمًا،

فَإِنَّهُ الآنَ يَتَنَبَّهُ لَكَ،

وَيُسْلِمُ مَسْكَنَ بِرِّكَ [6].

يرى بلدد أنه لو أن أيوب زكيًا مستقيمًا ما حدثت له هذه النكبة، ولو أنه تصرف حسنًا مع أول تجربة لما حلت به التجربة الثانية.

هذا ليس بصواب، فقد يُجرب الإنسان الصالح أكثر من مرة، بل وقد يتعرض لتجربةٍ تمتد كل حياته، التي تُحسب كلا شيء إن قورنت بالأبدية التي يتمتع بها.

تظاهر بلدد بأنه ينصح أيوب ليتوب عن شره كي يرد الله له ما كان عليه، بل وأكثر مما كان عليه، لكن في أعماقه كان يبغي أن يؤكد له أنه شرير ومرائي.

وَإِنْ تَكُنْ أُولاَكَ صَغِيرَةً،

فَآخِرَتُكَ تَكْثُرُ جِدًّا [7].

يرى بلدد أن أيوب إنسان شرير، لو كان مستقيمًا وسقط في تجربة لكانت آخرته أفضل مما كان عليه قبل التجربة. بالفعل أراد الله أن يبرهن لبلدد أن أيوب بار ومستقيم، فجعل آخرته أفضل من أولاه.

لقد صارت آخرة أيوب أكثر مجدًا من أولاده، لكن ما ناله في آخر حياته لم يكن إلا عربونًا للمجد المُعد له في الحياة الأبدية. لقد مات شيخًا شبعان الأيام، لكنه يقوم ليعيش في أورشليم العليا أبديًا.

كثير من الشهداء والقديسين تألموا في أواخر حياتهم، لكن هذه الآلام والعذابات هي لآلئ وجواهر روحية نتعرف على عظمتها وبهائها في يوم الرب العظيم، حيث يعتزون بالحب الذي عبَّروا عنه بقبولهم الآلام بشكرٍ وفرحٍ!

  1. اتهام أيوب بالرياء

اِسْأَلِ الْقُرُونَ الأُولَى،

وَتَأَكَّدْ مَبَاحِثَ آبَائِهِمْ [8].

لم يجسر بلدد أن يعلن لأيوب أن ما حلٌ به – حسب خبرته الشخصية – ليس إلا تأكيد بأنه شرير، وإنما وضع أساس حكمه هذا على خبرة الأجيال القديمة. فإن كان أليفاز قد اعتمد على خبرته الشخصية، فإن بلدد يكمل ذلك بالرجوع إلى خبرة القدامى.

في تعليق الأب هيسيخيوس الأورشليمي على هذه العبارات (8-10) يرى أن ما حدث مع أيوب يشبه ما حدث مع هابيل. تطلع قايين إلى جثمان أخيه هابيل ملقيًا عن الأرض قتيلاً (تك 4)، فظن أن هذا ثمرة عمله، وأن قايين بار وقد استقرت الأرض واستراحت لتكون بين يديه وهو في طمأنينة، ولم يكتشف الحقيقة أن صوت دماء أخيه تصرخ، وقد بلغت إلى السماء.

كما تطلع قايين إلى هابيل حاسبًا ما حدث له هو بسبب شره، هكذا تطلع بلدد وزملاؤه إلى أيوب وهو في المزبلة، فحسبوه شريرًا. وكما شهد الله لبرّ القتيل معلنًا أن أبواب السماء مفتوحة لتستقبل صوته، هكذا يشهد الله لأيوب ويستمع إلى صرخات قلبه. لقد أراد أن يطأ أخاه تحت قدميه، وأراد الأصدقاء أن يسحقوا نفس أيوب تحت أقدامهم.

كان يليق بأصدقاء أيوب أنفسهم أن يسألوا القرون الأولى فيروا أن ما حل بهابيل من ظلمٍ، ليس عن شر فيه، بل سبب برِّه، ولم تنته حياته ببركات أرضية وخيرات زمنية، وإنما بانفتاح أبواب السماء لتتقبل صرخات دمه المسفوك على الأرض.

قال أليفاز إن الله لا يسمح لأحد المستقيمين أن يُباد هكذا (أيوب 4: 7)، أما بلدد فيقول هنا أن الله يدفع بالأشرار المرائين إلى الخزي والعار والدمار في هذا العالم. فإن كان أليفاز أراد تأكيد أن أيوب ليس مستقيمًا وإلا ما كان قد حلّ به هذا كله، إذا ببلدد يوجه له اتهامًا صريحًا أنه شرير مرائي.

يطلب من أيوب أن يلجأ إلى القرون الأولى ليتأكد بنفسه أن ما يقوله حق، وذلك خلال الخبرة العملية الطويلة عن أحكام الله من جهة الأشرار منذ القرون الأولى حتى عصرهم.

لأَنَّنَا نَحْنُ مِنْ أَمْسٍ،

وَلاَ نَعْلَمُ لأَنَّ أَيَّامَنَا عَلَى الأَرْضِ ظِلٌّ [9].

يطالبه ألا يعتمد على خبرته حتى وإن كان شيخًا لأن العمر كله أشبه بيومٍ، كأنه بالأمس قد مضى، ومعرفته محدودة، وخبرته تكاد تكون عابرة مثل حياته. هذا ما يدفعنا للتطلع إلى خبرة الأجيال القديمة.

جاءت كلماته متقاربة مع ما تغنى به الملك داود في صلاته الوداعية، قائلاًً: “لأننا نحن غرباء أمامك ونزلاء مثل كل آبائنا. أيامنا كالظل على الأرض، وليس رجاء” (1 أي 29:15)، لكن قلبه وفكره لم يكونا كقلب داود وفكره. فالكلمات التي نطق بها بلدد نافعة، وكان يُمكن أن تكون مقدسة لو أن قلبه كان طاهرًا نقيًا ومحبًا ومقدسًا.

فَهَلاَّ يُعْلِمُونَكَ،

يَقُولُونَ لَكَ،

وَمِنْ قُلُوبِهِمْ يُخْرِجُونَ أَقْوَالاً قَائِلِينَ [10].

يحمل الآباء الأولون حبًا نحو أولادهم وأحفادهم، فيقدمون مع خبرتهم قلوبهم المتسعة لنا، لذا فإن كلماتهم لها وزنها.

v     وضع بلدد كلمات الحق العجيب ضد المرائين، لكنه بحديثه هذا كان يشير إلى نفسه. لأنه لو لم يكن متظاهرًا بالبرّ بصورة هزيلة ما كان قد تجاسر ليعلم إنسانًا صالحًا بطيشٍ عظيم كهذا… كلماته بالحق تحمل قوة رائعة، لكن كان يليق توجيهها للأغبياء وليس لرجلٍ حكيمٍ؛ للأشرار وليس لإنسان صالح، فإن من يسكب ماء في النهر بينما حدائقه جافة وظمأى يكشف أنه ليس بأقل من مجنون.

البابا غريغوريوس (الكبير)

سبق لي الحديث عن أهمية تراث الآباء في كتاب “بدء الأدب المسيحي الآبائي”، جاء فيه[349]:

[ما هو مدى التزامنا بما ورد في تراث الآباء؟

يمثّل الآباء القدّيسون فكر الكنيسة الجامعة الذي تسلّمته من الرسل بفعل الروح القدس الذي يعمل بلا انقطاع في حياة الكنيسة. يتحدّث عنهم القدّيس أغسطينوس، قائلاً: “تمسّكوا بما وجدوه في الكنيسة، عملوا بما تعلّموه، وما تسلّموه من الآباء أو دعوه في أيدي الأبناء[350]”، “من يحتقر الآباء القدّيسين إنّما يعرف أنّه يحتقر الكنيسة كلّها[351]”.

يقوم هذا السلطان على عاملين: عامل طبيعي إذ اتّسم الآباء بالحياة القدسيّة والأمانة في استلام وديعة الإيمان الحيّ من أيدي الرسل لذلك هم أقدر على الشهادة للحياة الكنسيّة من كل جوانبها، خاصة وأنهم يحملون الفكر الواحد، بالرغم من اختلاف الثقافات والمواهب والظروف، مع بُعد المسافات بين الكراسي الرسوليّة وصعوبة الاتصالات في ذلك الحين. والعامل الثاني إلهي حيث عاش الآباء منحصرين بالروح القدس قائد الكنيسة ومرشدها إلى كل الحق، يحفظها داخل دائرة صليب المسيح.

هذا لا يعني عصمة الآباء كأفراد، وإنّما تعيش الكنيسة الجامعة ككل محفوظة بروح الرب…

احتل تراث الآباء مركزا مرموقًا في حياة الكنيسة وإيمانها، اعتمد عليه القدّيس أثناسيوس في دفاعه[352]، كما اعتمد القدّيس باسيليوس على كثير من التقاليد الكنسيّة خلال أقوال الآباء السابقين له.

تزايد هذا الاتجاه، إي الالتجاء إلى أقوال الآباء السابقين، في القرن الرابع، ونما جدًا في القرن الخامس[353]. فالقدّيس كيرلس الإسكندري كمثال، في كتاباته إلى الرهبان المصريّين[354] دفاعًا عن لقب القدّيسة مريم ثيؤتوكوس – لتأكيد أن المولود هو كلمة الله المتأنّس دون انفصال اللاهوت عن الناسوت – أشار إليهم أن يقتفوا آثار القدّيسين. إذ حفظوا الإيمان المسلم إليهم من الرسل، وعلّموا المسيحيّين باستقامة. مرّة أخرى يؤكّد أن التعليم الصحيح الخاص بالثالوث القدّوس قد وضح “بحكمة الآباء القدّيسين[355]”. وفي حديثه ضدّ نسطور[356] التجأ إلى تعليم الكنيسة المقدّسة الممتدّة في كل العالم وإلى الآباء المكرّمين أنفسهم، معلنًا أن الروح القدس تحدّث فيه. ولتدعيم حديثه عن السيّد المسيح استند إلى بعض متقتطفات آبائيّة في كتاباتهم الجدليّة[357]، قدّمها إلى مجمع أفسس[358].]

هَلْ يَنْمُو الْبَرْدِيُّ فِي غَيْرِ الْمُسْتَنْقَعِ،

أَوْ تَنْبُتُ الْحَلْفَاءُ بِلاَ مَاءٍ؟ [11]

إذ يتهم بلدد أيوب بالرياء يقدم صورًا مؤلمة عن المرائي بوجه عام، غير أنه يعني أيوب بوجه خاص:

أولاً: بالبردي الذي لا ينمو إلا في مياه مملوءة وحلاً، والحلفاء الجاف الذي بلا ماء [11].

ثانيًا: بالعنكبوت الذي يتكل على بيته، فيظن أنه في آمان، مع أن بيته لن يثبت [14-15].

ثالثًا: بالعشب الذي تحرقه الشمس فتجففه، مع أنها سٌر حياة ونمو النباتات [16].

رابعًا: بمن يتعثر بالحجارة في الطريق، فيسقط ويهلك.

خامسًا: بالشجرة المورقة الجميلة التي يضرب الفأس بجذورها فتُقلع وتموت.

ما هي خبرة الآباء الأولين في هذا الأمر؟ يجيب الآباء بأن آمال المرائين وأفراحهم كالبردي والحلفاء. كلاهما ينميان في المستنقع وسط الطين أو الوحل أو الحمأة، وبالماء. هكذا المرائي لا يحقق رجاء. بدون أرض متعطنة أو جو غير الوحل. يتكل على مظاهر خارجية للتدين والتقوى والنجاح، مظاهره مخادعة، على الغرور بنفسه كلمات المديح الموجهة إليه، هذه كلها ليست إلا وحلاً، وآمالهم ليست إلا بردي وحلفاء.

إن كان البردي يشير إلى الإنسان المرائي الذي يحتاج إلى مياه الروح القدس المقدسة. في وسط المياه يوُلد المؤمن ابنًا لله بالروح القدس، وبمياه الروح يرتوي ويتجدد، حتى يحمل أيقونة السيد المسيح، فيتأهل لنوال شركة المجد الأبدي.

v     يشير بالبردي والحلفاء إلى حياة المرائي، إذ له مظهر الخضرة، لكن بلا ثمر نافع لخدمة الإنسان فمع كونه أخضر، له مجرد لون القداسة، يكون دائم الجفاف عديم الثمر عمليًا…

المراءون منفصلون عن واهب البركات الكثيرة بسبب نزعات فكر قلوبهم فمع نوالهم عطاياه يطلبون مديحهم لا مجد العاطي. وبينما يمجدون أنفسهم بمديح ذواتهم عن بركات موهوبة لهم، يقاومون صانع الخيرات بذات العطايا.

المرائي ينتقد بشدة حياة من يوبخه. إذ يتوق أن يثبت انه مخطئ فوق كل حدود، حتى يبرر نفسه، لا بما يمارسه من أفعال بل بإبراز أخطاء الآخرين… حسنا قيل بسليمان: “لا توبخ مستهزئا لئلا يبغضك” (أم 9: 8)…

هنا نحتاج أن نعرف أن سمو الصالحين يبدأ بالقلب وينمو إلى نهاية الحياة الحاضرة. أما ممارسات المرائين، فإذ ليس لهم جذور فإنهم غالبًا ما يبلغوا إلى لا شيء قبل نهاية الحياة الحاضرة. غالبًا ما يكرسون حياتهم للدراسات المقدسة، وإذ هم يفعلون هذا لا لإقامة مخازن للفضائل بل لنوال مديح وإطراء، فعندما يبلغون عبارة تهبهم مديحًا بشريًا يسرون بالنجاح الزمني. لهذا فهم فارغون تمامًا من الثقافة المقدسة، ويظهرون بسلوكهم بعد ذلك كيف يحبون الزمنيات، أما عن الأبديات فلا تتعدي الحديث عنها بشفاههم… إنهم شهود على أنفسهم أن صلاحهم ليس نابعًا عن القلب.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     لهذه الغاية اعتمد المخلّص هذا الذي لا حاجة به إلى العماد، حتى يقدِّس الماء لأجل الذين سيولدون من جديد[359].

القدّيس إكليمنضس السكندري

v     يُسمى العماد “غسل التجديد”، إذ يصحبه تجديد الروح الذي يرف على المياه.

v     يخلق الروح القدس لنفسه شعبًا جديدًا، ويجدد وجه الأرض، عندما يخلع الناس عنهم، من خلاله، “إنسانهم العتيق مع أعماله” (كو 9:3)، “ويسلكون في جِدَّة الحياة” (رو4:6).

v     كل من حُسِب مستحقا لشركة الروح القدس، بمعرفة أسراره غير المنطوق بها، سيحصل، وبكل تأكيد، على راحة وابتهاج القلب. فحيث قد توصل ، بإرشاد الروح إلى معرفة لكل ما يحدث من أمور – وكيف ولماذا تحدث – فلا يمكن لنفسه أن تضطرب أو تشعر بأسف.

v     الطبيعة الإنسانية ضعيفة. وحتى تصير قوية، فهي تحتاج إلى مساعدة من يقويها. مساعدة من؟ مساعدة الروح.

بمعنى أن الذي ينشد القوة الحقيقية، لا بد أن يصير قويا بالروح.

الأغلبية تصير قوية بالجسد، وحسب الجسد. أما جنود الله (2 تيموثاوس 3:2) فيصيرون أقوياء بالروح، وبالتالي شجعانا في مواجهة “الفكر الجسدي الذي يهتم بما للجسد (رومية 7:8). فالروح في مصارعة مع الجسد، أما روح الإنسان التي يقويها ذلك الروح فستحرز النصر.

العلاّمة أوريجينوس

v     اعتمد الرب لا ليتطهّر بل ليطهّر المياه، حتى إذا اغتسلت المياه بجسده الذي لم يعرف الخطيّة، جاز لها أن تُستخدم في العماد[360].

القدّيس أمبروسيوس

v     اعتمد المسيح، أعني طهَّر الماء بعماده[361].

العلاّمة ترتليان

وَهُوَ بَعْدُ فِي نَضَارَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ

يَيْبَسُ قَبْلَ كُلِّ الْعُشْبِ [12].

سرعان ما يظهر البردي بأوراقه الجميلة الخضراء، لكنه ييبس ويتلاشى في وقت وجيز، وقبل أن يُقلع (مز 129: 6).

هَكَذَا سُبُلُ كُلِّ النَّاسِينَ اللهَ،

وَرَجَاءُ الْفَاجِرِ يَخِيبُ [13].

سرّ الرياء هو نسيان الإنسان لله فاحص القلوب والعارف بالأسرار الخفية في الفكر.

v     “هكذا سبل كل الناسين الله، ورجاء المرائي يخيب“… رجاء المرائي لا يمكن أن يثبت، فإنه إذ لا يجعل الأبدية غايته يفقد كل ما يمسك به في يده. ميل فكره غير مثبت على المجد الذي لا ينتهي، وإنما إن هو يشهق طالبًا المديح الزائل يفقد ما قد تعب في نواله، يشهد “الحق” بذلك، قائلاً: “الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم” (مت 6: 2).

لا يستطيع أحد أن يربط نفسه بالزائل ويبقى هو نفسه غير زائل. فإن من يحتضن الأمور الزائلة بالطبع ينحدر إلى الزوال. ليقل: “ورجاء المرائي يخيب“.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     أيوب الذي خضع مرة أخرى للتجربة سبح الله وباركه، بالحق لم ينسَ الله. لهذا فإن نهاية الأبرار لا تُقارن بالعشب الذي يذبل بالحرارة [12]. إنه إذ يشبه شجرة مغروسة على مجاري المياه، تعطى ثمرها في حينه (مز 1: 3)، فإنه إذ يحتفظ بثمر الفضائل يسبب لغروس كثيرة في العالم أن تزهر.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     إنه مصدر فرح ومجد للبشر أن يكون لهم أبناء يتشبهون بهم… كم بالأكثر تكون مسرة الله عندما يؤكد إنسان روحي في أعماله وتسابيحه ويعلن السمو الإلهي في حياته[362].

القديس كيريانوس

v     يا أيتها النفس، ذاك الذي خلقكِ يمكنه أن يشبعكِ. فإن طلبت ِأمرًا آخر فلبليتكِ.

القديس أغسطينوس

فَيَنْقَطِعُ اعْتِمَادُهُ،

وَمُتَّكَلُهُ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ! [14]

إذ لا يعتمد المرائي على الله، فإن كل ما يرجوه بل حتى ما يناله يصير كبيت العنكبوت الذي ينسج مسراته وتعزيته بنسيج واهٍ.

ورد هذا النص في كتابات البابا غريغوريوس (الكبير) غباوته لا تشبعه…”

v     إنها غباوة لامتناهية أن يعمل الإنسان بمشقة ويركض لاهثًا وراء لحظة مديح، فيمارس الشخص الوصايا السماوية بجهدٍ جهيدٍ ويبتغي أجرة أرضية…

ومتكله بيت العنكبوت“… قد يحدث أن كلمات المرائين تدوم حتى نهاية الحياة الحاضرة ذاتها، ولكن إذ لا يطلبون مديح خالقهم، لا تحسب أعمالهم صالحة في عيني الله.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     “لأن رجاء الفاجر يخيب، بيته يكون بلا ساكن، وخيمته تبرهن أنها نسيج عنكبوت” (LXX). لماذا تقول هذا لأيوب؟ هل لأنك بالفعل تعرف نهاية المصارع، ولك وجهة نظرك من جهة ساكن بيته وخيمته كنسيج عنكبوت؟

لكن أنت تظن بأن بيته مصنوع من خشب وحجارة، مبني لأجله بالفضائل (مت 7: 24). إنك تتخيل خيمته مصنوعة من هذه الأرض، ولهذا السبب تظن أنها ستهلك كنسيج عنكبوت، مع أن مسكنه فعلاً في السماوات، ككلمات بولس: “لأننا نعلم أنه إن نقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السماوات بناء من الله، بيت غير مصنوع بيدٍ، أبديٌ؛ فإننا في هذه أيضا نئن مشتاقين إلى أن نلبس فوقها مسكنًا الذي من السماء” (2 كو 5: 1-2).

لهذا السبب أيوب أيضًا يئن، لكنك تنظر (يا بلدد) إلى هذه المراثي بكونها جبنًا وتجديفًا. إنه “يدعم بيته“، لا بأمورٍ منظورة، بل بما هو غير منظور.

لهذا ينطق الكتاب المقدس بعبارات الحكمة: “الحكمة بنت بيتها لنفسها، شيدت أعمدتها السبعة” (أم 9: 1)…

أخذ أيوب هذا بصبر، ولم يجحد ثقته في علاقته بالله، بل على العكس احتمل العدو بشجاعة، وصد هجماته الباطلة، حتى يستطيع أن يكون له وجه باسل ضد كل النزاعات في الهجمات الجديدة.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     الرياء يكرهه الله، ويمقته الإنسان. لا يجلب مكافأة، وبلا منفعة تمامًا في خلاص النفس، بل بالحري يكون علَّة هلاكها.

إن كان الرياء لا ينفضح أحيانًا، لكن إلى حين، إذ لا يدوم كثيرًا، بل ينكشف كل شيء، فيجلب على صاحبه وبالاً، وهكذا يكون أشبه بامرأة قبيحة المنظر تُنزَع عنها زينتها الخارجيَّة التي وُضعت لها بطرق صناعيَّة.

v     الرياء غريب عن سمات القدِّيسين، إذ يستحيل أن يفلت شيء مما نفعله أو نقوله من عيني اللاهوت، إذليس مكتوم لن يُستعلن، ولا خفي لن يُعرف. كل كلماتنا وأعمالنا ستُعلن في يوم الدين. لذلك فالرياء مُتعب وبلا منفعة. يليق بنا أن نتزكَّى كعباد حقيقيِّين نخدم الله بملامح صريحة وواضحة[363].

القدِّيس كيرلس الكبير

v     الكل يرى اللص “الرياء” يحمل كل شيء أمام عينيّه ويبتهج بذلك! يا لها من لصوصيّة جديدة من نوعها، تجتذب الناس وتبهجهم بينما هم يُسلبون![364]

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

يَسْتَنِدُ إِلَى بَيْتِهِ فَلاَ يَثْبُتُ.

يَتَمَسَّكُ بِهِ فَلاَ يَقُومُ [15].

يفتخر المرائي بأعماله ويتكل عليها، كما يمسك العنكبوت ببيته الواهي.

كما يظن العنكبوت أنه متحصن بنسيجه الذي به يصطاد فريسته وهو لا يدرك أن نسيجه يُمكن أن يُكتسح بسهولة هكذا الإنسان المرائي يتحصن في شكلياته ومظاهر تقواه وإمكانياته، وإذا به يفقد كل شيء.

v     “يستند إلى بيته فلا يثبت، يدعمه (بدعامة) فلا يقوم” [15]. كما أن بيت حياتنا الخارجية هو المبنى الذي يعيش فيه الجسم، هكذا بيت فكرنا هو أي شيء يركز الذهن عليه… لأن كل شيء نحبه يكون بالنسبة لنا كما لو كان مسكنًا يعطيه راحة. لذلك إذ ركز بولس قلبه على العلويات، فإنه وإن كان لا يزال على الأرض فهو غريب عليها. “محادثتنا في السماء” (في 3: 20). أما ذهن المرائي فإنه في كل ما يفعله لا يفكر في شيء إلا في سمعته وشهرته…

النفس الخاوية إذ تجد نفسها لا تحتفظ بشيء في داخلها بالرغم من كل أتعابها، تطلب شهادة من الخارج…

يتكئ المرائي على هذا البيت من الإطراء باطلاً، لأنه في يوم الدينونة لن تثبت شهادة بشرية. فإن المديح الذي ناله شهادة له تقبله كأجرة له.

البابا غريغوريوس (الكبير)

المسيحي وهو يسلك على الأرض بروح المسئولية والالتزام في كل ما يؤتمن عليه، يحمل لمسة سماوية في أفكاره كما في أحاسيسه ومشاعره، تترجم في كلماته وسلوكه الظاهر. حياتنا هي مدرسة إلهية خلالها نتعلم ونتدرب على الحياة السماوية، في كل اتجاهات حياتنا.

v     أريدكم أن تحفظوا أذهانكم في هذه الأمور على الدوام (كو 1:3). فإن اهتمامنا بها يحررنا من الأرض وينقلنا إلى السماء[365].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     يحق لنا أن نكون هناك في حضرة الله في السماوات، نحن الذين حفظنا الدرس بينما كنا على الأرض، وذهبنا هناك إلى السماء كي نكون في محبة الله الآب، ذاك الذي عرفناه ونحن على الأرض، ولأن الله الكلمة القدوس صنع كل شيء وعلمنا ويعلمنا كل شيء، وهو يدربنا في كل الأمور الصالحة[366].

القديس إكليمنضس الإسكندري

v     عندما تتحقق إرادة الله بواسطتنا نحن الذين على الأرض كما تتحقق في الذين هم في السماء نتشبه بالسمائيين إذ نحمل مثلهم صورة السماوي (1 كو 49:15) ونرث ملكوت السماوات (مت 34:25). ويأتي الذين بعدنا وهم على الأرض يصلون لكي يتشبهوا بنا إذ نكون نحن في السماء (الفردوس)[367].

العلاّمة أوريجينوس

هُوَ رَطْبٌ تُجَاهَ الشَّمْسِ،

وَعَلَى جَنَّتِهِ تَنْبُتُ أَغْصَانُهُ [16].

جاء كلمة الله المتجسد “شمس البرّ” الذي يشرق على الجالسين في الظلمة ليتمتعوا بنور البرّ، فيصيروا أبناء النور، وأبناء النهار. الشمس التي تنقلنا من ظلمة القبر إلى نور السماء، تجفف العشب. هذا هو عمل السيد المسيح الذي أقام البشرية من موت الخطية ودخل بها إلى أحضان الآب، أما الجاحدون الذين يصرون على عدم الإيمان به، فيجفون ويتأهلون للنار الأبدية.

v     “يرى رطبا قبل مجيء الشمس“. كثيرًا ما يُمثل الرب في الكتاب المقدس بلقب “الشمس“، كما قيل بالنبي: “ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البرّ” (مل 4: 2). الأشرار الذين يطردون في الدينونة يُوصفون في سفر الحكمة: “لقد ضللنا عن طريق الحق، ونور البرّ لم يشرق علينا، والشمس لم تشرق علينا” (حك 5: 6). لهذا فانه قبل الشمس يُرى البردي رطبًا.

البابا غريغوريوس (الكبير)

وَأُصُولُهُ مُشْتَبِكَةٌ فِي الرُّجْمَةِ،

فَتَرَى مَحَلَّ الْحِجَارَةِ [17].

يقيم منا حجر الزاوية حجارة حية مبنيين في بيت الرب، في الهيكل السماوي. أما الأشرار فيتعثرون في حجر الزاوية، فيسقطون ويهلكون.

يستخدم الأب هيسيخيوس الأورشليمي الترجمة السبعينية (LXX)، بينما يرجع البابا غريغوريوس (الكبير) للفولجاتا.

v     “يسقط على كومة من الحجارة، ويحيا وسط صوان“… يُشار إلى الناس في الكتاب المقدس بالحجارة، كما قيل للكنيسة المقدسة بإشعياء: “وأجعل شرفك ياقوتًا، وأبوابك حجارة منحوتة (بهرمانية)” (إش 54: 12)…

عبر بطرس عن ذلك بتقديمه النصيحة: “كونوا أنتم أيضا مبنيين كحجارة حية، بيتًا روحيًا” (1 بط 2: 5). هنا إذ يدعوهم حجارة لم يدعهم بأي حال “حجارة حية”، إنما باللقب المجرد للحجارة، إنه يقيم المفقودين والمختارين ممتزجين معًا.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     “ينام على كومة من الحجارة، ويعيش بين الحصى” هذه تخص أولئك الذين تكلم عنهم إشعياء: “هيئوا طريق الشعب… نقوه من الحجارة” (إش 62: 10). وأيضا: هيئوا الطريق، ارفعوا المعثرة من طريق شعبي” (إش 57: 14؛ 1 مكابيين 5: 4؛ مز 140: 6). يستنزف (العدو) ويجرح نفسه بموتٍ عضالٍ، عندما ننقي طرقنا من الشباك والحجارة المعثرة.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

إِنِ اقْتَلَعَهُ مِنْ مَكَانِهِ يَجْحَدُهُ قَائِلاً:

مَا رَأَيْتُكَ [18].

يقدم تشبيهًا آخر للمرائي وهو الشجرة الجميلة المزدهرة، التي تحتفظ بخضرتها بالرغم من أشعة الشمس، وجذورها ثابتة في التربة الصخرية، لا تزعزها الرياح. هذه الشجرة متى ضربها الفأس تُستأصل تمامًا ولا يبقى لها علامة في المكان الذي زُرعت فيه.

المرائي كالشجرة التي يشتهي الكل أن يتمتع بمنظرها، لكن إذ ضرب الرياء كالفأس بجذورها، تفقد حيويتها وثمارها وجمالها. تصير كالعذارى الجاهلات اللواتي لهن كل مظهر العذارى الحكيمات، لكن ليس لديهن زيتًا، فلا يحملن نورًا يخرج من مصابيحهن. يبقين في الظلمة، عاجزات عن الدخول في حجال العريس السماوي، حيث لا يمكن للظلمة أن يكون لها موضع فيه.

v     “إن كان الله يلزم أن يهلكه، فإن مكانه يجحده“. يهلك المرائي من مكانه، عندما يُنزع من مديح الحياة الحاضرة بتدخل الموت. لكن الشاهد الداخلي يجحده، وهكذا يهلكه، وتثبت أن الله لا يعرفه، إذ بعدل يدين حياة المتظاهر. الحق لا يعرفه، ولا يتعرف على الأعمال الصالحة التي مارسها. فإنه لم يمارسها بهدفٍ سليمٍ في الفكر. لهذا عندما يأتي الله إلى الدينونة سيقول للعذارى الجاهلات: “الحق أقول لكن إني لا أعرفكن” (مت 25: 12). فإنه إذ يرى فساد الفكر يدين حتى عدم الفساد الذي في الجسد.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     “إن كان أحد يُبتلع، فالموضع يجحده“. يقصد بالابتلاع في الكتاب المقدس ما قاله النبي إشعياء: “يُبتلع الموت إلى الأبد، ويمسح السيد الرب كل دمعة عن كل وجه” (إش 25: 8). لهذا السبب فإن “موضعه سيجحده“، لأن الابتلاع الذي به ابتلع الموت آدم (راجع رو 5: 17) حثه على عصيان أوامر الله (تك 2: 17)، يبتلع الموت نفسه لدماره.

لكن “موضعه يجحده“. أي موضع؟ ربما هذا يخص الموت، لأن موضع الخائن هو الموت.

أيضا يمكن القول: “يمسح كل دمعة عن كل وجه” (أش 25: 8). جعل (السيد المسيح) آدم مجيدًا بصلبه وموته وقيامته، ويحول للعدو مكر الواشي. لقد خلص آدم، واُغتصبت اللعنة بواسطة ذاك الذي تنتمي إليه كل الموجودات.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

هَذَا هُوَ فَرَحُ طَرِيقِهِ،

وَمِنَ التُّرَابِ يَنْبُتُ آخَرُ [19].

هذا هو مصير الشرير الرائي، فإنه كان يظن أن رجاءه يتحول إلى فرحِ. فانه يُقتلع كالشجرة ويحل محله آخر، في ذات الموضع.

  1. دعوة للكمال

بعد أن استعرض صورًا مؤلمة عن الإنسان المرائي ويقصد به “أيوب”، يقدم لنا صورة مبهجة للإنسان الكامل، مطالبًا أيوب أن يترك رياءه ليسلك طريق الكمال. ولعله وهو يصف ما يتمتع به الإنسان الكامل من رضا الله عنه وعن ذبائحه وتقدماته، وكيف يملأ فمه فرحًا وشفتيه هتافًا، ويتمتع بالنصرة على الأعداء الذين يحزنهم الرب، وضع أمام نفسه والصديقين أليفاز وصوفر. وكأنه يدعو أيوب أن يترك شره الخفي ويقتدي بأصحابه الثلاثة، الذين في ذهن بلدد هم كاملون. يرى بلدد أن خيمة أيوب الشرير لم يعد لها وجود، أما هم فلهم مساكنهم محصنة بالله، يرى الأب هيسيخيوس الأورشليمي أن ما تحدث به بلدد بخصوص الكاملين في الرب ينطبق على أيوب، ففيما هو يتهمه بالشر ويدعوه إلى الكمال، إذا به يدافع عنه وهو لا يدري.

هُوَذَا اللهُ لاَ يَرْفُضُ الْكَامِلَ،

وَلاَ يَأْخُذُ بِيَدِ فَاعِلِي الشَّرِّ [20].

في ختام حديثه يلخص بلدد فهمه اللاهوتي الأدبي وهو أن الله لا يرفض الكامل، بل يستجيب لطلبه حتى وإن بدا كأنه قد رفضه. ويحول نوحه إلى رقصٍ وفرحٍ، فيملأ فمه الداخلي بالضحك الروحي. عندئذ يخزى الذين عيروه حينما يرونه قد عاد على رخائه الأول وفرحه. يصير لباسهم هو الخزى والعار عندما يرونه متوجًا بالمجدِ

يقابل هذا أن الله لا يسند فاعلي الشر ويبيد خيمهم. ولعله أراد أن يلمح هنا إلى أيوب بكونه شريرًا لم يسمع الله لصرخاته، وقد أباد مسكنه تمامًا مع أسرته.

هذا هو حكم بلدد على أيوب الذي ينصحه أن يرجع عن شره ويتوب ويتهمه بالشر والرياء. حكم عليه وهو لا يعلم ما في قلبه ولا ما في فكره، بل لا يعلم ما دار بين الله والشيطان في السماء.

v     علي أي الأحوال فإن أيوب ليس بالإنسان الشرير، ولا بالجندي الشرير. على العكس يمكن للشخص أن يطبق عليه ما أضافه بلدد وهو غير مدرك أنه فيما هو يتهمه إذا به يصير مدافعًا عنه.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     بالتأكيد عندما يظهر الكامل في الدينونة يرفع في الحال من حال البسطاء المرذولين ويمجدهم، ويحطم عظمة أصحاب الفكر الشرير ويدينهم… هكذا لا يمد الله يده للأشرار في الفكر حيث أن كل الذين يطلبون المجد الأرضي يتركهم أسفل، حتى وإن كانوا قد فعلوا أمورًا صالحة، أيا كان صلاحها، فانه لا يهبهم الأفراح العلوية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

عِنْدَمَا يَمْلأ فَمَكَ ضَحِكًا،

وَشَفَتَيْكَ هُتَافًا [21].

يدعو بلدد أيوب لترك الشر والسلوك في طريق الكمال، لكي يتمتع بالضحك الروحي، والفرح في الرب. هذا الفرح الذي ينعم به المؤمن الحقيقي، حيث يحمل في داخله ربنا يسوع مُفرح القلوب.

المسيحية دعوة للتمتع بفرح السماء، فإن كان مسيحنا قد نزل من السماء متجسدًا، إنما لكي يحملنا إلى سماواته عروسًا متهللة بعريسها، لهذا يدعونا الرسول بولس وهو في السجن: “افرحوا في كل حين، وأقول يا إخوتي افرحوا”.

يرى القديس أنبا أنطونيوس أن الفرح هو طعام النفس، بدونه تجوع وتموت. الفرح الداخلي السماوي يسند النفس في تغربها عن موطنها السماوي، ويهيئ الجسد ليحمل سمة أشبه بالروحانية، فيتهيأ ليصير جسدًا روحانيًا في يوم الرب العظيم.

v     كما أن الأشجار إن لم تشرب من الماء لا يمكنها أن تنمو، هكذا النفس إن لم تقبل الفرح السماوي لا يمكنها أن تنمو وتصعد إلى العلاء. أما النفوس التي قبلت الروح والفرح السمائي فهي التي تستطيع الارتفاع إلى العلاء… فقد انكشفت لها أسرار ملكوت السماوات وهي بعد في هذا الجسد، ووجدت دالة قدام الله في كل شيء، وكملت لها جميع طلباتها.

v     النفس دائما تتربى بهذا الفرح وتسعد به، وبه تصعد إلى السماء، فهي كالجسد لها غذاؤها الروحي.

القديس أنطونيوس الكبير

v     من نظر في ذاته إلى ربنا، وامتزجت نفسه بنوره، يمتلئ قلبه بالفرح.

           الشيخ الروحاني

v     لا يليق بالإنسان أن يضحك في كل الأوقات فيكون كحيوانٍ ضاحكٍ… فالأحمق يرفع صوته عندما يضحك” (ابن سيراخ 23:21). أما الإنسان العاقل فيبتسم بشكل لا يلفت النظر…

ومن الجانب الآخر يليق بالإنسان ألا يكون مكتئبًا متجهمًا، بل فقط جادًا. لأني أفضل لمن كانت له ملامح صارمة أن يبتسم.

الابتسامة هي إحدى مبادئ التربية وموضوعاتها[368].

القديس إكليمنضس السكندري

v     الفرح الحقيقي هو فرح الحياة الأخرى، حيث لا تعذب النفس وتتمزق بالشهوة[369].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     ملكوت الله داخلكم يعنى الفرح الذي يغرسه الروح القدس في قلوبكم، بكونه أيقونة وعربون للفرح الأبدي الذي تتمتع به نفوس القديسين[370]. 

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v     “أفواه المخلصين تمتلئ ضحكًا، وشفاههم بهجة“. انتبه يا بلدد، وبسرعة تطلع إلي كلماتك وزنها… لكن “لا يمتلئ” بالحق إلا فيما بعد في الدهر الآتي، حيث تنتظر أيوب النعمة، وذلك بكونه إنسانًا مخلصًا. هناك أيضا سيتمتع بشفاهٍ مملوءةٍ بعمل النعمة، بمعنى مملوءة بالشكر لله.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     أعلن المسيح عن الضحك الصادر عن الفرح والبهجة كما يقول الكتاب المقدس في أيوب: “يملأ الفم الحق ضحكًا” (أي 8: 21). ربما لهذا السبب دُعي اسم أحد الآباء (البطاركة أي اسحق) “الضحك”، لأن الاسم يعني البهجة الإلهية[371].

العلامة أوريجينوس

v     “عندما يملأ فاك ضحكًا، وشفتيك هتافًا” [21]. فم الأبرار سيمتلئ ضحكًا عندما تكمل دموع رحلتهم، وستمتلئ قلوبهم بالكامل بهتاف الفرح الأبدي. بخصوص هذا الضحك يقول الحق لتلاميذه: “الحق الحق أقول لكم إنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح. أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحول إلى فرح” (يو 16: 20). مرة أخرى: “سأراكم أيضا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو 16: 22). بخصوص هذا الضحك الذي للكنيسة المقدسة يقول سليمان: “تضحك في اليوم الأخير” (أم 31: 25). قيل أيضًا إن من يخاف الرب يسير ذلك معه حسنًا حتى النهاية. لا يوجد هناك ضحك الجسد، بل ضحك القلب…

البابا غريغوريوس (الكبير)

يَلْبِسُ مُبْغِضُوكَ خِزْيًا،

أَمَّا خَيْمَةُ الأَشْرَارِ فَلاَ تَكُونُ [22].

v     “يلبس مخاصموك خزيًا“، سواء كانوا المنظورين أو غير المنظورين… فقد لبس المصري الخزي عندما رأى يوسف (تك 39: 20-21). صارت إيزابيل في نفس الوضع عندما رأت إيليا يشترك في وضع القديسين، ذاك الذي اضطهدته بطغيان (1 مل 19: 2)، أيضا المخاصمون لأيوب غير المنتصرين لبسوا أيضًا خزيًا عندما رأوا أيوب متهللاً بين الملائكة.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     إذ يرون أمام عيون ذهنهم أفعالهم الشريرة الماضية تتدفق، يلبسهم الإثم من كل ناحية، وينحدر بهم بثقله. عندئذ يعانون من ذكرى شرورهم وهم يُعاقبون.

البابا غريغوريوس (الكبير)

 

 

من وحي أيوب 8

لأقتنيك يا حكمة الله!

v     حبك أنزلك إلينا يا حكمة الله،

فأنت نوري وكنزي وسٌر فرحي وسلامي.

اقتربت إليّ، واشتقت إلى السكنى في داخلي.

لتدخل ولتقطن فيّ، فأقتنيك إلى الأبد.

v     بدونك من يضبط لساني فلا يكون ثرثارًا؟

أستطيع أن أروض الوحوش المفترسة،

لكن من يروض لساني غيرك؟

تشبع أعماقي بغناك، فلا أشعر بفراغٍ.

أشبع بك، فلا أجوع إلى الأحاديث الباطلة.

تملأني بعربون مجدك، فلا أدين أحدًَا!

أقتنيك فأقتني الحب الإلهي.

أصمت، لأتكلم معك عن كل بشرٍ.

أحب، فأشتهي مجد كل إنسانٍ.

v     لأقتنيك فأنت هو المصلوب،

أسلك كعضوٍ في كنيستك العروس المتألمة.

أجد لذتي وغناي وفرحي في الصلب معك.

لن تجتذبني الإغراءات الفلسفية الكاذبة،

ولا يقتنصني عدو الخير بجحد الكنيسة عروسك.

ولا أطلب راحة زمنية وسعادة وقتيه على حساب المجد الأبدي.

تبقي كنيستك المتألمة حاملة روح النصرة.

أنت في وسطها، فلن تتزعزع إلى الأبد!

v     لأقتنيك فأقدمك لكل خاطي جريح.

أقدمك بلغة الحب والترفق في حكمتك، لا بلغة النقد اللاذع والتجريح.

سترت علىُ، هب لي أن أستر إخوتي.

رفعتني من الجحيم إلى الفردوس، هب لي أن احتضن بالحب الساقطين معي.

عجيب هو خلاصك، وعجيبة هي حكمتك!

 اجعلني بك حكيمًا عجيبًا في حبي لإخوتي!

v     علمني يا أيها الحكمة الإلهي كيف أصلي إليك.

لتلهب قلبي بحبك، فلن أطلب إلا أن أقتنيك، وتقتنيك كل البشرية معي.

ماذا تقدم لي سوى سكناك فيّ.

ماذا أترجى سوى أن أتحد معك.

أية مكافأة لي، إلا التمتع بك!

هب لي حكمتك، فأقتنيك، وبك اقتني كل شيء بحلولك في داخلي!

v     متى تأتي أيها الحكمة الإلهي،

فأنعم بآخرة مجيدة، أنعم بشركة الأمجاد السماوية.

تحملني إلى حضن الآب، فتستقر نفسي هناك أبديًا.

تتحول أتعابي إلى راحة سماوية، وآلامي إلى عذوبة دائمة،

وميتاتي اليومية إلى بهجة القيامة!

v     هب لي يا رب أن تشرق بنورك عليّ،

فأعرف أسرارك الفائقة.

أختبرها بغنى بنعمتك،

أتذوقها في حياتي كما خلال خبرة آبائي.

لتعمل حكمتك فيّ كما في آبائي.

لا أن أتمسك بكلمات آبائي دون حياتهم.

هب لي قلبًا مقدسًا يتسلم الوديعة المقدسة،

ويُسلمها لا في حرفيات وشكليات،

بل بروح الحق والقداسة.

v     لتروني من مياه روحك القدوس،

فأكون كشجرة الزيتون المغروسة في بيتك.

لن يقدر العدو أن يقترب إليها،

ولا لتجاربه أن تفقدها حيويتها ونموها.

أرتوي بذكراك الدائمة، فلن يفارق اسمك شفتي.

ولا تُنزع صورتك من قلبي!

أذكرك دومًا فأمتلئ رجاءً.

اختبئ فيك، فأجد أمانًا وسلامًا.

عوض بيت العنكبوت الذي نسجته لنفسي،

استقر في أحضانك يا حصن حياتي.

v     بك يا حكمة الله يزول عني كل رياء.

فلا أكون كالبردي الذي ينمو في مياه بها وحل،

بل كشجرة مغروسة على مجاري مياه روحك القدوس.

ولا أكون كالعنكبوت المحمي ببيت واهٍ،

بل أقطن فيك يا مصدر كل أمانٍ.

لا أكون كعشبٍ تحرقه الشمس فتجففه،

بل أتمتع بنورك المشرق على أعماقي.

ولا أكون متعثرًا بالحجارة في الطريق،

بل أصير حجرًا حيًا في الهيكل السماوي.

ولا أكون كشجرة مورقة ضرب الفأس بجذورها،

بل شجرة زيتون مغروسة في بيتك المقدس.

v     بك تتهلل نفسي،

بك أتمتع بعربون فرح السماء!

بك أصير العروس المقدسة الحكيمة.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى