تفسير سفر يشوع ١٠ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح العاشر

ضرب الخمس مُلوك

إذ سمع أدوني صادق ملك أورشليم أن يشوع قد إستولى على أريحا وعاي، وعقد بنو جبعون أصحاب المدينة العظمة صلحًا معه أرسل إلى الملوك المحيطين به وأتفق الخمس ملوك الأموريين الذي في أورشليم وجبرون ويرموت ولخيش وعجلون على ضرب جبعون، فاستغاث أهل جبعون بيشوع الذي خلصهم من هؤلاء الملوك واستولى على مدنهم وكل منطقة الجنوب.

جبعون والملوك الخمس          [1-6].

إن كان بنو جبعون يمثلون صغار النفوس من المؤمنين، الذين يشتركون في العبادة المسيحية لكنهم لم يخلعوا بعد أعمال الإنسان العتيق، فأن هؤلاء يتعرضون لنوع معين من الحرب الروحية ألا وهي حرب الحواس الخمسة وهياجها ضدهم. وكأن الملوك الخمسة الذين ثاروا ضد جبعون يشيرون إلى هذه الحرب التي يتعرض لها الضعفاء، هؤلاء الذين كانوا أصدقاء لجبعون وصاروا أعداء لها مجرد عقد معاهدة صلح مع يشوع. يقول العلامة أوريجانوس: [عندما تدخل نفس بشرية في عهد مع كلمة الله (يشوع) يجب ألا تشك في قيام أعداء ضدها للحال، بل وينقلب أصداقاء الماضي إلى أعداء لها. لا تتوقع هذا من ناحية الناس فحسب بل وبكل تأكيد يحدث من جهة قوى الشر والأرواح الشريرة التي تنزل إليها لمحاربتها. هكذا عندما يبحث الإنسان عن الصداقة مع يسوع، فليعلم أنه يجب أن يحتمل جفاء الكثيرين, يؤيد الرسول بولس ذلك بقوله: “جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون” (2 تي 3: 13). وأيضًا يقول الحكيم: “يا بُني إن تقدمت لخدمة الرب فأعدد نفسك للتجربة” (إبن سيراخ 2: 1). إذًا لا يزال سكان جبعون محاصرين حتى اليوم بسبب دخولهم في علاقة عهد مع يشوع، مهما كان ضعفهم حتى وإن كانوا محتطبي حطبًا ومسقي ماء. هذا يعني أن أي إنسان في الكنيسة حتى وإن كان الأخير فإنه بتعرض لعدوان الملوك الخمسة مادام في علاقة مع يسوع. ومع أن سكان جبعون هكذا ضعفاء (وعبيد) لكنهم ليسوا مُهملين ولا مُحتقرين من قبل يشوع أو الرؤساء… الذين يسندون ضعفهم. أليس الأمر لا يزال هكذا عندنا، إذ يوصي الرسول قائلاً: “شجعوا صغار النفوس، إسندوا الضعفاء، تأنوا على الجميع” (1 تس 5: 14). هذه هي طريقة يشوع مع رؤساء جنوده، إذ يسندون من تحاربهم قوى الشر لأجل إسمه. لا بقوة في النضال فحسب، وإنما يُطيل نهارهم ويضيف من مدة النور مؤخرًا دخول الظلمة [12-14][161]].

بعد أن تحدث العلامة أوريجانوس عن هياج الملوك الخمسة على النفوس التي دخلت مع يشوع الحقيقي في مصالحة، مؤكدًا مساندة يشوع ورجاله لها حتى إن التزم الأمر أن يطول النهار ويتأخر الليل، تحدث عن المعنى الرمزي لهؤلاء الملوك، قائلاً: [لنرى ما هو معنى الملوك الخمسة؟… قلنا مرارًا أن للمسيح نوعين من النضال: نضال خاص بالقديسين مثل بولس وأهل أفسس إذ يقول بنفسه: “فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف 6: 12)؛ أما بالنسبة للذين هم أقل قوة والذين مازالت لهم أخطائهم فهؤلاء يكون نضالهم ضد اللحم والدم، إذ لا يزالون محاصرين بالرزائل وسقطات الجسد. أظن أن هذا هو المقصود في هذا النص. فقد قلنا أن الخمسة ملوك قد أعلنوا الحرب على سكان جبعون، الذين حسب اعتقادنا يرموزون إلى المسيحيين غير الكاملين. هؤلاء محاصرون بخمس ملوك، الذين يرمزون إلى الحواس الخمس لجسد الإنسان: النظر والسمع والمذاق واللمس والشم. فالإنسان لا يسقط في الخطية إلاََّ خلال هذه الحواس. هكذا تُقارن الحواس الخمس بالملوك الخمسة الذين يحاصرون سكان جبعون، أي الذين يعبدون الجسد[162]].

 

الاستغاثة بيشوع                  [7-10].

“فأرسل أهل جبعون إلى يشوع إلى المحلة في الجلجال، يقولون: لا ترخ يديك عن عبيدك. أصعد إلينا عاجلاً وخلصنا وأعنا، لأنه قد إِجتمع علينا جميع ملوك الأمورييين والساكنين في الجبل. فصعد يشوع من الجلجال هو وجميع رجال الحرب معه وكل جبابرة البأس” [6-7].

 يتحدث القديس أغسطينوس عن إمكانية الإنسان، أنه قادر أن يروض الوحوش المفترسة لتخضع له وتطيعه فيستأنس بها، لكنه عاجز تمامًا عن أن يروض نفسه خاصة لسانه[163]. فإن كان الملوك الخمسة يشيرون إلى الحواس الثائرة في الإنسان الداخلي، فليس من يقدر أن يروض هذه الوحوش المفترسة إلاَّ يشوع الحقيقي، خالق الحواس ومقدسها! ليس هناك طريق للخلاص إلاَّ أن يستغيث بنو جبعون بيشوع الذي في الجلجال ليدحرج[164] عنهم عارهم وينزع عنهم كل ضعف.

ليست نفوسنا إذن تئن من نيران حرب شهوات الجسد، إن كان بالنظر أو خلال اللمس أو بأي حاسة تلجأ إلى يشوعنا الحقيقي، تصرخ إليه لكي يصعد إلينا عاجلاً ويخلصنا ويعيننا. هو الذي خلق حواسنا، قادر وحده أن يقدسها، ويردها عن إنحرافها عن هدفها، ويطفئ لهيب الشهوات عنها. لهذا يقدم لناالقديس جيروم الصلاة كعلاج ضد هذه الشهوات: [الصلاة تطفئ نار النفس وهكذا أيضًا الثقة بالرب[165]]. ويؤكد القديس يوحنا الدرجي: [عندما نكون غير قادرين على الصلاة ضد الخليقة الشريرة (الشياطين) فإنها تثير هجومًا ضدنا[166]].

ينصحنا القديس يوحنا الدرجي أن نلجأ إلى ربنا يسوع المسيح عندما نشعر بثقل الحرب، خاصة حرب الزنا، دون الإلتجاء إلى المباحثات والمجادلات مع العدو. [لا تظن أنك تقدر أن تغلب شيطان الزنا بالمباحثات والمجادلات، فمن يُصمم على مقاومة (شهوات) جسده والتغلب عليها، هكذا إنما يحارب باطلاً، فإنه إن لم يدمر الله بيت (شهوات) الجسد ويقيم بيت النفس يكون سهر الإنسان وصومه باطلين… قدم للرب ضعف طبيعتك، مدركًا تمامًا عجزك وعدم قدرتك، فتقبل منه عطية العفة غير المدركة[167]]…

 

سقوط حجارة برد    [11].

صعد يشوع للحرب ضد هؤلاء الملوك وكان الرب نفسه يشدده، قائلاً له: “لا تخفهم، لأنيّ قد أسلمتهم. لا يقف رجل منهم بوجهك” [8].

صعد إليهم بغتة طول الليل، والرب نفسه أزعج العدو وضربه ضرية عظيمة في جبعون وطرده في طريق عقبه بيت حورون، وضربه إلى عزيقة وإلى مقيدة… وبينما كان العدو هاربًا من أمام إسرائيل وهو منحدر بيت حورون رماه الرب بحجارة برد عظيمة من السماء فكان القتلى بالحجارة أكثر من القتلى بالسيف. كأن الغلبة على هؤلاء الملوك تحققت بأمرين السيف وبحجارة البرد النازلة من السماء. فإن كان هؤلاء الملوك يشيرون إلى الحواس الخمس التي تدنست وصارت في حالة حرب ضد الإنسان الداخلي، فلكي نغلب يلزمنا أن نبتر بسيف الروح كل شر فلا يكون له بعد وجود في حواسنا، كما نحتاج إلى حجارة البرد السماوية التي ينزل بها الروح على الحواس فيطفئ لهيب الشر فيها، واهبًا إياها برودة فيما هو أرضي لتلتهب من جديد نحو ما هو سماوي. إن حجارة البرد قاتلة لمحبة الأرضيات، لكنها نازلة من السماء لكي ترتفع بالحواس إلى ما هو سماوي.

 

إطالة النهار        [12-14].

إذ غلب يشوع الأموريين طلب من الله أن يؤجل حلول الليل حتى تكمل النصرة، قائلاً: “يا شمس دومي على جبعون، وعلى قمر وادي أيلون” فدامت الشمس ووقف القمر حتى إِنتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوبًا في سفر ياشر: “فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل، ولم يكن مثل ذلك اليوم قبله ولا بعده سمع فيه الرب صوت إنسان، لأن الرب حارب عن إسرائيل” [12- 14].

اعتقد بعض المفسرين أن المعركة كانت حامية الوطيس لدرجة أنه خيل لبني إسرائيل أن النهار كان أطول من المعتاد[168]. لكن واضح من كلمات الوحي أن الشمس قد تأخر غروبها مستشهدًا بذلك من سفر ياشر، وواضح أن هذا السفر أو الكتاب ليس سفرًا من أسفار الكتاب المقدس، لكنه سفر غالبًا سجله رجل علماني أحب الشعر والأدب، فيه سجل بعض الأحداث الهامة الدينية والزمنية، وإذ شاهد تأخر غروب الشمس أو سمع عنها سجل ذلك في قصيده ضمنها كتابه. وكأن كاتب سفر يشوع يستشهد بهذا الحدث العجيب بكتابات رجل علماني. ومما يجدر ملاحظته أن التاريخ أيضًا يشهد بحوادث مماثلة. يقول هيرودت أن كهنة المصريين أطلعوه على وثائق تتحدث عن يوم أطول من المعتاد. وتفيد الكتابات الصينية أنه كان هناك يوم مماثل لهذا في عهد إمبراطورهم يو، وهو معاصر ليشوع، وفي المكسيك وثائق تثيت أن يومًا طويلاً حدث في إِحد السنين، وهي نفس السنة التي كانت يواليّ فيها يشوع حروبه[169].

يرى العلامة أوريجانوس في هذا الحدث صورة رمزية لعمل يشوع الحقيقي في حياتنا حيث يطيل نهارنا للعمل من أجل خلاصنا ويؤجل ليل الظلمة حتى لا يفتك بنا العدو. يقول: [نوّد إن أمكن إظهار كيف نشر الرب يسوع النور وأطال النهار خلاص النفوس وإبادة قوى الشر. منذ جاء المخلص كانت نهاية العالم قد حانت، إذ كان يقول بنفسه: “توبوا لأنه قد إقترب السموات” (مت 4: 17). لكنه أجلّ يوم النهاية ومنع ظهوره. لأنه إذ رأى الله الآب أن خلاص الأمم لا يتحقق إلاَّ بيشوع قال: “إسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وسلطانك إلى أقصي الأرض” (مز 2). فإلى أن يتحقق وعد الآب هذا وتنموا الكنائس يضم الأمم وجميع الصالحين إليها، وحتى يخلص كل إسرائيل يطول النهار وتتأخر نهايته. فالشمس لا تغيب قط بل تشرق على الدوام، أي شمس البر الذي يبعث نور الحق في قلوب المؤمنين. ولكن عندما يكمل عدد المؤمنين يأتي الوقت الشرير، الجيل الأخير الذي فيه تفتر محبة الكثيرين بسبب تصاعد الأنانية وانعدام البر، عندئذ لا يتبقى إلاَّ مؤمنون قليلون عندئذ تقصر الأيام (مت 24: 22). نعم الله نفسه يعرف إطالة الأيام في زمن الخلاص وتقصير الزمن في وقت الشدائد والضياع وأما بالنسبة لنا فليتنا نسير بأمانة في وضوح النهار ونعمل أعمال النور مادمنا نحظى بالنهار ويطول بنا وقت النور[170]].

مرة أخرى يقول العلامة أوريجانوس: [بينما نحن نحارب ضد أعدائنا “ضد الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف 6: 12). لا يكف شمس البرّ عن مصاحبتنا، إذ لا يتركنا قط. إنه لا يتعجل الغروب، إذ يقول بنفسه: “ها أنا معكم كل الأيام” (مت 28: 20)، ليس معنا لفترة يوم مضاعف فحسب وإنما كل الأيام إلى إنقضاء الدهر حتى ننتصر على أعدائنا (الشياطين)[171]].

على أي الأحوال فإن ما حدث يعلن عمل الله العجيب خلال خدامه، وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [إن كانت الشمس قد توقفت في جبعون، والقمر في وادي إيلون إلاَّ أن هذا العمل ليس عمل إبن نون، بل عمل الرب الذي سمع الصلاة، هذا الذي إنتهر البحر، وعلى الصليب جعل الشمس تظلم (مت 27: 45)[172]].

 

الملوك في مغارة   [15-23].

“فهرب أولئك الخمسة ملوك واختبأوا في مغارة مقيدة… فقال يشوع: دحرجوا حجارة عظيمة على فم المغارة وأقيموا عليها رجالاً لأجل حفظهم. وأما أنتم فلا تقفوا بل إسعوا وراء أعدائكم وأضربوا مؤخرهم. لا تدعوهم يدخلون مدنهم، لأن الرب إلهكم قد أسلمهم بيدكم” [16-19].

لماذا اختبأوا في مغارة في مقيدة؟ إن كان هؤلاء الملوك الخمسة يشيرون إلى تدنيس الحواس أو هجوم حرب الحواس ضد المؤمنين، فإن هذه الحرب غايتها أن تدخل بالإنسان إلى المغارة، أي تنزل به إلى أعماق الأرضيات لتحبسه فيها، فلا يقدر أن ينطلق إلى السماويات. وفي هذا يقول العلامة أوريجانوس: [المغارة هي مكان منحوت في عمق الأرض، فإن كنا نتكلم على حواس الإنسان المنشغلة بالأرضيات ولا تهتم إلاَّ بما يشتهيه الجسد دون خدمة الله يمكننا أن نقول بأن حواسه مختبئة في عمق الأرض[173]]. لهذا يليق بنا أن نتحرر من سلطان هؤلاء الملوك ليحتل يسوع المسيح مكانهم، فلا ندخل إلى المغارة بل نرتفع إلى الحياة السماوية.

حرب هؤلاء الملوك قديمة قدم الإنسان، فقد جاءت الحية تتسلل زاحفة على الأرض لكي تسحب قلب حواء إلى المغارة عوض أن يرتفع نحو الأبديات… ولم يكن ممكنًا للشيطان أن يأسر قلبي آدم وحواء لو لم ينزلا إلى الرضيات ويشتهيا الزمنيات. يقول القديس أمبرسيوس: [الحية تمثل الشهوات الجسدية التي تجعل البشر يزحفون على  الأرض، هؤلاء الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم (في 3: 19)، يأكلون ما هو ترابي[174]]. ويقول الأسقف أغناطيوس بريانشانينوف: [أنظروا أيها الإخوة ماذا يفعل الشيطان؟ ماذا سيفعل؟ إنه يقود ذهن الإنسان من السماء الروحية إلى الأمور المادية، يربط قلبه بالأرض والاهتمامات الأرضية. تأمل وأحذر[175]]. لهذا يقول القديس برصنوفيوس: [إن أردت أن تخلص إِلتزم بالموت عن كل ما هو أرضي. إِحسب نفسك كلا شيء وجاهد من أجل ما هو أمامك لئلا تحت مظهر العمل الصالح يشغلك الشيطان بقلاقل في غير آوانها]. ويؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم: إلتزامنا أن نرتفع إلى السماء ونحن على الأرض، فلا ننخدع بحيل إبليس بل نرتبط بملكنا السماوي، قائلاً: [لا تظن أن لك شيئًا يربطك بالأرض، فإن جسدك لم ينتقل بعد إلى السماء لكن رأسك يقطن فوق! نعم لقد جاء الرب أولاً إلى هنا، وإذ أحضر ملائكته إنما بقصد أن يأخذك معه ويرحل بك إلى هناك، حتى تدرك أنه يمكنك حتى قبل ذهابك إلى هذا الموضع أن تقطن على الأرض كما لو كانت سماء[176]].

إن كان دنس الحواس يود أن يحبسنا في الأرضيات ويخنق نفوسنا كما في مغارة فإنه يليق بنا تحت قيادة يشوع أن نحبس الدنس في مغارة وندحرج عليه حجارة كبيرة ونقيم عليه رجالاً كحراس، ونتفرغ لبقية الحروب حتى يملك يشوع لنعود فنقتل الدنس تمامًا. ماذا يعني هذا إلاَّ عدم إعطاء فرصة للدنس أن يدخل معنا في مباحثات، إنما نغلق عليه بحجارة عظيمة ونقيم حراسة روحية على حواسنا ونعمل عمل الرب الإيجابي فلا يكون للشر بعد قوة على مقاومتنا. يليق بالمسيحي أن يهتم بالجانب الإيجابي أكثر من السلبي، فعندما نهتم أن يملك يشوع على العين مثلاً فتقدس بالروح القدس لنتطلع دائمًا إلى السماويات لا تعود بعد حرب “النظر الدنس” تُمثل عبئًا على النفس! لنهتم بالأكثر أن يملك يشوع فينا ولا نُكتل كل القوة على محاربة السلبيات في حياتنا. يقول العلامة أوريجانوس: [يجب أن نعلم أن الممالك التي هزم يشوع ملوكها وجعلهم يلجأون إلى المغارة، هذه الممالك بعينها تدخل فيما بعد في ميراث القديسين، وتحسب “نصيبُا للرب”، مثل أورشليم ولخيش وحيرون. في رأيي هذا يعني أن الحواس الخمس الجسدية بعد أن يهزمها يسوع ويجردها من خيانتها للإيمان، بعد موت الخطية فيها، إذ تكف عن عبوديتها للخطية، هذه الحواس الخمس تصبح في خدمة الروح لعمل البرّ. هكذا أورشليم التي كان يحكملها ملك غير شريف ولا نبيل صار يحكمها فيما بعد داود القوي وسليمان الحكيم[177]].

إن رب المجد يسوع يطلب أن يُرفع ليقيم الميت لعازر من القبر، مشتاقًا أن يحلّ رباطات كل إنسان ويطلقه من قبر الاهتمامات الزمنية والشهوات الجسدية، نراه هنا خلال الرمز يأمر بدحرجة حجارة عظيمة على المغارة وإقامة الحراس ليستلم هو المملكة. إنه يُريد أن يحررنا ويطلقنا لكنه يكتم أنفاس الشر ويشدد الحراسة ضده دون تفاهم معهم أو جدال، كما سبق فقلت. وكما يقول القديس يوحنا كليماكوس: [لا تظن أن تبطل شيطان الفجور بالجدال معه[178]]. كما يقول [إِغلق باب القلاية بالنسبة لجسدك، وباب لسانك بالنسبة للكلام، والبوابة الداخلية بالنسبة للأرواح الشريرة[179]].

 

الفتك بالملوك    [24-27].

طلب يشوع من القادة أن يضعوا أرجلهم على أعناق هؤلاء الملوك، ثم يقتلوهم ويعلقونهم على خشب حتى المساء. وعند غروب الشمس أمر بإنزالهم وطرح جثثهم في المغارة التي اختباؤا فيها، ووضع حجارة كبيرة على فم المغارة.

أولاً: طلب يشوع من القادة أن يضعوا أرجلهم على أعناق هؤلاء الملوك، قائلاً لهم: “لا تخافوا ولا ترتعبوا، تشددوا وتشجعوا، لأنه هكذا يفعل الرب بجميع أعدائكم الذين تحاربوهم” [25]. وكأنه بيسوع المسيح ربنا الذي أعطانا أن ندوس على الحيات والعقار وكل قوة العدو (لو 10: 19)، مقدمًا لنا إمكانية الغلبة والنصرة على سلاطين الشر، فنحارب روحيًا ضد الخطية بغير خوف، متشددين ومتشجعين بيسوعنا الغالب . إن كان الأعداء قد ملكوا في قلوبنا لكننا بيشوع نطأهم تحت أقدامنا لكي يملك هو فينا. يقول العلامة أوريجانوس: [لنصلّ إذًا لكي تكون أقدامنا قوية وصالحة، تقدر أن تدوس عنق أعدائنا وتسحق راس الحية تمامًا فلا تقدر أن تلدغ عقبنا[180]]. كما يقول: [ليت الرب يسوع، ابن الله، يمنّ عليَّ بنعمة سحق روح الشر والميل إلى الغضب والعنف وشيطان البخل والكبرياء[181]].

ثانيًا: تعليقهم على خشب، إنما يذكرنا بصلب ملك عاي، فقد رأينا في ذلك رمزًا لصلب الشيطان بطريقة غير منظورة وتجريده من كل سلطان (كو 2: 14) بصلب ربنا يسوع المسيح[182]. صلب هؤلاء الملوك إنما يُشير إلى صلب أهواء الجسد ودنس حواسه لكي يموت الشر فتقوم الحواس مقدسة في الرب. وكما يقول الرسول: “كذلك أنتم أيضًا احبسوا أنفسكم أمواتًا عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا” (رو 6: 11).

ثالثًا: أنزلوا الجثث إلى المغارة التي اختبأوا فيها… لقد نزلوا إلى عمق الأرض بإرادتهم، وها هم يسقطون كجثث إلى نفس الموضع بغير إرادتهم هذا ما يؤكده كثير من آباء الكنيسة أن الخطية تحمل ثمرتها فيها، فمن اختار المغارة الأرضية ينزل إلى الأعماق بغير إرادته، وكأن هلاكه الأبدي إنما يكون إمتدادًا طبيعيًا لما مارسه على الأرض. الذي يحيا في الباطل وهو بعد في العالم، يصير باطلاً في العالم الآخر، أما من يحب السماويات ويرتفع قلبه فوق المغارة، غالقًا بابها بحجارة كبيرة، فلا تقدر مغارة الجحيم أن تبتلعه ولا يمكن لأبواب الأرضيات أن تنتظره، إنما يعطيه الله شهوة قلبه وهو الإرتفاع ما فوق الأرضيات!

رابعًا: الفتك بالملوك الخمس إنما يُشير إلى غلبتنا بربنا يسوع على شهواتنا، يقول القديس أمبرسيوس: [كان يشوع بن نون الذي أذل الملوك الخمس وأخضع الجبعونيين مثالاً لذاك الذي له ذات الإسم، القادم إلينا، فبسلطانه تنهزم كل الشهوات الجسدية ويهتدي الأمم، فيتبعون إيمان يسوع المسيح عوض شهواتهم ومطالبهم القديمة[183]].

 

الإستيلاء على مدن الجنوب  [28-43].

لم يقف الأمر عند قتل الملوك الخمس، وإنما شنَّ يشوع برجاله حربًا ضد ملوك الجنوب واستولى على المدن والسهول إلخ…

يتحدث العلامة أوريجانوس: في شيء من الإطلالة على هذه الحروب وما تحمله من رموز للحرب الروحية والتمتع بالميراث الأبدي، إذ يقول: [إن كانت الرموز القديمة من خيمة الاجتماع والمقدسات وجملة العبادات تسمى بدء السماويات إنما هي بدء السماويات وظلها، هكذا يجب القول بأن الحروب التي قادها يشوع حيث قتل الملوك والأعداء إنما هي بدء السموات وظلها أيضًا، أي ظل للحروب التي يشنها يسوع إلهنا على ضد الشيطان وملائكته. إنه يقودها بجيشه وجنوده، أي بجماعة المؤمنين الذين تحت قيادته. وبالفعل حارب يسوع الذي لبولس ولأهل أفسس ضد السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، ضد أجناد الشر الروحية في السماويات (أف 6: 12). أترى كيف تتفق الأشياء الجديدة مع القديمة؟ فقد تلقي الأولون وعدًا بمملكة على الأرض المقدسة حيث الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، هذه التي يسكنها خطاة وملوك مبغضين، فيصل يسوع إلى هذه الأرض مع جيش الرب ورؤساء إسرائيل، ويحاربهم جميعًا، ويقتلهم وينتصر ويتسلم مملكة الذين غلبهم كثمن للنصرة. أما أنت فالإنجيل لا يعدك بمملكة على الأرض بل ممكلة في السماء. هذه المملكة ليست شاغرة ولا بدون سكان… اسمع ما قيل “مع أجناد الشر الروحية في السماويات” [12]. هل تفهم من هؤلاء السكان الذين يلزمك طردهم من السماويات بالحرب والعنف (الروحي) حتى يتسنى لك ميراث هذه المواضع في الملكوت السماوي؟ أليس واضحًا أن هذا هو معنى كلمات الرب في الإنجيل: “من أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السماء يُغصب والغاصبون يختطفونه” (مت 11: 12)… إن كنا مستحقين يفتح لنا الرب يسوع قصر حكمته ويدخل بنا إلى كنوز علمه… عندئذ ترى أي عدو يرمز إليه ملك مقيدة وملك لخيش وملك لبنة، وتدرك أي رذيلة داخلية أو أي ضلال للروح يمثله هؤلاء الذين قتلهم شعب الله بقيادة يشوع[184]]. كما يقول: [اليهودي الذي يقرأ هذه الأحداث، وأنا أتحدث هنا عن اليهودي حسب الظاهر الذي خُتن في جسده والذي يجهل اليهودي الحقيقي الذي خُتن بالقلب ، فإنه لا يجد هنا سوى وصفًا لحروب وقتلاً للأعداء وإِنتصارًا للإسرائيليين الذين نهبوا ممتلكات الغرباء والوثنيين تحت قيادة يشوع؛ أما اليهودي بالقلب أي المسيحي التابع ليسوع ابن الله وليس ليشوع بن نون، فإنه يفهم هذه الأحداث بكونها تمثل أسرار ملكوت السموات. إنه يقول: “اليوم أيضًا يحارب سيدي يسوع المسيح قوى الشر ويطردها من المدن التي كانت تحتلها، أي يطردها من أرواحنا. إنه يقتل الملوك الذين كانوا يحكمونها، فلا تعود تملك الخطية فينا؛ حتى بعدما تتحرر أرواحنا من حكمه تصبح هيكلاً للرب ولملكوت الله، فنسمع الكلمات: “ملكوت الله داخلكم”… إذن، لنفهم جيدًا أنه إن كان يشوع قد قتل ملك أريحا وملك عاي وملك لبنة وملك لخيش وملك حبرون، فإن هذا كله إنما كي تعيش هذه المدن خاضعة الرب بعد أن كانت تمارس ناموس الخطية، خاضعة لملوك أشرار[185]].

أما المدن التي إستولى عليها يشوع، فتحمل كل منها معنى روحيًا مزدوجًا، يناسب ملكها الشرير الذي كان يسيطر عليها كما يليق بمفهوم جديد يليق بها بعد أن يملك يشوع عليها هذه المدن في الواقع هي حياتنا يملك عليها يشوعنا، إذ نقول له: “ها أنا اقدم لك روحي وقلبي وجسدي بكمالهم بلا تحفظ، فكل ما يحيا فيَّ إنما يحيا لك يا واهب الحياة! لتستلم كل قدراتي، لتمتلكها بكمالها[186]]. أما أهم المدن فهي:

أ. مقيدة: إِسم كنعاني يعني (موضع الرعاة)، ربما كانت خربة الخيشم التي تقع شمال شرقي تل زكريا. إنها المدينة التي اختبأ فيها الملوك الخمسة المهاجمون ليشوع في إحدى مغاراتها [16]، فكانت موضعًا لمثل هؤلاء الرعاة الأشرار المفسدين للحواس، لكن يشوع قد صلب هؤلاء الملوك ودفنهم في نفس المغارة ليجعل منها موضعًا مقدسًا له، لا يملك عليها أحد غيره ولا يقطنها غير مؤمنيه، إذ “حرم ملكها هو وكل نفس بها، لم يبق شاردًا” [28]. لقد صارت بحق موضع الرعاة، لكن ليس الرعاة الأشرار بل الرعاة الذين يتبعون يشوع ويعملون لحساب ملكوته الروحي. متى ملك إبليس على القلب قدم المسخرين القساة رعاة فيه، أما متى ملك ربنا يسوع فيرسل رعاة حسب قلبه يعملون بإسمه وبإمكانياته الإلهية.

 ب. لبنة: إِسم سامي معناه بياض، تقع في الساحل ما بين مقيدة ولخيش ويرجح أنها المكان المسمى تل بورناط على مسافة ميلين شمال غربي بيت جبرين، ويرى البعض أنها تل الصافي أو الصافية. يعلق العلامة أوريجانوس على اسم المدينة قائلاً: [لبنة تعني بياض، والبياض يمكن أن يُفهم بطريقتين: فهناط بياض البرص، وأيضًا بياض النور، إذ يمكن أن يكون للكلمة معنيين متناقضين. فتحت قيادة الملوك الأشرار لبنة تعني بياض البرص، ولكن بعد هدمها وتحويلها إلى قيادة الإسرائليين صار إسمها يعني بياض النور، لأنه في الكتاب البياض أيضًا يكون للمدح وأحيانًا يعبر عن اللوم[187]]. إذًا لبنة تمثل مدينة داخلية قائمة في حياة كل إنسان؛ إن كان غير مؤمن تكون لبناه هي بياض برص الخطية الذي ينجس النفس ويفسد حياتها، ويعزلها عن كل المقدسات. وكما تقول الشريعة: “إنه نجس، فيحكم الكاهن بنجاسته… تكون ثيابه مشقوقة ورأسه مكشوفًا ويغطى شاربيه ويُنادى نجس نجس… يقيم وحده، خارج المحلة يكون مقامه” (لا 13: 44- 46). أما إن كان الإنسان مؤمنًا يسلك في المسيح يسوع بالروح والحق فتكون لبناه هي بياض النور الذي يشع فيه خلال شمس البر الساكن داخله. يكون كثوب المسيح في تجليه أبيضًا كالنور (مت 17: 2).

ج. لخيش: وهي مدينة حصينة، كانت تعرف قبل الحصى التي تبعد مسافة 16 ميلاً شمال شرقي غزة، و11 ميلاً جنوب غربي مدينة جبرين. ويرى العلامة أوريجانوس أن كلمة لخيش تعني (طريق). ويعلق على ذلك بقوله: [في الكتاب يكون الطريق موضع مديح أو ذم. هذا ما يمكن إثباته بسهولة بالمزمور القائل: “أما طريق الأشرار فتهلك” (مز 1: 6) وبمعني عكسي يقول: “وهداهم طريقًا مستقيمًا” (مز 107: 7). يمكننا أن نفهم لخيش أنها كانت قبلاً طريق الأشرار، أما بعد أن ضُربت وسُلبت وأُقيمت من جديد كطريق مستقيم تحت سيطرة إسرائيل[188]].

د. حيرون: دعيت أصلاً قرية أربع (تيترابوليس)، بنيت سبع سنين قبل صوعن، وقد وجدت في أيام إبراهيم (تك 13: 18؛ 35: 27)، وتغرب إسحق ويعقوب فيها مدة من الزمن (تك 35: 27؛ 37: 14). زارها الجواسيس ووجدوا فيها بني عناق (عد 13: 22)… طالب كالب بن يفنة بالمقاطعة التي بها حبرون، أما حبرون فصارت إحدى مدن الملجأ.

كلمة “حبرون” كما يرى العلامة أوريجانوس تعني (زواج)، [فالروح قد اقترنت أولاً بالشيطان كزوج شرير غير صالح. بعد موت هذا الزوج الظالم وتحرير الروح من حكم الزوج الأول تقترن برجل البر، الزوج الشرعي الذي يتكلم عنه بولس الرسول: “لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” (2 كو 11: 2).

يلاحظ أن في عمل يشوع مع هذه المدن أنه يمثل عمل ربنا يسوع ألا وهو الهدم والبناء، هدم الإنسان القديم وإقامة الإنسان الجديد فينا؛ هدم الشر حتى أساساته ليقيم أساسًا جديدًا للبناء الجديد. يقول العلامة أوريجانوس: [أول عمل لكلمة الرب هو اقتلاع الشر القائم، أي شوك الرذائل وحسكها، لأنه مادامت الأرض في قبضة جذور الشر لا يمكن إلقاء بذور الخير المقدسة فيها. فأول عملية للرب لا غنى عنها هي اقتلاع جذور الخطية وانتزاع كل ما لم يزرعه الآب السماوي وإهلاكه في النار. أما العملية الثانية فهي القيام بالغرس. ماذا يغرس الآب؟ يقول موسى إن الله غرس الجنة (تك 2: 8)، لكنه لا يزال يغرس كل يوم في نفوس المؤمنين. إنه ينتزع الغضب ويزرع الهدوء؛ يقتلع الكبرياء ويغرس الإتضاع، يُزيل جذور النجاسة ويزرع الطهارة، يقتلع الجهل ويضع المعرفة… هكذا أول أعمال كلمة الله هو هدم ما قد أقامه الشيطان في النفس البشرية، إذ شيد في كل واحد منا مرتفعات الكبرياء وأسوار التعالي. لكن كلمة الله تهدم هذه المباني وتجعلها تنهار حتى يتسنى لنا أن نصير كقول الرسول: “كرم الله وهيكله” (1 كو 6: 19)، مُؤسيسين على الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية هذا الذي يرتفع عليه المبنى الشاهق المنظم ليصبح بالروح هيكلاً للرب (أف 2: 21)[189]].

فاصل

سفر يشوع: 12345  – 6789 –  101112131415161718192021222324

تفسير سفر يشوع: مقدمة12345  – 6789 –  10111213141516 1718192021222324

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى