البابا بطرس الخامس

السير إلى الأمام رغم الضيقات

 كانت القلوب في اضطراب حينما انتقل البابا الإسكندرى من دار الظلمة والظلم إلى دار النور والانصاف . لذلك ظل الكرسي المرقسي شاغراً سنة تنقصها أربعة أيام إذ لم يكن في وسع الأساقفة والأراخنة أن يجتمعوا معاً للتداول والتشاور. على أنهم استجمعوا شتات أفكارهم ورأوا أن المؤمن الذي يلقى همه على ربه يجب أن يسير في حياته مؤدياً واجبه حاملاً مسئوليته رغم كل ضيق.

فاجتمع الأراخنة والأساقفة بالكنيسة التي أصبحت المقر البابوى وهي كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة ودعوا الآباء والأساقفة ليجتمعوا معهم كي يتشاوروا واياهم في أمر من يتولى رعايتهم .

وكان بين من استعرضوا من الرهبان ناسك وديع ورع بتميز بالتقوى والعلم اسمه بطرس، بدأ حياته الرهبانية في دير الأنبا مكاري الكبير ببرية شيهيت ثم اختير رئيساً لرهبان دير شهران الذي ذاع صيته بذيوع فضائل الأنبا برسوم العريان، فلما تناقش المجتمعون في ما امتاز به بطرس من الخصال استقر رأيهم بالاجماع على انتخابه. وبهذا الانتخاب الاجماعی أصبح بطرس الخامس البابا المرقسي الثالث والثمانيين سنة 1340م.

القسوة تمتد إلى نقش القبور

 وقد حدث في بداية بابويته أن بعض المسلمين في الريف اشتكوا رجلاً إلى القاضي بدعوى أنه قبطي مع أن جده كان مسلماً. واستمع القاضي إلى المشتكين وأصدر حكمه بوجوب اعتناق هذا القبطى الدين الأسلامي، ولكنه رفض أن يخضع لهذا الحكم. وعند ذاك أمر  القاضي بالقانه في السجن . وفي الليلة الأولى من سجنه ذهب القبط في جنح الظلام وأخرجوه منه . وحين رأي المسلمون هذه الجرأة قرروا اعدام كل من يستطيعون القبض عليه من الأقباط الذين حاولوا بدورهم أن يهربوا إلا أن عددا كبيرا منهم نال إكليل الشهادة بعد أن ذاق العذابات الأليمة. ويبدو أن الدم المهرق زاد المعتدين رغبة في الشر فاعتدوا على الكنيسة وسرقوا ما بها من ذخائر وهدموها . ثم شيدوا مسجدا مقابل المكان الذي كانت الكنيسة مشيدة عليه. وكلما اقترفوا اثماً إزدادوا قسوة بعد ذلك بالتنكيل بالأحياء بل نبشوا القبور وأخرجوا الجثث وأحرقوها . وكان من الطبيعي أن ترتبك الأمور فرفع الحاكم تقريرا إلى السلطان محمد بن قلاوون ( في مدة حكمه الثالث ) شكا فيه من سوء تصرف القاضي واستثارته الجماهير. فكان هذا التقرير حافزاً للقبط ليتقدموا هم أيضا بالشكوي مطالبين بإعادة بناء كنيستهم . وعندها أمر السلطان باستقدام القاضي إليه لمحاكمته. فأحتج بعض المسلمين قائلين بأنه من العيب محاكمة قاض مسلم لأنه اضطهد القبط. على أن السلطان لم يعبأ باحتجاجهم وحكم بعزل القاضي فبدأت فترة من السلام.

الالتقاء في دير الأنبا مقار

 ومن مراحم الله أن فترات السلام كانت في ذلك القرن العصيب فرصاً مواتية. وهنا العجب – لأن القرن الرابع عشر كان يفيض بالضيقات والاضطهادات العنيفة. ومع ذلك فإن الآباء كانوا يجدون الحاجة ماسة لعمل الميرون دليلاً على أن صمود الكنيسة أمام الضيق لم يكن مستمراً فحسب بل كان مثمراً أيضا. وقد تمت الشعائر المقدسة في دير الأنبا مكاري الكبير ببرية شيهيت كالمعتاد . وقد لبى الدعوة البابوية اثنا عشر أسقفاً والتقوا جميعاً في رحاب أبي برية شيهيت حيث استمتعوا بالخلوة مع الله في هدوء نفسي شامل وبخاصة لأن الشعائر المقدسة اقيمت أثناء الصوم الأربعيني المقدس. ثم انه لما أحتفى الجميع بعيد القيامة المجيد عادوا إلى كراسيهم يحمل كل منهم ما يحتاج إليه من الميرون المقدس .

إندلاع النار من جديد

 على أنهم ما كادوا يستقرون في ايبارشياتهم حتى اندلعت نيران الاضطهاد مرة أخرى . فقام الغوغاء بهدم بيوت القبط القائمة أمام مساكن المسلمين، واستمروا في الاعتداء فأخذوا يتعقبون القبط في الطرق ويمزقون لهم ثيابهم ويضربونهم ، ومن وجدوه راكباً دابة أنزلوه عنها عنوة ، بل أنهم ذهبوا إلى حد أنهم كانوا يلقون عليهم أحيانا اللهب المشتعل، فأدت كل هذه الاعتداءات المستمرة إلى اعتصام القبط ببيوتهم والامتناع من الظهور في الشوارع حتى لقد خيل للرائي أنهم انقرضوا تماماً.

الكتب العديدة ضد المسيحيين

 وفي هذه الساعات العصيبة لم ينصب الضيق على الأشخاص فحسب بل ظهرت إلى جانبه کتب عديدة ضد القبط، أبرزها “منهاج الصواب في قبح استكتاب أهل الكتاب”، وبعد أن أعلن المؤلف سخطه على القبط أورد الأدلة التي قدمها المماليك تبريراً لاستخدامهم في دواوينهم إذ يقولون “لكن الضرورات تبيح المحظورات ولولا ضرورتهم ما قدمناهم ولكن للحاجة إليهم استكتبناهم” والواضح أن مبتغى النفوذ كانوا يتخوفون من الأثر النفسي البعيد الذي كان للكاتب القبطى على الأمير الذي يعمل في دیوانه. فقد كتب كاتب المنهاج أيضا : “ونجد الأمير مع ذلك يفوض إليه أمره ويطلعه على سره ويرجع إلى قوله في اقطاعه وغلمانه وحاشيته حتى أن عدو الله تكون حرمته عند حاشية الأمير والفلاحين أكثر من حرمة الأمير : يقبلون يده ويقفون على رأسه إذا جلس لا يخالفه الأمير فيما يقول ولا يفعل إلا ما يشیر به. وهذه الكلمات وغيرها تبين أن مهارة القبط كانت المبرر الوحيد لاستخدامهم إذ يستمر كاتب المنهاج فيقول: ( فمن الواضح للغبي الجاهل أن هؤلاء يكونون للأموال أكثر استخراج، ويكون الاقطاع مباشرتهم أكثر خراجاً. وليس ذلك فحسب ، بل ان مهارتهم الادارية قد دعمتها مهارتهم في الطب والعمارة.

جحود وأرتداد

ومن المحزن أن استمرار الضغط والتضييق قد جعل عددا كبيراً من أعيان القبط يتنكرون لدينهم ويتحولون عنه إلى الأسلام. وفي هذا يقول النویری “ولما منعوا من الاستخدام بالديار المصرية أسلم جماعة كبيرة من أعيانهم لأجل مناصبهم فاستمروا بعد اسلامهم على ما كانوا عليه “

ولهذا السبب كان القبط المعتنقون للأسلام موضع احتقار المسلمين وتشككهم إلى حد أنه صدر الأمر بعدم استخدام القبطى حتی بعد اشهاره الأسلام لأنه على حد قول المقريزى إنما أسلم طمعاً في الاحتفاظ بوظيفته وجاهه . بل أن المسلمين اتهموهم بأنهم أسلموا في الظاهر فقط وأنهم استمروا على حياتهم المسيحية في بيوتهم.

عودة السلام

 إلا أن المثل القائل بأن التاريخ يعيد نفسه لا يعبر عن حقيقة واقعية من تسلسل الحوادث في بلادنا فحسب وإنما هو يؤكد لنا استمرار رعاية الله ومراحمه . وقد بدت هذه الحقيقة في تلك الحقبة إذ قد تغلبت في النهاية رغبة السلطان قلاوون في استقرار الأمن وفي تنصيب العدالة مرة أخرى. فحل الهدوء محل الاستبداد وبدأ القبط يتنفسون في شيء من الحرية من جديد .

نياحته

وما أن اطمأن البابا المرقسي على شعبه وأحست نفسه بالسكينة حتى انتقل إلى عالم النور والعدالة المستقرة.

ولقد ساند الأنبا بطرس الخامس في صلواته سميه أسقف القيس المعروف بأنبا بطرس المسكين . فلقد اشتهر هذا الراعي بكونه رجل صلاة إذ كان مداوماً عليها ضارعاً إلى الآب السماوي أن يترفق بشعبه المعذب . ولقد استجيبت صلواته إذ عاش ليرى السلام والأمن مستقرین.


من كتاب قصة الكنيسة القبطية ج3 – إيريس حبيب المصري

فاصل

البابا بنيامين الثاني  القرن الرابع عشر العصور الوسطى البابا مرقس الرابع 
تاريخ البطاركة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

زر الذهاب إلى الأعلى