تفسير سفر يشوع ١٤ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الرابع عشر

نصيب كالب

إذ قُسمت الأراضي الواقعة شرق الأردن على السبطين ونصف، طالب كالب بن يفنة بالجبل الذي وعده به موسى بسبب أمانته وإيمانه عندما جاء للتجسس منذ حوالي 45 عامًا. لقد طالب بالجبل قبل أن يقوم يشوع بتوزيع الأراضي الواقعة غرب الأردن.

  1. مقدمة عن كيفية التقسيم         [1-5].
  2. كالب يطلب نصيبه                [6-9].
  3. كالب فوق الزمان                 [10-11].
  4. كالب المجاهد                    [11].
  5. كالب والجبل المقدس              [12].
  6. تمتعه بحبرون                    [13-15].
  7. مقدمة عن كيفية التقسيم…

يرى العلامة أوريجانوس أنه يستحيل أن يهتم الكتاب الإلهي بعرض أبعاد الأرض ميراث كل سبط بدقة وبشيء من التفصيل لمجرد التعرف على واقع كل سبط في الأرض الجديدة، وإنما كما جاءت الطقوس اليهودية شبهًا للسماويات وظلاً لها (عب 8: 5)، فإن تقسيم الأرض وأسماء المناطق ومدن الملجأ ومدن اللاويين وإقامة الهيكل فيما بعد في أورشليم إلخ… هذه الأمور في تفاصيلها الدقيقة تحمل أسرارًا سماوية يكشفها الروح لنا. يقول العلامة: [عندما تأتي أيها اليهودي إلى أورشليم وتجدها مدمرة، وقد تحولت إلى تراب ورماد، لا تبكي كطفل (1 كو 4: 20). لا تحزن إنما اطلب مدينة في السماء عوض التي تبحث عنها على الأرض! أرفع نظرك إلى فوق فستجد “أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا” التي هي حرة (1 كو 14: 20). لا تكتئب لأن الهيكل متروك، ولا تيأس إذ لا تجد كاهنًا، ففي السماء مذبح ويوجد كهنة للخيرات العتيدة يجتازون أمام الرب على رتبة ملكي صادق (عب 5: 10). إنها محبة الله ومراحمه أنه رفع عنكم الميراث الأرضي لتطلبوا السماوي[212]].

وإنني لا أُريد الدخول في تفاصيل كثيرة وإنما أكتفي بعرض بعض المفاهيم الروحية للتقسيم تاركًا روح الرب يسندك ويرشدك، محولاً حتى ما يبدو خاصًا بالأرض القديمة إلى ما يخص خلاصهم وأبديتهم.

 في هذا الأصحاح يميز الوحي الإلهي بين ثلاث فئات عند التقسيم [1-3]:

أ. الفئة الأولى: وهي التي قبلت أن ترث الأرض التي تملكوها في أيام موسى، أي خلال الناموس، وتضم سبطي رأويين وجاد ونصف سبط منسي، لكن هذه الفئة لن تتسلم الميراث إلاَّ على يدي يشوع. إنها تمثل فئة رجال العهد القديم الذين عاشوا أيضًا خلال يشوع الجديد. وفي شيء من التجاوز نستطيع أن نقول بأن هذه الفئة أيضًا تضم الذين هم في عهد النعمة لكنهم للاسف يسلكون كمن هم تحت الناموس، حرفين في فهمهم للكلمة, وناموسيون في تصرفاتهم، وضيقون في فكرهم. مساكين هؤلاء الذين عبروا مع يشوع نهر الأردن لكن بحياتهم وفكرهم ارتدوا إلى ما هو وراء الأردن ليعيشوا كأطفال روحيين عوض النضوج الروحي. إنهم يمثلون الشاب المريض الذي يحّن إلى تصرفت الطفولة، يلهو باللبن واللعب عوض التمتع بالطعام القوي والجدية في التصرف.

ب. الفئة الثانية: هي التي قبلت أن ترث الأرض التي تملكوها في أيام يشوع، أي في عهد النعمة، تضم تسعة أسباط ونصف، وهي تمثل الإنسان الذي ارتفع من تحت الناموس لينطلق من الحرف إلى الروح. هؤلاء لا يرثون مع السبطين والنصف أرض جلعاد الخاصة برعاية الغنم، بل يرثون الأرض التي تفيض عسلاً ولبنًا، فينطلق المؤمن من رعاية الغنم حيث الفكر الحيواني الجسداني إلى الميراث الأبدي حيث الطعام الجديد.

ج. أما الفئة الثالثة: فهي جماعة اللاويين الذين لا ينالون نصيبًا في وسطهم، ولا يكون لهم نصيب في الأرض. لأن الرب نفسه نصيبهم (13: 14). هذه إن صح لنا التعبير أن نقول “فئة الكاملين” الذين يعيشون مع يشوع ليس طمعًا في أرض أو بركات حتى السماوية، وإنما يطلبون الرب نفسه نصيبهم. فإن كانت الفئة الأولى تمثل العابدين من أجل البركات الزمنية (الذين تحت الناموس)، والثانية تمثل العابدين من أجل البركات الروحية، فإن الثالثة لا تطلب شيئًا غير الله وحده الذي هو كل حياتهم وفرحهم وإكليلهم. يقول العلامة أوريجانوس: [لم يحصل اللاويين على الميراث من موسى ولا من يشوع لأن الرب إله إسرائيل هو نصيبه… فإن عددًا كبيرًا من شعب الله لديهم الإيمان البسيط في خوف الله، يرضون الله بأعمالهم الطيبة وعاداتهم الأمينة، لكن قليلون ونادرون من تُوهب لهم الحكمة والعلم ويحفظون قلبهم نقيًا ويزرعون في نفوسهم أجمل الفضائل، ويكون لعلمهم الإمكانية لإنارة الطريق للآخرين… هؤلاء بلا شك يُقال عنهم أنهم لاويون وكهنة، نصيبهم هو الرب، الذي هو الحكمة التي اختاروها فوق كل شيء[213]].

ليتنا نصير كاللاويون والكهنة لا يكون لنا نصيب في أرض الميراث، إنما يكون هو نصيبنا، نقبله فينا بكونه حكمة الله (1 كو 1: 30)؛ فهو برّنا (أر 33: 6، 1 كو 1: 30) وسلامنا (أف 2: 14) وفداؤنا (1 كو 1: 30).

  1. كالب يطلب نصيبه…

“فتقدموا بنوا يهوذا إلى يشوع في الجلجال، وقال له كالب بن يفنة القنزي: أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله من جهتي ومن جهتك في قادش برنيع كنت ابن أربعين سنة حين أرسلني موسى عبد الرب من قادش برنيع لأتجسس الأرض…” [6-7].

قبل أن يبدأ يشوع في القرعة لتوزيع الأرض بين الأسباط التسعة والنصف، تقدم كالب بن يفنة القنزي ليشوع ليذكره بالوعد الذي ناله منذ خمسة وأربعين عامًا حين عاد معه إلى موسى بعد التجسس يتحدثان بأمانة وإيمان عن أرض الموعد على خلاف بقية الجواسيس الأخرى الذين أذابوا قلب الشعب من الخوف. لم يدخل كالب في القرعة مع بقية الشعب إنما طالب بامتياز خاص به ناله من الرب شخصيًا على فم موسى النبي، أما سرّ هذا الامتياز فهو:

أولاً: في دراستنا لسفر العدد رأينا أن كلمة “كالب” إنما تعني (قلب)، وأن التحام يشوع بكالب إنما يعني التحام الإيمان بيسوع المخلص بنقاوة القلب العملية للتمتع بالميراث الأبدي[214]]. ويرى العلامة أوريجانوس أن “يفنة” تعني (تحوّل) وأن “قنزي” تعني (المحتقر)[215]. يمكننا إذن أن نقول أن امتياز كالب إنما لأنه يمثل القلب المتولد عن التحول عن الاحتقار. بهذا سبق الكثيرين في نوال الميراث، ليس لأنه أفضل منهم، وإنما لأنه وهو المحتقر قد تحول عن هذه الحياة ليعيش قلبًا نقيًا في الرب. كلنا أبناء القنزي أي ابناء المحتقر، إذ “بإنسان واحد (بأبينا آدم) دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع” (رو 5: 12). لكن كالب يعرف أن يستبدل هذا الإنسان الواحد الذي جلب إليه الاحتقار والموت بإنسان آخر هو ربنا يسوع فصار له عطية البرّ وتمتع بحق الامتلاك، وكما يقول الرسول عن هذا التحول: “لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البرّ سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح” (رو 5: 17). وكأن الرسول يقول في هذا الأصحاح (رو 5) بعد أن كنا بسبب أبينا آدم مملوكين للموت، صرنا بيسوع المسيح ربنا نملك الحياة فيه! بعد أن كنا موضوع ميراث للخطية صرنا نحن وارثين الملكوت الأبدي.

حقًا لقد نُسبنا جميعًا للقنزي أي المحتقر، لكن إن صار لنا في نسبنا يفنة أي (التحول)، فإننا بهذا ننتقل من أبوة آدم الجسدية إلى الأبوة الروحية التي لله في ابنه يسوع المسيح فننعم بالميراث الأول.

ثانيًا: ارتباط كالب بيشوع، وقد سبق لنا الحديث عن ارتباط القلب بالإيمان، فلا نقاوة للقلب خارج الإيمان بيسوع، ولا غلبة له بدونه. حين نرتبط نحن كقلوب بيشوعنا الحق، إنما ننفتح له فيملك في إنساننا الداخلي ويتربع على القلب كعرش له، وكما يملك فينا نحن نملك به في ميراثه الأبدي. لنرتبط بيشوعنا، ولنسلم له حياتنا فيملك فينا ونحن نملك فيه. وكما يُناجي القديس أغسطينوس ربه قائلاً: [لتستلم كل قدراتي لكي تمتلكها بكمالها… لتُعيد إليَّ سيادتي بكاملها[216]].

ثالثًا: كان لقاء كالب بيشوع في قادش برنيع، و”قادش” إنما تعني (قداسة)، فإن لقاءنا مع ربنا يسوع لا يكون بحق إلاَّ خلال الحياة المقدسة كثيرون يظنون أنهم يعرفون السيد ويلتقون به ربما خلال الكرازة به وربما خلال صنع المعجزات باسمه، لكنهم إن لم يلتقوا به في الحياة المقدسة يقول لهم: “ابعدوا عنيّ يا ملاعين لأنيّ لا أعرفكم”…

رابعًا: إن كان كالب قد نال الوعد من الله خلال موسى ممثل الناموس، لكن تحقيق الوعد لن يتم إلاَّ بيشوع الذي وحده يقدر أن يهب المكافأة. يقول العلامة أوريجانوس: [لقد تعلم كالب أولاً من موسى وبعد ذلك من يشوع الذي عاونه. إنه يقول ليشوع: “أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله” [6]. أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب، فإنه ليس من يقدر أن يدرك الكلمة التي نطق بها الرب لموسى إلاَّ يشوع وحده ليس من له إدراك للناموس مثل يسوع في تعليمه، إذ هو الذي علمنا وكشف لنا كل شيء، وهو الذي أوحى لبولس أن “الناموس روحي” (رو 7: 14)[217]]. فيشوعنا هو الذي يعرف الوصية التي خلالها ننال المكافأة ليست كاستحقاق ذاتي لنا وإنما خلال يسوع ربنا، الذي يُقدم لنا الوصية والذي يسندنا في تنفيذها والذي يهبنا المكافأة عنها.

خامسًا: أدرك كالب أن ميراثه إنما هو شركة ميراث مع يشوع، إذ يقول له: “أنت تعلم الكلام الذي كلم به الرب موسى رجل الله من جهتي ومن جهتك”. إن امتيازنا الحق في التمتع بالميراث هو أننا “وارثون مع المسيح” (رو 8: 17)، ما نناله إنما هو ميراث المسيح نفسه، وأمجاده التي ننعم بها فيه، أي خلال عضويتنا في جسده. ليس لنا في أنفسنا استحقاق الميراث، لكن ثوبتنا في المسيح وهبنا هذا الاستحقاق. يقول الرسول بولس: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح” (أف 1: 3)، مؤكدًا أن مجد نعمته التي أنعم بها علينا إنما هي في المحبوب (أف 1: 6)، فإن كان المسيح هو محبوب الآب الذي له المجد، فإننا إذ صرنا فيه صارت لنا نعمة هذا المجد الذي له! وبأكثر إيضاح يُكمل الرسول: “الذي في نلنا نصيبنا” (أف 1: 11).

سادسًا: إن كان ميراث كالب هو ثمرة اتحاده مع يشوع لينعم به وفيه بالمجد، فإن هذا لا يعني سلبية كالب أو تراخيه في تكميل الوصية، إذ يقول: “وأما أنا فاتبعت تمامًا الرب إلهي” [5]. وكأنه يقول: من جانبي قبلت وصية الرب إلهي الذي التقي معه على مستوى شخصي فصار منسوبًا ليّ “إلهي” وتممت وصيته تمامًا. إن كانت نعمة الله غنية جدًا في العطاء، لكنها لا توهب للمتراخين في تنفيذ الوصية الإلهية.

أخيرًا نقول أن كالب يدعو الله “إلهي”، فمن يقبل الله إلهه شخصيًا، منسوبًا إليه، إنما أيضًا يقبل أمجاد الله أمجاده، وسمات الله سماته، ونوالنا الميراث إنما هو ثمرة ملكيتنا لله وملكية الله لنا: “أنا لحبيبي وحبيبي ليّ” (نش 6: 3).

  1. كالب فوق الزمان…

 “والآن فها قد استحيانيّ الرب كما تكلم هذه الخمس والأربعين سنة من حين كلم الرب موسى بهذا الكلام حين سار إسرائيل في القفر. والآن فها أنا اليوم ابن خمسو وثمانين سنة، فلم أزل متشددًا كما في يوم أرسلني موسى” [10-11].

إن كان الميراث الذي ينعم به المؤمن هو الحياة الأبدية التي تعلو فوق الزمن، وهذا الميراث إنما هو امتداد لحياة يعيشها الإنسان هنا، لهذا يليق بنا لكي ننعم بالميراث أن ندخل الآن في دائرة الأبدية فلا نلتصق بدائرة الزمن التي بدورانها ترفعنا وتهبط من وقت إلى آخر. نعيش ونحن بعد على الأرض بفكر سماوي لا يقدر الزمن أن يفسده أو يضعفه. لقد نال كالب الوعد وهو في سن الأربعين وكان متشددًا في عمل الرب، والآن يتقدم ليشوع وهو في الخامسة والثمانين ولا يزال متشددًا كما كان منذ خمس وأربعين سنة. وكما سبق فتحدثنا في الأصحاح السابق أن المؤمن لا يعرف الشيخوخة العاجزة قط، فإنه وإن كان إنسانه الخارجي يفنى فالداخل يتجدد من يوم إلى يوم (2 كو 4: 16).

يعلق العلامة أوريجانوس على كلمات كالب بن يفنة: “كما كانت قوتي حينئذ هكذا قوتي الآن” [11]، قائلاً: [القديس في الحقيقة يحمل ذات القوة في الحاضر كما في الماضي، في الأمور الجديدة كما في العتيقة، في الأناجيل كما في الناموس. كأنه يقول أنه يحمل ذات القوة في أيام يشوع كما كانت له في أيام موسى، فإن القلب اليقظ يدرك أسرار العهدين بذات الفوة[218]].

  1. كالب المجاهد…

“كما كانت قوتي حينئذ هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول” [11]. إن كان كالب قد نال الوعد في زمان موسى فإنه تمتع بذلك لأنه في قوته الروحية بالرب يقول: “تبعت تمامًا الرب إلهي” [8]، فكان متشددًا في تنفيذ وصية الرب؛ نواله الوعد لم يزده إلاَّ قوة روحية فلم يقدر الزمن أن يثبط من همته أو يرخي ذراعيه ، بل يقول: “هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول” [11]. كأنه يقول: لست أطلب الميراث وأنا مسترخِ لكنني تدربت بالروح كيف أجاهد روحيًا، محاربًا قوات الظلمة، كيف أخرج من البرية وأدخل أرض الموعد. لقد نجحت حين أخرجني موسى للتجسس، والآن ليّ ثقة في الرب أنني أنجح في الدخول إلى الموضع الذي أرثه… هذه الثقة، وهذه القوة، ليست من ذاته، إذ يقول: “لأنك أنت سمعت في ذلك اليوم أن العناقيين هناك والمدن عظيمة محصنة، لعل الرب معي فأطردهم كما تكلم الرب” [12].

إن قوة كالب دائمًا متشددة للحرب وللخروج وللدخول، أي للحرب الروحية خلالها يخرج من عار العبودية ليدخل في مجد الحرية. إن حياته خروج ودخول كعملية واحدة متكاملة وبغير توقف. خروج مستمر عن أعمال الإنسان العتيق أي صلبه، ودخول إلى أعمال الإنسان الجديد أي التمتع بقيامته. خروج عن الأنا بصلبها ودخول في المسيح يسوع واهب القيامة. خروج عن محبة الأمور الزمنية ودخول في الحياة السماوية.

  1. كالب والجبل المقدس…

“فالآن اعطني هذا الجبل الذي تكلم عنه الرب في ذلك اليوم[12]. يقول العلامة أوريجانوس: [القديس لا يطلب شيئًا منخفضًا أو دنيئًا، ولا يسأل أمرًا في قاع الأدوية، إنما يطلب جبلاً مرتفعًا، جبلاً على قمته مدن عظيمة محصنة. يقول الكتاب بالحق: “إن العناقيين هناك والمدن عظيمة محصنة” [12]. إذن هذا هو موضوع طلبه، إذ كان يعرف فن الحرب، كما هو مكتوب: “الحكيم يتسور مدينة الجبابرة ويُسقط قوة معتمدها” (أم 21: 22). هل تظن أن سليمان بقوله هذا أراد منا أن نتعلم بأن الحكيم يستولى على مدن ويهدم أسوار مبنية بالحجارة؟! إنه قد عنى بالمدينة والأسوار أي العقائد والبراهين التي بها يبني الملحدون الفلاسفة كل الأراء الدنسة المضادة للناموس الإلهي والتي يستخدمها الوثنيون والبرابرة… ما هي المدن التي يهدمها الحكماء عند إعلاء كلمة الحق؟ إنها مدن الكذب التي يجب بالحق هدمها، كقول الرسول: “هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله” (2 كو 10: 5). اليوم يقف كالب الحكيم جدًا أمام يشوع ويعده أنه سيكون قويًا في الحرب مستعدًا للصراع، طالبًا منه الإذن بالجدال، لكي يهاجم حكماء الدهر الذين يؤكدون الكذب عوض الحق، ولكي ينقضهم ويقهرهم ويقلب كل أبنية مغالطاتهم، لهذا إذ نظر يشوع نشاطه “باركه” [13]؛ بلا شك باركه بإرادة وجرأة! وأنت أيضًا إن كرست حياتك للدراسة والتأمل في ناموس الله بروح الحكمة تصير قلبًا (كالب) يلهج في ناموس الله، قادرًا على هدم المدن العظيمة المحصنة، أي هدم أقوال مخترعي الكذب، بهذا تستحق بركة يشوع وتتسلم فيه حبرون[219]].

هذا الجبل الذي اقتناه كالب إنما هو الجبل المقدس الذي يُعلن في آخر الأيام، فيأتي إليه الأمم ويصعد عليه الأبرار (إش 2: 2-4، مز 24: 63). أي السيد المسيح نفسه! هذا هو ميراثنا الحقيقي الذي نشتهي التمتع به!

  1. تمتعه بحبرون…

“فباركه يشوع وأعطى حبرون لكالب بن يفنة ملكًا… لأنه اتبع الرب إله إسرائيل” [13-14]. أثناء حديثنا في الأصحاح العاشر عن المدن التي استولى عليها يشوع، رأيناه يغتصب حبرون من ملكها (10: 37)، وقلنا أن “حبرون” تعني (قران) أو (زواج)، فبعد أن كانت النفس مرتبطة بالشيطان كعريس لها تحمل سماته الشريرة وتشترك معه في أفكاره الخبيثة وأعماله المهلكة، صارت تحت ناموس يشوع، عروسًا له تتحد به لتحمل فكره وسماته! هذه المكافأة التي ينالها كالب الأمين في تبعيته للرب، يدخل في حالة زواج روحي مع ربنا يسوع المسيح!

وللعلامة أوريجانوس تعليق آخر إذ يقول: [حبرون معناها اتحاد أو زواج، ولعل هذا هو معنى هذه المقاطعة. فالمغارة المزدوجة التي أعدها الأب إبرآم موجودة في هذه المدينة حيث يرقد فيها باقي الآباء مع زوجاتهم؛ فيرقد فيها إبراهيم مع سارة (تك 23: 19)، واسحق مع رفقة، ويعقوب مع ليئة، إذًا استحق كالب أن ينال ميراثًا هو رفات هؤلاء الآباء, فبالحكمة التي اتسم بها كالب كانت قوته في أيام يشوع كما في أيام موسى، ففهم ماذا تعني هذه الوحدة بين الآباء وزوجاتهم. أدرك لماذا استراحت هنا سارة وحدها مع إبراهيم بينما حُرمت هاجر وقطورة من هذا الشرف، ولماذا رقدت ليئة وحدها بجوار يعقوب…[220]]. لعل العلامة أوريجانوس يرى أن كالب قد أدرك بحكمته بنواله حبرون أن ينال الميراث الأبدي مع المسيح يسوع على مستوى الوحدة بين الآباء وزوجاتهم، ولكن بمفهوم روحي أعمق وأعظم.

فاصل

سفر يشوع: 12345  – 6789 –  101112131415161718192021222324

تفسير سفر يشوع: مقدمة12345  – 6789 –  10111213141516 1718192021222324

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى