تفسير سفر يشوع ٦ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السادس
سقوط أريحا
إذ قدم الله لشعبه تحت قيادة يشوع كل إمكانية للتمتع بالميراث، واجتاز بهم الأردن ووقفوا أما أريحا المدينة التي لها شهرتها عبر الأجيال والمحصنة بأسوار، وكان لابد أن تنهار أريحا أمام الشعب لكي تتحقق مواعيد الله… هنا أيضًا يقدم لهم الله إمكانيات جديدة للغلبة والنصرة!
مدينة أريحا
“أريحا” تعني “مدينة القمر” أو “مكان الروائح العطرية”، تقع على بعد خمسة أميال غرب نهر الأردن، وعلى بعد 17 ميلاً شمال شرقي أورشليم. أما أريحا المذكورة في هذا السفر فموضعها الآن “تل السلطان” على بعد ميل من غرب أريحا الحديثة، والتي تدعى الآن الريحا وتلال أبو العليق.
اشتهرت أريحا منذ العصور القديمة بزراعة النخيل (تث 34: 1، 3، قض 3: 13) والموز والبرتقال والورد (سيراخ 24: 14)، وأشجار الجميز (لو 19: 4)، والبلسم وكثير من أشجار الفاكهة.
أعطيت أريحا ضمن نصيب بنيامين، على الحدود بين بنيامين وإفرايم (يش 16: 1، 7؛ 18: 12-13). وكان عجلون ملك موآب يسكن فيها حين ضرب إسرائيل وأذلهم بسبب شرهم (قض 3: 12-13). وفيها أقام رسل داود الذين أرسلهم إلى حانون ملك بني عمون فحلق لهم لحاهم وقص ثيابهم من الوسط، وقد بقوا حتى نبتت لحاهم ورجعوا (2 صم 10: 1-5). وفي أيام آخاب بن عمري ملك إسرائيل بنى حيئيل البيتئيل أريحا ففقد بكره عند وضع الأساسات وصغيره عند نصب الأبواب بسبب نبوة يشوع (1 مل 16: 34، يش 6: 26). وفي أريحا زار إيليا وأليشع جماعة الأنبياء قبل انتقال إيليا، ورجع أليشع إلى هؤلاء الأنبياء (2 مل 2: 4، 15)، ويبدو أن النبع الذي أبرأه أليشع بعد طرح الملح فيه (2 مل 2: 21) هو عين السلطان، وعندما أُطلق سراح أسرى يهوذا الذين أسرهم جيش إسرائيل بقيادة فقح بن رمليا أتوا بهم إلى أريحا (2 أي 28: 15). وبالقرب منها قبض البابليون على صدقيا ملك يهوذا (أر 52: 5)، وقد رجع مع زربابل من السبي 345 نفسًا من سكان أريحا السابقين ونسلهم (عزرا 2: 34، نح 7: 36) وساعد البعض منهم في بناء سور أورشليم (نح 3: 2).
بنى هيرودس الكبير قلعة بالقرب من أريحا، وقد مات هناك. وفي أيام السيد المسيح كانت فرقة من الكهنة تسكن في أريحا، وكانوا يسافرون كثيرًا من أورشليم إلى أريحا، كما يظهر ذلك من مثل السامري الصالح (لو 10: 30-31). وفي أريحا أعاد السيد المسيح البصر لبرتيماوس ورفيقه (مت 20: 29، مر 10: 46، لو 18: 35)، وفيها أيضًا زار السيد المسيح بيت زكا (لو 49: 1-10).
الدوران حول المدينة [1].
أريحا كأول مدينة حصينة تواجه الشعب القديم للتمتع بالميرث تمثل العالم وقد وضع في الشرير، أو بمعنى أدق تمثل محبة العالم الزمني كعائق يعوق النفس عن انطلاقها نحو الأبدية للتمتع بالميراث الحقيقي، يثقلها فلا ترتفع بأجنحة الروح القدس من مجد إلى مجد. وفي نفس الوقت أيضًا تمثل الأنا بكونها أخطر عائق يقف أمام المتدينين – إن صح هذا التعبير- لكي يفقدهم شركتهم مع الله واهب النصرة ومانح الميراث الأبدي. خطران يواجهان الإنسان في جهاده الروحي: محبة العالم أو الزمنيات وهذه تمثل الضربة الشمالية، والأنا أو الذات وهي تمثل الضربة اليمينية حيث يحسب الإنسان نفسه أفضل من غيره وأبر منه!
يتحدث العلامة أوريجانوس عن أريحا بكونها تمثل العالم وقد وضع في الشرير أو تمثل الشر ذاته، قائلاً: [جاء في الإنجيل: “إنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوص” (لو 10: 30). هنا نتعرف جيدًا على صورة آدم الساقط من أورشليم منحدرًا إلى منفى هذا العالم. والأعميين اللذين كانا من أريحا (مت 20: 30) هذين اللذين قابلهما يسوع ووهبهما البصر ألم يمثلا رجال هذا العالم الذين أصابهما عمى الجهل، والذين من أجلهم جاء ابن الله؟! إذن، مدينة أريحا هي هذا العالم الذي نحن فيه، والذي يجب أن ينهدم[110]]. ويتحدث عن معركة أريحا بكونها معركة ضد شر هذا العالم ميدانها القلب، قائلاً: [لنذهب إلى الحرب ولنهاجم أخطر مدينة في هذا العالم، أي الشر، ولندمر أسوار الخطية المتعجرفة، هل تنظر حولك لتعرف الطريق الذي يلزمك أن تسلكه، وميدان القتال الذي يليق بك أن تختاره؟!… أحصر بحثك في داخلك، فالمعركة التي تقاتل فيها هي فيك، هناك يوجد بناء الشر الذي يجب هدمه! ليُطرد عدوك من أعماق قلبك! لست أقول هذا من عندياتي بل من المسيح. إستمع له: “لأنه من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنا، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف” (مت 15: 19). ألعلك تعي عظمة هذا الجيش المعادي لك، والذي يتقدم نحوك في أعماق قلبك؟ هؤلاء هم أعداؤنا الذين يجب أن نذبحهم في المعركة الأولى، ونطمسهم في التراب في الخط الأول، إن كنا قادرين أن نهدم أسوارهم ونستأصلهم ولا تبقى منهم نسمة (يش 11: 14)، ولا يبقى منهم فرد واحد يستريح فينا ويحيا من جديد ويبرز في أفكارنا. بهذا يعطينا يسوع الراحة العظمى: “يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته ولا يكون من يرعب أمناء إسرائيل” (في 4: 4)[111]].
يصف الكتاب المقدس أريحا هكذا: “وكانت أريحا مغلقة مقفلة بسبب بني إسرائيل، لا أحد يخرج ولا أحد يدخل” [1]. إنها تمثل الإنسان المنغلق على ذاته، لا ينفتح قلبه بالأخذ والعطاء، إنما يكون كمدينة مغلقة ليس من يخرج منها ولا من يدخل فيها. إنها منعدمة الحب! أما الإنسان المتسع القلب بالمسيح محب البشر، فإنه يعيش بفكر منفتح يفتح أعماقه لكل إنسان بحكمة إلهية، ويخرج من قلبه كل محبة مشبعة للآخرين.
هذه هي أريحا ممثلة العالم الموضوع في الشرير، أو الشر ذاته، خاصة الأنا، وقد استخدم الله طريقة فريدة في الغلبة على أريحا لم تتكرر في بقية الحروب أو الاستيلاء على المدن. فإن موقعة أريحا – إن صح هذا التعبير- تعتبر أول موقعة في أرض الموعد بعد عبور نهر الأردن، وقد أراد الله أن يعلن بطريقة ملموسة أن الحرب له والنصرة هي من عنده، وأن سلاحهم الحقيقي والجوهري هو الإيمان. يقول الرسول بولس: “بالإيمان سقطت أسوار أريحا بعدما طيف حولها سبعة أيام” (عب 11: 30).
في سقوط أريحا لم يستخدم الله التدبيرات العسكرية والحكمة البشرية ولا رجال الحرب ولا الأسلحة، مع أنه ألزم الشعب باستخدام هذه الأمور في المواقع التالية، ليؤكد لهم منذ البداية أنه وإن كان يُقدّر الحكمة البشرية ويستخدم العمل البشري متى تقدّس لكنه يبقى الله وحده سرّ نصرتنا على الخطية! لقد أمرهم أن يدوروا حول المدينة مرة كل يوم لمدة ستة أيام حتى تنهك قواهم، أما في اليوم السابع فيدورون حول المدينة سبع مرات حتى لا تبقى لهم قدرة على المشي وعندئذ يهتفون هتافًا عظيمًا إعلانًا عن إيمانهم بالله واهب النصرة، فيدافع عنهم ويهبهم ما وعدهم به.
لعل الدوران يُشير إلى “الدخول إلى الأبدية” بكونها تمثل الحياة التي بلا نهاية كالدائرة. فبالحياة الأبدية التي صارت لنا في المسيح يسوع ربنا نستطيع أن نهدم أسوار أريحا المتشامخة وبيوتها الشاهقة، فلا يقدر العالم بكل إغراءاته أن يجتذب قلوبنا، ولا الشر بكل خداعاته أن يسحب أفكارنا إليه، والذات بكل صولجانها أن تأسر النفس وتغلق عليها. “الأبدية” أو “الحياة مع المسيح الأبدي” هو طريق الغلبة أو النصرة الداخلية، خلالها يُبتلع الزمن المائت، ومن أمامها تهرب كل أوهام العالم الشرير والمجد الباطل… حقًا إن دخولنا إلى السماء ونحن بعد على الأرض يرفعنا فوق كل ضعف ويقتلع من داخلنا جذور الشر الدفينة!
أيضًا الدوران مرة كل يوم خلال الستة أيام الأولى إنما يُشير إلى العمل الدائم كل أوقاتنا (أيام العمل الأسبوعية)، أما الدوران سبع مرات في اليوم السابع فمعناه أنه في يوم راحتنا، اليوم السابع، نعمل لحساب الرب مضاعفًا، ونجاهد جهادًا كاملاً (رقم 7 يُشير إلى الكمال)، فبهذا الجهاد يتحقق حفظ السبت روحيًا، أي الراحة في يوم الرب. حقًا إن يوم الرب أو يوم الراحة فيه، ليس يوم تراخ أو كسل إنما يوم جهاد مستمر بالنعمة المجانية العاملة فينا حتى تنهدم الحصون الشيطانية تمامًا، وتصلب فينا الأنا، ويملك يشوعنا الحقيقي في داخلنا، ويستريح في قلبنا كما في عرشه ونحن نستريح فيه، ولا يكون للخطية سلطان علينا، يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بإن السبت قد كسر هنا حرفيًا، لكنه حُفظ روحيًا، إذ تزايد العمل جدًا فتزايدت النصرة أكثر من كل يوم[112]]. ويقول القديس أغسطينوس: [من لا يخطئ، فهذا بحق يحفظ السبت[113]]، يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [إننا نتمسك بالسبت الروحي حتى مجيء المخلص، إذا استرحنا من الخطية[114]]، ويقول القديس جيروم: [لم يكن يشعل اليهود نارًا في السبت، أما نحن فعلى العكس يلزمنا أن نشعل نار الروح القدس ونحرق كل رذيلة وخطية[115]]، وللعلامة أوريجانوس تعبير رائع عن مفهوم يوم الرب: [الإنسان الكامل هو ذاك الذي ينشغل دومًا بكلمات الرب وأعماله وأفكاره، بهذا يحيا في أيام الرب على الدوام وتصير كل أيامه أيامًا للرب[116]]. لقد كان بالحق يومًا للرب حين داروا حول أريحا سبع مرات وضربوا بالأبواق وهتفوا وهتفوا للرب الذي حطم قوى الشر وسلطانه ليملك يشوع وكل أولاده معه!
الضرب بالأبواق [4].
في اليوم السابع إذ يدورون سبع مرات حول المدينة يضرب الكهنة بالأبواق في الدورة السابعة [4، 16]. وقد سبق لنا في دراستنا لسفر العدد (10: 1-10) أن تحدثنا عن لغة الأبواق بكونها كلمة الله التي ينطق بها الكهنة على الدوام، القادرة أن تهب المؤمنين حياة النصرة الروحية وتبعث فيهم الفرح الداخلي وتهليل القلب[117]. يقول القديس أمبوسيوس: [ليس كل أحد له الحق أن يضرب بالبوق، ولا يدعو الآخرين للاجتماع المقدس، إنما مُنح هذا الامتياز للكهنة وحدهم[118]].
يتحدث العلامة أوريجانوس عن أبواق الكهنة التي ضُربت لتهدم أسوار أريحا، قائلاً: [أريحا تمثل العالم الحاضر، قوة أسوارها تُهدم عندما يبوق الكهنة. السور القوي الذي يخدم هذا العالم هو عبادة الأوثان ونسب الألوهية للمصنوعات بخداع شيطاني وأعمال العرافين الكذبة والمجوس… نضيف إلى ذلك أفكار الفلاسفة المختلفة (الإلحادية)، وأيضًا التعاليم التي نشأت عن المجادلات… هذا كله كان كسور مرتفع يسند العالم. لكن إذا جاء الرب يسوع – الذي يمثله يشوع بن نون – أرسل الكهنة والرسل لضرب بوق من فضة (عد 10: 2، مز 98: 6)، أي تقديم التعاليم السامية السماوية في الوعظ، لقد ضُرب البوق الكهنوتي الأول في إنجيل متى وأيضًا في مرقس ولوقا ويوحنا، كل ضرب بأبواق الكهنة. ضرب أيضًا بطرس بوقين في رسالتيه، وأيضًا يعقوب ويهوذا، ويوحنا في رسائله، ولوقا في سفر أعمال الرسل. أما الأخير (بولس) فقد ضرب بالأبواق خلال رسائله الأربعة عشر، ملقيًا بالصواعق على أسوار أريحا لينزل بها حتى الأرض، هادمًا أبنيتها ومحطمًا كل آلات الحرب التي لها من عبادة أوثان وآراء الفلاسفة[119]].
ويتحدث الأسقف قيصريوس عن أبواق الكهنة، قائلاً: [تُشير أريحا إلى هذا العالم، وكما سقطت أسوارها عند ضرب الأبواق هكذا تسقط الآن مدينة هذا العالم أي الكبرياء بأبراجها التي هي الطمع والحسد والخلاعة مع كل شعبها؛ أي يجب أن تتحطم كل شهوة شريرة وتُباد خلال كرازة الكهنة المستمرة. لهذا يليق بالكهنة ألا يصمتوا في الكنيسة بل بالحري يتممون قول الرب: “نادِ بصوت عالي، لا تمسك، ارفع صوتك كبوق وأخبر شعبي بتعديهم” (إش 58: 1). إننا مطالبون أن نصرخ وننادي بصوت عالِ دون توقف حتى نستبقي على خلاصنا. يقول: “ناد ولا تمسك” لئلا تهلك بصمتك بسبب شر الخاطئ. بينما تراعى إحساساته في حياء تفشل في الاهتمام بصحته (الروحية). لا تجعل جراحاته تسوء بسبب صمتك، إذ يجب أن تُشفى خلال التصويت. هذا ما يلزمنا أن ننادي، وننادي بصوت عالِ حتى لا يقل أحد إنه لم يسمع الصوت أو أن صوت الكاهن غير معروف لديه[120]]. كما يقول: [البوق هام بالنسبة للخطاة لا ليخترق آذانهم فحسب وإنما ليهز قلوبهم، لا ليفرحهم فحسب وإنما ليوبخهم. يليق بصوت البوق أن يشجع السهارى على صنع الخير، ويرعب المهملين على خطاياهم. وكما في المعركة يرعب البوق الجندي الخائف بينما يلهب روح الشجاع، هكذا بوق الكاهن يهين فكر الخاطئ ويشجع روح البار… هذا هو عمل البوق يبدد فعل الخطاة ويثبت أعمال الأبرار[121]]. وأيضًا يتحدث عن أبواق الكهنة، قائلاً: [يقول الطوباوي بولس: “إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون، هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (2 كو 10: 4-5). ألا ترى أن ألسنة الكهنة حسب كلمات الرسول هي أسلحة كلامية تبدد الأفكار الباطلة وتأسر الكبرياء المتشامخ[122]؟!].
هتاف الشعب [5-16].
طلب الله من يشوع أن “جميع الشعب يهتف هتافًا عظيمًا” [5] عند سماعهم صوت البوق الذي يضربه الكهنة، “فيسقط سور المدينة في مكانه ويصعد الشعب كل رجل مع وجهه” [5]. وقد ترجم البعض كلمة “هتاف” بمعنى “صيحات الفرح”، بينما يراها البعض مثل العلامة أوريجانوس كهتاف الوحدة التي يصرخ بها الجنود معًا بروح واحدة عندما يتحمسون في المعركة. وكأنما سقوط أسوار أريحا، أو هدم مملكة إبليس لا يتطلب حياة الفرح للفرد منعزلاً عن الجماعة، وإنما هتاف النصرة المنطلق من الجماعة كلها بروح واحد. حقًا إنه هتاف الجهاد الروحي ضد الخطية ومملكة إبليس المملوء رجاءً وفرحًا خلال الوحدة معًا. لهذا يقول المرتل: “اهتفي للرب يا كل الأرض، اعبدوا الرب بفرحٍ” (مز 100: 1)، وأيضًا: “طوبى للشعب العارفين الهتاف” (مز 89: 15).
إذ داروا حول أريحا سبع مرات أُرهقوا جسديًا وصاروا كمن في حكم الموت، عاجزين تمامًا لا عن الحرب وإنما حتى على السير على الأقدام، وهذا إذ يشير إلى الدوران إلى الحياة الأبدية نقول بأن موتهم قد ابتلعته غلبة الأبدية ونصرتها كقول الرسول: “فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة أُبتلع الموت إلى غلبة” (1 كو 15: 54). وكأن الكل إذ تمتع بالأبدية في المسيح يسوع ينطلق بهتاف الفرح والتهليل علامة الغلبة على الموت والتمتع بنصرة الأبدية، قائلين مع الرسول: “أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هوية؟!… شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح” (1 كو 15: 55، 57). هكذا يمتزج جهادهم المضني بتهليل قلوبهم. وتلتحم الحرب الروحية بخبرة الفرح السماوي!
لهذا تحدث آباء الكنيسة – حتى النساك منهم – عن حياة الفرح الداخلي في المسيح يسوع، والتهليل وسط دموع التوبة وأتعاب الجهاد الروحي، محذرين من السقوط تحت روح الغم الذي يدخل بنا إلى اليـأس فيحطم إيماننا. إنهم يؤكدون التزامنا بالهتاف الداخلي العظيم وسط جهادنا المضني. يقول الأسقف أغناطيوس بريانشاينتوف: [إن جاءك فكر أو إحساس بالغم فمن المفيد أن تتذكر قوة الإيمان، وكلمات الرب الذي منعنا من الخوف والغم، معلنًا ومؤكدًا لنا مواعيد الله بأنه حتى شعور رؤوسنا محصاة، وأنه ليس شيء يمكن أن يحدث لنا بدون عنايته وسماحه[123]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الخطية لا تحطم كاليأس، فإن من يخطئ متى كان ساهرًا بسرعة يتوب ويصلح ما قد حدث، أما من تعلم اليأس وعدم التوبة فيفشل في إصلاح الأمر بعدم قبوله علاجات التوبة[124]]. كما يتحدث أيضًا عن ارتفاعنا على حزن الضيقات ومرارتها بتقديم هتافات الشكر المفرحة، قائلاً: [ليتنا لا نغرق في ضيقاتنا بل نقدم التشكرات في كل شيء، فنقتني نفعًا عظيمًا، إذ نرضي الله الذي يسمح بالضيقات، الضيقة هي صلاح عظيم. هذا ما نتعلمه من أطفالنا الذين بدون ضيقة لا يتعلمون شيئًا نافعًا، أما نحن ففي حاجة إلى الضيق أكثر منهم[125]].
يركز العلامة أوريجانوس على وحدة الروح في الهتاف المفرح، إذ يعلق على قول المرتل: “طوبى للشعب العارفين الهتاف” (مز 89: 15)، قائلاً: [لم يقل طوبى للشعب الذي يمارس البر، ولا للشعب العارف الأسرار، ولا لمن له معرفة بالسماء والأرض والكواكب، وإنما “طوبى للشعب العارفين الهتاف”. أحيانًا مخافة الله تهب الإنسان فرحًا (هتافًا)، لكنها تهب ذلك لشخص واحد؛ لهذا على سبيل المثال قيل: “طوبى للرجل الخائف الرب” (مز 112: 1)… أما التطويب هنا فيقدم بفيض… لماذا؟ لأن كل الشعب يشترك فيه، الكل يعرف صحبة التهليل. لهذا يبدو ليّ أن هتاف الفرح يعني وحدة القلب وترابط الروح معًا… عندما يرفع الشعب صوته باتفاق واحد، يتحقق فيه ما جاء في سفر الأعمال من حدوث زلزلة (أع 1: 13)… فينهدم كل شيء ويبطل هذا العالم[126]].
إن كانت أبواق الكهنة تُشير إلى كلمة الله وعمل الكرازة الذي لا ينقطع، فإن هتاف الشعب يعني وحدانية القلب الذي يولد فرحًا وتهليلاً خلال الغلبة على مملكة الظلمة. الكهنة يكرزون بالتوبة والشعب ينعم بعطايا الله وغلبته على العالم خلال وحدة الحب الحقيقي! لهذا يقول الكتاب: “جميع الشعب يهتف هتافًا عظيمًا” [5]. مسيحيتنا إذن تقوم على أساس العلاقة الشخصية بين الله والنفس البشرية، ولكنها ليست في عزلة وانفرادية وإنما خلال اتحادها مع بقية الأعضاء بروح واحد خلال الرأس الواحد.
يربط العلامة أوريجانوس بين أبواق الكهنة وهتافات الشعب داخل النفس، إذ يرى يشوع الحقيقي يدخل النفس لكي يفتتحها مملكة له، محطمًا أسوار أريحا الداخلية. يقول إنه يليق بنا ككهنة أن نحمل في داخلنا الأبواق، ونضرب بها لكي نستبعد الأفكار والكلمات غير اللائقة، نضرب بالأبواق أي نسبح بمزامير وتسابيح وأغاني روحية (1 كو 3: 16)، أو نضرب بأبواق أسرار الناموس ورموز الأنبياء وتعاليم الرسل التي تعمل معًا بانسجام في داخلنا… هذه جميعها تفجر في داخلنا شعبًا يهتف هتافًا عظيمًا، فتهتف أفكارنا وعواطفنا وكل ما بداخلنا بفرح ولا يكون فيها دنس أو غش أو كذب؛ يهتف ما فينا بروح متناسق ومتكامل، عندئذ تنهدم أسوار محبة العالم فينا ويملك يسوعنا في داخلنا، لنقول مع الرسول: “أما أنا فحاشا ليّ أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم ليّ وأنا للعالم” (غل 6: 14).
إن ضرب أبواق العهد القديم (الناموس والأنبياء) في انسجام مع أبواق العهد الجديد، أي دراسة الكتاب المقدس في وحدة واحدة بطريقة روحية بناءه، يخلق أيضًا هتافًا منسجمًا في الإنسان، فيهتف الجسد بقدسية أعضائه مع النفس بقدسية طاقاتها والأحاسيس والعواطف والمواهب… تعمل جميعًا بروح الوحدة تحت قيادة الروح القدس، بفرح حقيقي حيث يملك ربنا يسوع عليها.
ناموس المحرم [17-21].
“فتكون المدينة وكل ما فيها محرمًا للرب… وأما أنتم فاحترزوا من الحرام لئلا تحرموا وتأخذوا من الحرام وتجعلوا محلة إسرائيل محرمة وتكدروها، وكل الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد تكون قدسًا للرب وتدخل في خزانة الرب” [17-19].
لقد أراد الرب في بدء ميراثهم ألا ينصرف قلبهم وفكرهم ووقتهم إلى الغنيمة والمكسب المادي، لهذا حرم عليهم نوال شيئًا من أريحا، لكنه في المواقع التالية يسمح لهم بالغنائم مؤكدًا لهم أنهم إذ ينصرفون عن الزمنيات في أريحا يعطيهم الروحيات والزمنيات أيضًا في الحروب التالية، وكما يقول الرب نفسه: “أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم”.
يُعلق العلامة أوريجانوس على شريعة المحرم هذه هكذا: [حقًا إن يشوع قال: “أما أنتم فاحترزوا من الحرام لئلا تحرموا وتأخذوا من الحرام وتجعلوا محلة إسرائيل محرمة وتكدروها” ها هو معنى هذا الكلام: إحرصوا ألا تحفظوا شيئًا من العالم في داخلكم، لئلا يصير في وسط جماعة المؤمنين العادات الرذيلة… لا تخلط أمور العالم مع ما للمسيح، ولا تدخلوا بحاجات العالم إلى مقدسات الكنيسة. يحذرنا يوحنا من ذات الأمر إذ يضرب بالبوق في رسالته، قائلاً: “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم” (1 يو 2: 15). ويقول بولس نفس الشيء: “لا تشاكلوا هذا الدهر” (رو 12: 2)، فإننا إذ نسلك على منوال أهل العالم نكون قد رحبنا بالمحرمات. نذكر على سبيل المثال: الاشتراك في أعياد الوثنيين بعد أن صرنا مسيحيين يعني دخول المحرم إلى الكنيسة، وأيضًا دراسة التنجيم ودراسة طير الطيور… هو دخول المحرم من أريحا إلى معسكر السيد وتدينه، مما يؤدي إلى هزيمة شعب الله…
خلاص راحاب [22-25].
“وقال يشوع للرجلين اللذين تجسسا الأرض: أدخلا بيت المرأة الزانية وأخرجا من هناك المرأة وكل ما لها كما حلفتما لها… واستحيى يشوع راحاب الزانية وبيت أبيها وكل ما لها، وسكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم” [22، 25].
بالإيمان خلصت راحاب وحدها مع كل بيت أبيها من الدمار، بل ودخلت هذه الأممية إلى وسط إسرائيل لتغرس في شجرة الزيتون الحقيقية.
يقول العلامة أوريجانوس: [بأي طريقة نفهم أن راحاب “سكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم؟” عادة يستخدم الكتاب هذا التعبير “إلى هذا اليوم” عندما يتحدث عن بقاء الشيء إلى نهاية الحياة. على سبيل المثال عندما يقول: “هو أبو الموآبيين إلى اليوم” (تك 19: 37) يعني “إلى نهاية العالم”. وأيضًا في الإنجيل: “فشاع هذا القول إلى هذا اليوم” يعني إلى نهاية العالم وتكميله. لكن كيف نقول أن راحاب “سكنت في وسط إسرائيل إلى هذا اليوم؟” ألا نفهم من هذا أنها انضمت إلى إسرائيل الحقيقي (كنيسة العهد الجديد) إلى هذا اليوم؟! إن أردت الاستنارة لفهم الطريقة التي بها انضمت راحاب إلى إسرائيل فلتلاحظ كيف أن “زيتونة البرية طُعمت فيها فصرت شريكًا في أصل الزيتونة ودسمها” (رو 11: 17)… فإننا نحن الذين كنا أغضان زيتونة برية جئنا من أمم مختلفة وتثبتنا في الأصل. نحن الذين كنا نعيش في الزنا ونعبد الحجارة والخشب عوض الله الحقيقي (تث 4: 28) داخلنا إلى الإيمان بالسيد المسيح وصرنا إلى هذا اليوم الشعب الذي من فوق، بينما الشعب الآخر (اليهود) فبسبب قلة إيمانه صار من أسفل… الذين كانوا أولين صاروا آخرين (مت 19: 30)[127]].
لعنة أريحا [26-27].
إذ صارت أريحا تمثل الشر الذي يلزم هدمه تمامًا وإبادته، لذلك “حلف يشوع في ذلك الوقت، قائلاً: ملعون قدام الرب الرجل الذي يقوم ويبني هذه المدينة أريحا، ببكره يؤسسها وبصغيره ينصب أبوابها” [26]. وقد تحقق ذلك حرفيًا عندما قام حيئيل البيتئيلي ببنائها إذ يقول الكتاب: “بأبيرام بكره وضع أساسها، وبسجوب صغيرة نصب أبوابها حسب كلام الرب الذي تكلم به عن يد يشوع بن نون” (1 مل 16: 34).
لقد تحطمت أريحا بأسوارها الشامخة إلى الأبد علامة تحطيم الشر وهدم عدم الإيمان. يقول القديس أغسطينوس: [إلى متى تقوم هذه الأسوار؟ لا تبقى على الدوام! فإن التابوت يدور حول أسوار أريحا، ويأتي وقت – في المرة السابعة لدورانه – فيه تنهدم كل أسوار مدينة عدم الإيمان والتناقضات. ولكن إلى أن يتحقق هذا يليق بالإنسان أن يتعب في ممارساته محتملاً المقاومين ليختار أجنحة ينطلق بها…[128]].
حقًا لتُدمر أريحا إلى الأبد وتخلص راحاب الزانية، أي ليزول الشر الذي غلب العالم كقول الكتاب: “العالم كله قد وضع في الشرير” (1 يو 5: 19)، الآن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة” (1 يو 2: 16)، فينهدم الشر ولا يقوم حتى تحيا راحاب التي كانت زانية عروسًا مقدسة وعفيفة للرب (2 كو 11: 2). بهذا لا تعود الزانية تسلك في زناها بل في قداسة الرب كقول الرسول: “هكذا كان أُناس منكم، لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا” (1 كو 6: 11).
سفر يشوع: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 – 17 – 18 – 19 – 20 –21 – 22 – 23 – 24
تفسير سفر يشوع: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15– 16 – 17 – 18 – 19 – 20 –21 – 22 – 23 – 24