تفسير سفر ناحوم ١ للقمص تادرس يعقوب ملطي
اَلأَصْحَاحُ الأَوَّلُ
الله الغيور
يصَّور هذا السفر مدى الدمار الذي يحل بنينوى بسبب الفساد الذي حل بمملكة أشور ووحشية ملوكها، خاصة في تعاملهم مع الأسرى، فإن هذه النبوة موجهة للأمم كما لليهود. فمن جهة الأمم سبق الله فرحم نينوى حين تابت، لكن إصرارها على العودة إلى الشر يسقطها في الدمار الشامل. هذا الدرس موجه إلى الأممي كما إلى اليهودي، ليعلم الإنسان أن الله قدير في حبه ومراحمه ولكنه لا يهادن الخطية.
1. مقدمة [1].
وَحْيٌ عَلَى نِينَوَى.
سِفْرُ رُؤْيَا نَاحُومَ الأَلْقُوشِيِّ. [1]
منذ حوالي قرن ونصف أرسل الله يونان النبي لينذر نينوى المدينة العظيمة بخرابها بسبب فسادها، وإذ قدم الملك مع الشعب توبة غفر لهم، وعفا عنهم. لكن سرعان ما رجعوا إلى خطاياهم، وصاروا إلى حالٍ أشر، حتى دعيت “مدينة الدماء“ (نا 3: 1). وإذ أصروا على شرورهم بصورة بشعة لم يرسل لهم نبيًا، بل أرسل إليهم نبوة تعلن عن ما سيحل بالمدينة من دمارٍ. وكما جاء في سفر إرميا: “تارة أتكلم على أمةٍ وعلى مملكة بالبناء والغرس، فتفعل الشر في عيني، فلا تسمع لصوتي، فأندم عن الخير الذي قلت إني أحسن إليها به“ (إر 18: 9-10).
وقد تحققت هذه النبوة على أيدي نبوخذنصر وأحشويرش Ahsuerus أو Xerxes.
v معنى كلمة “وحي” هو شيء من هذا النوع، وهو إذ يرغب في إعطاء الأنبياء بصيرة غالبًا ما يصدر نشوة بهجة، فيُسبب الله تحولاً مفاجئًا لأذهانهم، حتى أنهم وهم في هذه الحالة يتقبلون معرفة المستقبل بمخافة عميقة. إنه يدعوها “وحيًا“، وبعد ذلك نعمة الروح حيث يمسك ذهن النبي فجأة، محولاً إيَّاه برؤية إعلان لما يحدث بوضوحٍ. يقول نفس الشيء هنا أيضًا: “وحي على نينوى، سفر رؤيا ناحوم الألقوشي“، كأنه يقول: لقد أُمسك ذهن النبي فجأة بنعمة الروح وتحول للتأمل في تلك الأمور التي منها تعلم ما هو مصير نينوى، الأمر الذي قُدم لسامعيه كتعليمٍ بما قد أُظهر له[2].
ثيؤدور أسقف المصيصة
2. قدير في مراحمه وفي غضبه على الخطية [2-8].
اَلرَّبُّ إِلَهٌ غَيُورٌ وَمُنْتَقِمٌ.
الرَّبُّ مُنْتَقِمٌ وَذُو سَخَطٍ.
الرَّبُّ مُنْتَقِمٌ مِن مُبْغِضِيهِ وَحَافِظٌ غَضَبَهُ علَى أَعْدَائِهِ. [2]
جاءت النبوة قاسية وعنيفة، لكنها مملوءة بالحنو والعاطفة على النفوس التي تلتصق بالله. يبدأ بالحديث عن الرب أنه إله غيور. هذه الغيرة يتسم بها الزوج على زوجته، فلا يسمح لأحد أن يمسها أو يعتدي عليها، ويتسم بها الملك على الخاضعين في ولاء له، فيخطط ويعمل لحمايتهم. هكذا غيرة الله على الإنسان، إنما هي من قبيل حبه له. فهو لا يقبل أن ينافسه أحد أو شيء ما ليحتل قلب محبوبه الإنسان.
غيرته تقتضي أحيانًا أن يستخدم عصا التأديب على الإنسان، لأن الأخير يجرح علاقة الحب المتبادلة، بإعطائه القفا لله لا الوجه.
هذه الغيرة يسكبها في قلوب خدامه الأمناء، فيقولون مع الرسول بولس: “فإني أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجلٍ واحدٍ، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح“ (2 كو 11: 2).
التهب قلب فينحاس الكاهن بالغيرة على قدسية الشعب وخيمة الاجتماع حين زنى إسرائيل مع بنات موآب وعبدوا آلهتهن الوثنية، وقد تجاسر أحدهم وقدم لإخوته مديانية ودخل بها إلى خيمة الاجتماع. فإنه إذ طعنها الكاهن قال الرب: “قد ردَّ سخطي عن بني إسرائيل بكونه غار غيرتي في وسطهم حتى لا أفنٍ بني إسرائيل بغيرتي“ (عد 25: 11).
يقول أيضًا إيليا النبي: “قد غرت غيرة للرب إله الجنود لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك بالسيف“ (1 مل 19: 10).
“الرب إله غيور ومنتقم“ ]2[، فهو غيور على مؤمنيه السالكين في طريقه، المخلصين في حبهم له، والذين يتكلون عليه. إن أخطأوا يؤدبهم لغيرته وحبه الشديد لهم؛ وهو منتقم ليس من أجل ذاته وإنما لحماية أولاده، حاسبًا كل من يأخذ موقف العداوة منهم، إنما يأخذها ضده شخصيًا. لذلك يقول: “حافظ غضبه على أولاده“.
سمح الله لمملكة أشور أن تسبي شعبه لأجل تأديبهم، لكن أشور ظنت أن أصنامها أعظم من الله، فصارت تسخر منه؛ كما تمادت في إذلال شعب الله.
v الله غيور، وهو لا يسخر باستهزاء بأحدٍ. إنه لا يسخر كمن يفتخر بصلاحه هو، بل هو طويل الأناة، لكنه يهدد[3].
العلامة ترتليان
v يا إخوتي، مخيف هو الوقوع في يدي الرب. ومخيف هو وجه الرب ضد فاعلي الشر (مز 34: 16)… مخيفة هي أُذن الرب، وهي تسمع لصوت هابيل يتكلم خلال دمه الصامت. مخيفتان هما قدماه اللتان تتخطَّان صنع الشر. مخيف أيضًا ملؤه للمسكونة، حيث يستحيل أن يهرب موضع ما من عمل الله (إر 23: 24)، حتى بالطيران إلى السماء، أو الدخول في الجحيم، أو الهروب إلى الشرق الأقصى، أو باختفائنا في الأعماق، في نهاية البحار (مز 139: 7-8). ناحوم القوشي أمامي مرتعب عندما أعلن عن ثقل نينوى، فإن الله غيور، والرب منتقم في سخطه على مقاوميه[4].
القديس غريغوريوس النزينزي
v لاحظوا يا أبنائي المحبوبين كيف أن الرب إلهنا رحوم وبار، كم هو رءوف ولطيف مع الناس، لكنه بتأكيدٍ عظيمٍ “لا يبرِّئ المخطئ” (راجع نا 1: 2). مع أنه يرحب بعودة الخاطئ ويهبه الحياة، ولا يترك مجالاً لأي شكْ هكذا كمن يدين بقسوة ويرفض الآثمة تمامًا، ويرفض أن يقدم لهم نصائح ليردهم إلى التوبة. وإنما على العكس، يقول الله بإشعياء إلى الأساقفة: “عزُّوا، عزُّوا شعبي، أيها الكهنة، تكلموا بحنوٍ مع أورشليم” (راجع إش 40: 1). لذلك يليق بكم عند سماعكم كلماته هذه أن تشجعوا الذين أذنبوا، وتقودوهم إلى التوبة، وتقدموا لهم الرجاء. وليس باطلاً تحسبون أنكم ستشاركونهم معاصيهم على حساب حبكم لهم. اقبلوا التائبين ببهجة، وافرحوا بهم، واحكموا على الخطاة بالرحمة وأحشاء الحنو. فإن كان شخص ما سائرًا على شاطئ النهر، وصار متعثِّرًا، وأنتم دفعتموه وألقيتموه في النهر، عوض أن تقدموا له يد المساعدة، تكونوا قد ارتكبتم جريمة قتل أخيكم[5].
قوانين الرسل
الرَّبُّ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَعَظِيمُ الْقُدْرَةِ،
وَلَكِنَّهُ لاَ يُبَرِّئُ الْبَتَّةَ.
الرَّبُّ فِي الزَّوْبَعَةِ، وَفِي الْعَاصِفِ طَرِيقُهُ،
وَالسَّحَابُ غُبَارُ رِجْلَيْهِ. [3]
الله بطيء الغضب، ينتظر توبة الإنسان ورجوعه إليه، فكان يليق بأشور أن يدرك أن ما ناله من نصرة على شعب الله هو لتأديب الشعب، فيتعظ ويترك أصنامه ويؤمن بالله، خاصة وأن لهم خبرة سابقة في أيام يونان النبي. لكن عوض الإيمان بالله استخدم أشور كل وسيلة للاستخفاف بالله والتجديف عليه، وإذلال شعبه بطريقة وحشية. وكما يقول الرسول بولس: “أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة، ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب، واستعلان دينونة الله العادلة“ (رو 2: 4-5).
طول أناة الله على الأشرار ليس عن عجز في القدرة، إذ “عظيم القدرة“، يتمهل منتظرًا توبتهم، وإلا لا يبرئهم قط.
“الرب رحيم ورؤوف، طويل الروح وكثير الرحمة؛ لا يحاكم إلى الأبد، ولا يحقد إلى الدهر“(مز 103: 6-7).
لقد أظهر الرب لموسى أنه رحوم عن قوةٍ وحبٍ، إذ نزل الرب في السحاب، واجتاز قدامه، ونادى الرب: “الرب إله رحيم ورؤوف، بطيء الغضب، وكثير الإحسان والوفاء؛ حافظ الإحسان إلى ألوف…” (خر 34: 5-7). فخرَّ موسى إلى الأرض وسجد.
الله طويل الأناة، لكنه لا يبرئ البتة، أي لا يترك الشر حتى النهاية. فالذين يصرون على شرهم ولا يتوبون لا يبرئهم قط.
كما لا يستطيع الإنسان أن يقاوم الزوابع والعواصف ويمنع السحاب، هكذا لا يقدر أن يقف أمام غضب الله في تشامخٍ وكبرياءٍ، إنما بالتوبة والتواضع يتمتع بالمراحم الإلهية.
v “الرب رحيم ورءوف، طويل الروح، وكثير الرحمة“ (مز 103: 8). لماذا هو طويل الأناة هكذا؟ لماذا كثير الرحمة؟ الناس يخطئون ويعيشون، الخطايا مستمرة والحياة مستمرة. الناس يجدفون كل يوم، وهو يشرق شمسه على الصالحين والأشرار (مت 5: 45). على كل الأحوال، إنه يدعو إلى الإصلاح، يدعو إلى التوبة، يدعو بمباركته للخليقة؛ يدعو بأن يعطي زمنًا للحياة (فرصًا للتوبة)، يدعو خلال القارئ (للكلمة في الكنيسة)، وخلال الكارز، ويدعو خلال الفكر الداخلي بعصا الإصلاح، ويدعو بمراحم التعزيات. إنه طويل الأناة ورحوم. ولكن لتحذر لئلا بإساءة استخدام عظم مراحم الله تخزن لنفسك غضبًا في يوم الغضب، كقول الرسول (رو 2: 7)[6].
القديس أغسطينوس
v مرة أخرى: “أنا أُقيم عهدي معكِ، فتعلمين أني أنا الرب؛ لكي تتذكري فتخزي، ولا تفتحي فاكِ بعد بسبب خِزيك، حين أغفر لك كل ما فعلتِ يقول الرب الله” (حز 16: 62-63). هكذا يشير بوضوح بهذه الكلمات الإلهيَّة إلى ما قيل في موضع آخر بالعبارة: “وإن كان يطهرك لا يجعلك بارًا“. فإنه حتى الأبرار إذ يرجعون عن حالهم السابق بعد ارتكابهم خطيَّة، لا يتجاسرون ليفتحوا أفواههم، بل يقولون مع الرسول: “لست مستحقًا أن أُدعى رسولاً، لأني اضطهدت كنيسة الله” (1 كو 15: 9)[7].
القدِّيس جيروم
v “الرب طويل الأناة، وعظيم القدرة، وبالتأكيد لا يبرئ البتَّة” (مي 1: 3). إنه لا يوقع العقوبة (التأديب) للحال فجأة، وإنما بعد طول أناة عظيمة. أنتم يا أهل نينوي شهود لذلك، فإنكم إذ مارستم التوبةوجدتم الخلاص، بعد ارتكابكم شرورًا كثيرة ولمدة طويلة لم تنالوا عقوبة عنها. ولكن إذ يمارس الشعب الشرور مدة طويلة، فإنه يوقع العقوبة على غير التائبين. (معنى “لا يبرئ البتَّة” أنه لا يعفي من العقوبة من يستحق ذلك من الخطاة)[8].
ثيؤدورت أسقف قورش
“السحاب غبار رجليه“. هنا استعارة عن سرعة المركبات والخيول الفائقة، إذ تسبب سحابة من التراب، حتى يصعب رؤيتها. هكذا فإن الرب كمن يأتي من السماء في مركبته السريعة كالبرق، فيحيط به السحاب كما يحيط التراب بالمركبات والخيول.
يَنْتَهِرُ الْبَحْرَ فَيُنَشِّفُهُ،
وَيُجَفِّفُ جَمِيعَ الأَنْهَارِ.
يَذْبُلُ بَاشَانُ وَالْكَرْمَلُ،
وَزَهْرُ لُبْنَانَ يَذْبُلُ. [4]
خلق الله كل شيء بكلمةٍ، وبكلمة منه ينتهر البحر فينشفه، ويجفف جميع الأنهار التي تصب المياه في البحار. في القديم شق البحر الأحمر ليعبر شعبه كما على اليابسة، وأوجد لهم طريقًا ليعبروا الأردن.
البحار والأنهار بكل قدراتها تجف بكلمة منه، والإنسان بضعفه الشديد يأخذ موقف العصيان والتمرد على خالقه الطويل الأناة عليه والمحب له!
إن كان الإنسان يظن في نفسه شيئًا فليتطلع إلى باشان والكرمل ولبنان، المناطق المتسمة بالخضرة والزهور الجميلة، فإنها تذبل أمام حر الصيف أو صقيع الشتاء، فمن هو الإنسان ليقف أمام خالق الزمن ومدبر الكون كله؟
كانت باشان مشهورة بمراعيها الخضراء (يوئيل 1: 10)، والكرمل بحقول الحنطة والكروم، ولبنان بغاباتها (إش 33: 9).
يرى العلامة ترتليان هنا نبوَّة عن السيِّد المسيح الذي انتهر الرياح فهدأت وسكنت الأمواج: [هنا نبوَّة عن المسيح السائر على المياه، وقد سبقت مجيئه. لقد تحقَّقت كلمات المزمور بعبور المسيح البحيرة، إذ يقول المرتل: “الرب على المياه الكثيرة” (مز 29: 3). عندما بدَّد أمواجها تحققت كلمات حبقوق القائل: “يحصي المياه عند سيره” (حب 3: 10 LXX)، وعندما انتهر البحر فهدأ تحققت كلمات ناحوم أيضًا: “ينتهر البحر فينشفه” (نا 1: 4)، مشيرًا إلى الرياح الذي هيَّجت البحر[9]].
اَلْجِبَالُ تَرْجُفُ مِنْهُ،
وَالتِّلاَلُ تَذُوبُ،
وَالأَرْضُ تُرْفَعُ مِنْ وَجْهِهِ،
وَالْعَالَمُ وَكُلُّ السَّاكِنِينَ فِيهِ. [5]
مَنْ يَقِفُ أَمَامَ سَخَطِهِ؟
وَمَنْ يَقُومُ فِي حُمُوِّ غَضَبِهِ؟
غَيْظُهُ يَنْسَكِبُ كَالنَّارِ،
وَالصُّخُورُ تَنْهَدِمُ مِنْهُ. [6]
يشَّبه الغضب الإلهي بنيران البراكين والزلازل التي تهدم الصخور وتذوب التلال وتدمر مدنًا بأكملها، وليس من إمكانية للوقوف أمام هذه الظواهر الطبيعية. فإن كانت الصخور التي تبدو راسخة، ليس من يقدر أن يحركها تنهار أمام نيران البراكين المتفجرة، فكيف يقف الإنسان أمام نيران الغضب الإلهي؟
“لذلك هكذا قال السيد الرب: “ها غضبي وغيظي ينسكبان على هذا الموضع على الناس والبهائم وعلى شجر الحقل وعلى ثمر الأرض، فيتقدان ولا ينطفئان“ (إر 7: 20).
صَالِحٌ هُوَ الرَّبُّ.
حِصْنٌ فِي يَوْمِ الضَّيقِ.
وَهُوَ يَعْرِفُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ. [7]
لئلا يظن أحد، حتى الآشوريين، أن الله جَّبار منتقم، يبرز النبي صلاح الله وحنوه على المتكلمين عليه.
حين يغضب الإنسان يفقد سلامه وحبه وحنوه، أما الله ففي غضبه على الشر مملوء حنوًا. يقول حبقوق النبي في صلاته: “في الغضب أذكر الرحمة“ (حب 3: 2). في غضبه على الشر يترقب أن يرحم الخاطيء إن كشف عن شوقه الحقيقي للتوبة بينما يرتعب الأشرار من اللقاء مع الله، يترنم المتكلون عليه قائلين: “صالح هو الرب، حصن في يوم الضيق، وهو يعرف المتوكلين عليه“ ]7[. يرى الأبرار في قدرة الله أنه نار آكلة تحفظهم، قادر أن يخلصهم، يحوط حولهم فيحفظهم من كل سهمٍ ناريٍ موجه ضدهم. يقول القديس بطرس: “يعلم الرب أن ينقذ الأتقياء من التجربة، ويحفظ الآثمة إلى يوم الدين معاقبين“ (2 بط 2: 9).
v “أشكروا الرب فإنه صالح“ (مز 106: 1). يا أيها الذين تخطئون خطايا خطيرة وتيأسون من الخلاص، وتظنون أنه بسبب فداحة خطاياكم لا تقدرون أن تنالوا صفحًا، أنصحكم – بالحري ينصحكم النبي– أن تشكروا الرب، فإنه صالح. عظيمة هي خطاياكم، ولكن عظيم هو الرب الذين يتحنن عليكم. اعترفوا بخطاياكم للرب، اندموا ولا تيأسوا من خلاصكم، فإن الرب رءوف. لا تتكلوا على قوتكم بل اتكلوا على رحمة الرب1.
القديس جيروم
v “لأن الرب صالح“، صالح ليس بذات الطريقة التي بها الأشياء التي خلقها صالحة. فإن الله خلق كل الأشياء حسنة جدًا (تك 1: 31)، ليس فقط حسنة، وإنما أيضًا حسنة جدًا… إن كان قد خلق كل هذه الأشياء صالحة، فأي نوع (من الصلاح) ذاك الذي خلقها؟… إلى أي مدى يمكننا الحديث عن صلاحه؟ من يقدر أن يدرك ما في قلبه، ويفهم كيف أن الرب صالح؟ لنرجع إلى نفوسنا، فإننا لسنا أهلاً أن نتأمل فيه بذاته. وبالرجاء أنه يمكننا أن نتأمله عندما تتنقى قلوبنا بالإيمان عندئذ نفرح بالحق. الآن إذ لا يمكننا رؤيته فلنتطلع إلى أعماله حتى لا نحيا بدون التسبيح له. لهذا أقول: أشكروا الرب فإنه صالح، غنوا لاسمه، فإنه حلو… أي شيء أحلى من طعام الملائكة؟ كيف لا يكون الله حلوًا حيث أكل الإنسان طعام الملائكة؟ فإن البشر يحيون بطعام غير مختلفٍ. هذا حق، إنه الحكمة، إنه صلاح الله، لكنكم لا تقدرون أن تتمتعوا به بنفس الطريقة مثل الملائكة2.
القديس أغسطينوس
وَلكِنْ بِطُوفَانٍ عَابِرٍ يَصْنَعُ هَلاَكاً تَامّاً لِمَوْضِعِهَا،
وَأَعْدَاؤُهُ يَتْبَعُهُمْ ظَلاَمٌ. [8]
يرى البعض في هذه العبارة نبوة عما سيحل بنينوى من جيش مادي وبابل، حيث يقتحم الجيش المدينة، وكأنه طوفان قد حلّ بها، ليس من يقدر أن يقف أمامه. ويرى آخرون أنها نبوة عن تصرف هذا الجيش حين أسر نينوى بعمل فيضان في النهر الذي حطم السور البالغ 20 فرلنغًا Furlongs (مقياس للطول يساوي 220 ياردة أو ثمن ميل).
3. دمار مملكة أشور وجيشها [9-11].
مَاذَا تَفْتَكِرُونَ عَلَى الرَّبِّ؟
هُوَ صَانِعٌ هَلاَكاً تَامّاً.
لاَ يَقُومُ الضِّيقُ مَرَّتَيْنِ. [9]
لعله يُشير هنا إلى ما فعله سنحاريب ونائبه ربشاقي الذين عيَّرا رب الجنود، وتحدثا عنه علانية كإله عاجز عن حماية شعبه، وأنه لا يقدر أن ينقذهم من يد ملك أشور.
يسخر النبي بمملكة أشور التي تظن أنها ملكة عظيمة قادرة على مقاومة الله العظيم في قدرته، فيسأل: ماذا تتخلين ضد الرب؟ فإن مقاومتك ليست ضد بشرٍ مائتين، بل ضد الرب القدير.
“لا يقوم الضيق مرتين“، فإذ حاول سنحاريب ملك أشور فتح أورشليم تحطم جيشه، وقتله ابناه عند عودته إلى بلده، فلا مجال له أن يعيد الكره، ويحاول فتح أورشليم مرة أخرى. يرى البعض أن المعنى هنا أنه إذ يتدمر جيش أشور مرة ليس من مجال لتدميره مرة أخرى، لأنه لا يعود يقوم ليحارب من جديد!
v الأب لا يعلِّم ابنه ما لم يحبه. والسيد لا يُصلح من شأن تلميذه ما لم يرَ فيه علامات الوعد. عندما يأتي الطبيب ولا يهتم بالمريض، هذه علامة أنه في يأسٍ منه. يليق بك أن تجيب هكذا: إذ قبل لعازر في حياته شرورًا، فإنني أتقبَّل بسرورٍ العذابات لكي أتمتع بالمجد المقبل ليّ. لأن الضيق لا يقوم مرتين (نا 1: 9)[10].
القديس جيروم
v الأسقف أو الكاهن أو الشماس الذي يسقط في زنا أو القسم كذبًا أو السرقة أن يُقطع من درجته الكهنوتية ولا يوقف، لأن الكتاب يقولك “لا تنتقم مرتين لذات الجريمة بحزن”ٍ (راجع نا 1:9 LXX)[11].
القوانين الكنسية
v هنا أظن أن السلطات القديمة اتبعت القانون القديم: “لا تنتقم لنفس الشيء مرتين” (نا 1: 9 LXX). ولهذا السبب أيضًا العلمانيون (الشعب) عندما يُستبعدون من موضع المؤمنين يُردون من وقتٍ إلى آخر إلى الرتبة التي سقطوا منها. أما الشماس فيسقط تحت عقوبة نهائية بالقطع من رتبته، فلا ترد إليه رتبة الشموسية، بل تبقى كعقوبة دائمة[12].
v الكهنة الذين يرتكبون خطية للموت، يجردون من رتبتهم، لكنهم لا يُستبعدون من شركة العلمانيين (الشعب)، إذ لا تُعاقب مرتين على نفس الخطأ (نا 1: 9 LXX)[13].
القديس باسيليوس الكبير
فَإِنَّهُمْ وَهُمْ مُشْتَبِكُونَ مِثْلَ الشَّوْكِ،
وَسَكْرَانُونَ كَمِنْ خَمْرِهِمْ يُؤْكَلُونَ،
كَالْقَشِّ الْيَابِسِ بِالْكَمَالِ. [10]
يُحسب سنحاريب الملك ورجاله وهم يعيرون رب القوات أشبه بشوكٍ جافٍ يقف أمام نار ملتهبة، أو كسكرى لا يدرون بما ينطقون. إنهم كالقش الكامل اليبوسة، تلتهمه النار بسرعة فائقة.
واضح أن هؤلاء القتلى من الجنود (185 ألفًا) كانوا يشاركون قائدهم روحه الشرير، وسخريته بالرب الإله، لذلك ضربهم ملاك الرب. هذا يظهر من قول النبي: “مشتبكين مثل الشوك، وسكرانون“. فكان كل منهم يشدد أيدي الآخرين في الشر، ويثيرهم على التجديف على الله، فصاروا أشبه بكتلة من الأشواك لا يُمكن فصلها عن بعض، فيقوم المزارع بحرقها معًا بالنار. وكانوا أشبه بجماعة من السكرى، كل منهم يحث البقية على السكر والسخرية.
يرمز الشوك للأشرار، فإنهم كالشوك الذي يبدو مؤذيًا، لكنه يابس سرعان ما تشتعل فيه النار، فيصير رمادًا لا حول له. “ولكن بني بليعال جميعهم كشوكٍ مطروحٍ، لأنهم لا يؤخذون بيدٍ، والرجل الذي يمسهم يتسلح بحديدٍ وعصا رمحٍ، فيحترقون بالنار في مكانهم“ (2 صم 23: 6-7).
يترنح السكارى ويتظاهرون بالشجاعة، ويفتخرون بأنفسهم كعظماء وأغنياء وأقوياء، وإن كان يمكن لإنسان أن يدفعهم للسقوط بطرف إصبعه.
يذكر ديؤدورس سيكولوس Diodorus Siculus أنه إذ دخل العدو نينوى قام ساردانابالوس Sardanapalus بحرق قصره المشهور، بهذا تحققت نبوة ناحوم أنهم كالشوك يحترقون.
مِنْكِ خَرَجَ الْمُفْتَكِرُ عَلَى الرَّبِّ شَرًّا،
الْمُشِيرُ بِالْهَلاَكِ. [11]
يوجه الحديث إلى نينوى التي خرج منها سنحاريب ينطق على الرب بالشر، فيدمر نفسه كما يدمر المدينة التي خرج منها.
يدعو ربشاقي بالمشير الجاهل الذي أشار على رجال الحرب الجالسين على السور ألا يتكلوا على الرب، فإنه عاجز عن إنقاذهم من يد سنحاريب ملك أشور (إش 36). إنه مشير بالهلاك، لأنه تعييره لرب الجنود أدى إلى قتل مئة وخمسة وثمانين ألفًا من جيشه في ليلة واحدة بواسطة ملاك الرب (إش 37: 36). كما قُتل سنحاريب نفسه بواسطة ابنيه أدرملك وشرآصر (إش 37: 38).
4. تحرير أورشليم [12-14].
هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
إِنْ كَانُوا سَالِمِينَ وَكَثِيرِينَ،
هَكَذَا فَهَكَذَا يُجَزُّونَ فَيَعْبُرُ.
أَذْلَلْتُكِ.
لاَ أُذِلُّكِ ثَانِيَةً. [12]
كانت مملكة أشور أشبه بموسى قام بجز الممالك كما يُجز الشعر من الرأس، لذلك جاءت العقوبة أنها تُجز هي. جاء في إشعياء: “في ذلك اليوم يحلق السيد بموسى مستأجرة في عبر النهر بملك أشور الرأس وشعر الرجلين، وتنزع اللحية أيضًا“ (إش 7: 20).
إذ سبق هذا الجيش فهزم مدنًا كثيرة كانت تعتمد على آلهتها الوثنية، وقفوا أمام أورشليم كمن في آمان وسلام يعتزون بكثرتهم وقوتهم، فإذا بهم “يُجزون” كالعشب، ويعبر بهم الملاك المهلك ويذلهم مرة واحدة، ولا يقومون من هذا الهلاك ليسقطوا مرة أخرى في هلاك جديد!
بقوله: “أذللتك، لا أذلك ثانية“ يكشف الرب غايته من التأديب، وهو توبة الخاطي في تواضع وتذلل، لكي ما يرفعه الرب ويقيمه ممجدًا. لهذا قيل عن الرب: “لأن السيد لا يرفض إلى الأبد، فإنه ولو أحزن يرحم حسب كثرة مراحمه، لأنه لا يذل من قلبه، ولا يُحزن بني الإنسان“ (مرا 3: 31-33).
بقوله: “أذللتك، لا أذلك ثانية“ يؤكد الله لحزقيا الملك أنه قد سمح له ولشعبه بهذا الحصار لكي يتعرف الشعب على خطئه ويقدم توبة صادقة بروح التواضع. وأن الضربة التي ستصيب جيش أشور الذي يحاصر أورشليم ستكون قاضية فلا يعود سنحاريب بعد يحاصرها.
وَالآنَ أَكْسِرُ نِيرَهُ عَنْكِ،
وَأَقْطَعُ رُبُطَكِ. [13]
يؤكد الرب لحزقيا الملك ورجاله أن الله يكسر نير سنحاريب وجيشه ويقطع ربطه، حيث كان جيش الأشوريين يقتحم الكثير من مدن وقرى يهوذا، يعبث بها في حرية، وأورشليم عاجزة عن الدفاع عن هذه المواضع، إذ كانت أشبه بمدينة مربوطة ومقيدة. ستتمتع بالحرية، فلا يقوم جيش أشور بهجوم آخر حيث تخور قوته بقتل 185 ألفًا بواسطة ملاك الرب، ويصير الجيش كأنه قد انقرض، لا قوة له.
النير الذي وضعه أشور هو الجزية التي فرضها سنحاريب على حزقيا (2 مل 18: 14).
وَلكِنْ قَدْ أَوْصَى عَنْكَ الرَّبُّ:
لاَ يُزْرَعُ مِنِ اسْمِكَ فِي مَا بَعْدُ.
إِنِّي أَقْطَعُ مِنْ بَيْتِ إِلَهِكَ التَّمَاثِيلَ الْمَنْحُوتَةَ وَالْمَسْبُوكَةَ.
أَجْعَلُهُ قَبْرَكَ، لأَنَّكَ صِرْتَ حَقِيرًا. [14]
لقد صدر الأمر بإبادة اسمه، فلا يتحدث عنه أحد بعد كغالبٍ ومنتصرٍ، وتتبدد سمعته مع الريح كغبار يعبر ولا يعود. بقوله “إني أقطع من بيت إلهك التماثيل المنحوتة والمسبوكة“، ربما يُشير إلى قتل سنحاريب الملك بواسطة ابنيه في بيت نسروخ إلهه (إش 37: 38؛ 2 مل 16: 37). أظهرت هذه الجريمة البشعة عجز نسروخ عن حماية من يعبده، وتطلع الشعب إلى هذا الهيكل وقد تدنس بالجريمة، فقطعوا منه التماثيل، وامتنعوا عن العبادة فيه. ولعله يُشير هنا إلى انهيار مملكة أشور، حيث قام العدو بتخريب نينوى، وتحطيم تماثيل آلهتهم التي كانوا يظنون أنها سرّ نصرتهم.
“أجعله قبرك، لأنك صرت حقيرًا“، تحول بيت نسروخ إلهه إلى مقبرة له، حيث رقد مُحتقرًا من ابنيه اللذين قتلاه غدرًا، فحُرم حتى من المحبة البنوية. ولعله يقصد هنا مدينة نينوى التي صارت مقبرة لأشور حيث تم دمارها بطريقة مشينة.
إذ يدخل إلهنا في قلوبنا، نشتهي ألا يُزرع اسمنا بعد إذ نحمل اسمه، فنترنم قائلين: “مع المسيح صلبت فأحيا، لا أنا، بل يحيا المسيح فيَّ“ (غل 2: 20). يحطم فينا الأنا ego ويقيم ملكوته الإلهي فينا. تُدفن الأنانية كما في قبر، فينزع عنا حقارتنا ليهبنا شركة أمجاده، فيتغنى السمائيون: “مجد ابنة الملك من الداخل“ (مز 45: 13)، بل ويناجينا السماوي نفسه: “كلكِ جميلة يا حبيبتي، ليس فيكِ عيبة“ (نش 4: 7). “من هي المشرقة مثل الصباح، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيشٍ بألوية؟“(نش 6: 10).
5. الخلاص العظيم [15].
هُوَذَا عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَا مُبَشِّرٍ مُنَادٍ بِالسَّلاَمِ:
عَيِّدِي يَا يَهُوذَا أَعْيَادَكِ.
أَوْفِي نُذُورَكِ،
فَإِنَّهُ لاَ يَعُودُ يَعْبُرُ فِيكِ أَيْضاً الْمُهْلِكُ.
قَدِ انْقَرَضَ كُلُّهُ. [15]
إذ يبشر أورشليم بحل ربطها، وكسر نير جيش أشور، وهلاك ملكها سنحاريب وقطع تماثيل آلهتها، يتنبأ ناحوم عن ما هو أعظم وهو الخلاص الذي يقدمه المسيا للعالم كله. فيرى في السيد المسيح القادم كما على الجبال لينادي بالسلام الداخلي الحقيقي الأبدي، حيث يصالح البشرية مع الآب، ويحول حياتنا إلى أعياد لا تنقطع، ويحطم عدو الخير ويقطعه، فلا يكون له سلطان على أولاد الله، بل ينقرض هو وجنوده وحيله وأعماله وأفكاره “قد انقرض كله“.
ما هذه الجبال التي تسير عليها قدما المنادي بالسلام، إلا النبوات التي هيأت البشرية لقبول المخلص؟
v بالتأكيد جلب أخبارًا مفرحة لصهيون، وقدم سلامًا لأورشليم. إنه يصعد على جبلٍ، وهناك يقضي ليلة في صلاة (لو 6: 12). لهذا، فلترجعوا إلى الأنبياء، وتتعلموا منهم دوره الكامل. يقول إشعياء: “على جبلٍ عالٍ اِصعدي يا مبشِّرة أورشليم” (إش 40: 9). “فبُهتوا من تعليمه، لأن كلامه كان بسلطان” (لو 4: 32)… “أنا حاضر، عندما تكون الساعة، على الجبال، أجلب البشارة بالسلام، وأبشِّر بالخير” (راجع إش 42: 7). وكما يقول أحد الاثنى عشر (من الأنبياء الصغار) ناحوم: “هوذا على الجبال قدما مبشرٍ منادٍ بالسلام مسرعتان” (راجع نا 1: 15)[14].
العلامة ترتليان
v ليت ذاك الذي يتذكر الإنجيل يذكر كيف صعد (السيد) من الجحيم، ونفخ الروح القدس في وجه يهوذا – أي التلاميذ اليهود – إذ ينتمون إلى العهد الجديد، الذين صارت أيام أعيادهم متجددة روحيًا لا يمكن أن تصير قديمة. علاوة على هذا قد رأينا أن بقية النبوَّة (نا 1: 14) قد تحقَّقت حيث دمَّر الإنجيل “التماثيل المنحوتة والمسبوكة“، أي أصنام الآلهة الباطلة وسُلمت الآن النسيان في القبر[15].
القدِّيس أغسطينوس
v بحديثه عن الأقدام يعني مجيء الرسل الذين طافوا العالم يكرزون بمجيء ملكوت الله. فإن ظهورهم أنار البشرية بإظهار الطريق للسلام مع الله، هذا الذي جاء يوحنا ليعد له (مر 1: 3، إش 40: 3). هذا هو السلام الذي يسرع إليه الذين يؤمنون بالمسيح[16].
الأب أمبروسياستر
v ليس كلامي فقط هو الذي يوضح هذه الأمور، بل قد سبق النبي فأنبأ بذلك صارخًا: “هوذا على الجبال قدما مبشر منادِ بالسلام” (نا 1: 15). وما هي رسالته التي بشر بها إلا التي أخذ يعلنها لهم، قائلاً: “عيدي يا يهوذا أعيادك، أوفي للرب نذورك. فإنهم لا يعودوا إلى ما هو قديم. قد انتهى؛ لقد انقرض كله. لقد ارتفع ذاك الذي نفخ على الوجه وخلصك من الغم” (نا 1: 15؛ 1: 2 LXX). والآن: من هو هذا الذي ارتفع؟… إن أردتم معرفة الحقيقة والتخلص من ادعاءات اليهود، تطلعوا إلى مخلصنا الذي ارتفع ونفخ في وجه تلاميذه قائلاً: “اقبلوا الروح القدس” (يو 20: 22). فبمجرد أن كمل هذا (الصلب) انتهت الأمور العتيقة، فانشق حجاب الهيكل (مت 27: 51)، وتحطم المذبح (اليهودي)، ومع أن المدينة لم تكن بعد قد خربت، إلا أن رجسة الخراب (مت 24: 15) كانت تستعد للجلوس في وسط الهيكل، فتتلقى أورشليم وكل تلك الفرائض العتيقة نهايتها[17].
v لقد اقترب منا يوم العيد مرة أخرى، الذي أن صمتنا فيه نجعله غير مقدس، إنما يلزم أن يكون مكرسًا للصلاة أكثر من كل الأيام، وفيه نحفظ الوصايا. لأنه وإن كنا في ضيق من أولئك الذين يحزنوننا، وبسببهم سوف لا نخبركم عن هذا الموسم (إذ لا يكون بين شعبه)، لكن شكرًا لله الذي يعزي الحزانى، حتى لا ننهزم بشرور أولئك الذين يتهموننا فنصمت، ففي طاعتنا لصوت الحق نصرخ معكم عاليًا في يوم العيد، لأن إله الكل قال بأن يتكلما (موسى وهارون) مع الشعب لحفظ الفصح، ويعلن الروح في المزامير قائلاً: “انفخوا في رأس الشهر بالبوق عيد الهلال كيوم عيدنا“. ويصرخ النبي قائلاً: “عيدي يا يهوذا أعيادك“ (نا 1: 15).
وأنا لا أرسل إليكم الكلمة كأنكم جاهلون، بل أعلنها للذين يعرفونها، حتى يدركوا بأنه وإن كان بعض البعض يفرقنا، لكن الله يجمعنا، فإننا نعيد بنفس العيد، ونتعبد لنفس الإله على الدوام.
ونحن لسنا نعيد كمتفرجين، عالمين أن الرسول يوبخ أمثال أولئك قائلاً: “أتحفظون أيامًا وشهورًا وأوقاتًا وسنين” (غل 4: 10)، بل بالحري نكرم هذا اليوم العظيم من أجل العيد، حتى نرضي الله – نحن جميعًا الذين نخدم الله في كل مكان – وذلك بصلواتنا الجماعية. وقد أعلن بولس الطوباوي عن قرب سرور كهذا، وهو في هذا لم يعلن عن أيامٍ بل عن الرب الذي من أجله نحفظ العيد، إذ يقول “المسيح قد ذبح لأجلنا” (1 كو 5: 7)، فإذ نتأمل أبدية الكلمة نقترب منه لخدمته[18].
v أحبائي الأعزاء لقد جاء بنا الله مرة أخرى إلى فصل الفصح، وخلال محبته المترفقة جمعنا معًا للتعييد. لأن الله الذي أخرج إسرائيل من مصر لا يزال حتى الآن يدعونا الآن للفصح، قائلاً على لسان موسى: “احفظ شهر الثمار الجديدة، واعمل فصحًا للرب إلهك” (تث 16: 10)، ويقول على لسان النبي: “عيدي يا يهوذا أعيادك أوفي نذورك” (نا 1: 15).
فإن كان الله نفسه يحب العيد ويدعونا إليه، فليس من الصواب يا إخوتي أن نؤجله أو نمارسه بتراخٍ، إنما يلزمنا أن نأتي إليه بغيرةٍ وسرورٍ، حتى إذ نبدأ هنا بالفرح تشتاق نفوسنا إلى العيد السماوي.
إن عيدنا هنا بنشاط، فإننا بلا شك نتقبل الفرح الكامل الذي في السماء، وكما يقول الرب: “شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم. لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد حتى يكمل في ملكوت الله” (لو 22: 15-16).
فنحن نأكل منه الآن أن كان يفهمنا سبب العيد وبمعرفتنا للمخلص، نسلك حسب نعمته كقول بولس: “إذًا لنعيد ليس بخميرة عتيقة، ولا بخميرة الشر والخبث، بل بفطير الإخلاص والحق” (1 كو 5: 7). لأنه في هذه الأيام مات الرب، كي لا نعود نشتاق إلى أعمال الموت! لقد بذل حياته، حتى نحفظ حياتنا من شباك الشيطان![19]
القديس أثناسيوس الرسولي
v [خاص بالرهبان] يجدر بنا مراعاة الأيام المذكورة بطريقة كهذه حتى يمكن أن تكون الراحة مفيدة وغير مضرة للجسد والنفس. لأن فرحة أي عيد لا تُضعف أشواك الجسد، ولا يمكن لعدونا المتوحش (الشيطان) أن يهدأ بسبب أيام الراحة هذه. فلكي ما نحفظ تقاليد موسم العيد، ولكي لا نخضع لقانون الصوم… يكفي لنا في هذا الوقت أن نتناول الطعام الساعة السادسة (12 ظهرًا) بدلاً من الساعة التاسعة، من غير أن نغيّر من كمية الطعام ونوعه حتى لا نفقد نقاوة الجسد وصلاح النفس اللذين نلناهما أثناء الصوم الكبير…
يجب أن نحترس بيقظة إلى المنتهى لئلا تخور نفوسنا بسبب الغوايات فنفقد نقاوة طهارتنا التي نلناها وذلك بالراحة والإهمال في وقت عيد الفصح بعد جهاد مستمر طوال الصوم الكبير. لهذا يلزمنا ألا نضيف شيئًا إلى نوع الطعام أو كميته، بل حتى في اسمي الأعياد يجب أن نمتنع عن هذه الأطعمة حتى لا يثير فينا فرحنا بالعيد صراعًا مميتًا للغاية بسبب الشهوات الجسدانية، وهكذا نتحول إلى الحزن. فنعود نبكي نقاوة قلبنا المفقودة بحزن الندم اللانهائي.
في نفس الوقت يجدر بنا أن نسعى لئلا نُوبخ بهذا التحذير “عَيِّدي يا يهوذا أعيادكِ أوفي نذوركِ” (نا 1: 15). لأنه إن كانت أيام العيد لا تتعارض مع استمرار زهدنا، فإننا نتمتع بأعياد روحية دائمة[20].
الأب ثيوناس
من وحي ناحوم 1
قدير أنت في حبك!
غيور أنت على القداسة!
v أنت إله قدوس غيور، لا تداهن الخطية!
لا تريد أن تعرفها، ولا أن تعرفك!
تسكب قداستك على المؤمنين بك،
وتهب برَّك للراغبين في الشركة معك!
v أحببتنا لتقدسنا، فنكون أيقونة لك!
في غباوة أحببنا الخطية، وحسبناها حياة وبهجة!
في طول أناتك تحثنا على العودة إليك.
فإن أصررنا على الشر، كيف نقف أمامك؟
v لا يستطيع إنسان أن يواجه العواصف،
ولا أن يسيطر على السحاب!
ولا تقدر الصخور أن تقف أمام نيران البراكين،
فكيف في جسارة نقف أمام نار غيرتك!
أنت نار آكلة، تحرق الشر، وتنير البّر!
v صالح أنت يا رب،
حتى في غضبك تؤدب لتخلص.
تحرق الشر، لتنزع عنا التراب، وتقيم منا سماءً جديدة.
ظن سنحاريب ملك أشور أنه قادر بجيشه أن يعيرك!
وقف الشوك اليابس أمام النار!
سكر جيشه وترنح، وظن أنه قدير!
لكنك كسرت نيره، وأنقذت مدينتك!
نزعت عن نينوى سلطانها فانهارت!
دخلها العدو وهدمها، وقطع تماثيل آلهتها.
كل يد تمتد إلى شعبك تُقطع!
كل نفسٍ تقاوم ملكوتك، إن لم تتب، تهلك!
أنقذت شعبك من سنحاريب،
وفي بيت إلهه نسروخ قتله ابناه.
خلاصك عجيب وقدير!
v خلاصك يمتد ليشمل العالم كله!
هوذا أنت قادم على جبال النبوات،
نزلت إلينا تبشرنا بالمصالحة مع السماء،
حولت عالمنا إلى سماء،
وأيامنا إلى أعياد لا تنقطع!
نزلت بإبليس تحت أقدامنا.
لقد انقرض كل سلطان له!
إنه ساقط مثل البرق من سماء قلوبنا،
ليس له موضع بعد في داخلنا!
ليس من يملك على قلوبنا سواك!
مقدمة | تفسير سفر ناحوم | تفسير العهد القديم |
تفسير ناحوم 2 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر ناحوم | تفاسير العهد القديم |