تفسير سفر الأمثال ١٦ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السادس عشر
وصايا الحكمة من العناية الإلهية

يدعونا سليمان الحكيم في هذا الأصحاح أن نضع في قلوبنا أن نعمل باجتهاد، وأن نفكر باتزان، لكننا لا نتكل على ذواتنا أو قدراتنا أو مركزنا، بل على الله الذي وحده يفحص القلوب، ويزن طرق الإنسان بمعاييره التي لن تخطئ. لندرك أن خطة الله لن تفشل، فقد خلق الإنسان له، كمحبٍ وعزيزٍ لديه، وأما الذي يهلك فبإرادته الشريرة يلقى بنفسه في الهلاك.

يطالب كل إنسان أن يتمتع بعمل الله ويثق في عنايته الإلهية بروح التواضع، فيقدسه الرب ويُنجح طريقه. يطلب من القادة خاصة الملوك أن يدركوا رسالتهم، ولا يستخفوا بدورهم، فيلزم أن تكون كلماتهم كأنها وحي تراعي العدالة والرحمة. أما الشعب فيليق به أن يسلك بالصلاح، فلا يخاف الملك، ويتكلم بالمستقيمات، فيكون موضوع حبه.

أخيرًا يحذر الجميع من روح الكبرياء ويدعوهم للسلوك بروح التواضع.

الرب العامل في مؤمنيه1-4.

“للإنسان تدابير القلب،

ومن الرب جواب اللسان” [ع 1]

قدّس الله حرية الإرادة، فأعطى للخليقة العاقلة حق الخيار. فمن حق الإنسان أن يختار الطريق، أي تدبير القلب والنية، لكن الله هو الذي يهب الإمكانية والقدرة حتى إمكانية الإجابة باللسان.

بدون الله لا يستطيع الإنسان أن يعمل شيئًا، لكنه لا يعمل في الإنسان قسرًا، بل يترك له اختيار الطريق.

 يقول إرميا النبي: “عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقه، ليس لإنسان يمشي أن يهدي خطواته” (إر 10: 23). حتى الإرادة الإنسانية، وإن كنا قد نلنا حق الخيار، لكننا نحتاج إلى نعمة الله لكي تصير لنا قوة الإرادة، وكما يقول الرسول بولس: “لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته” (في 2: 13).

V      بالتأكيد كما هو مكتوب: “للإنسان إعداد القلب، ومن الرب جواب اللسان” (أم 16: 10)، يخطئ البعض الطريق بسبب عدم الفهم، فيظنون أن إعداد القلب – أي بدء الصلاح – يخص الإنسان دون معونة النعمة الإلهية. حاشا لأبناء الموعد أن يفهموها هكذا[502].

V      لا يروض الحصان نفسه، ولا أيضًا الإنسان يقدر أن يفعل هذا. الحاجة مُلحة للإنسان أن يروض الحصان، وبنفس الطريقة إلى الله كي يروض الإنسان[503].

القديس أغسطينوس

V      لا يغصبنا الله ولا تُلزم نعمة الروح إرادتنا، لكن الله ينادينا وينتظر أن نتقدم إليه بكامل حريتنا، فإذا اقتربنا يهبنا كل عونه[504].

V      الله لا يُلزم الذين لا يريدونه، لكنه يجتذب الذين يريدون[505].

V      الله لا يُقيِّد رغباتنا أو إرادتنا بعطاياه، لكن ما نكاد نبدأ ونُظهر الاستعداد حتى نجده يعرض علينا فرصًا عديدة للخلاص[506].

V      أوجدَ الخالق طبيعتنا سيدة نفسها. ففي رحمته يهبنا معونته على الدوام وهو يدرك ما هو خفي في أعماق القلب. إنه يرجونا وينصحنا وينهانا ويحذرنا من التصرفات الشريرة، لكنه لا يفرض علينا شيئًا قسرًا. يعرض الأدوية المناسبة، تاركًا الأمر كله لقرار المريض نفسه[507].

V      نحن سادة، في إمكاننا أن نجعل كل عضو فينا آلة للشر أو آلة للبرّ[508].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“كل طرق الإنسان نقية في عينيّ نفسه،

والرب وازن الأرواح” [ع 2]

منذ سقوط الإنسان، صار الإنسان يبرر تصرفاته، ويعطي لنفسه الأعذار، ويظن أنه يسلك بما يليق، حتى وإن أدرك أن ما يفعله خطأ أو جريمة يرتكبها، لكنه يحسب الظروف قد دفعته إلى ذلك. لهذا قيل: “تصور قلب الإنسان شرير” (تك 8: 21). القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه (إر 17: 9).

أما إذا قبل الإنسان عمل الله فيه، فعندئذ يدرك أن موازين الله وحساباته صادقة، فيُلقي باللوم على نفسه، وليس على الظروف المحيطة به أو على الغير، أو على الله نفسه. فإن الله لا يخطئ في حساباته.

يهب الله مؤمنيه أن يتمتعوا بإدراك موازينه، لا ليسحقهم بالحزن والمرارة على تصرفاتهم، وإنما لكي يجتذبهم إليه، فيرفعهم ويقدسهم، بل ويمجدهم.

جاءت دعوة الكثير من آباء الكنيسة مثل القديس إكليمنضس السكندري والقديس باسيليوس الكبير أن يعرف الإنسان حقيقة نفسه، أعماقه الداخلية، فيتعرف على الله الذي يطلب خلاصه، وأن يسكن فيه.

V      “تأمَّل إذن ذاتك” حتى تبلغ إلى معاينة الله[509].

V      تنبِّهك الكتب المقدَّسة إلى الاهتمام كثيرًا بنفسك. فلا تهتم بالجسد ولا بما هو مرتبط بالجسد، كالصحَّة والجمال، واللذَّة والعمر المديد. وكذلك لا تعر كبير اهتمام للغنى والمجد والسلطان، وكل ما هو مرتبط بالحياة الأرضيَّة. ولكن اهتم بنفسك فوق كل شيءٍ. فهذه هي الكنز الثمين لك. زيِّنها بالفضائل، نقِّها من الخطيئة، وجمِّلها بزينة الفضيلة التي هي أجمل زينة. تأمَّل جيدا بهذه الفكرة: إن الجسد يزول ويفنى، أما النفس فهي خالدة[510].

القديس باسيليوس الكبير

“اِلق على الرب أعمالك،

فتثبت أفكارك” [ع 3]

يقول المرتل: “سلِّم للرب طريقك، واتكل عليه، وهو يُجري” (مز 37: 5). إن كان الرب يحطم خطط الأشرار ضد الله وضد المؤمنين، فمن جانب آخر يقدم الطمأنينة لمؤمنيه المتواضعين. إنه سند لهم في خططهم وأعمالهم مادامت حسب مشيئته الإلهية.

V      الشخص المتواضع يظهر لنا ما هو مستقيم بطريقة ليست هينة. فإن الشخص النادم لن يفتخر بأمورٍ عظيمة. أما الله فلا يرغب في أن يعرف أعمال المتكبرين[511].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

V      أوصينا أن نُظهر طرقنا له، وأن نجعلها تسير نحوه، هذه التي تصير مستقيمة لا بمجهوداتنا الذاتية، بل بعونه ورحمته. لذلك كُتب: “اجعل طريقك مستقيمًا في عينيّ” أو كما جاء في نسخ أخرى: “اجعل طريقي مستقيمًا في عينيك”، بحيث ما يكون مستقيمًا في عينيه يظهر مستقيمًا في عينيّ. ويقول سليمان: “افتح أعمالك أمام الرب، فيوجه أفكارك” فإن أفكارنا تتوجه عندئذ فقط عندما نلتقي أمام الرب، كما إلى صخرة ثابتة لا تتزعزع، كل ما نفعله ننسبه إليه[512].

 القديس جيروم

“الرب صنع الكل لغرضه،

والشرير أيضًا ليوم الشر” [ع 4]

إن كانت كل الخليقة السماوية والأرضية تمجد الله الخالق المعتني بخليقته، إلا أنه لم يخلقها عن احتياج إلى من يمجده، بل خلقها من أجل صلاحه وحبه وعطائه للغير.

يُعلن بالأكثر حبه ورعايته في يوم الرب العظيم حيث يتمتع المؤمنون الروحيون بالميراث الأبدي، أما الأشرار فيحكم شرهم عليهم بالدمار الأبدي.

بقوله: “صنع الكل لغرضه” يشعر المؤمن بقيمته، أن الله خلقه لأجله، لا لينتفع منه، ولا لاحتياج إليه، وإنما لأنه يحبه، يود أن يدخل به إلى أحضانه، وينسب نفسه إليه، فيقول: “أنا إله إبراهيم…”

يشعر المؤمن أنه ليس شخصًا بين زحام من البشر يبلغ عددهم البلايين، لكنه إنسان الله، العزيز جدًا عليه، والمهتم به شخصيًا.

كثيرًا ما يظن الإنسان أن قانون العالم هو الفوضى واللاقانون، وأن شريعة الغاب والعنف لها الغلبة. لكن وسط كل ما يبدو كأن عينيّ الله لا ترقبان الناس، وكأن الله لا يبالي بتصرفاتهم، توجد خطة إلهية تتحقق حتمًا، وبنجاحٍ أكيدٍ  في الوقت المعين.

V      هذه الأمور… ولو أن ظاهرها يشير إلى هدف واحد ونهاية واحدة (لأنها تحثنا على الابتعاد عن الأمور غير اللائقة) إلا أنها تختلف فيما بينها في السمو. لأن الإيمان والرجاء يليقان بالأكثر للذين لم يكتسبوا بعد محبة الفضيلة أثناء هدفهم نحو الصلاح. أما المحبة فتتعلق بالله، وبالذين نالوا في داخلهم أن يكونوا على صورة الله ومثاله. لأن الله وحده هو الذي لا يصنع الصلاح خوفًا ولا ابتغاء كلمة شكر أو نوال جزاء، إنما يصنع الصلاح ببساطة من أجل محبة الصلاح. وذلك كقول سليمان: “الرب صنع الكل لغرضهِ” (أم 16: 4). فبصلاحه يغدق بالخير على المستحقين وغير المستحقين، لأنه لا ينفعل غضبًا بسبب الأخطاء، ولا يتأثر بانفعالات خطايا البشر، إذ هو على الدوام كلي الصلاح غير متغير[513].

الأب شيريمون

V      الله صالح، كامل الصلاح وحده، وإذ أنت صورته يليق بك أن تكون صالحًا. إنه سخي مع الجميع، فينبغي عليك أن تكون كريمًا، تتجنب الجشع، ولا تبخل على قريبك بأي شيء مادي زائل، فإن هذا أعظم كارثة وجهالة.

الأب يوحنا من كرونستادت

تشامخ القلب 5.

“مكرهة الرب كل متشامخ القلب،

يدًا ليدٍ لا يتبرأ” [ع 5]

الذين يسلكون بروح الكبرياء يعزلون أنفسهم عن الله الذي في تواضعه خلق الإنسان، وأقامه ملكًا، وأعطاه سلطانًا على الأرض. تشامخ الإنسان يُفقده التصاقه بالله مصدر كل الخيرات، ويضع نفسه في مركز الخصم لله، ويظن أنه قادر على الدخول معه الند للندٍ، فلا يبرأ.

V      ليس شيء غريب عن رحمة الله، ويبعث إلى نيران جنهم مثل طاغية الكبرياء. إن اقتنيناه داخلنا تصير كل حياتنا دنسة، حتى وإن مارسنا العفة والبتولية والصوم والصلاة والصدقة وأية فضيلة. يقول الكتاب: “كل إنسانٍ متشامخ مكرهة الرب”. لذا يلزمنا أن نفحص تشامخ النفس هذا، ونقطع هذا السرطان، إن أردنا أن نكون أنقياء، ونتخلص من العقوبة المُعدة للشيطان[514].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

V      يظهر بثبات واضح بالأمثلة والشهادات من الكتاب المقدس أن خطية الكبرياء، بالرغم من تأخر ترتيبها (بين الخطايا) هي أولى الخطايا والأخطاء، وهي لا تموت بالفضيلة المضادة لها (التواضع)، وفي نفس الوقت محطمة لكل الفضائل، ولا تُغري فقط الناس العاديين والبسطاء، لكن بالأكثر الذين يقفون على قمة الشجاعة.

لهذا يتكلم الرسول عن هذه الروح… وكذلك داود الطوباوي، بالرغم من أنه كان شديد الحرص على مخازن قلبه لدرجة أنه تجرأ أن يخاطب الله الذي لا يُخفي عنه أسرار ضمائره (أسراره الداخلية) كما في مز 130 (131): 1-2؛ مز 100 (101): 1-2. مع هذا لكونه عرف صعوبة السهر حتى بالنسبة للكاملين لم يعتمد على مجهوداته الخاصة، بل صلى إلى الله، وطلب معونته، حتى يمكنه أن يخرج منتصرًا من ضربات عدوه، قائلاً: “خاصم يا رب مخاصميّ، امسك مجنًا وترسًا وانهض إلى معونتي” (مز 35: 1-2). ولأنه خاف وارتعب أن يسقط فيما قيل عن الكبرياء لذلك يقول: “يقاوم الله المستكبرين، وأما المتواضعين فيعطيهم نعمًة” (يع 4: 6)، “مكرهة الرب كل متشامخ القلب، يدًا ليد لا يتبرّأُ” (أم 16: 5)[515].

القديس يوحنا كاسيان

V      نقرأ عن أمرٍ كهذا في سفر الأخبار عن يوآش ملك يهوذا. عندما كان في السابعة من عمره استدعاه يهوياداع الكاهن ليصير ملكًا، وبشهادة الكتاب المقدس مُدح من أجل كل أعماله أثناء حياة الكاهن سالف الذكر، لكننا نسمع عنه بعد موت يهوياداع كيف انتفخ بالكبرياء وسُلم إلى حالة أكثر خزيًا. “وبعد موت يهوياداع جاء رؤساء يهوذا وسجدوا للملك، حينئذ سمع الملك لهم، وتركوا بيت الربّ إله آبائهم، وعبدوا السواري والأصنام، فكان غضب علي يهوذا وأورشليم لأجل إثمهم هذا” (2 أي 24: 17-18). قيل بعد قليل: “وفي مدار السنة صعد عليه جيش أرام، وأتوا إلى يهوذا وأورشليم وأهلكوا كل رؤساء الشعب من الشعب وجميع غنيمتهم أرسلوها إلى ملك دمشق، لأن جيش أرام جاء بشرذمة قليلة، ودفع الربّ ليدهم جيشًا كبيرًا جدًا، لأنهم تركوا الرب إله آبائهم. فأجروا قضاءً علي يوآش، وعند ذهابهم عنه، لأنهم تركوه بأمراض كثيرة” (2 أي 24: 23-25).

ها أنت تري كيف أن شهوة الكبرياء سلمته لشهوات دنس مخجلة من أجل أنه انتفخ بالكبرياء، وسمح لنفسه أن يُعبد كإله، كما يقول الرسول: “لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان وإلى ذهنٍ مرفوضٍ ليفعلوا ما لا يليق” (رو 1: 26، 28)، ولأن الكتاب المقدس يقول: “مكرهة الرب كل متشامخ القلب” (أم 16: 5). ذاك الذي انتفخ بكبرياء القلب المتزايد يُسلم لعارٍ وخزي عظيمين ليُغوى بهما.

هكذا عندما يتواضع يجب أن يعرف أنه اتسخ بدنس الجسد ومعرفة الشهوات الدنسة، الشيء الذي رفض أن يعرفه عندما كان في كبرياء قلبه. أيضًا هذا الفساد المخزي الذي للجسد يمكن أن يفضح دنس القلب المختفي الذي ارتبط به من خلال خطية الكبرياء، وكأن فساد جسده الواضح يمكنه أن يبرهن علي تلوثه الذي لم يكن يراه فيما مضي، فيعرف أنه أصبح دنسًا من خلال كبرياء روحه[516].

القديس يوحنا كاسيان

V      نعم إن الذين يتكلمون بكلام الله أمام الله يفهمون أنهم قد قبلوا كلمات التعليم من الله، وبهذا يجب أن يسعوا لمسرة الله وليس لمسرة ذواتهم. كذلك ينبغي أن ينصتوا إلى قول الكتاب: “مكرهة للرب كل متشامخ القلب” (أم 16: 5). من الواضح أن هؤلاء عندما يسعون وراء مجدهم الباطل باستغلال كلمة الله، يغتصبون حق الله الواهب المعطي، لأنهم لا يخشون سلب المديح من الذين قبلوا التعليم بأمورٍ مقدسة. ليسمعوا كذلك ما يقوله سليمان للمعلمين: “اشرب مياهًا من جُبِكْ، ومياهًا جارية من بئرك، لا تفض ينابيعك إلى الخارج، سواقي مياه في الشوارع، لتكن لك وحدك، وليس لأجانب معك.”(أم 5: 15-17)[517]. فعندما يفحص المعلم أعماق قلبه وينصت إلى ما يقوله، يشرب من جُبِه. وهو يشرب من المياه الجارية من بئره إذا هو تأثر بارتوائه من ينبوع الكلمة. وعندما أضاف: “لا تفض من ينابيعك إلى الخارج سواقي مياه في الشوارع” يقصد أنه ينبغي أن يشرب الراعي أولاً ثم بعد ذلك يروي الآخرين بالتعليم. إن فيض الينابيع إلى الخارج ما هو إلا تقطير التعليم كالماء بقوة في الآخرين. وتعني “سواقي المياه في الشوارع” توزيع الكلمة الإلهية بين جموع غفيرة من السامعين، كل حسب شخصيته. ولأنه مع امتداد كلمة الله إلى معرفة الكثيرين يحشر المجد الباطل نفسه، هكذا جاء القول المناسب: “لتكن لك وحدك وليس لأجانب معك”. وفي هذا المجال تدعو الحكمة الأرواح الشريرة “بالغرباء”. لقد كتب النبي عن المجربين قائلاً: “لأن غرباء قد قاموا عليّ، وعتاة طلبوا نفسي” (مز 54 :3). لذلك يقول لتبقى سواقي المياه في الشوارع لك وحدك، ويعني هذا أنه “من الضروري أن يخرج الراعي للتعليم كالسواقي في الشوارع، ولكن عليه ألا يتحالف مع الأرواح النجسة وذلك من خلال الغرور. ينبغي ألا نتخذ من الأعداء شركاء في خدمة الكلمة الإلهية.” علينا بذلك أن نبث تعليمنا بعيدًا ليتسع دون أن تغرينا أية رغبة في المديح الباطل[518].

البابا غريغوريوس (الكبير)

محبة الله والناس 6.

“بالرحمة والحق يستر الإثم،

وفي مخافة الرب الحيدان عن الشر” [ع 6]

بقوله “بالرحمة والحق” يدفعنا نحو التوبة أو الرجوع إلى الله الكلي الرحمة، وفيه كل الحق. نرجع إليه، وننعم بشركة سماته، فتغفر لنا آثامنا بالدم الثمين.

مخافة الرب تقودنا في طريق الحق، فلا ننحرف يمينًا ولا يسارًا، بل نبقى ثابتين في البرّ بكونه الحق واهب البرّ والقداسة.

V      يتكلم الروح القدس في الكتب المقدسة ويقول: “بالصدقة والإيمان يُستر الإثم” (راجع أم 16: 6)، بالتأكيد ليست تلك الخطايا التي اُرتكبت سابقًا، فإن هذه تغفر بدم المسيح وتقديسه.

وأيضًا يقول: “الماء يطفئ النار الملتهبة، والصدقة تكفر الخطايا” (سي 3: 33). وهنا يوضح أنه كما تنطفئ نار جهنم بماء الخلاص، هكذا بالصدقات والبرّ يخمد لهيب الخطايا (بالنسبة للمؤمنين بالدم). فإذ تُوهب في المعمودية مغفرة الخطايا مرة واحدة عن جميع الخطايا، فإن العمل المستمر الذي بلا انقطاع – تابعًا مثال المعمودية – يهب مراحم الله مرة أخرى.

وقد علمنا الرب أيضًا بهذا في الإنجيل، لأنه عندما أُشير إلى التلاميذ أنهم يأكلون بدون غسل أيديهم، أجاب قائلاً: “الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضًا. بل أعطوا ما عندكم صدقة، وهوذا كل شيء يكون نقيًا لكم” (لو 11: 40-41). إنه يُعلم بغسل القلب لا الأيدي، وأنه بالأولى انتزاع دنس الداخل لا قذارة الخارج، وأنه متى تنقى الذهن، عندئذ يبدأ الإنسان في تنظيف جسده. وإذ ينصحنا بكيفية الاغتسال والتنقية قال بضرورة تقديم الصدقات.

يعلمنا ذاك الحنون ويحثنا على إظهار العطف. فإذ هو يبحث عن خلاص أولئك الذين قدم عنه تضحية هذا مقدارها، أشار أيضًا إلى أولئك الذين بعدما نالوا نعمة العماد وصنعوا الخطية يمكنهم أن يطهروا من جديد[519].

الشهيد كبريانوس

V      أيضًا مع الرحمة والإيمان تمحى الذنوب، إذ “بالرحمة والحق يُستَر الإثم” (أم 16: 6). وكثيرًا ما يكون ذلك بواسطة شوقنا وسعينا وتعبنا نحو خلاص الذين خلصوا بإنذاراتنا ووعظنا، كقول الكتاب: “فليعلم أن مَنْ ردَّ خاطئًا عن ضلال طريقهِ يخلّص نفسًا من الموت، ويستر كثرةً من الخطايا” (يع 5: 20)[520].

الأب بينوفيوس

V      أحبّائي… في أوقات كثيرة أذكّركم وأعترف لكم بما يدهشني كثيرًا فيما وردّ في الكتاب المقدّس، وهو ينبغي عليّ أن ألفت أنظاركم إليه كثيرًا.

أتوسّل إليكم أن تتأمّلوا ما قاله ربّنا يسوع المسيح عن نفسه، أنه عندما يأتي في يوم الدينونة، في نهاية العالم، سيجمع كل الأمم أمامه، ويقسّم البشر قسمين: قسم عن يمينه والآخر عن يساره.

يقول للذين عن اليمين “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم”. وأما الذين عن اليسار فيقول لهم “اذهبوا عني… إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وكل ملائكته”.

ابحثوا عن علّة هذا الجزاء العظيم أو العقاب المريع… لماذا يرث الأوّلون الملكوت؟ “لأني جعت فأطعمتموني“. ولماذا يذهب الآخرون إلى النار الأبديّة؟ “لأني جعت فلم تطعموني“…

لم يقل الرب لهؤلاء: “تعالوا رثوا الملكوت، لأنكم عشتم أطهارًا، لم تخدعوا إنسانًا، ولا ظلمتم فقيرًا، ولا اعتديتم على تُخم أحد، ولا خدعتم أحدًا بقسمٍ”…

بل قال “كنت جوعانًا فأطعمتموني”. يا لامتياز الصدقة عن بقيّة الفضائل جميعها، لأن الرب لم يُشر إلى الكل بل إليها وحدها!

كذلك يقول للآخرين: “اذهبوا إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وملائكته”، ومع أن هناك أشياء كثيرة يمكن أن يثيرها ضدّ الأشرار عندما يسألونه: “لماذا نذهب إلى النار الأبديّة؟” لكنه لا يجيبهم: “لماذا تسألون هكذا أيها الزناة والقتلة والمخادعون ومنتهكو حرمة المعًابد والمجدّفون وغير المؤمنين؟”… بل يقول لهم: “لأني جعت فلم تطعموني”.

أراكم تتعجّبون مثلي، وحقًا إنه لأمر عجيب، فقد كتب: “الماء يطفئ النار الملتهبة، والصدقة تكفر عن الخطايا“، “أغلق على الصدقة أخاديرك فهي تنقذك من كل شرّ، لذلك أيها الملك لتحسن مشورتي لديك، وافتقد خطاياك بالصدقة” (راجع حكمة يشوع 3: 33؛ 9: 15).

توجد شهادات كثيرة من الوحي الإلهي يظهر فيها ما للإحسان من فوائد كثيرة في إخماد الخطايا وإزالتها، لذلك سيلصق الإحسان بهؤلاء الذين على وشك أن يدينهم الله، بل بالحري سيتوّجهم. وكأنه يقول لهم: إنه ليس من الصعب عليّ أن أجد عليكم علّة لإدانتكم متى امتحنتكم ووزنتكم بدقّة وفحصت أعمالكم، لكن ادخلوا الملكوت لأني كنت جائعًا فأطعمتموني، فستدخلون الملكوت ليس لأنكم لم تخطئوا، لكن بإحسانكم أزلتم خطاياكم.

كذلك كما لو كان يقول للآخرين: اذهبوا إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وملائكته… إنه ليس بسبب ما تفكّرون فيه من خطايا، بل لأني كنت جائعًا فلم تطعموني، فلو ابتعدتم عن أفعالكم الشرّيرة هذه، والتفتّم إليّ لخلصتم من كل جرائمكم وخطاياكم بإحساناتكم. لأنه “طوبى للرحماء، لأنهم يُرحمون” (مت 5: 7). ولكن الآن اذهبوا إلى النار الأبديّة “لأن الحكم بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة” (يع 2: 13).

 القدّيس أغسطينوس

V      من أجل أنك لم ترحم الآخرين، فلا يُصنع بك رحمة أيضًا، ولأنك أغلقت باب بيتك إزاء المساكين، فلا يفتح لك الإله باب ملكوته…

إن كنتم قد هربتم من الرحمة، فالرحمة تهرب منكم. وإن رذلتم الفقراء، يرذلكم ذاك الذي صار فقيرًا حبًا لكم.

القديس باسيليوس الكبير

فاعلية الصلاح 7-9.

“إذا أرضت الرب طرق إنسان،

جعل أعداءه أيضًا يسالمونه” [ع 7]

   للصلاح الحقيقي الذي هو ثمرة عمل نعمة الله في الإنسان قدرته على حب حتى الأعداء وكسبهم لصالحنا، مادمنا نقدمه لمجد الله.

لم يكن ممكنًا للابان أن يصنع شرًا بيعقوب، إذ ظهر الله بنفسه في حلم الليل، “وقال له: احترز من أن تكلم يعقوب بخيرٍ أو شرٍ” (تك 31: 24). أما عن عيسو الذي كان يود أن يقتله فقيل عنه: “ركض عيسو للقائه، وعانقه، ووقع على عنقه وقبله وبكى” (تك 33: 1-4).

V      عجيب هو صلاح الرب. عندما رأى الله لابان قد مال ليحارب الرجل الصالح، وأن يدخل معه في صراعٍ، قال له كمن يراجع نيته بالكلمة: احذر لئلا تصير مخطئًا بكلمات شريرةٍ ضد يعقوب. لا تحاول أن تضايق يعقوب ولو بكلمة، بل احذر لنفسك. راجع هذا الهجوم الشرير الذي من جانبك. اضبط غضبك. اضبط أفكارك الثائرة، امتنع عن مضايقته ولو بكلمة. أسألكم أن تلاحظوا رأفات الله، فعوض أن يأمر لابان بالرجوع إلى مكانه وجهه ألا يصدر كلمات قاسية أو عنيفة ضد الرجل الصالح. لماذا حدث هذا على الأرض؟ لكي يتعلم الإنسان الصالح بالحقيقة وبالخبرة مدى رعاية الله له[521].

  القديس يوحنا الذهبي الفم

“القليل مع العدل،

خير من دخلٍ جزيلٍ بغير حقٍ” [ع 8].

إن ارتبط دخل الإنسان باستغلال إخوته، يرتبط بخطية القسوة، ويفقد سلام القلب، فلا يشعر بسعادة. فإن سعادة الإنسان لا تقوم على إمكانات الإنسان المادية، أو مركزه أو سلطانه، وإنما على اتحاده بالقدوس، وتمتعه بالحياة المطوبة.

من أجل الضمير الصالح، ومن أجل السلام الحاضر، والطوباوية المقبلة أبديًا، خير للإنسان أن ينال ربحًا قليلاً يعيش به، عن طريقٍ مشروعٍ، من أن يكسب الكثير بطرق العالم الشريرة.

ليتنا لا نحكم على إنسان من مظهره الخارجي، ولكن حسب ضميره الداخلي. وليتنا نسعى من أجل تحقيق الفضيلة والسعادة التي تأتي من أعمال البرّ والصلاح. ويا ليتنا جميعًا – الغني والفقير – نتمثل بلعازر، فهذا الرجل لم يتحمل اختبارات الفضيلة مرة أو مرتين أو ثلاث مرات بل مرات عديدة، وأنا أعني كيف أنه كان فقيرًا ومريضًا وليس له من يساعده وأُلقيَ مطروحًا عند باب بيت كان يمكن أن يريحه ويخفف عنه من كل متاعبه، ولكن لم يمنحه أية كلمة تريحه، وقد رأى الرجل الذي أهمله يتمتع بمثل هذا الترف وليس فقط يعيش مستمتعًا بهذا الترف، ولكن أيضًا يعيش في شرورٍ بدون أن يعاني أي محن أو ضيقٍ، ولم ينظر أو يهتم بأي فقير آخر مثل لعازر أو يبعث الراحة لنفسه بأي فكر عن القيامة. وبجانب هذه المصائب كانت له سمعة سيئة بين جموع الناس بسبب المحن التي أصابته. وليس هذا ليوم أو يومين أو ثلاثة ولكن طول حياته يرى نفسه في هذه الحالة ويرى الرجل الغني على العكس.

أي عذر سيكون لنا عندما يتحمل هذا الرجل كل هذه البلايا في وقت واحد وبهذه الشجاعة إذا لم نتحمل حتى نصف هذا؟[522]

V      إن الفاسق أو الزاني أو اللص ليس فقط عندما يُتَهم، ولكن حتى عندما يسمع عن آخرين متهمين بنفس الجرائم، يتخيل نفسه في نفس القصاص عن خطاياه، فيأخذ عبرة من عقاب الآخرين. آخر قد أدين، ولكن هذا الذي لم يدن يضطرب لأنه تجرأ وفعل نفس خطاياه، وهذا أيضًا في حالة الأعمال الصالحة عندما ينال البعض الثناء والتكريم، فإن هؤلاء الذين فعلوا نفس الأعمال الصالحة يبتهجون ويفرحون متصورين أنفسهم في نفس هذا التكريم. هل تعتقد أن هناك من هو أكثر بؤسًا من هذا الخاطئ الذي عندما يرى آخرين اتهموا يتسلل هاربًا ليختبئ؟ وعلى الجانب الآخر، هل هناك من هو أكثر سعادة من الشخص البار عندما يرى أبرارًا آخرين يُكرَّمون؟ فإنه يبتهج ويفرح متذكرًا أفعاله الصالحة في وسط الفرح والتهليل بالآخرين[523].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“قلب الإنسان يفكر في طريقه،

والرب يهدي خطوته” [ع 9].

يتحرك قلب الإنسان برغبة شديدة للتفكير في تحقيق ما في نيته. مع ما للإنسان من حرية الإرادة، لكنه لن يقدر على التحرك بدون عناية الله أو سماح الله له. خلق الله الإنسان كائنًا عاقلاً، لا لكي يكتم الإنسان هذه العطية، إنما وهو يخطط يتكئ على صدر الله، ويتكل عليه، لكن ليس  في عدم تفكير أو عدم تحرك للعمل. وكما يقول الرسول بولس: “والله نفسه أبونا وربنا يسوع المسيح يهدي طريقنا إليكم” (1 تس 3: 11).

V      هل لا نزال نجسر ونفتخر بالإرادة الحرة ونهين بركات الله واهب العطايا إن كان الإناء المختار (بولس) يكتب بوضوح: “ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية ليكون فضل القوة لله لا منّا” (2 كو 4: 7)؟[524]

القديس جيروم

V      لم يعمل بولس لينال نعمة، وإنما نال النعمة لكي يجاهد[525].

V      كيف إذن يمكن إتمام وصية الله ولو بصعوبة بدون عونه، حيث أنه ما لم يبنِ الرب باطلاً يتعب البنّاء[526].

القديس أغسطينوس

V      يود بولس أن يذكرنا بأننا لا نخلص بمجرد استقبالنا لنعمة الله المجانية. إنما يلزمنا البرهنة على أننا نريد قبول هذه النعمة المجانية. فأبناء إسرائيل استلموها، لكنهم برهنوا على عدم استحقاقهم لها فلم يخلصوا[527].

العلامة أوريجينوس

التزام الملك أو القائد 10-16.

“في شفتيّ الملك وحي،

في القضاء فمه لا يخون” [ع 10]

يليق بالملك أو القائد أن يدرك مسئوليته من جهة الشعب، فهو كمن يمثل الله، يلزمه أن يراعي العدالة في قراراته، وأن يطلب لا لمصلحته الشخصية، بل مصلحة الشعب. يليق به ألا يستهين بالكلمة التي تخرج من فمه.

“قبان الحق وموازينه للرب،

كل معايير الكيس عمله” [ع 11]

مهما بلغت دقة الإنسان وأمانته يصعب عليه أن يضع الأمور في وضعها الصحيح بدقةٍ، لذلك ميزان الحق هو للرب.

ماذا يقصد بمعايير الكيس؟ ربما يقصد الحقيبة التي تُحفظ في الهيكل، وبها الأوزان الدقيقة التي على أساسها تضبط موازين الناس. ولعل “الكيس” هنا يشير إلى الحقيبة التي كان التجار يحملونها ويضعون فيها الذهب والفضة وغيرها من المعادن التي يقتنوها أثناء تجارتهم.

إن كان التجار يلتزمون بالأمانة في الموازين، وأيضًا كل مؤمن، كم بالأكثر الملك الذي يليق به أن يمثل الله في قيادته ورعايته للشعب، فيلتزم بالعدالة، خاصة مع الموازين.

لا يليق بالتجار كما بالقادة خاصة الملك أن يفصل بين أمانته في التعامل مع الغير وعبادته لله البار العادل، والذي بلا لوم.

لا يليق بالإنسان أن يغش في الموازين، فيكيل بمعيارين، واحد يكيل به لأحبائه وأصدقائه وعائلته ولنفسه، وآخر يكيل به للغرباء والمقاومين له!

“مكرهة الملوك فعل الشر،

لأن الكرسي يثبت بالبرّ” [ع 12]

ليعلم الملك أن كرسيه يثبت، لا بإمكانياته العسكرية أو المادية أو الشعبية، وإنما بالبرّ الإلهي. فيليق به كملكٍ ليس فقط ألا يمارس الشر – وهذا في قدرته – وإنما يحسب مجرد التفكير فيه دنسًا لا يطيقه. يكره الشر سواء الصادر من الشعب أو من قصره أو منه هو شخصيًا.

بهذا يصير الملك ظلاً للسيد المسيح، ابن داود، ملك الملوك. الذي قيل عنه: “فيثبت الكرسي بالرحمة، ويجلس عليه بالأمانة، في خيمة داود قاضٍ، ويطلب الحق، ويبادر بالعدل” (إش 16: 5).

“مرضاة الملوك شفتا حق،

والمتكلم بالمستقيمات يحب” [ع 13]

كما يلتزم الملك (أو القائد) ليس فقط ألا يرتكب شرًا، وإنما يكره مجرد التفكير في الشر، سواء بالنسبة له أو للخاضعين له، هكذا يليق به أن يفرح بالناطقين بالحق ويحب المتكلمين بالاستقامة.

ما أصعب على الذين يحتلون المراكز الكبرى سواء في المجتمع أو في الكنيسة ألا يخدعوا بكلمات التملق الصادرة ممن حولهم أو من الشعب!

المثل الرائع لذلك هو الدور الذي قام به الأسقف فلابيوس لتهدئة الإمبراطور ثيؤدوسيوس حين قام شعب إنطاكية بالاعتداء على تماثيله والثورة ضده. بناء على نصيحة الكاهن يوحنا الذهبي الفم قطع الأسقف ألف ومئة كيلومتر حتى يصل إلى القسطنطينية ليقول للإمبراطور: [إن تاجك، يا سيد روما والعالم، وهو رائع، وهو دليل استحقاقك، لكنه يرمز إلى جود الذي نقله إليك. أما تاج إنسانيتك فالفضل فيه يرجع إلى حكمتك فقط. يُعجب الناس بالأحجار الكريمة اللامعة علي جبينك. إنما كم يكون إعجابهم بالانتصار الذي تحرزه على قلبك… إذا سامحت الانطاكيين ستنال مجدًا عظيمًا لا يسقط على مرور الأجيال… ستضم جماهير غفيرة إلى الدين المسيحي، إذ سيقولون: اُنظروا إلى الديانة المسيحية. لقد أطفأت غضب إنسانٍ ليس له في العالم معادل!]

 “غضب الملك رسل الموت،

والإنسان الحكيم يستعطفه” [ع 14]

إن كان من واجب الملك ألا يفكر في الشر، ولا يتأثر بكلمات المديح، بل يطلب كلمات الحق، ويحب الكلمات المستقيمة، فمن واجب الشعب أن يدرك أن الملك إنسان له ضعفاته، وفي يده سلطان. فإن أثاره أحد يتعرض للموت. يليق بالإنسان أن يكون حكيمًا يستعطف الملك، معطيًا الكرامة لمن له الكرامة.

يقول الرسول بولس:

“لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله.

حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة.

فإن الحكام ليسوا خوفًا للأعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد أن لا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فيكون لك مدح منه” (رو 13 : 1-3).

“فأطلب أول كل شيء أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس.

 لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب، لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقارٍ. لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله” (1 تي 2: 1-3).

V      صلّوا لأجل الملوك (والرؤساء) (١ تي ٢: ٢)، والسلاطين والأمراء، صلّوا من أجل كل الذين يضطهدونكم ويبغضونكم، ومن أجل أعداء الصليب، حتى تكون ثمرتكم واضحة للجميع، وتكونوا كاملين فيه (المسيح)[528].

القدّيس بوليكاربوس الشهيد

V      نحن نتضرع إلى الله الأبدي، الله الحقيقي، الإله الحي، من أجل صحة رؤسائنا…

يليق بهم أن يدركوا ممن نالوا سلطانهم، إنهم كبشرٍ يعلمون ممن نالوا الحياة ذاتها. إنهم مقتنعون أنه هو الله الوحيد، وعلى قوته يعتمدون تمامًا…

إليه نحن المسيحيين نرفع أعيننا ونبسط أيادينا إذ نحن أبرياء، ورؤوسنا مكشوفة إذ لسنا في حاجة أن نخجل، وأخيرًا بدون حاجة إلى من يحثنا، لأننا نصلي من القلب، ونتضرع دومًا من أجل كل أباطرتنا. نطلب لهم حياة طويلة، وإمبراطورية هادئة، ومسكنًا آمنًا، وجيوشًا قوية، ومجلس شيوخ مُخلصًا، وعالمًا في سلامٍ وكل ما يشتهيه هذا الإنسان وقيصر[529].

العلامة ترتليان

“في نور وجه الملك حياة،

ورضاه كسحاب المطر المتأخر” [ع 15]

إرضاء الملك في الرب يجعله مبتهجًا، ملامحه تبعث على الحياة، كأنه يمطر على أرض جافة. المطر المتأخر هو المطر الذي يسقط قبل الحصاد بدونه لا تأتي الأرض بإنتاج لائق.

إن كانت مسرة الملك تبعث حياة في الخاضعين له، كم بالأكثر رضا ملك الملوك. وكما يقول المرتل: “أمامك شبع سرور، في يمينك نِعَمُ إلى الأبد” (مز 16: 11).

V      لنتعبد له بكونه إله المؤمنين بتأنسه، لأنه لا نفع من القول عنه إنه إنسان وليس الله، أو أي خلاص لنا إن رفضنا الاعتراف ببشريته مع ألوهيته؟ لنعترف بحضوره إذ هو ملك وطبيب. لأن يسوع الملك إذ صار طبيبًا اتزر بكتان ناسوتنا، وشفي ما كان مريضًا. المعلم الكامل للرُضع صار رضيعًا بينهم (رو 20:2) لكي يعطى حكمة للجهلاء. خبز السماء نزل إلى الأرض لكي يطعم الجياع![530]

V      لقد جاء في الإنجيل العبارة التالية: “الذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله” (يو 36:3). فالآب يغضب عندما يُستهان بالابن الوحيد. فإن الملك يحزن لمجرد إهانة أحد جنوده. فإن كان الملك يحزن لمجرد إهانة أحد جنوده، فإن احتقر أحد ابنه الوحيد فمن يقدر أن يطفئ غضب الآب من أجل ابنه الوحيد؟![531]

القديس كيرلس الأورشليمي

“قنية الحكمة كم هي خير من الذهب،

وقنية الفهم تختار على الفضة” [ع 16].

التمتع بالحكمة السماوية أفضل من كل غنى أرضى. فالحكمة تزين النفس، وتحفظ الجسد من الشر، ليعيش الإنسان بكليته متمتعًا بالله الكلمة، أو حكمة الله الأزلي. أما الذهب فيعطي للجسم جمالاً مؤقتًا، أو يُستخدم لاقتناء ما يعول الجسم ويغذيه، لكن حتمًا يموت الجسم، ويترك الذهب وراءه، أما الحكمة فترافق الإنسان حتى في الحياة العتيدة.

الفهم الروحي، وإدراك أسرار الله، والتعرف على أعماق الوصية الإلهية، أفضل من الفضة.

V      كما أن الذهب أفضل من الفضة، هكذا الحكمة أسمي من التعقل. الأولى تختص بالمعرفة، والأخيرة بتفسير ما هو مخفي، فيمكنك تفسير مساكن الحكمة بكونها الكنائس أو مساكن القديسين في السماء. أما الحكمة فهي نفسها المسيح[532].

القديس ديديموس الضرير

الاستقامة 17.

“منهج المستقيمين الحيدان عن الشر،

حافظ نفسه حافظ طريقه” [ع17].

منهج المستقيمين أو طريقهم العام هو السير دون انحراف يمينًا أو يسارًا، لا يستطيع أن يجتذبهم لا بالبر الذاتي أو الكبرياء ولا بالشهوات والملذات.

إذ يحفظ الإنسان نفسه، أي يحرص على أعماقه، وينشغل بخلاصه الأبدي، يحفظ استقامة طريقه في الرب حتى ينعم بالأحضان الإلهية.

الكبرياء 18-20.

“قبل الكسر الكبرياء،

وقبل السقوط تشامخ الروح” [ع 18]

من يرفع نفسه يسقط. إذ لبس هيرودس الحلة الملوكية، وجلس على كرسي الملك… صرخ الشعب: “هذا صوت إله لا صوت إنسانٍ” (أع 12: 21). ففي الحال ضربه ملاك الرب، لأنه لم يعطِ المجد لله، فصار يأكله الدود ومات.

V      ينبغي ألا نظن بأن إنسانًا ما يزل وينزل إلى الغم بسقطة مفاجئة، إنما ينحدر إلى سقطة ميئوس منها، إما عن طريق خداعه منذ البداية أثناء تدربه ببداية خاطئة، أو يزل من حالته الروحية الحسنة تدريجيًا خلال فترة طويلة بسبب الإهمال العقلي، فتزداد الأخطاء قليلاً. لأن “قبل الكسر الكبرياءُ، وقبل السقوط تشامخ الروح” (أم 16: 18). ذلك كالمنزل الذي لا يسقط فجأة دفعة واحدة، بل يحدث بعض الخلل في الأساس لفترة طويلة، أو يحدث نتيجة إهمال ساكنيه لمدة طويلة، فيحدث بعض (الرشح أو الخلل) وبعد هذا تنهار الحوائط المحصّنة تدريجيًا. لأنه “بالكسل الكثير يهبط السقف، وبتدلّي اليدين يَكِفُ البيت” (جا 10: 18)، هذا أيضًا ما يحدث للروح[533].

الأب ثيؤدور

V      “قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح” (أم 16: 18).

يفتخر أناس بكونهم أبناء حكام، وبقدرتهم على إنزال بعض الكهنة من درجاتهم الكهنوتية، مثل هؤلاء يتعظمون ويفتخرون من أجل أمور تافهة لا طائل من ورائها، وبالتالي فإنه لا يوجد أدنى سبب لتعظمهم هذا… ويوجد من يفتخرون بأنهم قد حصلوا على ما يسمونه امتيازPromotion ، يمكنهم من الإطاحة برؤوس الناس: “إن مجد هؤلاء الناس يكون في خزيهم” (في 3: 19). وآخرون يفتخرون بغناهم، ليس الغنى الحقيقي، بل الغنى الأرضي… لا تستحق كل هذه الأشياء حتى أن تُوضع في الاعتبار، ولا يليق بنا أن نتفاخر بأي منها.

الأشياء التي تعطينا الحق في التعظم والتفاخر، هي أن نفتخر بأننا حكماء، أو أن نفتخر (بتعقّل) بأننا منذ عشر سنوات مثلاً لم نقترب من الملذات الجسدية والشهوات، أو لم نقترب منها منذ الطفولة؛ أو أيضًا حينما نفتخر بحمل القيود في أيدينا من أجل السيِّد المسيح، هذه أشياء تدعو للتفاخر عن حقٍ، ولكن حتى هذه الأشياء أيضًا، فإذا حكَّمنا عقلنا بالحق، نجد أنه ليس لنا أن نتعظم أو نفتخر بها.

كان لدى بولس الرسول ما يدعوه للافتخار بسبب الرؤى والإعلانات والمعجزات والعلامات وبسبب الآلام التي تحملها من أجل السيِّد المسيح، وبسبب الكنائس التي أقامها في أماكن كثيرة من العالم، في كل ذلك كان لديه ما يدعوه للافتخار، وبحسب الأشياء الخارجية الظاهرة التي تدعو للفخر، كان سيبدو افتخار بولس الرسول شيئًا طبيعيًا بالنسبة للناس؛ ومع ذلك، وبما أنه من الخطر عليه أن يتفاخر، حتى بالنسبة لتلك الأشياء، فإن الآب في رحمته، كما أعطاه تلك الرؤى، أعطاه أيضًا على سبيل الرأفة به، ملاك الشيطان ليلطمه لئلاَّ يرتفع؛ ومن أجل هذا تضرع بولس إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقه، فأجابه الله: “تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل” (2 كو 12: 7-9)[534].

العلامة أوريجينوس

V      هل نمدح كرم الضيافة؟ هل نعجب بالحب الأخوي والمحبة الزوجية والعذراوية وإطعام الفقراء والترنم بالمزامير والسهر في الصلاة طوال الليل والتوبة؟ هل نُذل الجسد بالصوم؟ هل نسكن مع الله من خلال الصلاة؟ هل نُخضع العنصر الأدنى فينا للعنصر الأسمى، أي التراب للروح، كما ينبغي إذا حكمنا الحكم الصحيح على طبيعتنا التي هي مزيج – مثل السبيكة – من الاثنين؟ هل نجعل الحياة تأمُلاً في الموت؟ هل نسيطر على أهوائنا متذكرين سمو ميلادنا الثاني؟ هل نُروِّضُ طباعنا المتكبرة والثائرة؟ أو تشامخنا الذي يسبق السقوط (أم 16: 18)،… وضحكاتنا غير المهذبة، وعيوننا التي لا سيطرة لنا عليها، وآذاننا الشرهة، وأحاديثنا غير المعتدلة، وأفكارنا الشاردة، أو أي شيء فينا يستطيع الشرير أن يسيطر عليه ويستخدمه ضدنا، فيدخل الموت من النوافذ (إر 9: 21) كما يقول الكتاب، ويُعني بالنوافذ هنا الحواس[535].

القديس غريغوريوس النزينزي

“تواضع الروح مع الودعاء

خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين” [ع 19]

تواضع الروح يهب روح الوحدة والانسجام مع الودعاء، فيعلن الرب حضوره في وسطهم، ويهبهم نعمته. أما الكبرياء فقد يجلب غنائم ومكاسب ضخمة مع المتكبرين مع كرامة زمنية، لكن يفقد الإنسان صداقته مع الله، ويستعبد نفسه لإبليس.

يرى القديس أغسطينوس أن دور المؤمن في هذه الحياة أن يصعد كما على برج يبلغ رأسه السماء. هذا البرج الصاعد من الأرض إلى السماء، يحتاج إلى حفر أساسات، ونزول في أعماقٍ بعيدةٍ في الأرض. كلما ارتفع البناء احتاج بالأكثر إلى نزول بالأساسات إلى أعماق أكثر. فمن أراد إنشاء برج رأسه في السماء احتاج إلى ممارسة تواضعٍ أعمق فأعمق. بدون أساسات التواضع ينهار برج حياتنا الروحية، وعوض الصعود مع مسيحنا المتواضع إلى السماء تتحطم نفوسنا تمامًا!

V      لنحسب حساب نفقة البرج الروحي الشاهق العلو، ونتعمق في ذلك مقدَّما بحرص… لنأخذ في اعتبارنا أولاً الأخطاء بصورة واضحة، فنحفر ونزيل الفساد ونفايات الشهوات حتى يمكننا أن نضع أساسات البساطة والتواضع القويَّة فوق التربة الصلبة… أو بالحري توضع الأساسات علي صخر الإنجيل (6: 48)، بهذا يرتفع برج الفضائل الروحيَّة، ويقدر أن يصمد ويعلو إلى أعالي السماوات في أمان كامل ولا يتزعزع[536].

الأب اسحق

“الفطن من جهة أمرٍ يجد خيرًا،

ومن يتكل على الرب فطوبى له” [ع 20].

قد يتمتع إنسان ما بالفهم والقدرة على التدبير، هذا يسلك بفهم في أمور حياته الزمنية، فينال خيرات ونجاحًا وكرامة وتقديرًا من الغير. أما الذي يتقي الرب ويتكل عليه، فينال الحياة المُطوبة السعيدة، أي نختبر عربون السماويات.

V      يتحقَّق الإنسان المستقيم أنه عندما تحلّ به أحزان أو مآسي أو متاعب أنها بإرادة الله الصالحة، فيقبلها. أمَّا صاحب القلب المعوج فيتطلَّع إليها بحزنٍ. إنه موافق أنه خاطئ، لكنَّه يقول أنه يوجد كثيرون أشرّ منه وهم سعداء.

القلب المستقيم يقبل كل ما يحدث له، قائلاً: “الرب أعطى، الرب أخذ، ليفعل ما يسره، مبارك هو اسم الرب”.

تحل المتاعب من عند الرب (بسماح منه). إنها عقوبة للشرِّير وتأديب للابن. إن أردت أن تكون ابنًا، لا تتوقَّع أنَّك تهرب من الآلام، فإنه يؤدِّب كل ابن يقبله، هل كل ابن؟ هل بدون استثناء؟

أنصتوا، فإن الابن الوحيد وحده بلا خطيَّة، ومع هذا تألَّم.

حمل ضعفاتنا، احتمل الرأس أعضاء الجسد في شخصه.

كإنسانٍ دخل آلامه في حزنٍ، لكي ما تفرحوا أنتم.

دخل في مرارة لكي تنالوا أنتم تعزية. لقد قال: “نفسي حزينة حتى الموت، لكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك أيُّها الآب”[537].

القدِّيس أغسطينوس

فاعلية اللسان 21-24.

“حكيم القلب يدعى فهيمًا،

وحلاوة الشفتين تزيد علمًا” [ع 21]

القلب عند اليهود يقابل العقل عند اليونانيين، فمن كان حكيمًا ومتزنًا في تفكيره، يتمتع باحترام الغير له، وتقديرهم لشخصيته.

أما من يمزج هذه الحكمة والاتزان بعذوبة اللسان، فيزداد علمًا، بمعنى أنه يصير قادرًا على التعامل مع الغير، فينتفع بعملهم وخبرتهم، ويبادلوه ذات الأمر.

V      قيل عن أنبا يوحنا القلزمي – لأنه سكن بعض الوقت بجوار القلزم أي السويس – إنه من كثرة تواضعه حمل برية الأسقيط كلها بخنصره، فكيف فعل ذلك؟

أجاب الشيخ: “في النسخ القديمة ذُكر أنه حملها نحو إرادته، وذلك لأنه مع التدبير والمعرفة والشيخوخة والتواضع كان مزيَّنًا جدًا بالبشاشة، فكان يُلاقي بفرح جميع الإخوة الذين يأتون إليه كل وقتليكشفوا له حروبهم وأفكارهم. فمعنى هذا القول أنهم كانوا يطيعون فكره في كل ما يريد ويقول ويأمر.

في ذلك الوقت كان أنبا مقار الإسكندراني رئيسًا للدير، وكان القديس يوحنا يجذب جميع رهبان الإسقيط إلى إرادته بالكلمة الخارجة من فمه المعطية للحياة وهو يعلِّم ويعظ جميع الإخوة”.

فردوس الآباء

“الفطنة ينبوع حياة لصاحبها،

وتأديب الحمقى حماقة” [ع 22]

روح الفهم والتمييز يفيض بالبركات على المؤمن، وكأنه يحمل ينبوع داخلي يفيض عليه بالحياة. أفكاره تجعله ينمو ويتقدم. أما الأحمق فلا ينفعه الكلمة الطيبة ولا التأديب، إذ هو مُصِر على عدم التعلُّم.

V      يُدعى الناس عادة “عقلاء”، مع سوء استخدام كلمة “عقلاء”. فالعقلاء ليسوا هم الذين يدرسون أقوال الآباء الحكماء الأولين وكتاباتهم، بل من كانت نفوسهم عاقلة، تقدر أن تميز بين ما هو خير وما هو شر. فيجتنبون ما هو شر ومُضّر للنفس، ويحرصون بحكمة على ما هو خير ونافع للنفس ويمارسونه بشكر عظيم لله.

هؤلاء وحدهم بحق الذين يجب أن ندعوهم “عقلاء”…

إننا نصير جديرين بأن ندعى بشرًا، متى اتصفنا بالعقل (حسب المفهوم السابق)، فإذا لم يتوفر العقل (بهذا المعنى) فإننا لا نختلف عن الحيوانات العُجم إلا بشكل الأطراف وموهبة الكلام.

إذًا، ليعرف الإنسان العاقل أنه خالد، كارهًا الشهوات المخجلة التي هي عِلّة موت البشر.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

“قلب الحكيم يرشد فمه،

ويزيد شفتيه علمًا” [ع 23]

يعطي الكاتب أهمية عظمى للقلب (أو العقل)، أي للإنسان الداخلي، فإن صار مقدسًا يترجم هذه القداسة عمليًا خلال شفتيه، فتخرج كلماته باستقامة، ويتمتع بالبنيان المستمر.

V      عندما يفحص الإنسان العاقل نفسه، يرى ما يجب عليه أن يفعله، وما هو نافع له، وما هو قريب لنفسه، ويقودها إلى الخلاص، كما يرى ما هو غريب عن النفس، ويقودها إلى الهلاك، وبهذا يتجنب ما يؤذي النفس باعتباره شيئًا غريبًا عنها.

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

“الكلام الحسن شهد عسل،

حلو للنفس، وشفاء للعظام” [ع 24]

كلمات الإنسان التقي تحمل ثلاث سمات.

الأولى أنها تتمتع بسمة كلمة الله التي يتحدث عنها المرتل أنها شهد عسل (مز 19: 10).

ثانيًا أنها لا تقف عند كسب الآخرين ونمو روح الحب والصداقة وصرف روح الغضب، وإنما تحمل عذوبة خاصة داخل نفس المتكلم ذاته.

وأخيرًا فإنها مع لذتها وعذوبتها نافعة، حيث تشفي العظام التي هي هيكل الإنسان نفسه. وكأن الكلمات المملوءة بالنعمة نافعة من كل جانب، للمتكلم وللسامعين، وللنفس كما للجسد.

V      يا من تحبون التعلّم، وتتوقون إلى الإصغاء، اقبلوا مرة ثانية الكلمات المقدسة، وأبهجوا أنفسكم بعسل الحكمة، لأنه هكذا هو مكتوب: “الكلمات الحسنة شهد عسل، وحلاوتها شفاء للنفس” (أم 16: 24). لأن عمل النحل حلو جدًا، وينفع نفس الإنسان بطرق كثيرة، أما العسل الإلهي الخلاصي، فيجعل أولئك الذين يستقر فيهم ماهرين في كل عملٍ صالحٍ، ويعلمهم طرق التقدم الروحي[538].

 القديس كيرلس الكبير

V      كونوا بطيئين ومتبلدين من نحو الكلام البطال، وحكماء وأصحاب معرفة في الاستماع إلى كلمات الأسفار المقدسة المخلصة. ليكن الاستماع إلى القصص العالمية ذات تذوق مر في أفواهكم، وأما أحاديث القديسين فتكون شهد عسل[539].

 القديس باسيليوس الكبير

V      البحر هو كتاب مقدس، يحمل فيه معانٍ عميقة، وأعماق سرية للأنبياء. يصب في هذا البحر أنهار كثيرة. مبهجة ونقية هي هذه المجاري. هذه الينابيع هادئة تفيض حياة أبدية (يو 4: 14). توجد أيضًا كلمات مبهجة كشهد العسل (أم 16: 24)، أحاديث لطيفة تروي النفوس بحلاوة الوصايا الأخلاقية. مجاري الكتاب المقدس متباينة، وأنتم تعرفون ما يجب أن تشربوه أولاً فثانيًا فأخيرًا[540].

 القديس أمبروسيوس

يصف لنا السيناتور الروماني بولينوس من ميلان عن صديقه القديس أمبروسيوس أسقف ميلان أن والده ويدُعى أيضًا أمبروسيوس يقوم بإدارة ولايات بلاد الغال شاهد سربًا من النحل يدخل ويخرج من فم ابنه الطفل الصغير أمبروسيوس وهو في القماط، وقد فتح فمه. خشي الوالد وزوجته وابنته على الطفل، ولكنهم كانوا يتطلعون إلى المنظر في دهشة. انطلق السرب وصعد إلى الهواء عاليًا حتى اختفى تمامًا. قال الأب وهو مرتعب: “إن عاش هذا الطفل فحتمًا سيكون ذا شأن عظيم. يعلق السيناتور قائلاً: [فإن الرب كان يعمل أثناء طفولة خادمه حتى تتحقق الكلمات: “الكلام الحسن شهد عسل” فإن هذا السرب من النحل كان يغرس شهد عسل لأعماله التي جاءت مؤخرًا، والتي تشهد للهبات السماوية، وتوجه أذهان الشعب من الأرضيات إلى السماويات[541].]

الطرق الشريرة 25-31.

“توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة،

وعاقبتها طرق الموت” [ع 25]

سبق الحديث عن هذه الطرق المخادعة التي تبدو للإنسان مستقيمة، لكنها تدخل به إلى الموت الأبدي (أم 14: 12).

هنا يحذرنا الحكيم من الاعتماد على الحكم الشخصي دون مشورة الله، والتمتع بخبرة الأتقياء الذين سبقونا في الطريق. يحذرنا الكتاب المقدس من اعتماد الإنسان على فكره الخاص، إذ قيل: “وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل. كان كل واحدٍ يعمل ما يحسن في عينيّه” (قض 17: 6، 18: 1، 21: 25).

V      كذلك عندما يحرص الراهب أن يشتاق إلى وظيفة كهنوتية مقدسة، بحجة تعليم الناس وحبه لربح النفوس، وهو (الشيطان) بهذا يجذبنا بعيدًا عن التواضع والتدقيق في حياتنا.

هكذا يقدم لنا كل الأمور التي تعترض خلاصنا ولا تتناسب مع عملنا، غير أنه يخفيها بغطاء، أو يحجبها بحجاب من الشفقة والتدين، لكي يخدع بسهولة من تنقصهم المهارة والحرص.

إنهم يقلدون عُملة الملك الحقيقي، إذ يظهرون هذه الأعمال مملوءة شفقة، لكن لم يصكها الذين لهم هذا الحق، أي لا تتفق مع فكر آباء الكنيسة الجامعة، ولا يحصلون عليها من المكتب العام المخصص بتسليمها، إنما تُصك خلسة بخداع شيطاني ويدسونها لغير الماهرين والجهلاء…

وإذ تبدو في البداية نافعة ولازمة، إلا أنه بعد ذلك تبدأ تتغلغل داخل سلامة عملنا وتضعف كل كيان هدفنا بعدة أساليب. لذلك حسن أن تقطع هذه الأفكار وتبعد عنا، وذلك كما لو كانت عضوًا فاسدًا، الذي وإن بدا لازمًا لكنه مضر لنا. فإنه من الأفضل أن نكون بدون هذا العضو من وصية ما، أي أننا لا ننفذها ونبقى في سلام وأمان وندخل ملكوت السماوات هكذا عن أن نخطئ في كل الوصايا عن طريق خداع الشيطان الذي يقدم لنا أن ننفذ وصية ما، وبواسطتها يحرمنا من نظامنا الدقيق وترتيبنا، وهكذا تصير لنا خسارة تفوق في أهميتها أي ضرر لاحق، وتدفع بكل جهادنا السابق وكل جسد أعمالنا إلى الحرق في نار جهنم (مت 18: 8).

قيل عن هذه الأنواع من الخداع “تُوجَد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت” (أم 16: 25). وأيضًا “ضررًا يُضَرُّ من يضمن غريبًا…” (أم 11: 15). فالشيطان يخدعنا بأخذه مظهر القداسة[542].

الأب موسى

“نفس التعب تتعب له،

لأن فمه يحثه” [ع 26]

يحثنا هذا المثل على العمل باجتهاد، سواء في عملنا اليومي لأجل الاحتياجات الزمنية، أو في العمل الروحي لإشباع الجوع الداخلي.

جاءت الترجمة الحرفية “النفس التي تتعب (تجاهد) تتعب، لنفسها”. عندما يشعر الإنسان بالجوع، يحثه فمه على العمل باجتهاد، بعرق جبينه حتى يأكل ويشبع.

“الرجل اللئيم ينبش الشر،

وعلى شفتيه كالنار المتقدة” [ع 27]

V      لا تكن مقاتَلاً باللسان. اجعل كل واحدٍ يبارك عليك.

القديس أنطونيوس الكبير

V      قال شيخ: إن اللسان مملوء نارًا، وهو يدنّس الجسد كله، فالذي يحب حياته فليشفق على لسانه. احرس شفاهك يا رجل الله وألجم لسانك، وأنت تنتفع بجميع أتعابك، فالذي يحفظ لسانه له كرامات كثيرة. طوبى للذي يسود على لسانه، فإن أهراءه (أي مخازنه) تمتلئ من الخيرات.

V      قال شيخ: إن كانت حركات لسانك غزيرة فقد انطفأت من قلبك الحركات الطاهرة، أما إن كان لسانك ساكتًا وقلبك يغلي بالحركات الطاهرة، فطوباك لأن حركته بالروح ترفعك إلى هدوء الحياة. سكِّت لسانك ليتكلم قلبك، وسكِّت قلبك ليتكلم فيه الروح.

فردوس الآباء

“رجل الأكاذيب يطلق الخصومة،

والنمَّام يفرق الأصدقاء” [ع 28]

سبق أن تحدث عن عذوبة فم الحكيم وما تقدمه كلمات النعمة له ومن هم حوله لبنيان الكل. الآن يتحدث عن كلمات اللئيم، فإنه وإن قدم كلمات معسولة، لكنها كنار متقدة مدمرة لنفسه ولمن هم حوله. ينطق الشرير بالأكاذيب، ويشعل نيران الخصومة كما يُفسد بكلماته الصداقات.

بقوله “ينبش” يشير إلى أنه إن لم يجد ما يقوله من أكاذيب وخداعات، يضع على عانقه أن يحفر في الأرض، ويتعب ليجد كذبًا مخيفًا ينطق به. إن كان الكتاب يشير إلى مملكة إبليس أنها تحت الأرض، فكأن الشرير يحفر بإرادته الحرة ليلتقي دومًا مع عدو الخير الكذاب يلقنه الكذب والخداع، فيحمل صورته بكونه ابنًا له.

“الرجل الظالم يغوي صاحبه،

ويسوقه إلى طريق غير صالحة” [ع 29]

يقصد بالرجل الظالم الإنسان العنيف، الذي يجد مسرته في متاعب الآخرين.

V      إن تعامل الإنسان مع غيره بدافع الخبث (يرتد عليه) لا إراديًا. ويحدث هذا هكذا: من يحرم (أخاه) من شيء يحرم نفسه من نفس الشيء ولو بغير رغبته. وهكذا أيضًا من يهين غيره يسقط تحت حكم المهانين. ومن يظلم غيره يسقط تحت حكم المظلومين، والذين يلومون الآخرين يقع عليهم حكم الملامين. والذين يحتقرون الآخرين يقع عليهم حكم المُحتقرين. والذين يكذبون يقع عليهم حكم المفترى عليهم. وإنني لا أعدد هنا، إنما أقول باختصار إن كل من يسيء يقع عليه نفس الحكم. وتشهد بهذا الكتب المقدسة إذ تقول: “من يحفر حفرة يسقط فيها ومن يدحرج حجرًا يرجع عليه” أم 27:26… ويقول أيضًا: “ألعل الله الذي يجلب الغضب ظالم؟!” (رو 5:3).

القديس مرقس الناسك

“من يغمض عينيّه ليفكر في الأكاذيب،

ومن يعض شفتيه، فقد أكمل شرًا” [ع30]

من يرتكب الخطية بالنية، حيث يغمض عينيه ليسقط في أحلام اليقظة الشريرة، أو يعض شفتيه من الغضب الداخلي فهو يمارس شرًا.

الإنسان التقي يغمض عينيّه الجسديتين إلى حين، طالبًا أن يفتح الله بصيرته الداخلية ليتمتع برؤية أسرار الله وأمجاده، كما يشتهي أن تشاركه كل البشرية هذه العطية. أما الشرير فتفحص عيناه أخاه، ولا يبالي بما يعانيه من ظلم أو ضيق، ويغلق شفتيه كمن يريد أن ينتقم!

“تاج جمال شيبة توجد في طريق البرّ” [ع 31].

إن كان للشيبة وقارها، فإنها لا تقوم على لون الشعر، ولا عدد السنوات، وإنما على البرّ الذي عاشه واختبره. لن تستطيع الشيبة أن تفقد البار حيويته في البرّ، وجهاده من أجل الأكاليل. وكما قال كالب: والآن فها أنا اليوم ابن خمس وثمانين سنة، فلم أزل اليوم متشددًا كما في يوم أرسلني موسى، كما كانت قوتي حينئذ هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول” (يش 14: 10-11). وقيل عن موسى: “وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات، ولم تكل عينه، ولا ذهبت نضارته” (تث 34: 7).

V      ذهب في أحد الأيام أنبا آمون لزيارة (أنبا شيشوي) فوجد أنه حزين على مجيئه من البرية، فقال له: أيها الأب، ليس جيدًا لك أن تحزن، لأنك اقتربتَ من مكان سُكنى الإخوة، لأنّ جسدك صار ضعيفًا ولم تعد قادرًا على القيام بتلك الأعمال التي تريدها في البرية.

فلما سمع أنبا شيشوي هذا الكلام نظر إلى أبّا آمون بحدّةٍ وأجابه بغضبٍ قائلاً: ما هذا الذي تقوله لي يا أبّا آمون؟ أَلم تكن حرية الأفكار التي كانت لي في البرية كافيةً لأن تأخذ مكان جميع الأعمال؟ وفيما يخصّك أنت أيضًا يا آمون الذي تدرك الحياة ونتائج حرية الفكر، والذي لستَ خاضعًا للاضطرار إلى تجوال الفكر واضطرابه ولا تعوِّقك الشيخوخة أو الضعف، أخبرني ماذا يمكنك أن تفعل في البرية في السنّ المتقدِّمة؟ وحتى إذا كنتُ أنا غير كفء لأعمال الجسد لأنني صرتُ ضعيفًا بسبب شيخوختي، فعندي مقدرة أكثر على إتمام أعمال الفكر مما كنتُ في رجولتي المبكِّرة.

فردوس الآباء

طول الأناة 32.

“البطيء الغضب خير من الجبار،

ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة” [ع 32]

ليس قوة أعظم من أن يتحكم للإنسان بنعمة الله في عواطفه ودوافعه وانفعالاته. فمن يسود على غضبه يُحسب خيرًا من الجبار، ومن يملك على أعماقه وأفكاره أعظم من ملك يحكم مدينة.

V      إن كنت غاضبًا، اِغضب على نفسك، فإنك تثور ولا تخطئ. فإن من يغضب على نفسه، إذ يثور سريعًا يكف عن الغضب ضد الغير. أما من يود أن يبرر غضبه يلتهب بالأكثر ويسقط في الخطية سريعًا. وكما يقول سليمان: “ضابط غضبه خير ممن يأخذ مدينة”، فإن الغضب يضلل حتى الإنسان الشجاع[543].

 القديس أمبروسيوس

V      أخذ المدن نصرة صغيرة، لأن المواضع التي تنتصر عليها خارج منا، بلوغ نصرة أعظم يتحقق بالصبر، لأن الإنسان يغلب نفسه، ويُخضع نفسه لنفسه، عندما يأتي به التواضع إلى احتمال الآخرين[544].

V      ليت غير الحليم يستمع إلى قول الكتاب المقدس: “البطيء الغضب خير من الجبار، ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة.” (أم 16: 32). الانتصار على المدن أقل أهمية، لأن ما يتم إخضاعه هنا هو شيء خارجي، لكن الانتصار عن طريق الحلم هو فعل أعظم بكثير، لأن العقل هو الذي ينتصر ويسيطر بنفسه على نفسه حين يجبر الحلم العقل على التحكم داخليًا في ذاته.

ليدرك الغضوب ما يقوله الحق لمختاريه: “بصبركم اقتنوا أنفسكم” (لو 21: 19). إن طريقة الخَلْقْ هي في الحقيقة لشأن عجيب حيث أن العقل يتحكم في النفس، وتسيطر النفس على الجسد. لكن النفس تفقد سيطرتها على الجسد إذا لم يسيطر العقل عليها. لذلك يبين لنا الرب أن الحلم هو الحارس على أحوالنا ويعلمنا أيضًا أنه بالحلم يمكن أن نمتلك أنفسنا. وهكذا ندرك فداحة خطيئة عدم الحلم (الغضب) عندما نرى أننا به نفقد ماهيتنا (كينونتنا)[545].

البابا غريغوريوس (الكبير)

استخدام القرعة 33.

“”القرعة تُلقى في الحضن،

ومن الرب كل حكمها” [ع 33]

لعله يقصد أنه إذا وجد خلاف بين شخصين حكيمين، ولم يستطيعا الوصول إلى قرار يصليا ويطلبا إرادة الله ثم يلقيان قرعة ويقبل الطوفان نتيجة القرعة.

في تقسيم أرض الموعد كلم الرب موسى قائلاً: “إنما بالقرعة قسم الأرض. حسب أسماء أسباط آبائهم يمـلكون، حسب القرعة يُقسم نصيبهم بين كثير وقليلٍ” (عد 26: 55-56).

استخدمت القرعة في اكتشاف عاخان الذي عصى الرب وسلب غنيمة وأخفاها (يش 7: 16-10)، واستطاع النوتية أن يكتشفوا عصيان يونان لله (يونان 1: 7). وعند اختيار تلميذ عوض يهوذا القي التلاميذ قرعة، فوقعت على متياس (أع 1: 23-26).

V      “يشرح الرسول في (أع 23:1-26)، أننا إذا استخدمناها (إلقاء القرعة)، بإيمان مطلق، مع صلوات، فسوف يكون فيها كشف لإرادة الله بوضوح.”

العلامة أوريجينوس

يرى البعض أنه بعد حلول الروح القدس على الكنيسة لم تُعد هناك حاجة إلى القرعة، إنما بالصلاة والصوم يتشاور رجال الله معًا تحت قيادة روحه القدوس لمعرفة إرادته الإلهية.

 فاصل

من وحي أمثال 16

من لي يعتني بي سواك!

V      تباركك نفسي من أجل حبك الفائق.

أقمتني على صورتك ومثالك، ووهبتني الحرية!

في كمال حريتي تصرخ أعماقي إليك:

استلم حياتي وقدني.

ليس من يقدسني سوي روحك القدوس.

ولا من يبررني سواك،

ولا من يفتح أحضانه لي سوي الآب القدوس!

أيها الثالوث القدوس، أنت الكل لي!

V      وهبتني العقل والقلب،

لكن من يقٌَدس موازيني سواك.

بدونك تختل كل معايير نفسي.

بدونك لا أستطيع أن أفرز الحق من الباطل!

روٌَض نفسي بكل طاقاتها،

وجسدي بكل أعضائه.

V      قُدْ أفكاري ونيتي وضميري،

فتسلك أعماقي بروح الاستقامة.

ويشرق نور الحق في داخلي!

V      ماذا أقدم لك؟ ماذا أرد لك من أجل حبك؟

لا تطلب ذبائح ولا تقدمات،

ولستَ في حاجة إلى تسابيح وتماجيد!

لكنك بحبك تطلب قلبي كله!

لتمتلكني، فأقتنيك يا أيها الصلاح ذاته!

V      لتقتحم القلبي الحجري المتشامخ،

فيذوب بحبك،

وينسحق في تواضع بنعمتك!

يمتلئ بالحب لك ولكل البشرية.

يحمل مخافتك،

فلا ينحرف يمينًا ولا يسارًا.

V      تعلن عن سكناك في داخلي،

فلا يقترب عدو الخير إلىٌ.

بل ويسالمني حتى الأعداء!

V      تشبع نفسي بسكناك، فلا تشتهي شيئًا سوى برٌك!

تملأني بروح القوة،

فأحمل في داخلي سلطان الروح.

كل كلمة تخرج من فمي لها قوتها،

لأنك تحفظ فمي بقوتك.

كل فكر يعبر بي، لن يقيم قيٌ بدون أمرك.

يتحول قلبي إلى عرش شبه سماوي.

وتصدر كلماتي وأفعالي بما يليق بملكوتك!

V      سكناك فيُ يقود مشاعري،

فأعطي الكرامة لمن له الكرامة.

وأخضع للسلاطين بفرح القلب!

V      لست أطلب من البشر شيئًا!

لكني أحترم كل إنسانٍ،

وأقََّدر كل موهبة!

أود أن تصير الأرض كلها سماءً!

والبشر ملائكة!

V      تصرخ أعماقي إليك:

هب لكل البشرية الحكمة الجالسة إلى عرشك..

هب للجميع فهمًا واستنارة،

ليدرك الكل غنى عنايتك الإلهية الفائقة!

V      ترى متى أرى كل البشر مملوءين حبًا.

تقطر أفواههم عسلاً،

و نفوسهم تمتلئ حلاوة وعذوبة؟

يسلكون فيك يا أيها الطريق الحق،

فلا ينخدع أحد بطرق إبليس الملتوية.

يعمل الكل بروح الحب.

ولا يكون للظلم والعنف موضع، ولا للكذب مجال فينا!

V      قدس الكل يا أيها الطويل الأناة،

فيصير الكل ملوكًا وكهنة لله أبيك.

لك المجد والشكر يا صانع الخيرات!

لك التسبيح يا من تعتني بكل خليقتك!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى