تفسير المزمور 141 للقمص أنطونيوس فكري
كتب داود هذا المزمور في أثناء فترة ضيقه وآلامه، ربما حين كان شاول يريد قتله فنجده هنا يصلي ويتوسل إلى الله ليعطيه عزاء ويرفع عنه ضيقته.
نصلي هذا المزمور في صلاة النوم، ليقبل الله صلواتنا كذبيحة مسائية مقبولة وتكون صلواتنا كرفع بخور أمام الله، لها رائحة مقبولة. بالإضافة إلى أننا نذكر المسيح الذي قُدِّمَ ذبيحة مسائية عنا ورفع يديه على الصليب لنصير نحن مقبولين لدى الآب.
آية (1): “يَا رَبُّ، إِلَيْكَ صَرَخْتُ. أَسْرِعْ إِلَيَّ. أَصْغِ إِلَى صَوْتِي عِنْدَ مَا أَصْرُخُ إِلَيْكَ.”
الصراخ في الصلاة هو الصلاة من القلب بحماس، ولكن ليس بصوت عالٍ.
آية (2): “لِتَسْتَقِمْ صَلاَتِي كَالْبَخُورِ قُدَّامَكَ. لِيَكُنْ رَفْعُ يَدَيَّ كَذَبِيحَةٍ مَسَائِيَّةٍ.”
المؤمنين كلهم كهنة بمفهوم الكهنوت العام، فالمؤمن يقدم ذبائح التسبيح وذبائح العطاء والتوزيع (عب15:13 ، 16) ويقدم نفسه ذبيحة حية (رو1:12) والروح المنكسرة (مز17:51).. أما الكهنوت الخاص في الكنيسة فهو سر من الأسرار السبعة، والكاهن يُسام ليخدم خدمة الأسرار، (عب4:5). فخدمة الأسرار يقوم بها كاهن شرعي وليست لكل مؤمن. وفي هذه الآية نرى صورة لهذا الكهنوت العام. ونرى داود هنا يرفع يديه، وهكذا نرى أن رفع اليدين مهم في الصلاة لنشبه وضع الصليب. والله يَشتَّم صلواتنا كرائحة بخور لو كانت من قلب نقي وبإيمان قوي (هذا معنى الصراخ).
ذَبِيحَةٍ مَسَائِيَّةٍ= فكانت الشريعة تحتم تقديم ذبيحة صباحية وذبيحة مسائية. والمسيح قٌدِّم على الصليب كذبيحة مسائية.
فالمسيح مات على الصليب وقت تقديم الذبيحة المسائية. أما الذبيحة الصباحية فهي إشارة للإفخارستيا، فالقداسات لا تقام إلا صباحا في النور. فالقداسات كانت بعد أن أشرق المسيح شمس البر. ولاحظ أن الصليب والإفخارستيا متكاملان فالإفخارستيا كملت بالصليب، وسبق الصليب تقديم المسيح جسده ذبيحة في الإفخارستيا. والصليب شرح كيف سيقدم المسيح نفسه ذبيحة. لذلك فذبيحة الإفخارستيا هي نفسها ذبيحة الصليب، فالمسيح قدم نفسه ذبيحة حب دائمة لغفران خطايانا وليتحد بنا فيكون هو لنا حياة أبدية.
والعجيب في هذه النبوة الإشارة لرفع اليد فهكذا صلب المسيح فالنبوة إذًا قدمت لنا الطريقة التي سيقدم بها المسيح ذبيحة ووقت تقديمها في المساء.
وفي رفع يدينا عند الصلاة نذكر هذه النبوة وكأننا نذكر أنه حتى تكون صلواتنا مقبولة كما قبلت ذبيحة المسيح علينا أن نقدم أنفسنا ذبائح حية فنصلب أهوائنا مع شهواتنا حينئذ تكون صلواتنا كرائحة بخور صاعدة إلى فوق، أما صلوات الخطاة فهي لا تصعد إلى فوق. ولنلاحظ أن داود بل وكل منا، نحن قادرين أن نقدم أنفسنا كذبائح مسائية، وذلك عن طريق تقديم أنفسنا ذبائح حية صالبين الجسد مع الأهواء والشهوات (رو12: 1 + غل5: 24) رافعين أيادينا كما عمل المسيح على الصليب. لكن الوحيد الذي قدَّم نفسه ذبيحة صباحية، أي قدَّم جسده على مذبح الإفخارستيا مأكل حق ودمه مشرب حق هو الرب يسوع.
الآيات (3، 4): “اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِسًا لِفَمِي. احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ. لاَ تُمِلْ قَلْبِي إِلَى أَمْرٍ رَدِيءٍ، لأَتَعَلَّلَ بِعِلَلِ الشَّرِّ مَعَ أُنَاسٍ فَاعِلِي إِثْمٍ، وَلاَ آكُلْ مِنْ نَفَائِسِهِمْ.”
هنا داود يصلي ليحفظ الله شفتيه، وفي هذا يتفق مع (يع3) أن اللسان يقود الإنسان كله أو طريق الحياة كلها، فلو تقدس اللسان يقود الحياة كلها للقداسة، ويصلي حتى لا يميل إلى الأشرار ويشترك في ولائمهم المملوءة فسادًا، وحينما يتنقَّى يقبل الله صلواته كرائحة بخور. لاَ تُمِلْ قَلْبِي إِلَى أَمْرٍ رَدِيءٍ = “فالقلب أخدع من كل شيء” (إر9:17). وهو منبع الشر. فيا رب لا تجعل قلبي يميل وراء نداء الأشرار. لأَتَعَلَّلَ بِعِلَلِ الشَّرِّ = الشرير دائمًا يعطي لنفسه أعذارًا في شروره. وهكذا فعل آدم وحواء ولم يعترفا مباشرة بخطيتهما.
آية (5): “لِيَضْرِبْنِي الصِّدِّيقُ فَرَحْمَةٌ، وَلْيُوَبِّخْنِي فَزَيْتٌ لِلرَّأْسِ. لاَ يَأْبَى رَأْسِي. لأَنَّ صَلاَتِي بَعْدُ فِي مَصَائِبِهِمْ.”
القلب دائمًا معرض للخداع. ومن خداعات إبليس أنه يجعلنا نرفض نصائح الأصدقاء المخلصين، ونفرح برياء الأشرار. وداود هنا يصلي حتى يحفظه الله من هذا الخداع فيستمع لمشورات الأصدقاء المخلصين، إن أخطأ يرجع وأن أصاب يتشجع. أما المنافقين الأشرار الذين ريائهم مثل الزيت فعليه أن لا يقبل ريائهم (وكان القدماء يدهنون بزيت معطَّر في أفراحهم). لِيَضْرِبْنِي الصِّدِّيقُ فَرَحْمَةٌ = المرتل لا يقبل التأديب من يد الله فقط، بل هو يقبل التأديب من يد كل صديق مخلص تقي، ويعتبر توبيخه له رحمة. وسفر الأمثال مملوء من الآيات التي تشرح هذه الفكرة وما ينطبق على هذه الآية تمامًا (أم6:27). ولقد طبق داود هذه الفكرة تمامًا حين قال “الله قال لشمعي بن جيرا إشتم داود” فهو قبل التأديب على أنه من الله، وإعتبر أن الله يؤدبه بواسطة شمعي الشرير، فإن كان قد قبل توبيخ الشرير، أفلا يقبل توبيخ الصديق. فَزَيْتٌ لِلرَّأْسِ. لاَ يَأْبَى رَأْسِي = أي أنه اعتبر أن توبيخات الصديق هي كزيت يشفي جروحه الناشئة عن خطاياه، وأنه سيقبل هذه التوبيخات ولن يرفضها رأسه، بل ستصير له كزيت للرأس. أما السبعينية فترجمت الآية “أما زيت الخاطئ فلا يدهن رأسي”. وهذا تم شرحه بأن داود يرفض الكلمات اللينة من الأشرار المخادعين الذين يشجعونه على ممارسة الخطأ. والترجمة السبعينية أقرب للصحة فهي متمشية مع باقي الآية لأَنَّ صَلاَتِي بَعْدُ فِي مَصَائِبِهِمْ = “لأن صلاتي أيضًا ضد رغباتهم الشريرة” = أي هو يصلي حتى يعينه الله في مكائد وخداعات المرائين الأشرار ورغبتهم أن يسقطوه في الشر ويسمى هذا مصائبهم. وبصلاته يحفظه الله من هذه المصائب.
آية (6): “قَدِ انْطَرَحَ قُضَاتُهُمْ مِنْ عَلَى الصَّخْرَةِ، وَسَمِعُوا كَلِمَاتِي لأَنَّهَا لَذِيذَةٌ.”
هذه قد تنطبق على شاول الذي اضطهد داود جدًا. وحين أتت الفرصة لداود أن ينتقم لم يمد يده إلى مسيح الرب بل عفا عنه وعاتبه عتابًا رقيقًا (كلماتي لذيذة) جعلته يبكي. وقد انتهت حياة شاول بمأساة هو وكل قادته= إنطرح قضاتهم من على الصخرة= وهذه نهاية كل من يقف موقف عداء مع الله صخرتنا، أو مع شعب الله.
وقد تشير الآية لعدو الكنيسة، إبليس، الذي انطرح أمام المسيح صخرتنا (لو18:10، 19) وكل اليهود والوثنيين الذين أقاموا من أنفسهم قضاة للكنيسة انطرحوا من على الصخرة بينما استمرت الكنيسة تردد كلماتها اللذيذة (كرازة وتسابيح وإيمان).
آية (7): “كَمَنْ يَفْلَحُ وَيَشُقُّ الأَرْضَ، تَبَدَّدَتْ عِظَامُنَا عِنْدَ فَمِ الْهَاوِيَةِ.”
قد تشير الآية إلى التجارب الأليمة التي وقعت لداود ورجاله أثناء هروبهم وأن بعضًا منهم مات وتناثرت عظامهم، وكانت الضربة شديدة. كمثل الفلاح حين يحرث الأرض هكذا إنشقوا، فمنهم من مات فعلًا ومنهم من كان قاب قوسين أو أدنى من فم الهاوية أو القبر. وقد تشير إلى أن النهاية المؤكدة لكل منا أنه سيدفن وتتناثر عظامه كنتيجة لنجاح مؤامرة إبليس ضد آدم أبينا والحكم الصادر ضده بالموت (ونجد الرجاء في آية 8) على أن الترجمة السبعينية ترجمت هذه الآية “تبددت عظامهم عند الجحيم”= أي عظام الأشرار. والترجمة السبعينية هي الأكثر إتساقًا مع بقية كلمات المزمور. وهذه هي نفس كلمات الترجمة الإنجليزية التي ترجمت الآية هكذا “مثل من يتسلق صخرة فيقع وتنتثر عظامه على الأرض”، فإن هؤلاء الأشرار تتبدد عظامهم عند الجحيم.
الآيات (8-10): “لأَنَّهُ إِلَيْكَ يَا سَيِّدُ يَا رَبُّ عَيْنَايَ. بِكَ احْتَمَيْتُ. لاَ تُفْرِغْ نَفْسِي. احْفَظْنِي مِنَ الْفَخِّ الَّذِي قَدْ نَصَبُوهُ لِي، وَمِنْ أَشْرَاكِ فَاعِلِي الإِثْمِ. لِيَسْقُطِ الأَشْرَارُ فِي شِبَاكِهِمْ حَتَّى أَنْجُوَ أَنَا بِالْكُلِّيَّةِ.”
من يرفع عينيه إلى الله يحفظه من الأشراك المنصوبة له، بل يقع الأشرار فيها. وهذا هو نفس ما قاله داود في (مز25: 15) فهو ينظر إلى الله القادر أن يحفظه من فخاخ الأشرار، غير مهتم أن ينظر إلى الفخاخ المنصوبة ضده. فمن يهتم بأن ينظر إلى الفخاخ ليتحاشاها سيرى البعض ولكنه لن يرى البعض الآخر وقد يكون الآخر مهلكا. أما الذي ينظر إلى الله فسينقذه من الفخاخ المرئية وغير المرئية.
لاَ تُفْرِغْ نَفْسِي = لا تقتل نفسي (سبعينية) وفي الإنجليزية “لا تترك نفسي معوزة محرومة.