تفسير المزمور 60 للقمص تادرس يعقوب ملطي

من التشتيت إلى النصرة

كانت مملكة إسرائيل تعاني من خراب ودمار قبل استلام داود الملك الحكم. لكن إذ تولى داود العرش على الأسباط، انتصر على الشعوب المحيطة به ماعدا أدوم. هنا يقدم المرتل مزمور شكر لله على ما وهبه من نصرات، وفي نفس الوقت يطلب عونًا للنصرة على أدوم.

إنه مزمور يقدمه كل مؤمن، إذ يذكر ما كان عليه من دمار داخلي حين كان معطيًا ظهره لا وجهه، لله. لكن إذ رجع إلى الرب وهبه الله نعمة النصرة، فيتمتع بنصرات مستمرة تملأ قلبه فرحًا وتهليلًا. هذا الفرح يشجعه بالأكثر على نصرات مستمرة أعظم، فيتجلى ملكوت الله أكثر فأكثر!

استقر داود النبي على العرش، لكنه بعد أن نال نصرات متوالية لم ينس السنوات الحالة المُرّة التي عاشها الشعب بسبب رجوعهم عن الله، ومفارقة الله لهم. الآن يذكر تلك السنوات كدروسٍ لا تُنسى، كما يقدم تسبيح شكر لأجل النصرة (راجع 1 صم 8: 3، 13؛ 1 أي 18: 3، 12).

*    يحتوي هذا المزمور على نبوة خاصة بربنا يسوع المسيح المولود من نسل داود، بأنه في ملء الزمان كان مزمعًا أن يضرب الأجناس الغريبة، أعني بها الأبالسة. أولًا ينوح ويشكو مما جرى له من اليهود، وأنه يجعل الأمم خاصته لإيمانهم به، ويقصي اليهود عن كونهم خاصته. ثم بعد زمان يشعرون بجمالهم ويتوبون ويؤمنون به ويؤهلون لنعمته.

الأب أنثيموس الأورشليمي

في هذا المزمور تبرز بكل قوة قداسة الله وسلطانه وقوته.

 

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى السَوْسَنِّ.

شَهَادَةٌ مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ لِلتَعْلِيمِ.

عِنْدَ مُحَارَبَتِهِ أَرَامَ النهْرَيْنِ وَأَرَامَ صُوبَةَ،

فَرَجَعَ يُوآبُ،

وَضَرَبَ مِنْ أَدُومَ فِي وَادِي الْمِلْحِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.

 

أ. السوسن

يربط كثير من الدارسين بين الكلمتين “سوسن” و”شهادة“، فيرون العنوان “سوسن الشهادة”؛ أي أن المزمور هو أشبه بسوسنة شهادة رائعة أو محبوبة أو مفرحة لعمل الله الخلاصي الأكيد.

 

ب. “عند محاربته أرام النهرين وأرام صوبة”

جاء في الترجمة السبعينية: “عندما يحرق المصيصة Mesopotamia (ما بين النهرين) السريانية وصوبة السريانية. ويرى القديس أغسطينوس بتفسيره الرمزي أنه إذ يحرق المرتل أو يضرب المصيصة وصوبة، فإن هذا يشير إلى عمل ربنا يسوع المسيح فينا، حيث يحرق المصيصة التي تعني في رأيه “الدعوة المتشامخة“، وصوبة التي تعني “القديم الفارغ“. ويتحقق ضربهما بالحرق بالنار كما بالقتل بالسيف. وكأن عمل السيد المسيح هو حرق تشامخنا وكبريائنا، وأيضًا حرق أعمال الإنسان القديم الفارغ. يستخدم السيد المسيح النار، إذ يقول: “جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟” (لو 12: 49). أما عن قتل الأدوميين بالسيف، فإن أدوم ومعناها “أرضي”، فإن السيد المسيح أيضًا يحطم فينا ما هو ترابي وزمني وذلك بالسيف الروحي. يقول السيد: “ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا” (مت 10: 34).

*    بالحقيقة هذا الدمار الذي صنعه داود بيد قوية، صنعه مسيحنا الذي كان يرمز إليه هذا الرجل (داود). لقد فعل كل هذه الأمور، صنع هذا الدمار بسيفه وناره، فقد جلب كليهما في هذا العالم. “جئت لألقي نارًا على الأرض” (يو 12: 49)، “جئت لألقي سيفًا على الأرض” (مت 10: 34)، كما جاء في الإنجيل. لقد جلب نارًا يحترق بها ما بين النهرين في سوريا، وصوبة السريانية. وجلب سيفًا ليضرب به أدوم. الآن يتم الدمار من أجل هؤلاء الذين يتغيرون… يضربهم لأجل صحتهم، ليقولوا إنهم قد تغيروا إلى ما هو أفضل. تغيروا إلى ما جاء في عنوان (المزمور) إلى تعليم داود نفسه. ليقولوا: “لقد جعلت رحمتك علينا. لقد دمرتنا لكي تبنينا أنت. لقد دمرتنا نحن البناء الشرير، دمرت إنساننا القديم الفارغ، لتبني الإنسان الجديد يقوم إلى الأبد.

القديس أغسطينوس

ج. “وضرب من أدوم في وادي الملح اثني عشر ألفًا”

 

وادي الملح: يحتمل أن يكون هو الغور El-Ghor، يقع على بعد القليل من الأميال جنوب البحر الميت، وعلى حدود أدوم القديم؛ وهو وادي مهجور.

ورد أن عدد القتلى هم ثمانية عشر ألفًا في (2 صم 8: 13؛ 1 أي 18: 12). يرى Yarchi وKimchi أن أبيشاي قتل أولًا 6000 وبعد ذلك قتل يوآب 12000 عند عودته بعد ضربة سوريا.

أما عن ضرب أدوم فيقدم لنا القديس أغسطينوس التفسير الرمزي التالي:

*    ضرب أدوم”: “أدوم” تُفسر “الأرضي”.

يلزم ضرب ما هو أرضي. لماذا يعيش الإنسان أرضيًا، بينما يلزمه أن يعيش سماويًا؟

إذ يُذبح ما هو أرضي يحيا سماويًا. “كما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضًا صورة السماوي” (1 كو 15: 49). أنظروه مذبوحًا: “أميتوا أعضاءكم التي على الأرض” (كو 3: 5).

ولكن عندما ضرب من أدوم، ضرب اثنى عشر ألفًا من وادي الملح. رقم اثنا عشر رقم كامل، وينسب إليه الرقم الكامل الخاص بالاثنى عشر رسولًا، فإن هذا العدد ليس بدون هدف، وإنما لأن خلاله بلغ الكلمة العالم كله. فإن كلمة الله الذي هو المسيح في السحاب، أي في الكارزين بالحق. والعالم يتكون من أربعة أجزاء (اتجاهات). هذه الأجزاء الأربعة معروفه تمامًا للجميع، وكثيرًا ما يُشار إليها في الأسفار المقدسة. إنها مثل أسماء الأربعة رياح: الشرق والغرب والشمال والجنوب. أُرسل الكلمة إلى هذه الأجزاء الأربعة، حيث يدعى الثالوث في هذه الأجزاء. رقم إثنا عشر هو محصلة الأربعة أزمنة في ثلاثة. لهذا توجد علة أن اثنى عشرًا أمرًا أرضيًا قد ضُربوا، فإنه من العالم كله اُختيرت الكنيسة، هذه التي ماتت عن الحياة الأرضية.

لماذا في وادي الملح، الوادي هو التواضع، والملح يعني التذوق. فإن كثيرين يتواضعون ولكنهم فارغون وأغبياء، إذ يتواضعون في أمور فارغة قديمة.

القديس أغسطينوس

د. شهادة مذهبة لداود للتعليم

إذ بلغ داود ذروة المجد، وتمتع بنصرات كثيرة، يقدم هذا المزمور كاعتراف لله، وشهادة لعمله الإلهي معه. إنه لا ينسى أن سنوات الضيق السابقة كان علتها رفض الله لهم، لأنهم تركوه ورفضوه، فتركهم لأذرعهم البشرية المجردة، وكان ثمرها الفشل التام. كما يشهد أن سرّ نصرتهم هو العون الإلهي.

يمكننا القول بأن هذا المزمور هو اعتراف بضعف الإنسان برجوعه عن الله، واعتراف بحب الله القدير الذي يشتهي خلاصي الإنسان.

كان اللاويون يسبحون بهذا المزمور للتعليم حتى لا ينسى الشعب أن كل نصرة هي من عند الله.

ما أجمل أن يُقدم التعليم بلغة التسبيح والفرح، لأن الوصية الإلهية في جوهرها عودة للالتقاء مع الله مفرح القلوب، وواهب الخيرات، ومقدم النصرة لمن يلتصق به.

 

ه. مذهبة أو مزمور ذهبي

يرى آدم كلارك أنه دُعي هكذا، لأنه كُتب بالذهب على ورق بردي من مصر.

1. دمار بسبب الحرمان من العون إلهي

خلفية هذا المزمور هي تذكر الأحداث المُرّة التي حلت بإسرائيل في الماضي، وما سببته من دمار، حينما لم يكن داود قد استلم العرش على كل الأسباط. إنها صورة مرة يليق بالمؤمن أن يضعها أمام عينيه حيث يكتشف ما كان عليه من دمار داخلي حينما كان بعيدًا عن ملكه الحقيقي السيد المسيح ابن داود.

يذكر أيام الخراب الماضي لتدفعه إلى حياة الشكر على ما تمتع به، ويطلب نمو ملكوت الله الدائم في قلبه كما في قلوب إخوته. بهذا يترنم بحب الله الفائق. “تراءى لي الرب من بعيد، ومحبة أبدية أحببتك، من أجل ذلك أدمت لك الرحمة” (إر 31: 3).

يَا اللهُ، رَفَضْتَنَا.

اقْتَحَمْتَنَا.

سَخِطْتَ.

أرْجِعْنَا [ع1].

يرى متى هنري أن داود النبي وقد بلغ أوج نصرته مع استقرار مملكة إسرائيل كلها في بداية حكمه، يعود بذاكرته إلى ما حلّ بإسرائيل من متاعب وكوارث في أيام شاول الملك، وأيضًا ما عانى منه إسرائيل حين ملك على يهوذا وحدها. فإن سرّ هذه الكوارث هو تخلي الله عن شعبه بسبب انحرافهم. هذا الأمر ينطبق أيضًا على مملكتي إسرائيل ويهوذا حين صارتا تحت السبي البابلي بسبب الخطية. وينطبق على كل إنسان أو جماعة تترك الحق الإلهي، وتعتمد على الأذرع البشرية.

هنا يعترف المرتل أمام الله بما حلّ بشعبه من تشتيت ودمار. يتكلم باسم الأمة كلها أو الشعب كله. هكذا يليق بكل مؤمنٍ كعضوٍ حقيقي في جسد المسيح أن يُصلي باسم الكنيسة كلها، الجسد الواحد. سبق فقدم دانيال اعترافًا باسم الشعب كله (دانيال 9).

“يا الله، رفضتنا”: جاءت الكلمة هنا تعني أننا نحمل رائحة كريهة، في حال فساد، وهي تُقال عن المتمردين المقاومين، وعن المحتقرين(189). كأن الله يتعامل معهم بكونهم مقاومين له.

“يا الله، اقتحمتنا” أو “شتتَنا”: وذلك عندما تحدث هزيمة في معركة فيتشتت الجيش (2 صم 5: 20). كأن الله قد تخلى عنهم في المعركة، فعوض أن يكون قائدًا لجيوشهم، صار قائدًا لجيوش أعدائهم، فاقتحم جيوشهم، وسبب لها خسائر عظيمة.

“سخطت”، أي تتعامل معنا بكونك ثائر ضدنا.

حينما يتحدث عن سخط الله أو غضبه، فإنه يحدثنا المرتل بلغة يمكننا أن نفهمها. فحقيقة غضب الله ليس انفعالًا في الله، إنما الكشف عن الثمر الطبيعي للخطية. الخطية مهلكة، ملأت بالويلات القلوب والبيوت والأمم وعالمنا. غضب الله ضد الخطية هو العلة الوحيدة لبؤس الجميع، سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي، في العائلات والكنائس والأمم. هذه الويلات التي تحل وتدوم مع الزمن وتبلغ إلى الأبدية(190) ما لم نرجع عنها ونتمتع بالشركة مع الله.

    حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المنزه عن كل انفعالٍ أو شائبةٍ. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديان والمنتقم عن كل الأمور الظالمة التي ترتكب في هذا العالم.

وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها ينبغي أن نخشاه بكونه المخوف المجازي عن أعمالنا، وأن نخشى عمل أي شيء ضد إرادته. لأن الطبيعة البشرية قد ألفت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة.

فالغضب المنتقم يخشاه عادة أولئك الذين يعذبهم اتهام ضمائرهم لهم، بالطبع ليس لوجود هذه النزعة في عقول هؤلاء الذين سيلتزمون بالإنصاف في أحكامهم.  لكن بينما هم في غمرةٍ من هذا الخوف، فإن ميول القاضي نحوهم تتسم بالعدالة وعدم التحيز واحترام القانون الذي ينفذه. وهذا مهما سلك بالرفق واللطف، موصوم بأقسى نعوت السخط والغضب الشديد من أولئك الذين عوقبوا بحقٍ وإنصافٍ(191).

القديس يوحنا كاسيان

    لاحظوا دقة التعبير: “تذخر لنفسك غضبًا” (رو 2:5)، موضحًا أن الدينونة لا تصدر عن الديّان، إنما هي نتيجة لعمل الخاطئ، إذ لا يقول “يذخر الله لك” وإنما “تُذخّر لنفسك”… إنه يحاول اجتذابك بكل وسيلة، فإن ظللت على عنادك تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة. ولكن لا يتبادر إلى ذهنك أن غضبه انفعال عنيف إنما هو العدالة، هو “استعلان”، حيث ينال كل إنسان ما يستحقه(192).

القديس يوحنا الذهبي الفم

(205) Barnes’ Notes.

(206) Chromatius: Tractate on Matt hom 11: 4.

(207) Barnes’ Notes.

(208) In Luc Ser 105.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى