تفسير سفر أيوب أصحاح 29 للقديس يوحنا ذهبي الفم

الإصحاح التاسع والعشرون
المرافعة العظيمة لأيوب
أيوب يستعيد ذكر مجده السالف
أيوب يتذكر الرخاء الذي منحه له الله

1 – ” وعاد أيوب ينطق بمثله فقال: من يعطيني شهراً كمثل الأشهر السالفة؟” (29: 1 – 2).

ما معنى «عاد أيوب ينطق بمثله» ؟ ليس هذا (يعني) أنه أنهى حديثه، إنما هو عاد من جديد لنقطة البداية دون أن يسمح لخصومه بمقاطعته أو مناقضته. فماذا قال؟ أريد أن أعيش شهراً في سعادتى الماضية لأسد فمكم ولأريكم من كنت أنا.

“شهراً وحيداً كمثل الأشهر السالفة”

إنه لم يطالب بشيء غير عادى، بل فقط أن يحيا على مدى ثلاثين يوماً سعادته الماضية ويتمتع بالرخاء الذى لا يمكن لأحد أن ينيله إياه . ثم وصف هذا الرخاء في حديثه لأنه إذ كان هذا من المستحيل، فإنه على قدر استطاعه أظهره أيضاً بحديثه وقال ما عمله، وفى أى وضع كان هو سابقاً.

انظر لتقوى هذه الشخصية، فإنه نسب كل شيء إلى الله. لأنه لم يكن ممكناً لمن حرم من العون السماوي، أن يستطيع الصمود أبداً.

2- “كالأيام التى حفظني الله فيها. حين أضاء سراجه على رأسى وبنوره سلكت في الظلمة. عندما تابعت بثبات طرقى حيث كان الله يحمى بيتى عندما كنت مثمراً جداً وأولادى كانوا حولى” (29: 2-5)

وإن كان أيوب يبحث عن سعادته الماضية، فهذا كان لإظهار عناية الله به، وهذا كان واضحاً بمقتضى ما قاله «عندما حفظني الله ثم أعطى الإثباتات لهذا الحفظ الإلهي له.

«حين أضاء سراجه على رأسى» أى أنت جعلت نور سراجى يتلألأ، لأن السراج بالحق ضرورى إن كانت الظلمة الحالية حالكة، إن كانت صعوبات الموقف خطيرة (مع) هجمات الأتعاب الجسمانية، ومؤامرات الأشرار وغارات الشياطين الوحشية.

كل هذا يظهر أيضاً “بنوره سلكت في الظلمة”!

أنت ترى أيها القارئ أن الظلمة اجتاحت كل شيء، وأن «النور أضاء في الظلمة» (يو 1: 5). لكن كما أن الظلام الطبيعى مفيد للراحة، فهذه الظلمة مفيدة لنا، ليس بسبب طبيعتها في حد ذاتها، إنما بسبب حكمة الله الذي صنع كل شيء.

“عندما تابعت بثبات طرقی”

أى عندما كنت مُحمّل بالثمار من كل جانب.

“حيث كان الله يحمى بيتى”

ها أنت ترى (أيها القارئ) أن كل ما كان يرغب فيه هو إظهار حماية الله وعنايته به.

3- عندما كانت طرقي ممتلئة بالزبد وجبالي تفيض لبنا (29: 6).

ها أنت ترى أيها القارئ أنه لم يذكر فى أى موضع غنى جائر أو متكبر، إنما غني مفيد ومعقول.

4- “عندما خرجت مبكراً فى المدينة وأخذت مجلسي في الأماكن العامة” (7:29).

إنه تكلم عن جسارته فى التعبير وعن مركزه السابق، وبعد ذلك تكلم عن مجده.

أيوب يذكر الاحترام الذي كان يتمتع به لدى الجميع 

5- “رآني الغلمان فاختبئوا وكل الشيوخ قاموا وتقدموا لملاقاتي. العظماء أمسكوا عن الكلام ووضعوا أيديهم على أفواههم” (29: 8، 9)

يبدو لي أن المقصودين بهذا الهجوم كانوا أصدقائه، والذين أشار إليهم لأنهم أهانوه. إذ هو قال أنه في السابق كان مشهوراً ومحترماً.

6- ” والذين سمعونى طوبوني، والتصق لسانهم بحنكهم. لأن أذنهم سمعت وطوبتني. وعند رؤیتی خفضوا أعينهم. لأنى أنقذت المسكين من يد القوى وساعدت اليتيم الذي لا معين له” (10:29- 12)

ولكى يوضح أيوب لماذا طوّبوه، ذكر أعماله الصالحة فقال: «إننى أنقذت المسكين من يد القوى»، لكن بعد أن نسب إلى الله حفظه وحمايته له، لذلك «هو افتخر بالرب» (1کو 1: 31).

إحساناته للآخرين جعلته يترجى شيخوخة سعيدة

7- “لتحل علي بركة الهالك (المائت) وليباركنى فم الأرملة، لبست البر واكتسيت بالعدل كمعطف لى كنت عيوناً للعمى وأرجلاً للعرج. كنت أنا أبا للفقراء ودعوى لم أعرفها فحصت عنها هشمت أضراس الظالمين، ومن بين أسنانهم خطفت الفريسة. وقلت حياتى ستعمر مثل جذع النخلة وسأعيش طويلا” (29: 13- 18).

ليس أننى كنت أسلك بهذا الرجاء، إنما أنا توقعت شيخوخة طويلة كثمرة لضمير صالح وآمال فاضلة.

قال أيوب: «لأني أنقذت المسكين من يد القوى»

انظر فإنه لم يفتخر بكونه امتنع عن الشر ولا افتخر بالذبائح التي قدمها كما فعل اليهود، بل افتخر بما يريده الله.

قال أيوب: «حكمت لصالح اليتيم وأقمت حقوق الأرملة» (إش 1: 17).

لاحظ أن أيوب لم يكن متكبراً، إنما استخدم قوته كما ينبغي، وكان الملجأ والملاذ لكل من كانوا في احتياج، وكان أب ونصير الكل.

ولم يستخدم غناه للظلم ولا مجده للافتخار ولا حكمته للشر، إنما ليخلص من البلايا التي كانت تضغط على من كانوا مثقلين بها.

“ساعدت اليتيم الذي لا معين له”

انظر فحتى هذا قاله بتحفظ.

وقال فم “الأرملة باركني”

أنتم (أيها القراء) تعلمون أن هذا النوع من النساء قليل العرفان بالجميل إلى حد ما، ليس بسبب طبيعتهن في حد ذاتها أو عن سوء نية، إنما بسبب البؤس الذي فرضه الفقر عليهن، وهذا أمر عسير (بالنسبة لهن) أن يمدحن من عمل الخير (لهن) . فهذا (الفقر) هو أتون المشقة (انظر إش 10:48).

قال أيوب: «لبست البر»

يوجد في الواقع أناس في مركز أعلى من الآخرين ومع ذلك فهم أنفسهم يقترفون أحياناً المظالم. لكن لم يكن الحال هكذا مع أيوب، إذ بهذا القدر عاش بطريقة مستمرة في البر!. وأيضاً عندما تسمع من جهة الله أنه «لبس البر» (إش 59: 17)، فلا تذهب إلى الظن في ملابس تحيط بكائنات غير جسدانية، ولا أيوب أيضاً لبس هذا النوع من تلك الملابس (إذ أنه قول مجازي).

“اكتسيت بالعدل كمعطف لى”

وهذا كان موضع فخرى بالتأكيد كان الآخرون متكدرين لهذا النشاط، واغتاظوا ووجدوه نشاطاً متعباً وثقيلاً عليهم.

وقال أيوب: أما أنا فلم يكن الأمر معى هكذا، بل كما يتباهى شخص ما بمعطف (جميل) كذلك أنا أيضاً باستمرار – اليوم وغداً – كما عن ضرورة يتم لبس هذه الملابس (المعاطف الجميلة) باستمرار، كذلك أنا أتباهى بهذه الأعمال البارة.

لكن من أقامه قاضياً؟ هو من نفسه صار قاضياً بفضل فضيلته ذاتها كما موسى، وهذا بحسب ما ينبغى أن يكونه البشر. لكن حيث أنهم هجروا الفضيلة، لذلك فرض الله عليهم قضاة.

 ها أنت ترى أن هذا النشاط قد وجد أساسه في طبيعته نفسها أقصد دوره كنصير. وإلا فقل لي : أين نأموس هذبه؟ من الذى أجبره؟ من اختاره؟ من جعله يصعد على هذا الكرسى ( كرسى القضاء) ؟

قال أيوب: «كنت عيوناً للعمى وأرجلاً للعرج».

إنه لم يقل: إننى خففت من بليتهم، ولا قال: إننى أزلت عنهم الإحساس بالعمى، إنما قال «كنت عيوناً» إنهم يرون بواسطتي، ولم يعانوا من تجربة بليتهم بفضلي. لم يكونوا يبحثون عمن يأخذ بأيدهم ويقودهم فى الطريق، وفى كل موضع حولت لهم الظلمة إلى نور. وكما أن كثيرين ولو أن لهم أعين لا يرون إلا الظلمة بالمثل أتاح أيوب الرؤية لأناس محرومين من البصر .

انظر (أيها القارئ) لهذه المعجزات الجديرة بالرسل (انظر أع 5: 12). إن أيوب لم يجعلهم ينظروا ، لأن هذه الموهبة لم تكن موجودة بعد، لكنه أعطاهم النور حتى لو بقوا عمياناً، بينما معاصرينا يُعمون من ينظرون (انظر يو 9: 39). إنه لم يقل: سأستخدم عبيدي ليعملوا هذا ، بل أنا بنفسي سأصحح تشوهات الطبيعة، ليس فقط التشوهات التي تأتى من الطبيعة ذاتها.

«كنت أنا أباً للفقراء»

انظر كم من الوقت انتظر حتى يقول هذا، وهو لم يفعل هذا عن افتخار أو تكبر إنما لأنه اضطر للتكلم عن عناية الله وعن الظروف التي كان يتمتع بها (بهذه العناية)، وعن الموقف الذي هو موجود فيه الآن.

“دعوى لا أعرفها فحصت عنها”

ها أنت ترى (أيها القارئ) أن دوره كنصير لم يمتد فقط إلى المال ولا إلى الطعام والكساء، بل امتد أيضاً إلى المخاطر (التي تحيط بهم). وهو يقول: كنت أضع نفسي في المقدمة في صراع لم يكن يخصنى وكنت كقناص ماهر أبحث في أمر لم تكن لي فيه أية مصلحة. لم يكونوا أناساً معروفين لى الذين رفضت طردهم كما يفعل اليوم، بل لم يوجد أحد ليقوم بهذه المهمة كما لو كانت هذه مهمتى الملقاة على عاتقي)، وكمثل صياد ماهر كنت أطوف بدون توقف ملاحظاً باعتناء إن كان أحد طغى عليه صدفة.

إنه قال « دعوى لا أعرفها فحصت عنها»، ولاحظ إنه تكلم عن دعاوى سرية تماماً وخفية وصعب البت فيها.

هشمت أضراس الظالمين

وهذه هي توصية الرسول «المدبر فباجتهاد» (رو 12: 8)

ومن بين أسنانهم خطفت الفريسة

لاحظ صعوبة المهمة، فمن كان بالفعل قد أُمسك وأبتلع، استرددته.

إنه لم يقل مثلنا : هذا مستحيل وغير مجد.

“هشمت أضراس الظالمين”

لاحظ أن فضيلته لا تقارن في كلتا الحالتين فى الحالة التى كان فيها ينبغي أن يعاقب وتلك التي كانت تستوجب المعونة

لماذا قال: «هشمت أضراس الظالمين؟

كونه أتى لمساعدة حتى هؤلاء الناس وجعل ظالميهم عاجزين من الآن عن عمل تعدٍ شبيه، وبالحق فإن الشيء غير العادى هو أنهم لم يكنوا له أية كراهية بل إنهم على حد قوله سمعوا له بانتباه وصمتوا عند مشورته

– ثم أضاف بعد ذلك قوله ” انتشر أصلى (حرفياً جذري) بالماء والندي بات على حقلى، ومجدى كان جديداً (أى متجدداً) في. وقوسى أفلح في يد الله. لى سمع الشيوخ بانتباه وصمتوا عند مشورتي. ولم يضيفوا شيئا لكلامي، وكانوا مسرورين جدا عندما أكلمهم. وكأرض عطشانة تنتظر المطر ، هكذا كان هؤلاء الناس ينتظرون كلامي وإن كان لي أن ابتسم لهم، فما كانوا يصدقون هذا (29: 10-24).

انظر لما قاله فلا غناه جعله مكروهاً ولا الحماية التى قدمها للمظلومين ولا أي شيء آخر شبيه جعلهم يكرهونه (بل كانوا ينتظروا ولو ابتسامة منه).

9- “ولم يفتر نور وجهى واخترت لهم طريقهم وكنت أجلس في الصدارة وأقمت خیمتی کما لو كنت ملكا وسط محاربية كمن هو يعزى النائحين” (29: 24- 25).

تفسير أيوب 28 سفر أيوب 29 تفسير سفر أيوب
تفسير العهد القديم
تفسير أيوب 30
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير سفر أيوب 29 تفاسير سفر أيوب تفاسير العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى