تفسير سفر أيوب ٦ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السادس
حاجة المتألم إلى مواساة أصحابه
خيبة أمل أيوب من جهة موقف أصدقائه
لم يتهم أليفاز أيوب مباشرةً أنه خاطيء عظيم، وإنما بدأ حديثه برقةٍ، غير أن حديثه يحمل بطريقة غير مباشرة عدة اتهامات خطيرة، منها أنه مرائي يخفي خطاياه التي بسببها حلت به كل هذه الكوارث، وأنه إنسان جاهل يتهم الله. لقد فهم أيوب ما كان يعنيه أليفاز.
اتفق أيوب مع أصحابه أن ما حلّ بأيوب هو من الله، لكن كان الاختلاف في تفسير ما وراء هذه الآلام، هل حلت عليه كعقوبةٍ إلهيةٍ من أجل خطايا خفية.
يبرر أيوب صراخه، فإن الحيوانات متى شبعت لا تصرخ بل تصمت، فصرخة أيوب ليست من فراغ.
كان أيوب يتوقع وهو متوهج بالحرارة أن يجد في أصدقائه ماءً مثلجًا يطفئ الحرارة التي في داخله. لقد توقع منهم العطف، وتوقعه هذا مبني على مبادئ الإنسانية، ومن لا يظهر هذا العطف يكون قد ترك خوف القدير. ثم إن التجرد من الإنسانية كفر وإلحاد، وإن الشدائد محك الصداقة. لقد ذكَّرهم أنه لم يطلب منهم رد أملاكه، ثم سألهم أن يروه في أي شيء أخطأ، وأن يعاملوه بالعدل، ويكلموه بالاستقامة.
لقد أخذوا موقفًا جافًا شبيهًا بجدول تنضب مياهه عند الحاجة الشديدة إليه. يشبه نفسه بمسافرٍ في الصحراء يعرف أماكن المياه العادية، وإذ بلغ إليها وجد المياه قد تسربت في الرمل وجف الموضع تمامًا.
كان أيوب حزينًا بسبب خيبة أمله من جهة موقف أصحابه، هؤلاء الذين حاولوا الإيحاء له بأن الله قد صار عدوًا له. هذا هو ما أثر في نفسه جدًا، وسبب له ارتباكًا، إذ يرى أن الله الذي أحبه وعبده قد جلب عليه كل تلك المتاعب، ووضعه تحت علامات غضبه هذه، مما بعث فيه الرغبة في أن يحل به الموت الذي كان يشتاق إليه.
كانت فحوى كلمات أليفاز أنه يجب على أيوب أن يعترف بخطيئته الخفية، ويطلب مغفرتها؛ هذا أنشأ في نفس أيوب نفورًا، عبر عنه بالكلمات الآتية: “حق المحزون معروف من صاحبه، وإن ترك خشية القدير” (أي 14:6). ولهذه الكلمات تفسيران الأول إن الترك يشير إلى أصحابه الذين بامتناعهم عن مشاركتهم مشاعره يتركون القدير. والثاني إن أيوب أيضًا يشعر بأنه قد زل عن طريق الله، فإظهار شيء من العواطف اللطيفة نحوه يقوي ثقته بالله. هذا المعنى هو الأرجح. يليق بنا وجوب الامتناع عن الغلظة والمجافاة حتى مع الذين يسيئون التصرف، لئلا يُساقوا إلى عدم الإيمان.
يوجه أيوب نظره وكلامه إلى الله بعبارات تبدو كما لو كانت تخلو من الاحترام. يخاصم الله الذي ينسب إليه أنه هو سبب كل آلامه، وينطق بكل ما يجول في فكره، ويسأل بتهكم هل هو جاد حتى يضع الله رقيبا عليه؟ ويتوسل إلى الله أن يتركه وشأنه أو ينهي حياته، لماذا يعني القدير بشيء صغير كالإنسان؟
تتقدم نفسه إلى الله تطلب شفقته وعطفه على أساس أنه خليقة ضعيفة جدًا وإقامته في هذا العالم قصيرة، وانتقاله من العالم سريع، وعودته إليه مستحيلة ولا يمكن قط توقعها. هذا لا يعني أن أيوب أخطأ، ولكن على فرض أنه ارتكب شرًا، فإنه يريد أن يعرف أي ضرر أصاب الله من خطأه، ولماذا لا يغفر الله له ذنبه ويزيل إثمه؟
ظن أليفاز أن ما قاله لأيوب هو عين الحكمة، يقين لا يمكن لأحد الاعتراض عليه. لكن أيوب لم يقتنع بكل ما قاله، واستمر يبرر نفسه في شكواه، وقد تحدث بمنطق مقبول يشوبه الضعف البشري.
- من حق المتألم أن يشكو 1-7.
- الموت هو نهاية المتاعب 8-13.
- نقده لقسوة أصدقائه 14-30
من حق المتألم أن يشكو 1-7
“فأجاب أيوب وقال” [1].
إن كان الذي دخل معه في الحوار أليفاز إلا أن أيوب أدرك أن أليفاز يتكلم باسم الكل معُا، لذا وجه أيوب إجابته للجميع (15:5).
اتسم أيوب بالتعقل والاتزان إذ لم يقاطع أليفاز الذي بدأ حديثه بقسوة. واستمع أيوب بصبرٍ حتى أكمل أليفاز كل ما أراد أن يقوله.
لَيْتَ كَرْبِي وُزِنَ،
وَمَصِيبَتِي رُفِعَتْ فِي الْمَوَازِينِ جَمِيعَهَا [2].
كشف أيوب عن كربه، أنه لا يمكن تصويره تمامًا، ولا أن يدركه أحد إدراكًا كاملاً. وليس من ميزانٍ في العالم يستطيع أن يزن حزنه، فطلب أن تُجمع كل الموازين لتزن حزنه الشديد.
v “فأجاب أيوب وقال: آه، من يزن بالحق كربي، ويرفع مصيبتي في الموازين جميعها؟” هذه العبارة تخص الكلمات السابقة (3:4-5): “أنت قد أرشدت كثيرين… وثبت الركب المرتعشة، والآن إذ جاء عليك ضجرت، إذ مسَّك ارتعت”.
أود أن تصير كربتي واضحة، وتدرك أنه ليس أحد اختبر مثل هذه الأحزان. تطلع إلى كارثتي، فإنها بطبيعتها تقيم لي عذرًا، وإن كان على وجه الدقة ما يخصني هو أمر لا يغُفر…
لقد برهن أليفاز على أن هذه الكارثة بسبب شره، مقدمًا الحجة على ذلك: “أذكر من هلك وهو بريء، وأين أبيد المستقيمون؟” (7:4). إنه يقول تمامًا كما قال البرابرة عن بولس بعد أن لدغته الحية في مالطة: “لم يدعه العدل يحيا ولو نجا من البحر” (أع 4:28).
يقول: البشر – خاصة العامة – يحكمون على الأحداث بطريقة ساذجة عشوائية، لا يضعون أساسًا لأحكامهم على تصرفات الشخص، بل بالحري على ما يحل به من تأديبات وعقوبات. لهذا يقول أليفاز: “هل المائت (الإنسان) أبرّ من الله؟” (17:4). يجيب أيوب: لا أستطيع أن أجيب، ولا أن أقول إنني أعاني من أحزانٍ كثيرةٍ ومرعبةٍ هكذا دون أن أرتكب أية خطية، فإن الضربات تنطق ضدي. يقول: إني أستطيع أن أقترب من القدير وأناضل معه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v من الذي يُعطى له لقب “الموازين” سوى الوسيط بين الله والإنسان، الذي جاء ليزن استحقاق حياتنا ويُنزل معه كل من العدل والحنو معًا؟
البابا غريغوريوس (الكبير)
لأَنَّهَا الآنَ أَثْقَلُ مِنْ رَمْلِ الْبَحْرِ،
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَغَا كَلاَمِي [3].
كانت كوارثه مضاعفة وثقيلة جدًا لا يُمكن إحصائها ولا وزنها، فهي “أثقل من رمل البحر”. لهذا طلب التماس المعذرة إن “لغا كلامه” أي وجد فيها ما يبدو باطلاً أو ممتزجًا بمرارة، فإنه وسط هذه الآلام يصعب تزيين الكلمات أو حتى ضبطها.
هكذا يعتذر أيوب عما صدر من فمه تعبيرات ثائرة عندما سبَّ يوم الحبل به أو يوم ميلاده. فهو لا يبرر ذلك، لكنه كان يتوقع من أصدقائه أن يضعوا في اعتبارهم حاله قبل أن ينتقدوه. كان يليق بهم أن يترفقوا به وسط هول مصيبته، فهو في حاجة إلى الحنو لا إلى النقد المر.
v إن وضعت كربي في ميزان، أحكامي مع عذابات آلامي، وتزنهم، ليس منفصلين بل جميعًا معًا، تجد أحزانى “أثقل من رمل البحر”. لأن ما أحزن أيوب ليس فقدان ممتلكاته، وخسارة ثروته، وسحق أبنائه، ولا القيح الصادر عن قروحه، بل النتائج المؤلمة التي بلغت إليها روحه… كل أمواج البحر الظاهرة ليست في ثقل الكلمات التي تصدر مع التدمير الصادر عن مقاطعة العدو.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
لأَنَّ سِهَامَ الْقَدِيرِ فِيَّ،
تَشْرَبُ رُوحِي سُمَّهَا،
أَهْوَالُ اللهِ مُصْطَفَّةٌ ضِدِّي [4].
ما هي سهام القدير التي تصوب نحو أولاد الله، فتشرب روحهم؟ إنها سهام الحب التي يصوبها الله نحو قديسيه فيُجرحون بالحب الإلهي، ويشتهون الموت ليَلتقوا معه، ويختبروا محبته الإلهية في أكمل صورها.
يرى كثير من الآباء أن الآب في محبته للبشرية صوٌَب سهمه الثمين، كلمة الله، حيث دفع به نحو قلوب البشر، ليجرحهم بجراحات الحب، فتصرخ النفس: “أنا مجروحة حبًا” (نش 5:2).
وكما يصوب الله سهام حبه نحو قلوبنا ليهبها جراحات الحب الواهبة للشفاء والسعادة على مستوى أبدي، هكذا يقذف عدو الخير سهامه الملتهبة نارًا في قلوب البشر لكي يقتلها، ويؤهلها لجهنم الأبدية (أف 16:16).
هذه الصورة حتمًا منقولة عن عادة شائعة بين الأمم المتبربرة حيث يغمسون رؤوس السهام في مواد سامة، حتى متى أصابت أحدًا تفيض بهم إلي الموت[274].
إن كانت الكوارث التي حلت به لا يمكن لموازينٍ أن تزنها، فإن ما هو أخطر من ذلك السهام الداخلية، سهام القدير التي وُجهت إليه. يرى الله الذي يحبه ويعبده قد جلب عليه تلك المتاعب، وصَّوب سهامه فيه.
شعر كأن حمتها أو السم الذي مُسحت به السهام قد تسرب إلى روحه، ففقد اتزانه وانهارت أعماقه.
لقد وقف مذهولاً. إنه في معركة أمام جيش الله المصطف ضده، يحاربه الله بأهواله، فمن أين له بالتعزية؟ لا يستطيع أن يرفع عينيه إلى السماء، إذ لا يجد تعزيات تحل عليه منها، بل أهوال الله تقاومه.
v مدحت العروس رامي الرمح على تصويبه الدقيق، لأنه رماها بسهمه. فقالت العروس: “إني مجروحة (مريضة) حبًا” (نشيد 5:2). تعنى هذه الكلمات أن سهام العريس قد نفذت إلى داخل قلبها. إن مُصوّب هذه السهام هو الحب (1 يو 8:4)، الذي يرسل “سهمه المختار” (إش 2:49)، الابن الوحيد، إلى هؤلاء الذين يخلصون، ثم يغمس سن السهم الثلاثي في روح الحياة. وسن السهم هو الإيمان وبواسطته يقدم الله مُصوّب السهم وكذلك السهم معًا إلى القلب كما يقول السيد المسيح: “إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبى وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً” (يو 23:14)[275].
البابا غريغوريوس النيسي
v النفس التي ارتفعت إلى درجات إلهية عليا ترى بداخلها سهم الحب العذب الذي جرحها، وتفتخر بهذا الجرح قائلة: “إني مجروحة بالحب“. أيها الجرح الجميل والسهم العذب الذي أدخل الحياة إلى قلبي! فلقد فتح نفاذ السهم بابًا ومدخلاً للحب، وهو التحول الخيالي من رمي السهام إلى فرح العرس. يشير القديس أيوب إلي تلك السهام، وعندما قاسى من آلامه المكثفة أعلن أن سهام الرب طعنته (أي 6: 4). حقًا نتطلع عادة إلي السهام بكونها كلمات الله. ولكن هل استطاع أن يشعر بآلام كثيرة عندما طُعن بها؟
كلمات الله، وإن كانت سهامًا، فهي تثير الحب لا الألم. أو هل هي سهام لأنه لا يوجد حب بدون ألم؟ عندما نحب شيئًا دون أن نملكه لا نستطيع إلا أن نشعر بحزنِ. الإنسان يحب بغير ألم عندما يملك موضوع حبه، فلا يتألم ولا يتأوه. لهذا فإن عروس المسيح في شخص الكنيسة تنطق بهذه الكلمات في نشيد الأناشيد: “فإني مجروحة حبًا” (نش 2: 5؛ 5: 8). تعلن بنفسها أنها مجروحة بالحب. إنها تحب ما لم تبلغه بعد، إنها تحزن لأنها لم تقتنه بعد. وإذ تحزن تُجرح، ولكن هذا الجرح يُحضرها سريعًا إلي كمال الصحة الحقيقية. من لا يُضرب بهذا الجرح لن يقدر أن يبلغ تمام الصحة الحقيقية[276].
v “سهامك انغرست فيٌ، ويدك ثقلت عليٌ” (مز 2:38)… ذات العقوبة (التي على آدم)، ذات السخط، أي آلام كل من الذهن والجسد، هي ضرورة يلزمنا أن نحتملها هنا، هذه التي وصفها بأنها “سهام“. وقد أشار أيوب إلى ذات السهام (4:6)، وقال إن سهام البرّ انغرست فيه، بينما كان يعاني تحت تلك الآلام.
لقد اعتدنا أيضًا ان ندعو كلمات الله سهامًا كمن تهب الحب لا الألم… لنفهم إذن “سهامك انغرست” هكذا: “كلماتك انغرست في قلبي“.
بهذه الكلمات ذاتها يحدث أن أتذكر السبت، وبتذكري السبت (الأبدية) وعدم نوالي إياه، أُحرم من الفرح في الوقت الحاضر، وأتذكر أنه ليس لي صحة في جسدي، بل ولا يليق بي أن أحسبها صحة عندما أقارنها بالصحة التي أنالها في الراحة الأبدية، حينما يلبس هذا الفاسد عدم الفساد، وذاك المائت عدم الموت (1 كو 53:15)، وأرى بمقارنة ما سأكون عليه أن الصحة الحاضرة ليست إلا مرضًا[277].
القديس أغسطينوس
v إنها تطعنني بهذه الطريقة، ليس مجرد رُشقت في جسمي، بل حرمتني من الحكم المتزن.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لأن سهام الرب في جسمي، عنفها يشرب دمي، كلما أردت الكلام تطعنني” (أي 6: 4). انسحق أيوب بهذه السهام. هذا ما تغنى به داود في المزامير: “لأن سهامك قد انتشبت في، وثقلت يدك عليّ” (مز 2:38). فإن كليهما يتحدثان عن أحزان يصوبها الأعداء ضدهما بسماح من الله، ولهذا السبب يقول أيوب: “عنفهم يشرب دمي“. كأنه يقول: “غنى نفسي قد اُستنزف، لا أستطيع أن أصمد في مواجهة هذه التي تفسدني بوجه متقد. فإنه إذ يبدأ أيوب يتحدث تطعنه الآلام. خاصة عندما يطول الحديث، فإن جراحاته تظهر بوضوح في أكثر قوة، لذا يضع لجامًا يكتم كلماته خشية أنها لا تسر الله تمامًا.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
هَلْ يَنْهَقُ الْفَرَاُ عَلَى الْعُشْبِ،
أَوْ يَخُورُ الثَّوْرُ عَلَى عَلَفِهِ؟ [5]
كان يليق بهم عوض نقده أن يشاركوه آلامه، فإن شكواه ومرارة نفسه ليست من فراغ، فالحيوانات غير العاقلة لن تصرخ بدون سبب.
عبٌر أيوب عن حال الهزال الذي بلغه بسبب كثرة الكوارث وشدتها وعنصر المفاجأة بجانب عدم مبالاة أصدقائه لحاله، فعوض تقديم كلمة تعزية تسنده، بدأوا يكيلون له اتهامات كثيرة وخطيرة.
صار أشبه بحجرٍ بلا إحساس، ليس في قدرته أن يعبر عما في داخله، فلا يقدر أن ينهق مثل الفرا (الحمار الوحشي) لأنه لا يجد عشبًا، ولا يصيح (يخور) كالثور على علفه. اضطر أن يأكل طعامًا لا يليق به كإنسان دون أن يفتح فاه.
لقد صار في موقفٍ لا يُحسد عليه، فهو يعلم أنه لا يقدر أن يتبرر أمام الله، لكنه كان يترقب كلمات تعزية من أصحابه، تفتح أمام نفسه المحطمة أبواب الرجاء، لا أن يحطمه اليأس.
يرى البابا غريغوريوس أنه صار كمن سقط تحت لعنة الناموس الفاضح للخطية دون أن تمتد إليه النعمة لتقيمه. حقًا ليس في الناموس خطأ، إنما الحاجة إلى النعمة الغافرة للخطايا التي كشفها الناموس. كان يليق بأصدقاء أيوب أن يسندوه بالتطلع إلى نعمة الله، لا أن يبكتوه بمرارة ويحطموا نفسه.
v هل يمكن لأحدٍ أن يذوق ما يجلب موتًا بتذوقه؟ فإن من يتذوق الناموس بطريقة جسدانية يجلب موتًا، إذ وصيته تُظهر الخطية ولا تزيلها… كما يشهد بولس قائلاً: “إذ الناموس لم يكمل شيئًا” (عب 19:7). وأيضًا: “إذ الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة” (رو 12:7-13)، بعد ذلك يقول للحال: “لكي تظهر خطية منشئة لي بالصالح موتًا لكي تصير الخطية خاطئة جدًا بالوصية” (رو 13:7)
البابا غريغوريوس (الكبير)
v وصايا موسى هي “خدمة الدينونة“، أما النعمة بالمخلص فيدعوها “خدمة البرّ” التي فاقت في المجدٍ…
الناموس الذي يدين أُعطي بموسى، وأما النعمة التي تبرر، فقد صارت بواسطة الابن الوحيد. فكيف لا يكون المسيح فائق المجد وبما لا يمكن مقارنته؟[278]
القديس كيرلس الكبير
v يدين الناموس الخطاة، وأما النعمة فتتقبلهم وتبررهم بالإيمان. إنها تقودهم إلى المعمودية المقدسة وتهبهم غفران الخطايا[279].
ثيؤدورت أسقف قورش
v مازال اليهود عند مارّة مقيمين عند المياه المرة، لأن الله لم يرهم بعد الشجرة التي يصير بها الماء عذبًا[280].
v ألقى الرب بشجرة في المياه، مما جعلها عذبة. أما عندما تأتي شجرة (صليب) يسوع، ويسكن في داخلي تعليم مُخلصي حينئذ يصير ناموس موسى “عذبًا”، ويصير مذاقه، لمن يقرأه ويفهمه، بالحقيقة حلوًا”[281].
العلامة أوريجينوس
هَلْ يُؤْكَلُ الْمَسِيخُ بِلاَ مِلْحٍ،
أَوْ يُوجَدُ طَعْمٌ فِي مَرَقِ الْبَقْلَةِ؟ [6]
كان أيوب ملحًا نزع بنعمة الرب وبحبه الفائق الفساد عن كثيرين، مقدمًا لهم تعزيات سماوية صادقة، والآن إذ دخل في بوتقة التجارب لم يقدم له أحد ملحًا. لقد صار في فقرٍ مادي مدقعٍ، وفي فقره لم يجد ملحًا يملح به الطعام الماسخ الذي يتصدق به البعض عليه.
v “هل يمكن للطعام الكريه أن يؤكل بدون ملح؟” (أي 6:6) في الناموس المعنى الخفي هو ملح الحرف. فمن يعتمد على الملاحظات الجسدية ويرفض فهم المعنى الروحي ماذا يفعل سوى أنه يأكل طعامًا كريهًا؟ ولكن هذا الملح، أي الحق، يوضع في الطعام عندما تعلم أن رائحة المعنى الخفي توجد في أعماق الناموس، قائلاً: “لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني” (يو 46:5). وأيضًا: “ليكن لكم في أنفسكم ملح، وسالموا بعضكم بعضًا” ( مر 50:9).
البابا غريغوريوس (الكبير)
عَافَتْ نَفْسِي أَنْ تَمَسَّهَا،
فَصَارَتْ خُبْزِيَ الْكَرِيهِ! [7]
ما كانت نفسه تعافه في أيام رخائه، وما لم يكن قادرًا أن يمسه بيده صار خبزه الكريه. يقول المرتل:“صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلاً، إذ قيل لي كل يوم: أين إلهك؟” (مز 42: 3). “قد أطعمتهم خبز الدموع، وسقيتهم الدموع بالكيل” (مز 80: 5). “إني قد أكلت الرماد مثل الخبز، ومزجت شرابي بدموعٍ” (مز 102: 9). “قال الرب: هكذا يأكل بنو إسرائيل خبزهم النجس بين الأمم الذين أطردهم إليهم” (حز 4: 13). كما قيل: ” قل لشعب الأرض هكذا قال السيد الرب على سكان أورشليم في ارض إسرائيل، يأكلون خبزهم بالغم، ويشربون ماءهم بحيرةٍ، لكي تخرب أرضها عن ملئها من ظلم كل الساكنين فيها” (حز 12: 19). “هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمات الرب” (عا 8: 11).
v “ما عافت نفسي أن تمسها، هذه صارت مثل خبزي الكريه” (أي 7:6). قبلاً كانت النفس مهتمة فقط بما لنفعها، مشمئزة من أن تحمل أثقال الغير، عطفها على الآخرين قليل، وكانت عاجزة عن أن تواجه المضادين. الآن تلزم نفسها أن تحتمل ضعف قريبها. إنها تحتاج إلى قوة لتغلب المضاد، حتى بحب الحق تطلب متاعب الحياة الحاضرة بشجاعة عظيمة هكذا، حتى الأمور التي كانت قبلاً تهرب منها في ضعفها. فبانحنائها (من أجل الغير) تُبنى. بانجذابها إلى الغير تمتد إلى قدام، وبمشاركتها المشاعر تتقوى، وإذ تنفتح لحب قريبها تكون كمن بتصميم عزيمتها ترتفع نحو خالقها.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v بنفس الطريقة كما أن الحمار (الوحشي) لا يختار أن ينهق بلا سبب، ولا الثور أن يخور عند المزود، هكذا لا يختار أحد أن يأكل خبزًا بدون ملح، ولا أن يصغي إلى كلمات باطلة. بالحقيقة قدم أمثلة مستحيلة للغاية.
يقول هكذا: ما كنت قد اخترت أن أنتحب على هذا الأمر، لو لم توجد ضرورة تحثني على هذا. فإن كان ليس من المقبول أكل خبز بلا ملحٍ، فليس أقل من أن ألتزم بالنحيب وأتوجع وانطق بكلمات زائدة…
“فإن نفسي لا تجد راحة”، لماذا؟ لأني أعرف أن طعامي له رائحة تعافه النفس كرائحة الأسد.
القروح والصديد لا يكفيان، فأضاف عذابًا جديدًا.
المرض قد أفسد كل أحاسيسه حتى صار الطعام بالنسبة له عذابًا.
يقول إن الغثيان مع رائحة كريهة للغرغرينا نزعت تمييزه الحسي. أي شيء أكثر عذابًا من هذا؟ النوم لا يعطى راحة والطعام لا يقوته!
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الموت هو نهاية المتاعب
يَا لَيْتَ طِلْبَتِي تَأْتِي،
وَيُعْطِينِيَ اللهُ رَجَائِي! [8]
وبخ أليفاز أيوب بعنفٍ لأنه طلب الموت، وبدلاً من أن يسحب ما قاله عاد أيوب يكرر ذلك أكثر من قبل، وقد سجل لنا السفر كلماته، لا لنقتدي به، وإنما لكي ينذرنا.
لقد سأل الله أن يحقق طلبته ويهبه رجاءه، لا بأن يعبر به التجربة، بل أن يتعطف عليه بالموت.
أَنْ يَرْضَى اللهُ بِأَنْ يَسْحَقَنِي
وَيُطْلِقَ يَدَهُ فَيَقْطَعَنِي [9].
ما يرجوه أيوب وسط ضيقته أن الله الذي مّد يده عليه فافتقر ثم تثكل ومرض، يمد يده بالأكثر فيسحقه ويأخذ حياته. ومع هذا لم يفكر قط في الانتحار، على عكس الفيلسوف سينكا الذي كان يشجع على الانتحار كوسيلة شرعية للتخلص من الآلام التي لا تُحتمل، الأمر الذي ليس فيه احترام لناموس الله، ولا ناموس الطبيعة.
اشتهى أيوب سرعة موته، وقد حوَّل هذه الشهوة إلى طلبة يقدمها لله، لكنها صلاة أو طلبة ليست حسب مشيئة الله.
فَلاَ تَزَالُ تَعْزِيَتِي وَابْتِهَاجِي فِي عَذَاب لاَ يُشْفِقُ،
أَنِّي لَمْ أَجْحَدْ كَلاَمَ الْقُدُّوسِ [10].
مع رغبته الشديدة في الخلاص من الآلام بالموت إلا أن قلب أيوب يحمل لمسات روحية، فيترقب في إيمان التمتع بالتعزية والبهجة بعد خروجه من العالم. واضح أن أيوب كان له ضمير صالح ورجاء حي في الأبدية، وإن كان قد توقع عذابًا أليمًا يلحق به قبل موته “ابتهاجي في عذاب لا يشفق“.
“لا يشفق” أو “دعه لا يشفق“، كأنه يقول: “لست ابتغي أن يشفق الله عليّ، بل ليسمح بالآم الموت التي تضع حدًا لآلامي وتدخل بي إلى الراحة.
في جسارة غير لائقة يتحدى أيوب الرب الله ويقول: “دعه لا يشفق!”
مزج أيوب عتابه – حتى وإن تعدى الحدود – بإيمانه وتمسك بكلام الله، إذ يقول: “لم أجحد (أكتم) كلام القدوس“. فكان يحسب نفسه مؤتمنًا على كلام الله القدوس، ربما تمتع برؤى إلهية. كأنه يقول مع الرسول بولس إنه لم يقبل نعمة الله باطلاً (2 كو 6: 1). كان مستعدًا أن يتمتع بالكلمة الإلهية، وأن يشهد لها للغير ليتمتع الآخرون معه بها.
قانون حياته هو كلمة القدوس، لم يخجل منها ولا يتراخى في الشهادة بها.
يرى القديس مار يعقوب السروجي أنه لا يستطيع حتى الموت أن يكتم فمه عن الشهادة والتسبيح لله.
v يا رب لن أتوقف عن تسبيحك، حتى بعد وفاتي.
من يحيا لك وبك لا يموت؛
ولا يقوَ صمت الموت على إسكاته.
إذن، فليتكلم بفمي، ليُكررّ بعد موتي في المستقبل.
v أنت هو الكلمة التي تعطى كلمة للمتكلمين،
بك يتكلم جميع المتكلمين من أجلك.
شعاعًا وإشراقًا ونورًا عظيما أشرق فيّ فأنظر إليك.
فبنظري لك تستضيء النفس، فتقتني الصلاح.
وحين تبتعد منك النفس تمتلئ ظلامًا،
وإذا ما تفرست فيك لبست النور لتنطق بكلام خبرك…
الصمت والكلام قائمان عليّ يطالبانني.
يا رب دبر حياتي كإرادتك.
إن صمت أدهش، إذ أشعر بعدم كفايتي في (للكلام).
اصمت في دهشة، وليس بطغيان باطل.
وإن تكلمت تكون كلمتي حسب مجدك ولأجلك.
عندما تمتلئ النفس بالصمت في دهشٍ بك، يكون هذا الصمت حديثًا مملوءً بكل منفعة. وإذا ما تحركت النفس لتمجدك بمحبة… فبالحب أتحرك، وأتحرك لأمجدك. وفي دهش أصمت ولا اهدأ من تمجيدك.
هب لي يا رب الدهش (بالصمت) والكلمة فأغتني. وفي كل يوم أدهش، وفي كل يوم أتحرك بالكلام!
القديس مار يعقوب السروجي
v يقول: بالتأكيد لست أقدم لك أمرًا فيه أي تناقض. فإنه ليس لدي ضمير ينجذب للتشبه بهذه الأشياء التي تنطق بها. في بساطةٍ أقول إنني احتمل تأديبات تتعدى حدود الطبيعة، فإن المحن التي حلت بي تفوق طاقة الجسم البشرى… إنه لم يقل: “لقد اجتزت آلامًا بالرغم من إني بار”، بل يقول إنه لا يقدر أن يحتملها كما يقول داود: “تراءف عليّ يا رب، فإني ضعيف” (مز 2:6).
القديس يوحنا الذهبي الفم
v “إني لم أجحد كلام القدوس”. غالبًا ما تكون كلمات الله لنا ليست أصوات كلمات بل هي فرض أعمال علينا. فإنه يتحدث معنا بالأمور التي يعملها معنا في صمتٍ. لذلك فإن الطوباوي أيوب يكون قد جحد كلام الله لو أنه تذمر على الضربات عليه. ولكن تظهر مشاعره من نحو ضاربه بدعوته إياه “القدوس“، خاضعًا لذاك الذي يضربه.
v “إني لا أجحد كلام القدوس“. إنه لم يتذمر قط على ظلم ذاك الذي ضربه. ففي وسط ضرباته يدعو الضارب “القدوس“. لكن يلزمنا أن ندرك أنه أحيانًا يقوم الخصم بضربنا بالأحزان، وأحيانًا يقوم الله بذلك…
بضربات الخصم نحن نختلس الفضيلة، وعندما تنكسر عاداتنا الشريرة بضربات الرب نصير أقوياء في الفضيلة.
لقد سبق فرأى النبي هذه الضربة عندما قال: “ترعاهم بقضيبٍ من حديدٍ، ومثل آنية الفخاري تسحقهم” (مز 9:2). فالرب يرعانا ويكسرنا بقضيب من حديد، بعصا البٌر القوية حسب تدبيره، بينما يحّيينا من الداخل، يحزننا من الخارج. فإنه يحط من قوة الجسد ويسمو بغاية الروح.
هكذا تشَّبه هذه الضربة بآنية الفخاري، كما يقول بولس: “لنا كنز في أوانٍ خزفية” (2 كو 7:49). ويصف التحطيم مع الرعاية قائلاً: “وإن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدد يومًا فيومًا” (2 كو 16:4). ليت الإنسان القديس الذي يتوق إلى الاقتراب من الله، يعلن بقوة بروح التواضع حتى من خلال الضربات التي تحل به.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v أعلن بصراحة: “إنني لا أفتري على إلهي القدوس”. هذا معناه: إنني لا أبالي بهذه الحياة، لا أخشى الرحيل من هذا الجسد، إذ لا أود أن أُوجد كاذبُا في علاقتي بالشهادات التي قدمها عني الله القدوس (1:1، 3:2). فإن الله لا يشهد عن قداسة أحدٍ إلا للذين يجدهم يمارسون أعمال القديسين. لقد قال أيضًا: “ليس أحد مثل أيوب على الأرض” (8:1، 3:2). لهذا يلزم أن نكون حريصين خلال هذه الحياة الفاسدة، إذ ليس من الممكن للناس الجسدانيين أن يتقبلوا شهادة من الله لها أهميتها كهذه وبذات السمة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
مَا هِيَ قُوَّتِي حَتَّى أَنْتَظِرَ؟
وَمَا هِيَ نِهَايَتِي،
حَتَّى أُصَبِّرَ نَفْسِي؟ [11]
لم يكن أيوب يترجى أن يرى أيامًا صالحة بعد، فقد بلغت صحته إلى الحضيض، وصار في حالة ميئوس منها. ليس بعد من شفاء لجسمه، ولم تعد بعد فيه قوة للانتظار. لقد أدرك أيوب ما بلغ إليه من ضعف، وكان يليق به أن يترجى ذاك الذي يحمل ضعفنا عوض اشتهاء الموت عن يأسٍ.
v ما هي قوتي حتى استمر؟ وما هي نهايتي حتى تهدأ نفسي؟” حياتي قصيرة المدى (5:14) كم من مدارات للشهور والسنين تحتويها؟ كيف لا انزعج على هذه الحياة السريعة الزوال؟
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v شفق السيد (المسيح) على ضعفه (آدم)، ودخل يقبل الخزي عوضًا عنه!
v يا نور المسيح، الذي ينير العيون المظلمة، دعْ نورك يضيء على ضعفي، حتى استنير بك.
القديس مار يعقوب السروجي
v لنضع على رؤوسنا خوذة الخلاص، لكي لا نُجرح ونموت في المعركة. لنمنطق أحقاءنا بالحق، فلا نوجد ضعفاء في القتال.
لنقم ونوقظ المسيح، فيهدئ الأمواج عنا.
لنأخذ الترس تجاه الشرير، كاستعدادٍ لإنجيل مخلصنا (أف 6: 15-16).
لنقبل من ربنا السلطان أن نسود على الحيات والعقارب (لو 10: 19)…
لنفرح في رجائنا في كل وقتٍ (رو 12: 12)، حتى يفرح بنا ذاك الذي هو رجاؤنا ومخلصنا…
لنأخذ لأنفسنا سلاحًا للمعركة (أف 6: 16)، هو الاستعداد للإنجيل.
لنقرع باب السماء (مت 7: 7)، فيُفتح أمامنا وندخل فيه.
لنسأل الرحمة باجتهاد، فننال ما هو ضروري لنا. لنطلب ملكوته وبره (مت 6: 33).
لنتأمل في ما هو فوق، في السماويات، حيث المسيح صاعد وممجد.
لكن لننسى العالم الذي هو ليس لنا، حتى نبلغ الموضوع الذي نحن مدعوون إليه.
لنرفع أعيننا إلي العلا لنرى الضياء المتجلي.
لنرفع أجنحتنا كالنسور، لنرى حيث يكون الجسد (مت 24 28)…
عدونا حاذق يا عزيزي، ومحتال ذاك الذي يقاتلنا. يُعد نفسه للهجوم على الشجعان الظافرين، ليجعلهم ضعفاء. أما الواهون الذين له فلا يحاربهم، إذ هم مسبيون مُسلمون إليه.
من له جناحان يطير بهما عنه، فلا تبلغ إليه السهام التي يقذفها نحوه؟ يراه الروحيون يحارب، ولا يتسلط سلاحه على أجسادهم. لا يخافه كل أبناء النور، لأن الظلمة تهرب من أمام النور. أبناء الصالح لا يخشون الشرير، لأنه أعطاهم أن يطأوا عليه بأقدامهم (تك 3: 15)[282].
القديس أفراهاط
هَلْ قُوَّتِي قُوَّةُ الْحِجَارَةِ؟
هَلْ لَحْمِي نُحَاسٌ؟ [12]
v “هل قوتي قوة الحجارة؟ أو هل لحمي نحاس؟” (أي 6: 12) حتى إن كانت قوتي كقوة الحجارة أو النحاس، فإن العذابات الصادرة عن العدو تجعلها تتراجع، لأنه يحسب الحديد كالقش، والنحاس مثل خشب مسوس (أي 18:41). إن كان الله يقول هذا عن العدو، فمن الضروري إذن أن نبحث عن الرحيل من هذا الجسد من كل جانب.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v من الضروري أن نضع في الذهن أن “قوة” الأبرار من نوعٍ معينٍ، وقوة الفاسدين من نوعٍ آخر.
فقوة الأبرار هي أن نُخضع الجسد ونقاوم إرادتنا الذاتية، ونبيد مسرة الحياة الحاضرة، ونحب خشونة هذا العالم من أجل المكافآت الأبدية، وأن نستخف بإغراءات الرخاء، وأن نغلب رُعب المحن في قلوبنا، أما قوة الفاسدين فهي التعلق غير المنقطع بالأمور الزائلة، وطلب المزيد المستمر من المجد الباطل، حتى مع ضياع الحياة، والبحث عن مقاييس أكبر للشر، ومقاومة حياة الصالحين، ليس فقط بالكلمات، والسلوك وإنما أيضًا بالسلاح، لكي يعتدوا بذواتهم، وارتكاب الشر يوميًا دون أي نقص في الشهوة.
لذلك قيل للمختارين بالمرتل: “لتتشدد ولتتشجع قلوبكم يا جميع المنتظرين الرب” (مز 24:31). وأُعلن للفاسدين بواسطة النبي: “ويل للأبطال على شرب الخمر، ولذوي القدرة على مزج المسكر” (إش 22:5).
كيف أدرك إشعياء حسنًا كلا النوعين من القوة في الكلمات: “وأما منتظرو الرب فيجددون قوة” (إش 31:40). فإنه إذ لم يقل: “ينالون” بل قال: “يغيرون” (يجددون) قوة، يدرك بوضوح أن القوة التي يتركونها من نوعٍ والتي تدخل فيهم من نوع آخر.
v ما نشير إليه هنا بالنحاس والحجارة ليس ضربات العلي التي لم تلن بواسطة أية ضربات للتأديب؟ على العكس قيل للمختارين بالنبي بوعد من الرب: “وأنزع قلب الحجر من لحمهم، وأعطيهم قلب لحمٍ” (حز 19:11).
البابا غريغوريوس (الكبير)
لم يكن ممكنًا لأيوب أن يتكل على قوته الذاتية، بل يضع رجاءه في ربنا يسوع واهب القوة.
v بين كل المولودين الذين لبسوا جسدًا واحد هو البار، إنه يسوع المسيح، كما يشهد عن نفسه، إذ قال: “أنا قد غلبت العالم” (يو 16: 33). وشهد عنه النبي أيضًا: “لم يعمل ظلمًا، ولم يكن في فمه غش” (إش 35: 9). وقال الرسول الطوباوي: “لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا” (2 كو 5: 21). كيف جعله خطية؟ حمل الخطية دون أن يرتكبها، وسمرها على الصليب (كو 2: 14). يقول الرسول أيضًا: “الذين يركضون في الميدان جميعهم يركضون، ولكن واحدًا يأخذ الجعالة” (1 كو 9: 24).
أضف إلي هذا أنه ليس من بين البشر من نزل إلي المعركة ولم يُجرح أو يُضرب، لأن الخطية سيطرت منذ تعدى آدم الوصية (رو 5: 14)، فضربت الكثيرين، وجرحت الكثيرين، وقتلت الكثيرين. ولم يقتلها أحد من بين الكثيرين حتى جاء مخلصنا على صليبه. كان لها شوكة تخز الكثيرين، حتى جاءت النهاية، وتحطمت شوكتها حين سُمرت على الصليب[283].
القديس أفراهاط
أَلاَ إِنَّهُ لَيْسَتْ فِيَّ مَعُونَتِي،
وَالْمُسَاعَدَةُ مَطْرُودَةٌ عَنِّي! [13]
v “ليس من معونة لي من نفسي” [13]. كان الطوباوي أيوب غنيًا في الفضيلة إلا أنه لم يكن معتدًا بذاته، فتكلم هكذا كمن هو بلا قوة… واضح الآن أنه كمن ضُرب فكره من جهة الرجاء، متطلعًا أن لا رجاء له من نفسه. لكنه إذ يعلن أنه ضعيف في ذاته يضيف أيضًا أن أقرباءه قد هجروه. “أيضًا أصحابي تركوني”. لكن لاحظوا أن ذاك المحتقر من الخارج يجلس في الداخل على كرسي الحكم. ففي اللحظة التي فيها يعلن عن نفسه أنه متروك للحال يكسر ذلك بالنطق بالحكم بالكلمات: “من ينزع الحنو عن صاحبه ينسى مخافة الرب”.
البابا غريغوريوس (الكبير)
كان أيوب يئن من أصدقائه لأنهم تركوه في محنته، أما ربنا المجد يسوع فلم يترك محبوبه الإنسان، بل عبر إليه حتى إلى الجحيم ليحرره منه.
v إذ جاء يسوع قاتل الموت، والتحف بجسدٍ من نسل آدم، وصُلب بجسده، وذاق الموت، وعندما أدرك الموت أنه قد جاء إليه ارتعب في موضعه، وارتبك إذ رأى يسوع. لقد أغلق أبوابه ولم يرد أن يلتقي به. عندئذ فجَّر أبوابه، ودخل إليه وسلبه غنائمه.
وعندما رأى الأموات نورًا في الظلمة، رفعوا رؤوسهم من عبودية الموت، وتطلعوا ورأوا سمو المسيا الملك. عندئذ جلست قوات الظلمة في حدادٍ، إذ سُلبت سلطة الموت منهم.
ذاق الموت الدواء القاتل له، وسقطت يداه، وتعلم أن الأموات سيقومون ويهربون من سلطانه. وإذ أصاب (يسوع) الموت بسلبه ممتلكاته ولول وصرخ عاليًا في مرارة، قائلاً: “أبعد عن مملكتي، لا تدخلها. من هو هذا الحي الذي يدخل عالمي؟”
وإذ كان الموت يصرخ مرتعبًا (إذ رأى الظلمة بدأت تزول، وقام بعض الأبرار الراقدين ليصعدوا معه) أدرك أنه عندما يأتي في كمال الزمن، سيخرج كل المحبوسين من تحت سلطانه، ويذهبون ليروا النور.
لذلك عندما أكمل يسوع خدمته بين الموتى، أخرجه الموت من مملكته، ولم يسمح له بالبقاء فيها. وحسب أن افتراسه له كبقية الموتى ليس فيه مسرة، إذ ليس له سلطان على القدوس، ولا يقدر أن يحل به فساد…
كما أن الإنسان متى أخذ سمًا في الطعام الذي يُعطى للحياة، ويدرك في نفسه أنه أكل سمًا في الطعام، يتقيأ الطعام المختلط بالسم من بطنه، لكن تبقى فاعلية السم عاملة في أعضائه، حتى ينحل كيان الجسم قليلاً قليلاً ويفسد. هكذا موت يسوع أبطل الموت، إذ به تملك الحياة، ويبطل الموت، هذا الذي يُقال له: “أين غلبتك يا موت؟” (1 كو 55:15)[284].
القديس أفراهاط
- نقده لقسوة أصدقائه
حَقُّ الْمَحْزُونِ مَعْرُوفٌ مِنْ صَاحِبِهِ،
وَإِنْ تَرَكَ خَشْيَةَ الْقَدِيرِ [14].
يوبخ أيوب أصدقاءه على عنفهم وقسوتهم. حقًا لم يتكلم سوى أليفاز، لكن ظهرت علامات القبول والموافقة من الصديقين الآخرين. يشعر أيوب أن قسوتهم صارت علة جديدة ليتمنى الموت، لأنه أية راحة له في هذا العالم إن كان أصدقاؤه الذين جاءوا ليعزوه صاروا معذبين له؟
إنه من حق الإنسان الحزين أن يُقدم له المستريحون عطفًا، ويظهروا له محبة خالصة، ويطيبوا خاطره، ويستمعوا إلى شكواه، ويمزجوا دموعه بدموعهم. هذا ما يليق بهم كأعضاء مع الحزين في ذات الجسد الواحد.
من لا يقدم حنوًا للمتألم يكون قد ترك خشية القدير، أي فقد مخافة الرب لأنه كيف تثبت محبة الرب ومخافته فيمن لا يبالى بآلام أخيه (1 يو 3: 17)؟
الشدائد هي محك الصداقة؟ تكشف الأصدقاء بالحق ممن يدعون الصداقة. “الأخ للشدة يولد” (أم 17: 17).
v توجد وصيتان للحب: محبة الله ومحبة قريبنا. بحب الله يصير لمحبة القريب وجودها. وبمحبة القريب تتشدد محبة الله. فمن لا يبالي بمحبة الله بالحق لا يعرف شيئًا عن كيفية محبة القريب، وحين نتقدم بأكثر كمالٍ في محبة الله نرضع لبن الحب نحو قريبنا.
لأن محبة الله تلد محبة القريب، لذلك عندما تحدث الرب بصوت الناموس ونطق بالكلمات: “تحب قريبك” سبق ذلك قوله: “تحب الرب إلهك” (مت 37:22؛ تث 5:6، 10، 12)… مرة أخرى محبة الله تتقوى بحب قريبنا، وقد شهد يوحنا بذلك إذ يقول: “من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟” (1 يو 20:4)… بهذا يقول بحق حكيم: “لا يمكن معرفة صديق وقت الرخاء، ولا يمكن أن يختفي عدو وقت المحنة” (ابن سيراخ 8:12).
البابا غريغوريوس (الكبير)
v لا يكفي أن نظهر رحمة، وإنما يليق بنا أن نقدّمها باتساع، بروح سمِحة، وليس فقط بروح سمِحة بل بروح فرحة مبتهجة…
وقد ركّز على نفس النقطة بقوّة عندما كتب إلى أهل كورنثوس ليحثّهم على الاتساع، إذ يقول: “من يزرع بالشح فبالشح أيضًا يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد“ (2 كو 9: 6). ولكي يصحّح مزاجهم يقول: “ليس عن حزنٍ أو اضطرارٍ“ (2 كو 9: 7)… فإنك إن حزنت وأنت تصنع رحمة فأنت قاس وعنيف.
إن كنت حزينًا كيف تقدر أن تسند الذين هم في حزن؟… هذا هو السبب في قوله “الراحم فبسرور“، لأنه كيف يكون حزين الملامح من يتقبّل الملكوت؟! من يبقى كئيب النظرة وهو ينال غفران خطاياه؟ إذن لا تفكّر في إنفاقك المال (عمل الرحمة)، بل في الفيض الذي تناله خلال الإنفاق. فإن كان الذي يبذر يفرح مع أنه يبذر وهو غير متأكد من جهة الحصاد، كم بالأكثر من يُفْلِح السماوات؟ فإنك تعطي إنما القليل لتنال الكثير… بالفلسين حُسبت الأرملة أنها فاقت من قدّم وزنات كثيرة وذلك بسبب روحها المتسع[285].
v يرتبط القوي بالضعيف فيسنده، ولا يسمح بهلاكه.
مرة أخرى إن ارتبط بشخص متكاسل يقيمه ويدفعه للعمل. قيل: “أخ يعينه أخ هو مدينة قوية”. هذه لا يفوقها بعد المسافة ولا السماء ولا الأرض ولا الموت، ولا أي أمر آخر، إنما هي أقوى وأكثر فاعلية من كل الأشياء. هذه وإن صدرت عن نفسٍ واحدةٍ، قادرة أن تحتضن كثيرين دفعة واحدة.
اسمع ما يقوله بولس: “لستم متضايقين فينا بل متضايقين في أحشائكم. كونوا أنتم أيضًا متسعين”[286].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v “الصديق الأمين دواء الحياة” (ابن سيراخ 6 : 16).
لا يوجد علاج مؤثر في شفاء الأوجاع مثل الصديق الصادق الذي يعزيك في ضيقاتك، ويدبرك في مشاكلك، ويفرح بنجاحك، ويحزن في بلاياك. من وجد صديقًا هكذا فقد وجد ذخيرة. فالصديق الأمين لا شبيه له، فوزن الذهب والفضة لا يعادل صلاح أمانته (انظر ابن سيراخ 6 : 14، 15).
v بحق ليكن لك صديق تدعوه “نصف نفسي”.
v لا توجد صداقة حقيقيّة، ما لم تجعلها كوصلة تلحم النفوس، فتلتصق معًا بالحب المنسكب في قلوبنا بالروح القدس.
v لا يوجد علاج مؤثر لشفاء الآلام مثل الصديق الصادق الذي يعزيك في ضيقاتك.
القدّيس أغسطينوس
أَمَّا إِخْوَانِي فَقَدْ غَدَرُوا مِثْلَ الْغَدِيرِ،
مِثْلَ سَاقِيَةِ الْوِدْيَانِ يَعْبُرُون َ[15].
إذ جاءوا معًا ليعزوه، وبقوا سبعة أيام وسبع ليالِ صامتين، كان ينتظر منهم كلمة تعزية تطفئ اللهيب الداخلي، لكنهم انقضوا عليه بوحشية كمن يغدرون به، يكيلون له الاتهامات الباطلة، ويصبون على جرحه ما يلهبه، بدلاً من تقديم زيت يلطف من التهابه.
v “أقرب معارفي لم يسندوا احتياجاتي“. ذلك لمجرد تجاهل الله له جعل أقرباءه يستخفون به وسط مثل هذه الآلام. ففي كل مرة يبتعد الله، يُحرم الإنسان من ملجأه، ويصير الكل ضده معادين له. يقول لم يعرفني أحد في محنتي. لكن هذا في خطورة ان “كل الذين اعتادوا أن يكرموني صاروا الآن ضدي”. هذا أمر سيء للغاية أن يسحق الشخص تحت قدميه إنسانًا منبطحًا. يبدو لي أنه كان يلمح بذلك إلى أصدقائه الذين كانوا معه.
v لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شرّه، ولا يعود بعد عدوًا لكم. إنه عدوّكم لا بسبب طبيعته البشريّة وإنما بسبب خطيّته!
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أيوب يشبه أصدقاءه بالخائفين من الجليد الذي يتجمد من أسفل ويسقط عليهم الثلج النازل من أعلى. أنهم يطأون بأقدامهم من حلت بهم المحن الزمنية الأرضية، إذ يطلبون مجد العالم، ولا يدركون أنه ستحل بهم العقوبة السماوية كثلجٍ ساقطٍ عليهم لا يستطيعون الهروب منه.
v لنتبعه وهو مُضطهد وهارب من عناء مقاوميه، حتى أننا نحن أيضًا “نصعد إلى جبلٍ ونجلس معه“. فنرتفع إلى نعمة مجيدة، أسمى من كل شيءٍ، ونملك معه. وكما قال بنفسه: “أنتم الذين تبعتموني في تجاربي متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده في التجديد، تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيًا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر” (مت ١٩: ٢٨؛ لو ٢٢: ٢٨).
القدِّيس كيرلس الكبير
الَّتِي هِيَ عَكِرَةٌ مِنَ الْبَرَدِ،
وَيَخْتَفِي فِيهَا الْجَلِيدُ [16].
جاءوا في مظهر الغدير الذي يقدم ماءً للظمآن، فقدموا له ماءً محملاً بالطين، ويختفي فيه الجليد، لا يمكن شربه.
يئن أيوب من تعزيات أصدقائه العكرة، المملوءة وحلاً. فإنه من فضلة قلوبهم الترابية يقدمون وحلاً. ومن برود محبتهم يقدمون ثلجًا. هكذا كل نفس تضع رجاءها في تعزيات البشر، لا تتقبل إلا وحلاً وجليدًا. التي عوض أن تروي النفوس المجروحة، تحطمها بما تخفيه من الفكر الترابي الزمني، ومن البرود الروحي.
أما من يتقبل تعزيات الروح القدس التي ترفع النفس إلى السماء، وتحررها من وحل هذا العالم، وتهبها حرارة الروح. فيتحول قلبه الترابي بماء الروح إلى فردوسٍ سماوي. ينزع الروح من داخله كل محبة للأرضيات، فيترنم: “أَجلسنا معه في السماويات”. يبدد كل برود للنفس، واهبًا لهيب الحب الفائق، لا تستطيع كل مياه العالم أن تطفئه.
v يسمى (الروح القدس) المعزي، لأنه يعزي ويفرح الذين في الشدائد[287].
القديس مقاريوس الكبير
v لقد دَعي الروح القدس الذي سيرسله بالمعزي، ملقبًا إياه هكذا بسبب عمله، لأنه ليس فقط يعطي راحة لمن يجدهم مستحقين، ويخلصهم من كل غمٍ واضطرابٍ في النفس، بل في نفس الوقت يمنحهم فرحًا أكيدًا لا ينحل. يسكن في قلوبهم فرح أبدي حيث يقطن الروح القدس.
v يستحيل أن ينال أحد نعمة الله ما لم يكن له الروح القدس، الذي فيه كل عطايا الله[288].
القديس ديديموس الضرير
v حينما تمتلئ النفس من ثمر الروح تتعرّى تمامًا من الكآبة والضيق والضجر، وتلبس الاتساع والسلام والفرح بالله، وتفتح في قلبها باب الحب لسائر الناس .
القديس مار اسحق السرياني
v مملكة طاهر النفس داخل قلبه، والشمس التي تشرق فيها هي نور الثالوث القدوس، وهواء نسيمها هو الروح القدس المعزي، والسكّان معه هم طبائع الأطهار الروحانيين، وحياتهم وفرحهم وبهجتهم هو المسيح ضياء الآب…
v من نظر في ذاته إلى ربنا، وامتزجت نفسه بنوره، يمتلئ قلبه بالفرح.
الشيخ الروحاني
إِذَا جَرَتِ انْقَطَعَتْ،
إِذَا حَمِيَتْ جَفَّتْ مِنْ مَكَانِهَا [17].
يشٌَبه أيوب أصدقاءه بجدول ماء، صار بسبب الحرارة جافًا، ليس فيه نقطة ماء للشرب. فإذ يعرج إليه المسافرون مترجين أن يرووا ظمأهم وظمأ حيواناتهم، فيتركون طريق السفر ويذهبون إليه إلى مسافات بعيدة حتى يكادوا أن يتوهوا عن الطريق، إذ بهم يفاجئون بجفافه، فيحل بهم الخزي.
لم يقف الأمر عند وجود طين في مياه الغدير، وإنما سرعان ما تجف، يذهب إليها أيوب ليشرب، فيجد جدول ماءٍ جاف.
ماذا يقصد بكلمة “حميت”؟ يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن هؤلاء الذين تسقط عليهم التأديبات تصير أذهانهم حامية، ملتهبة بنيران الندامة غير المثمرة، لأنهم لا يفكرون في الأبديات، بل هم مشغولون بالمجد الزمني. فندامتهم تحطمهم بالأكثر، ويذوبون في مكانهم.
v “الذين يرتعبون أمامي، انظروا فقد طرحوني إلى أسفل مثل جليدٍ أو ثلجٍ كثيفٍ الذي عندما يذوب عند الاقتراب من الحرارة يتعذر تمييزه“. يقول: كأن الأحزان قد ضغطت عليّ من كل جانب، وصار الخاضعون لي وأصحابي ضدي. فإنه ليس فقط قانون الحب قد أبطل، وإنما حتى المهابة التي تقود إلى الطاعة قد زالت. وأما أنا الذي أصارع مع محنٍ وانفعالاتٍ عنيفةٍ، فقد صرت كثلجٍ مجمدٍ، وعندما يحل فصل الحر ينحل ويزول ولا يبقى له أثر. لا يترك أية علامات وراءه لأن الملك – الذي هو أنا – جالس على مزبلة. واللابس الأرجوان قد صار عاريًا تمامًا خارج المدينة. إنه يجلس في الخارج ليقضي الليل، هذا الذي كان قبلاً يقطن مساكن فاخرة، كانت منازله مغشاة بالذهب والفضة بفيضٍ. هذا الذي كان محاطًا بخدمٍ كثيرين، الآن صار مهجورًا. الذي له أبناء كثيرون وأكاليل موروثة، فجأة صار في دمار، فقد كل غنى بيته.
الأب هيسيخوس الأورشليمي
v هذا الثوب الذي لبسته يا إنسان داخل المعمودية سداه نور، ولحمته روح، وهو لهيب. لقد أعده لك الآب، ونسجه لك الابن، وحاكه لك الروح. في داخل المياه نزلت ولبسته إلهيًا. لقد قدم الثالوث النار بالمعمودية ليحرق الإثم ولكي تحيا النفوس مع الله[289].
مار يعقوب السروجي
تَحِيدُ الْقَوَافِلُ عَنْ طَرِيقِهَا،
تَدْخُلُ التِّيهَ فَتَهْلِكُ [18].
تحول جدول الماء عن المحتاجين إليه، فلا يجد العطشى ماءً للشرب. هكذا ابتعد الأصدقاء بتعزياتهم بعيدًا عن أيوب، فصاروا كمجرى ماء يهرب من الظمأى. أما الروح القدس المعزي فيروي النفس ويشبعها، فلا تحتاج إلى شيءٍ.
v من المعلوم يا إخوتي أن كلاً منا يطلب راحته وفرحه، إلا أنه لا يطلب ذلك كما يجب، ولا حيثما يوجد. فالأمر يتوقف على تمييز الفرح الحقيقي من الفرح الكاذب، وبالعكس فإننا غالبًا ما نُخدع بخيالات الفرح الباطل والخير الكاذب.
فالبخيل والمتجبر والشره والشهواني، كل منهم يطلب الفرح، إلا أن هذا يضع فرحه في جمع غنى وافر، وذاك في شرف الرتب والكرامات، وهذا في المآكل والمشارب اللذيذة، وذاك في إشباع شهواته النجسة. ليس منهم من يطلب فرحه كما يجب، ولا حيثما يوجد، من ثمَّ لا يجده أحد منهم بالرغم من أن الكل يشتهونه.
كل ما في العالم لا يقدر أن يُشبع النفس ويُخوِّل لها فرحًا حقيقيًا، فلماذا إذًا تتعب أيها الإنسان الغبي، وتطوف باطلاً في أماكن كثيرة متوقعًا أن تجد خيرات تملأ بها نفسك وتُرضي بها جسدك؟! أحبب خيرًا واحدًا يحوي جميع الخيرات، ففيه وحده تجد الكفاية.
استرح إلى الخير الواحد العظيم العام، ففيه الكفاية عن كل شيء.
وأما أنتِ يا نفسي فباركي الرب الذي يُشبع بالخيرات عمرك (مز 103: 2، 5).
القديس أغسطينوس
نَظَرَتْ قَوَافِلُ تَيْمَاءَ.
مَوَاكِبُ سَبَأ رَجَوْهَا [19].
تطلعت قوافل تيماء وسبأ، قوافل تجار تلك البلاد الموجودة في صحراء العرب، نظرت إلى المياه، وترجت أن تشرب منها، لكنها خزت إذ هربت منهم.
يطلب الطوباوي أيوب أن نتأمل سبل تيماء وطرق سبأ. ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن تيماء تترجم بالريح الجنوبية، وسبأ تترجم “شبكة”. فلإنسان الذي لا ينشغل بالأبديات إنما كمن تهب عليه الريح الجنوبية الحارة، فتجعل حياته منحلة كما بفعل الحرارة، وتصير قدماه كمن قد أُمسكتا في شبكة أو تقيدتا بقيود الزمنيات.
خَزُوا فِي مَا كَانُوا مُطْمَئِنِّين.
جَاءُوا إِلَيْهَا فَخَجِلُوا [20].
إذ يتجه المسافرون في البرية نحو جدول مياه معروف، يشعرون براحة لأنهم واثقون أنهم يجدون ماءً للشرب، لكن تتحطم ثقتهم تمامًا حين يجدونه جافًا. هذا هو موقف أيوب نحو أصدقائه الذي كان يظن أنه يجد تعزياته فيهم، فإذا بهم يقدمون كلمات جافة وقلوبًا بلا حب، فيخيب أمله تمامًا من جهتهم.
كانت ثقته عظيمة أن يشرب من مياه الجدول في وسط البرية. لكن طمأنينته ظهرت باطلة.
لقد جاء الأصحاب إلى أيوب وخجلوا، وكما يقول البابا غريغوريوس (الكبير) إنهم لم يستطيعوا أن يهزوا فكر القديس بنقدهم العنيف المرّ.
هذه هي مشاعر الطوباوي أيوب أن أصحابه قد صاروا في خزي، إذ فشلوا بكل افتراءاتهم أن يدخلوا به إلى اليأس، بل هم أنفسهم صاروا في ارتباك بجنون غباوة عنفهم.
v “يخزون فيما أنا أترجى”. عندما يصوب الأشرار شرورهم إلى الصالحين، إذ يرون رجاءهم الداخلي يهتز يتهللون، لأن خداعهم قد أثمر. إنهم يحسبون نشر أخطائهم أعظم ربحٍ اقتنوه، إذ يفرحون حين يهلك زملاؤهم. ولكن إذ يتأصل رجاء الإنسان الصالح في الداخل ولم يهتز وينحنِ إلى الأرض بالشرور الخارجية تخزى نفوس الأشرار، لعجزهم البلوغ إلى أعماق الذين في محنة، ويخجلون، إذ يظهر أن عنفهم بلا هدف.
البابا غريغوريوس (الكبير)
في رأي الأب هيسيخيوس الأورشليمي أن أيوب يقول لهم: “انظروا مقاطعاتكم الخاضعة للجزية أو إلى جيرانكم كما إلى طرقكم. فإنكم بالتأكيد تدركون أنهم إذ ظنوا أنهم أكثر شهرة من غيرهم إلا إنهم مستحقون للوم. “يغطيهم العار، هؤلاء الذين يتكلون على مدنهم وغناهم، هذه التي كانت لدى أيوب بفيضٍ. وإذ أصيب بالتجارب نزع الله عنه كل هذا، لهذا فإن ثقتهم فيما هو لهم خطأ، فعن قريب يبطل كبرياؤهم ويهلك تشامخهم.
فَالآنَ قَدْ صِرْتُمْ مِثْلَهَا.
رَأَيْتُمْ ضَرْبَةً فَفَزِعْتُمْ [21].
يؤكد أيوب لأصدقائه أنهم صاروا هكذا مثل هذا الغدير المخادع الذي لا يروي أحدًا ولا يهب تعزية، بل يقدم سرابًا وخداعًا… هذه هي تعزيات البشر الباطلة، إنها كلا شيء!
“رأيتم ضربة ففزعتم“. كأنه يقول: حين كنت في رخاء كنتم تلاطفونني في وقتٍ لم أكن فيه محتاجًا إلى ملاطفتكم. وإذ حلت بي الضربة، فزعتهم وقدمتم لي مرارة عوض الكلمات العذبة، ونقدٍ لاذع عوض التعزيات.
v “الآن قد جئتم ورأيتم ضربتي ففزعتم“… كأنه يقول في وضوح: “لقد خشيت الله عندما كنت مدعمًا بالرخاء، ولم أشعر بجراحات الضربة. أما أنتم فلم تخشوا الله بالحب، إنما ارتعبتم منه فقط خلال ضربات العصا.
البابا غريغوريوس (الكبير)
هَلْ قُلْتُ: أَعْطُونِي شَيْئًا،
أَوْ مِنْ مَالِكُمُ ارْشُوا مِنْ أَجْلِي؟ [22]
وإن كان قد افتقر إلى حالة العدم، لكنه لم يستجدِ منهم شيئًا، ولم يثقل عليهم في شيءٍ، ولا طلب مالاً، ولا كبَّدهم أية نفقات، فلماذا يأخذون هذا الموقف المؤلم؟
أَوْ نَجُّونِي مِنْ يَدِ الْخَصْم،ِ
أَوْ مِنْ يَدِ الْعُتَاةِ افْدُونِي؟ [23]
لم يسألهم أن ينقذوه من عدو أو من يد عتاة، ولا سألهم أن يدفعوا فدية لإنقاذه. هكذا كان أيوب عفيف النفس، حتى عندما بلغ إلى أمّر حالات الفقر.
عَلِّمُونِي فَأَنَا أَسْكُتُ،
وَفَهِّمُونِي فِي أَيِّ شَيْءٍ ضَلَلْتُ [24].
لقد اختلف أيوب معهم في الرأي، إلا أنه لم يعاند، بل كان مستعدًا أن يقبل الحق إن كان مخطئًا، إذ يقول: “علموني فأنا أسكت، وفهموني في أي شيء ضللت“.
في وسط الضيق متى قام أحد بتوبيخنا، خاصة إن كان متحاملاً علينا، يصعب أن نصغي إليه أو نقبل مشورته، مركزين أنظارنا نحو تحامله الشرير واستغلال ضيقتنا لتحطيمنا. أما أيوب ففي وسط الضيقة يعلن لأصدقائه أنه مستعد أن ينصت ويسمع، بل وإن ابرزوا خطأ في حياته يصحح من حاله.
يا لها من صورة رائعة لنفسية وإن اضطربت بسبب مرارة الكوارث المتلاحقة، لكنه يحمل هدوءً داخليًا، واستعدادًا عجيبًا لقبول مشورة أصدقائه مهما كانت نياتهم.
v “علموني” ها أنتم ترون أيوب يصغي إليكم في صمت. في أحزاني هل أنا متمرد؟ أما أشعر بفيضان المحنة؟ لست منغلقا على قبول المشورات. إن كنتم تدحضوني لأني مخطئ، فسترونني مسرعًا نحو إصلاح الموقف.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v هذا معناه: لم أطلب منكم شيئًا في الماضي، ولا طلبت منكم الآن، وأنتم قد جئتم بناء على مبادرة من جانبكم لكي تجدوني وتعزوني. فلماذا تتعاملون معي كعدوٍ؟ “علموني فأسكت؛ إن كنت أخطئ في شيء ما اخبروني“.
على أي الأحوال، حتى تحت هذه الظروف لست أرفض التعلم مادمتم تنطقون بما هو نافع. وسأصمت إن نطقتكم بكلمات مقبولة.
بالتأكيد لا يقدرون أن يقدموا اتهامات واضحة، إنما مجرد حدس وتخمينات.
إذ كانت حياة الشخص مملوءة بالفضائل بوضوح، كان يليق بهم ألا يروا في التأديبات ما يقولونه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
الله وحده مطلق الكمال، يعلِّم المسكونة ولا يحتاج إلى التعلُّم. أمَّا نحن كرعاة إذ نخدم بالله الساكن فينا، يلزمنا أن يتسع القلب دائمًا، ويستمر في الاتساع ليأخذ من الله، وتفوح بالأكثر رائحة المسيح فينا، لأنَّه مهما عظم اتِّساع قلبنا فهو ليس إلاَّ نقطة صغيرة بالنسبة لِلُجَّة محبَّة الله وفيضه اللانهائي.
فالراعي – ولو كان بطريركًا – إن لم يكن دائم التعلُّم يقف نموه ويظهر جموده ويُعثر شعبه عن النمو الروحي. وبقدر ما يخشع تحت أقدام الرب، ويفتح قلبه له في الصلاة والدراسة في الكتاب المقدَّس، وبقدر ما يصغي دائمًا بكل قلبه ليتعلَّم في كل أمر أحكام الله، ينمو في شركته وتنمو معه رعيَّته أيضًا.
v إنَّني لا أقدر على الهروب من عمل التعليم مادام الكهنوت قد ألقي على عاتقي، رغم محاولتي الهروب منه.
وإنَّني أرغب في الجهاد في التعلُّم حتى أكون قادرًا على التعليم.
لأنَّه يوجد سيِّد واحد (الله) الذي وحده لا يتعلَّم ما يعلِّمه للجميع.
أمَّا البشر فعليهم أن يتعلَّموا قبل أن يعلِّموا، ويتقبَّلوا من الله معلِّمهم ما يعلِّمون به الآخرين.
القدِّيس أمبروسيوس
v اقرأ الكتب المقدَّسة باستمرار، فلا ترفع الكتاب المقدَّس قط عن يدك. تعلَّم ما ستعلِّمه للآخرين، ملازمًا للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم، لكي تكون قادرًا أن تعظ وتوبخ المناقضين (١ تي ٣: ٤)، “وأما أنت فاثبُت على ما تعلَّمت وأيقنت، عارفًا ممَّن تعلَّمت”. كن مستعدًا دائمًا لمجاوبة كل من يسألك عن الرجاء الذي فيك” (١ بط ٣: ١٥).
القدِّيس جيروم
مَا أَشَدَّ الْكَلاَمَ الْمُسْتَقِيمَ،
وَأَمَّا التَّوْبِيخُ مِنْكُمْ، فَعَلَى مَاذَا يُبَرْهِنُ؟ [25]
لم يسترح أيوب لأسلوبهم في معالجة الأمر، فكان يليق بهم أن يحاوروه بروح الحب والاستقامة. أما أن يستخدموا أسلوب النقد والتوبيخ على افتراضات وظنون لا أساس لها، فهذا ليس للبنيان.
v “حسنا! تبدو كلمات الإنسان الحق بلا قيمة“. يقول: يبدو لي إني عاجز عن أن أقود المعركة، لأن خصومي يقاومونني، ولأنه إذا قيل الحق وأعلن عنه بصراحة، ليس من يصغي إليه. فإن كلمات الإنسان البار تبدو بلا قيمة لكل أحد.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v “إذ تبدو كلمات الإنسان الحق باطلة“. إنها باطلة بالنسبة للذين ليسوا حقًا. ولكن إذ أتطلع إليكم لا أعرف من تخدمون؟!
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
هَلْ تَحْسِبُونَ أَنْ تُوَبِّخُوا كَلِمَاتٍ،
وَكَلاَمُ الْيَائِسِ لِلرِّيحِ! [26]
التوبيخ بروح العنف وفى قسوة لن يثمر.
v “لست أسألكم كلمة أو قوة، ولا توبيخكم يجعلني أن أكف عن النطق“. نعم، فإنه وإن كان يليق بكم أن تحكموا في قضيتي حسب الظروف الحاضرة، فإني لا أتوسل إليكم… “فإنني لست أطلب قوة منكم“… لا أعبأ بأصوات حديثكم هذا بجانب أنكم تهاجمون الأيتام، وتسيئون إلى أحد أصدقائكم. إنه يقول لهم بأنه ليس للعداوة ولا للصداقة تأثير عليكم. على أي الأحوال، إن رغبتم دعوني أعود إلى قولي: “إني لا أطلب شيئا“. فإنكم حتى إن أخذتم موقف المقاومة أكرر مرة أخرى: ضميري لا يثور عليَّ.
القديس يوحنا الذهبي الفم
بَلْ تُلْقُونَ عَلَى الْيَتِيمِ،
وَتَحْفُرُونَ حُفْرَةً لِصَاحِبِكُمْ! [27]
إذ يتطلع أيوب إلى تصرفاتهم مع الأيتام كما مع أصدقائهم يستطيع أن يكرر: “إن ضميري لن يوبخني بكلماتكم”.
يشبههم وهم يوبخونه بينما هو في حالة مرة وفى كارثة، كمن يذل يتيمًا عاجزًا عن صد الإهانات.
حسب أيوب نفسه وقد فقد أولاده كاليتيم الذي يفقد والديه، يحتاج إلى حنوهم فيتشبهون بالله، إذ هو “أبو اليتامى وقاضي الأرامل” (مز 68: 5).
ما يحزنه أنهم وهم أصدقاء له ينصبون فخًا يسقط فيه، عوض مساندته ليخرج من فخ التجارب المتلاصقة.
v “نعم، أنتم تسحقون وتبذلون الجهد لتدميري“. إنه يظهر نفسه كم هو ضعيف، إذ يدعو نفسه “يتيمًا”. عندما تجرح المحبة لن تنزع الحب، لذا يشكو في الحال أنهم يدمرونه، ومع هذا يشهد أنه صديقهم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v يجب على كل راهبٍ (إنسانٍ) ينشد الكمال ويرغب في أن يجاهد قانونيًا في قتاله الروحي، أن يتخلص من خطية الغضب والسخط بأكملها، وأن ينصت للتحذير الذي يُوجهه إليه “الإناء المختار”، قائلاً: “ليُرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث” (أف 31:4). وحين يقول: “ليُرفع من بينكم كل غضب” لا يستثني أحدًا مهما كان، لما تقتضيه الضرورة أو لما هو نافع لنا، وإذا احتاج الأمر، فينبغي فورًا أن يُعالج أي أخ مخطئ بطريقة لا يكون من شأنها أن تجعله شبيهًا بشخصٍ ذهب يعالج مريضًا بحمى خفيفة فورط نفسه بغضبه وسخطه فيما أدى به إلى فقد بصره وبصيرته. ذلك لأنه ينبغي على من يريد أن يشفي جرح شخصٍ ما أن يكون سليمًا مُعافى، لا يشكو من أي ضعف، لئلا تُوجه إليه عبارة الإنجيل: “أيها الطبيب اشف نفسك” (لو 23:6)، ولئلا وهو يرى القذى الذي في عين أخيه لا يرى الخشبة التي في عينه. إذ كيف يرى حتى يخرج القذى من عين أخيه، ذاك الذي في عينه خشبة الغضب؟ (مت 7: 3-5)[290]
القديس يوحنا كاسيان
وَالآنَ تَفَرَّسُوا فِيَّ،
فَإِنِّي عَلَى وُجُوهِكُمْ لاَ أَكْذِبُ [28].
كان أيوب صادقًا مع نفسه كما مع الغير، لهذا سألهم أن يتفرسوا فيه ويعيدوا النظر في الأمر، فإنه لا يكذب ولا يخدع أحدًا.
كأنه يقول لهم: لا تتصيدوا بعض كلماتي، تطلعوا إلى وجهي، فإني وإن كنت قد لعنت يوم الحبل بي ويوم ميلادي، الأمر الذي تتصيدونه، لكنني لم أجدف على إلهي.
تفرسوا في قروحي فإنها لا تُحتمل، فما ينطق به لساني ليس بدون مبررٍ. إنني لست أخاصم إلهي.
اِرْجِعُوا. لاَ يَكُونَنَّ ظُلْمٌ.
ارْجِعُوا أَيْضًا. فِيهِ حَقِّي [29].
يعود فيكرر مطالبًا إياهم بإعادة التفكير، يسألهم أن يرجعوا إلى أنفسهم ولا يتحاملوا عليه، فيروا حقه، فإن كان لم يقدر أن يحتفظ بهدوئه فلا يعني هذا أنه فقد استقامته ونبله.
هَلْ فِي لِسَانِي ظُلْمٌ،
أَمْ حَنَكِي لاَ يُمَيِّزُ فَسَادًا؟ [30]
يسألهم هل نطق بلسانه كلمة فيها تجديف على الله. أي إثم يتهمونه به؟ أليس ما نطق به يتكافأ مع ما يعانيه من مرارة.
v عندما نفضح خطية أخينا يفضح الله خطيتنا، وعندما نخبر الناس عن جريمة أخينا يفعل الله معنا هكذا.
أحد آباء البرية
v احفظوا ألسنتكم. وذلك بأن لا تقولوا عل إخوتكم شرًا. لأن الذي يقول على أخيه شرًا يغضب الله الساكن فيه. ما يفعله كل أحدٍ برفيقه فبالله يفعله.
القدِّيس مقاريوس الكبير
من وحي أيوب 6
لتصٌَوب سهام حبك في قلبي
v في وسط ضيق هذا العالم تئنُ نفسي في داخلي!
تُرى هل يدرك أحد ثقل صليبي؟
هل يشاركني أحد مرارة نفسي!
ضيقاتي طمت فوق رأسي،
وضاق قلبي جدًا.
v سيدي أفضح خطيتي أمام عيني،
عوض الصراخ من كثرة الضيقات،
أغرق في لجة محبتك يا غافر الخطايا، ومنقذ نفسي من الفساد!
لا أرى في قلبي سهام العدو الملتهبة نارًا.
بل وسط الضيق أرى سهام حبك تخترق أعماقي.
يتحول كل كياني إلى عُرس مفرح.
أغني وأرنم: إني مجروح حبًا!
v لا أعود أترقب تعزية من بشرٍ،
ولا أشعر بعد بتفاهة حياتي!
إن كانت حياتي قد صارت كطعامٍ كريهٍ بلا ملح،
بحبك أراك الملح الحقيقي الذي يسكب عذوبة على أعماقي.
بك أصير ملحًا للأرض ونورًا للعالم!
لا أعود أرثي ضعفي، لأنك أنت قوتي وعوني.
v في وسط ضيقي صارت تعزيات البشر ثقلاً على نفسي.
يقدمون من مجاريهم مياهًا عكرة تخفي في داخلها جليدًا.
أما أنت يا أيها المعزي السماوي،
فتهبني روحك في داخلي ينبوع مياه حية،
تنعش نفسي، وتجدد حياتي،
تنزع كل تراب في داخلي،
تحول قفري إلى جنة سماوية.
ليس موضع للجليد في داخلي،
لأن روحك لهيب نار متقد، من يقدر أن يطفئه؟
v أصدقائي ينتقدونني ليتبرروا هم،
يُظهرون حكمتهم البشرية دون حبٍ صادقٍ.
أما أنت فالمعلم العجيب،
تعلم بالوصية المملوءة حبًا.
تتحدث معي لأتحدث معك،
ترشدني وتحملني فيك،
وتصعد بي إلى حضن أبيك مبررًا فيك!
v توبيخات البشر كثيرًا ما تدفعني إلى اليأس،
تحطم أعماقي، فأشتهي الموت.
توبيخاتك تحمل أبوة حانية،
تجرح وتعصب،
تقتلع الزوان من حقلك،
لتغرس جنتك في أعماقي،
حزمك يحمل عذوبة فائقة.
نظراتك تحمل مع العتاب حنوًا فائقًا!
v لتكن أنت صديقي الفريد،
كلماتك جادة مملوءة عذوبة!
نظراتك تهب رجاءً، وتسحق نفسي بالحب!
اللقاء معك يحول قلبي إلى هيكلٍ لك.
لمساتك تلهب كل كياني لأنطلق إليك!
لتأتي وتسكن فيٌ، وأسكن فيك إلى الأبد.
تفسير أيوب 5 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 7 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |