تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح 21 للأب متى المسكين
مكان البشارة:
ثاني عشر – بعد القيامة
في الجليل
الأصحاح الحادي والعشرون
خامساً – صور مستيكية لمستقبل الكنيسة الرسولية
مقدمة
كثير من الشراح عثروا في هذا الأصحاح، واعتبروه أنه مُضاف بيد غير يد القديس يوحنا. ولكن يتفق اكثر التقليديين منهم أنه من وضع القديس يوحنا وبنفس أسلوبه ولغته وبعض تعبيراته المحببة إليه.
والسبب الذي حدا بقول هؤلاء أنه مضاف بيد آخر، هو الأصحاح العشرون الذي أتى بخاتمة واضحة لرواية الإنجيل. ولكن إنجيل يوحنا، كإنجيل بحسب التقليد الرسولي، لا ينتهي عند آيات ظهور الرب لتلاميذه, بل هو يذكر حتماً الارسالية للعالم والأمم كنهاية للانجيل باعتباره البشارة المفرحة التي يلزم توصيلها تحت رعاية المسيح وبوعد مؤازرته، بل وبدوام حضوره، وذلك مثلما أتى ذكرها (أي ذكر الارسالية) في الأناجيل الثلاثة على مستوى الأمر:
إنجيل القديس متى: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والآبن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. آمين.» (مت19:28-20)
إنجيل القديس مرقس: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدن. وهذه الآيات تتبع المؤمنين. يخرجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة جديدة, يحملون حيات, وإن شربوا سماً مميتاً لا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون. ثم إن الرب بعد ما كلمهم، ارتفع إلى السماء, وجلس عن يمين الله.» (مر15:16-19)
إنجيل القديس لوقا: «حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب (أسفار العهد القديم), وقال لهم: هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي، أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميح الأمم، مبتدأ من أورشليم, وأنتم شهود لذلك. وها أنا أرسل إليكم موعد أبي, فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالى. وأخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا، ورفع يديه, وباركهم؛ وفيما هو يباركهم انفرد عنهم, وأُصعد إلى السماء.» (لو45:24-51)
ولكن بشيء من التدقيق, نكتشف أن القديس لوقا سجل لنفس هذه الخاتمة كتابا آخر بأكمله، هو سفر الأعمال، ذاكراً فيه ظهور الرب وبركته للتلاميذ وارسماليته لهم والوعد بالروح القدس ومؤازرته لهم بقوة من الأعالى، ثم كرازة التلاميذ في أورشليم والسامرة، وإلى روما وأقصى الأرض, ومسجلاً للمسيح صورا رائعة لحضوره أثناء خدمة التلاميذ وتوعيته لهم وتشجيعهم .
ولكن ينفرد إنجيل القديس يوحنا في تقديم هذه الخاتمة عينها، وإنما في رموز من داخل قصة وحديث.
فالحقائق الجوهرية المختبئة في الرموز هي:
(أ) الإرسالية إلى العالم، ككنيسة معذبة في ليل التجارب, وتحت خطر الاعتماد على القدرات البشرية.
(ب) ثم حضور الرب الفعلي، بعد دروس التجارب, واعطاء المشورة الحسنة في وقتها الحسن.
(ج) طاعة الكنيسة لوصية المخلص على رجاء قوة كلمته وكيف تثمر.
(د) نجاح الكنيسة في اكتساب الأعداد الضخمة بقوة سرية تفوق التوقعات.
(ه) ذلك كله بوسائل الكرازة البسيطة وأمية التلاميذ، التي وراءها صنارة الروح القدس.
(و) وعيد الكنيسة الإفخارستي, الذي يكلل العمل بحضور الرب وخبزه جاهز في يديه يُشعل القلوب بجمر محبته.
أما الرموز في داخل القصة فهي في المقابل حرف بحرف ألف بألف وباء بباء:
(أ) قصة صيد سمك دعا إليه القديس بطرس، تعذبوا فيه طول الليل ولم يصطادوا شيئاً
(ب) في الصباح وقرب الشاطىء ظهر الرب, وقال: ألقوا الشبكة على الجانب الأيمن.
(ج) فألقوا الشبكة بالفعل على الجانب الأيمن.
(د) وجذبوا الشبكة، واذ هي ممتلئة سمكاً كبيراً 153 عداً.
(ه) ولم تتخرق الشبكة مع هذه الكثرة من السمك.
(و) ثم جاء يسوع, وأخذ الخبز، وأعطاهم، وكذلك السمك: ونظروا جمراً موضوعاً.
ثم يعود القديس يوحنا، وعلى ضوء قصة صيد السمك، يقدم حواراً حياً بين المسيح والكنيسة، ممثلة في بطرس، وهو في أضعف حالاته، يوصيها فيه بالرعية التي اؤتمنت عليها, وشروط الراعي:
(أ) المُرسل والخادم، الشرط الأساسي لتقدمه على الآخرين أن يكون أكثرهم حباً للمسيح: «يا سمعان بن يونا أتحبني أكثرمن هؤلاء؟ … أطعم حملاني».
(ب) والكنية، رأس مالها في الرعاية هو محبة المسيح: «يا سمعان بن يونا أتحبني؟ … ارع غنمي»
(ج) والكنيسة، قمة مسئوليتها هي أن تطعم كل الرعية من فائض حبها: «يا سمعان بن يونا أتحبني؟ أطعم غنمي».
ثم يعود القديس يوحنا أيضاً ليعطي، من خلال اللغة السرية، كيف يتقدم الخادم أو الكا رز, وبالتالي الكنيسة، من حداثة الاعتماد على الذات إلى رزانة التسليم المطلق للروح القدس، لكي يقتاد بالروح حتى ضد هواه ليتبع المسيح حتى الصليب: «لما كنت أكثر حداثة (في الروح ) كنث تمنطق ذاتك، وتمشي حيث تشاء؛ ولكن متى شخت, فإنك تمد يديك, وآخر يمنطقك، ويحملك حيث لا تشاء. قال هذا مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يمجد الله بها. ولما قال هذا قال له: اتبعني.» (يو18:21-19)
وأخيرأ يلقي القديس يوحنا ضوءا على ركني الكنيسة الأساسيين:
الخدمة العاملة: ويمثلها القديس بطرس، والتي تعيش دائماً بانتظار الصليب.
وحياة التأمل الرهباني: ويمثلها القديس يوحنا، والتي تعيش وتبقى كما هي إلى أن يجيء الرب.
وهكذا، وبالنظرة الفاحصة، نجد أن الأصحاح الأخير في إنجيل يوحنا يستوفي شروط التقليد الرسولي في أصالة خاتمة الإنجيل، بطرح العمل الرسولي في شكله الإرسالي، تحت رعاية المسيح وتدخله المباشر، واعطاء شروطه ومواصفاته، ولكن في قالب القصة وبصياغة رمزية تنطق بالمضمون اللاهوتي والروحي.
تقسيم الأصحاح: ينقسم الأصحاح إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المسيح والتلاميذ (1:21-14)
1:21 بَعْدَ هَذَا أَظْهَرَ أَيْضاً يَسُوعُ نَفْسَهُ لِلتّلاَمِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ. ظَهَرَ هَكَذَا
تجيء في هذه الآية لتربط بين ظهورات الرب في أورشليم بعد قيامته مباشرة، وبين ظهوره بعد ذلك في الجليل لتلاميذه أيضاً على بحر طبرية.
«أظهر أيضاً يسوع نفسه»: واضح من هذا التعبير أنه بعد القيامة, يكون الجسد الروحي فائقاً عن الحواس البشرية، فلا يمكن رؤيته بالعينين الجسديتين. فلكي يمكن أن يعلن المسيح عن وجوده، يتحتم أن يُخضع جسده الروحاني للرؤية العينية. وهذا أيضاً ليس بكاف، بل يلزم أن تنفتح بصيرة الإنسان الروحية ليتحقق من الرؤية ومن شخص الواقف أمامه، وإلا فلن يمكنه أن يتعرف على شخص الرب؛ وهذا ما يقول عنه الإنجيل في مواضع أخرى عديدة بأنه: «أمسك عن عينيه»» فلم ير أو لم يتعرف على المسيح كالمجدلية، فهي أولاً ظنته أنه البستاني، وبعد ذلك أدركته فقط أنه «المعلم», ثم انفتحت بصيرتها وتحققت أنه الرب: »… أنها رأت الرب وأنه قال لها هذا.» (يو18:20)
فعمليات الظهور التي أجراها المسيح في نفسه بعد القيامة هي عمليات تنازلية يجريها في نفسه، وهي لا تقل إعجازاً عن بقية المعجزات، وهي قريبة الشبه من التجسد. أما القصد الأساسي منها، فهو الإيمان بأنه انتصر على الموت بنفس الجسد الذي مات به ليفتتح طريق الخلود والحياة الآبدية للبشرية, بأن يهب قوة قيامته للذين يؤمنون به: «الذي يحبني، يحبه أبي، وأنا أحبه، وأظهر له ذاتي.» ) يو21:14)
ويلاحظ أن قول الإنجيل: «أظهر أيضاً يسوع نفسه» يحمل معنى مسرة الإرادة، فالمسيح كان يُظهر ذاته لأحبائه عن مسرة: «سأراكم أيضأ، فتفرح قلوبكم» (يو22:16). وإظهار المسيح لنفسه وهو في حالة القيامة، تعني إنجيلياً وبحسب لاهوت القديس يوحنا، أن الحياة الآبدية نفسها قد استعلنت: «فإن الحياة أُظهرت, وقد رأينا، ونشهد، ونخبركم بالحياة الآبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا» (1يو2:1). فجسد القيامة كان يحمل الحياة الآبدية. وبظهور جسد القيامة، أُظهرت الحياة الآبدية التي كانت مخفية عند الآب. وفي نفس الوقت, فإن ظهور الحياة الأبدية يشمل حتماً وبالضرورة غلبة العالم وغلبة رئيس العالم: «لأجل هذا أُظهر ابن الله، لكي ينقض أعمال إبليس.» (1يو8:3)
حينما كان المسيح مع التلاميذ قبل الصليب، كان «يُظهر لهم مجده»، كما حدث في عرس قانا الجليل، لكي يتأكدوا من «لاهوته», وأنه «ابن الله»!! أما بعد القيامة المحسوبة أنها بحد ذاتها مجد، وأنها برهان بنوته لله (رو4:1)، فيكفي أن يُظهر نفسه ليتحققوا أنه هو يسوع المسيح.
حينما كان معهم قبل أن يُصلب، كانوا يقولون له: «يا معلم، كل»، فكان يرد عليهم: «أنا لى طعام لآكل، لستم تعرفونه أنتم» (يو32:4)؛ أما بعد القيامة: «قال لهم: أعندكم هنا طعام؟ فناولوه جزءا من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل، فأخذ، وأكل، قدامهم.» (لو42:24-43)
في الأولى، أراد أن ينبه ذهنهم أنه ليس مجرد إنسان جاء ليأكل ويشرب، بل ليتمم رسالة إلهية وفي الثانية أراد أن ينبه ذهنهم أنه لا يزال هو الإنسان, وأنه في ملء التجلي بالألوهية، وأن القيامة في مجد الله لم تلغ صفاته البشرية.
حينما كان ابن الله معهم قبل الصليب، قيل عنه أنه «أُظهر في الجسد» (اتي16:3)؛ أما بعد أن مات وقام, قيل أنه «أظهر نفسه». الحالة الاولى، وهي التجسد، كان وراءها معجزة الإخلاء ليظهر الله في جسد إنسان؛ والحالة الثانية هي بحد ذاتها معجزة التجلي، ليظهر جسد الإنسان الطبيعي في مجد الألوهية، وليثبث أن القيامة هي مجال حياة جديدة متوافقة مع طبيعة الإنسان، ولكن متفوقة بصورة عظمى عن واقع الماديات.
على بحر طيرية: القديس يوحنا, دون جميع الإنجيليين, ينسب بحر الجليل إلى مدينة طبرية، وهي مدينة استحدثت على بحر الجليل كعاصمة للمنطقة. وهي مدينة فخمة، ولكن خليعة, بناها هيرودس لنفسه عندما كان رئيس ربع على الجليل. وتسمى هذه البحيرة أيضاً في إنجيل يوحنا (1:5) بحيرة جنيسارت وتعني «جنة السرور». والقديس يوحنا لا يذكر متى عاد التلاميذ من أورشليم إلى الجليل حسب أمر الرب بعد القيامة.
2:21 كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَتُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ وَنَثَنَائِيلُ الَّذِي مِنْ قَانَا الْجَلِيلِ وَابْنَا زَبْدِي وَاثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تلاَمِيذِهِ مَعَ بَعْضِهِمْ.
سبعة تلاميذ، خمسة منهم معروفون، وهم من ضمن «الا ثني عشر»، أما الا ثنان الآخران فيبدو أنهما من عامة التلاميذ غير الرسل، لذلك لم يشأ القديس يوحنا أن يربك القارىء باسميهما. أما كون الكاتب يذكر ابني زبدي في آخر المجموعة، مع أن «يوحنا» يُذكر دائماً بعد بطرس هو وأخوه يعقوب، فهذا يكشف عن هوية الكاتب أنه القديس يوحنا بعينه. ولكن ليس جزافاً أن يذكر الكاتب اسم سمعان بطرس مع توما على رأس هذه القائمة وهم ذاهبون في مأمورية مخجلة، فبطرس لا يزال تحيطه الشكوك بعد حادثة الجارية والديك, ومعه توما الذي أفرز نفسه من «الاثني عشر» في موضوع الإيمان بالقيامة, مما اضطر الرب أن يظهر من أجله خصيصاً حتى يداوي انفصاله عن
الجماعة ويرده إليها كصاحب شهادة، أما بطرس فإن عودته للجماعة استلزمت هذه القصة بكاملها, أما ابنا زبدي أي «يعقوب ويوحنا»، فقد رافقا بطرس في هذه الرحلة كارهين مكرهين، لأنهما مرتبطان ببطرس أصلاً من جهة هذه المهنة, مهنة الصيد: «وكذلك أيضاً يعقوب ويوحنا ابنا زبدي اللذان كانا شريكي سمعان.» (لو10:5)
ولكن ليفهم القارىء، أن ليس جميع هؤلاء السبعة أصحاب صيد، ولكنها كانت لهم بمثابة رحلة مع الرفاق، ولم يكن لهم دور ذو بال في هذه القصة كلها.
3:21 قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «أَنَا أَذْهَبُ لأَتَصَيَّدَ». قَالُوا لَهُ: «نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضاً مَعَكَ». فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا السَّفِينَةَ لِلْوَقْتِ. وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئاً.
هل هي ردة نحو العالم لاستئناف المهنة؟ عسير على النفس غاية العسر أن تقبلها على التلاميذ، بعد أن أدركوا القيامة وقبلوا إرسالية من فم الرب, مع نفخة الروح القدس للتجديد! لولا أن القديس لوقا يمدنا بمعلومة توضح أن الرب توقع منهم هذا بالفعل، وسهل لهم هذه العودة إلى حين أن يقبلوا القوة العظمى من الأعالي، التي أركبتهم على متن سفينة الخلاص، ودفعتهم في بحر الكرازة بلا عودة، بعيدا عن شاطىء الوطن، لترسو بهم هناك على شاطىء الأبدية السعيدة: «ثم, قال لهم: حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء؟ فقالوا: لا. فقال لهم: لكن الأن (بعد تركهم مؤقتأ لمهمة الصليب) من له كيس فليأخذه, ومزود (صيد السمك) كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشترى سيفاً.» (لو35:22-36)
بل والقديس يوحنا نفسه ألمح إلى ذلك في إنجيله: «هوذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته (بيته ومهنته) وتتركونني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي.» (يو32:16)
وحتى بعد أن نال التلاميذ قوة الروح القدس في يوم الخمسين وانطلقوا يكرزون, وبعد أن أصبحت الخدمة بحد ذاتها هي المهنة التي استحوزت على كل نشاطهم ووقتهم واهتمامهم، وبعد أن أفرزوا أنفسهم للصلاة وخدمة الكلمة غير مهتمين بشيء ولا حتى بترتيب الأكل والشرب، إذ عينوا لها طبقة خاصة من الذياكويين للقيام بمطالبها؛ نسمع من بولس الرسول أن بعضهم كان يكد ويعمل بيديه ليقيت نفسه والآخرين معه: «لأننا لم نسلك بلا ترتيب بينكم, ولا أكلنا خبزا مجاناً من أحد، بل كنا نشتغل بتعب وكد ليلاً ونهارا، لكي لا نثقل على أحد منكم» (2تس8:3)، وأيضا: «فضة أو ذهب أو لباس أحد لم أشته. أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان.» (أع34:20)
القديس غريفوريوس الكبير يقول: [بطرس عاد إلى مهنته للصيد، ولكن متى لم يعد عشاراً يجبي الضرائب، لأنه توجد أعمال لا يمكن مباشرتها بدون الخطية وهي التي لا نستطيع العودة إليها بعد التجديد.)
ولكن من واقع هذه القصة عينها سوف نستشف أن عمل اليدين والكد الجسدي لاكتساب لقمة العيش لمن قبلوا الرسالة واستؤمنوا على خدمة، يلزم أن لا يكون بحسب القدرة الذاتية أو الحذق والمهارة في فنون المعرفة والصيد مثلاً الذي كان مآله الفشل الذريع بعد ليل المعاناة, بل يكون معتمداً كليتا على «كلمة الرب» وإطاعة الصوت المقدس، الذي غالباً ما يكون مخالفاً للأصول الفنية كما سنرى، إلا أن نتائجه تكون مذهلة.
والخطأ الذي تعرض له بطرس والآخرون معه، هو أنهم عادوا إلى المهنة الأولى خلوا من خدمة أو كرازة, وقد صححها لهم المسيح أنه باتباع الرب يمكن مباشرة العمل كالنموذج الذي أعطاه بولس الرسول بعد ذلك.
«وفى نلك الليلة لم يمسكوا شيئاً»: «أما أنا فقلت: عبثاً تعبت باطلاً، وفارغاً أفنيت قدرتي، لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي.» (إش4:49)
مع أنه بحسب أصول الصيد يكون الليل في البحيرة أنسب للصيد، ولكن بحسب لغة القديس يوحنا السرية، فالليل هنا لا يعني ليل الصيد بل ليل الإيمان وظلمة النفس!!
فلو أخذنا بأصول الصيد، يكون عدم مسكهم شيئاً عملا غير عادي، أما بحسب سر انجيل القديس يوحنا، فلو أخذنا الليل باعتباره ليل الإيمان وظلمة النفس, أو بالمفهوم العملي «غياب المسيح», يكون عدم صيدهم ولا سمكة واحدة هو عين الحق وصلب الصواب جزاء بجزاء!! وعلى المستوى الرمزي يكون الشرح أجل وأجمل.
فاسم المسيح بالكامل هو مجموع حروف السمكة, فغياب المسيح هو غياب السمك جلمة وفرادى.
مو الذي أمر السمك أن يسلك غير مسالكهم, والبحر ليناصبهم, هربت فنونهم من بين أيديهم، وخابت كل أحابيلهم، يطرحون الشباك ويجمعونها كما طرحوها، طار صوابهم, وكلت أيديهم مع قلوبهم، ناء الليل بكلكله، فتمنوا الصباح ولم يأت، تناجوا فيما بينهم لعل يونان آخر بينهم؟ حسبوه حظاً عاثراً والعثرة هي في إيمانهم. ظنوا أن نزهة للنفس يمكن أن تعوضهم عن أحزان اتباع الصليب، فاستبدلوا صيد الناس بصيد السمك، ولكن الرب كان لهم بالمرصاد.
3:21 قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «أَنَا أَذْهَبُ لأَتَصَيَّدَ». قَالُوا لَهُ: «نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضاً مَعَكَ». فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا السَّفِينَةَ لِلْوَقْتِ. وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئاً.
هل هي ردة نحو العالم لاستئناف المهنة؟ عسير على النفس غاية العسر أن تقبلها على التلاميذ، بعد أن أدركوا القيامة وقبلوا إرسالية من فم الرب, مع نفخة الروح القدس للتجديد! لولا أن القديس لوقا يمدنا بمعلومة توضح أن الرب توقع منهم هذا بالفعل، وسهل لهم هذه العودة إلى حين أن يقبلوا القوة العظمى من الأعالي، التي أركبتهم على متن سفينة الخلاص، ودفعتهم في بحر الكرازة بلا عودة، بعيدا عن شاطىء الوطن، لترسو بهم هناك على شاطىء الأبدية السعيدة: «ثم, قال لهم: حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء؟ فقالوا: لا. فقال لهم: لكن الأن (بعد تركهم مؤقتأ لمهمة الصليب) من له كيس فليأخذه, ومزود (صيد السمك) كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشترى سيفاً.» (لو35:22-36)
بل والقديس يوحنا نفسه ألمح إلى ذلك في إنجيله: «هوذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته (بيته ومهنته) وتتركونني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي.» (يو32:16)
وحتى بعد أن نال التلاميذ قوة الروح القدس في يوم الخمسين وانطلقوا يكرزون, وبعد أن أصبحت الخدمة بحد ذاتها هي المهنة التي استحوزت على كل نشاطهم ووقتهم واهتمامهم، وبعد أن أفرزوا أنفسهم للصلاة وخدمة الكلمة غير مهتمين بشيء ولا حتى بترتيب الأكل والشرب، إذ عينوا لها طبقة خاصة من الذياكويين للقيام بمطالبها؛ نسمع من بولس الرسول أن بعضهم كان يكد ويعمل بيديه ليقيت نفسه والآخرين معه: «لأننا لم نسلك بلا ترتيب بينكم, ولا أكلنا خبزا مجاناً من أحد، بل كنا نشتغل بتعب وكد ليلاً ونهارا، لكي لا نثقل على أحد منكم» (2تس8:3)، وأيضا: «فضة أو ذهب أو لباس أحد لم أشته. أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان.» (أع34:20)
القديس غريفوريوس الكبير يقول: [بطرس عاد إلى مهنته للصيد، ولكن متى لم يعد عشاراً يجبي الضرائب، لأنه توجد أعمال لا يمكن مباشرتها بدون الخطية وهي التي لا نستطيع العودة إليها بعد التجديد.)
ولكن من واقع هذه القصة عينها سوف نستشف أن عمل اليدين والكد الجسدي لاكتساب لقمة العيش لمن قبلوا الرسالة واستؤمنوا على خدمة، يلزم أن لا يكون بحسب القدرة الذاتية أو الحذق والمهارة في فنون المعرفة والصيد مثلاً الذي كان مآله الفشل الذريع بعد ليل المعاناة, بل يكون معتمداً كليتا على «كلمة الرب» وإطاعة الصوت المقدس، الذي غالباً ما يكون مخالفاً للأصول الفنية كما سنرى، إلا أن نتائجه تكون مذهلة.
والخطأ الذي تعرض له بطرس والآخرون معه، هو أنهم عادوا إلى المهنة الأولى خلوا من خدمة أو كرازة, وقد صححها لهم المسيح أنه باتباع الرب يمكن مباشرة العمل كالنموذج الذي أعطاه بولس الرسول بعد ذلك.
«وفى نلك الليلة لم يمسكوا شيئاً»: «أما أنا فقلت: عبثاً تعبت باطلاً، وفارغاً أفنيت قدرتي، لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي.» (إش4:49)
مح أنه بحسب أصول الصيد يكون الليل في البحيرة أنسب للصيد، ولكن بحسب لغة القديس يوحنا السرية، فالليل هنا لا يعني ليل الصيد بل ليل الإيمان وظلمة النفس!!
فلو أخذنا بأصول الصيد، يكون عدم مسكهم شيئاً عملا غير عادي، أما بحسب سر انجيل القديس يوحنا، فلو أخذنا الليل باعتباره ليل الإيمان وظلمة النفس, أو بالمفهوم العملي «غياب المسيح», يكون عدم صيدهم ولا سمكة واحدة هو عين الحق وصلب الصواب جزاء بجزاء!! وعلى المستوى الرمزي يكون الشرح أجل وأجمل.
فاسم المسيح بالكامل هو مجموع حروف السمكة, فغياب المسيح هو غياب السمك جملة وفرادى.
هو الذي أمر السمك أن يسلك غير مسالكهم, والبحر ليناصبهم, هربت فنونهم من بين أيديهم، وخابت كل أحابيلهم، يطرحون الشباك ويجمعونها كما طرحوها، طار صوابهم, وكلت أيديهم مع قلوبهم، ناء الليل بكلكله، فتمنوا الصباح ولم يأت، تناجوا فيما بينهم لعل يونان آخر بينهم؟ حسبوه حظاً عاثراً والعثرة هي في إيمانهم. ظنوا أن نزهة للنفس يمكن أن تعوضهم عن أحزان اتباع الصليب، فاستبدلوا صيد الناس بصيد السمك، ولكن الرب كان لهم بالمرصاد.
4:21 وَلَمَّا كَانَ الصُّبْحُ وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى الشَّاطِئِ. وَلَكِنَّ التّلاَمِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ.
«ثم صرخ كأسد: أيها السيد أنا قائم على المرصد دائماً في النهار، وأنا واقف على المحرس كل الليالي… يا حارس ما من الليل؟ قال الحارس: أتى صباح وأيضا ليل, إن كنتم تطلبون فاطلبوا, ارجعوا, تعالوا!!» (إش8:21-12)
بحسب لغة القديس يوحنا، إذ تناهى ليل الإيمان عن خسارة حتماً، فإن الرب يشرق من السماء، فيطارد النور الظلمة، ويكون صباح!!
وهكذا تبدو المقابلة صارخة بالمفارقة:
التلاميذ والليل والبحر والعذاب والجوع والبرد والشباك فارغة، والرب والصبح والشاطىء وجمر النار وفي يمينه «شبع» سرور!!
الرب سمع أنينهم، عندما بلغ إخفاقهم حد اليقين، عندما أدركوا خطأ ما تورطوا فيه، عندما بلغ الدرس أقصاه، عندما تبددت منهم شهوة المهنة، عندما ذاقوا منها علقم الإخفاق. نظروا، واذا هو الفجر، ويسوع واقف على الشاطىء!!
كان قد انقض الليل، وما انقض الليل من قلوبهم. أشرقت الشمس، والظلمة ما تزال تلف أفكارهم. فظهر يسوع، وما عرفوه!! عثروا في النور، لأنه لم يكن لهم عندئذ نور! لقد استبد بهم اليأس والحزن كما استبد بالمجدلية، فظهر لها يسوع وما عرفته، لأن الحزن يفسد البصيرة، والحسرة على أفراح مضت تودي بشفافية الروح! حزن التلاميذ على صيد مفقود، وكان كحزن يونان على يقطينته التي أود بها الريح: «فقال الله ليونان: هل اغتظت بالصواب من أجل اليقطينة؟ فقال: اغتظت بالصواب حتى الموت» (يو9:4). يا لخطأ التعلق بأهداب الدنيا ومسراتها…
«ولما كان الصبح, وقف يسوع على الشاطىء»: كلمة «الصبح» لا تفيد الصباح والشمس ساطعة كما نعرفه، بل بكور الصباح وهو «الفجر». والفجر هو الذي يعقب الليل وليس الصبح, والقديس يوحنا يستخدم اللفظتين الليل والفجر في معنيهما الروحي المستيكي كما استخدمه القديس بولس الرسول: «قد تناهى الليل وتقارب النهار, فلنخلع أعمال الظلمة، ونلبس أسلحة النور» (رو12:13). القديس يوحنا يصف المسيح وهو على شاطىء الأمان يستقبل أولاده الراجعين من خوض بحر العالم، مثفلين بالإخفاق والجهد معاً! منظر وضعه هذا القديس بقياسه النموذجي، تراه الكنيسة في ليل جهادها حينما تتكل على قوتها أو غناها أوبرها الذاتي، فيصيبها الإخفاق والإعياء، ويناصبها الدهر العداء، كما يراه كل فرد سواء بسواء، في جهاده اليومي العاثر أو بعد غيبة طويلة في طريق الأشواك أو طريق الذئاب، يعود بجروحه، وقدماه تدميان، واذا هو الفجر والرب واقف على الشاطىء.
5:21 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «يَا غِلْمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَاماً؟». أَجَابُوهُ: «لاَ!».
في الأصل اليوناني يأتي السؤال بالنفي «أما عندكم إدام.» وهو سؤال كمن هو عالم بالحال أنه بالفعل ليس عندهم ما يؤكل بالمرة.
كلمة «إدام» بالعربية جميلة، والكلمة اليونانية تعني «الغموس»، أي ما يمكن أن يؤكل به الخبز، أو تُبلع به اللقمة، حيث غياب ما تُبلع به اللقمة، كناية عن الفقر المدقع وبؤس الحال.
والرب لا يسأل في الحقيقة، ولكن يمهد لما هو عازم أن يصنع. فهو شريك عوزهم: «في كل ضيقهم تضايق» (إش9:63). فالآب الغني لا يطيق إملاق أولاده.
«أجابوه لا»: قول مقتضب ورائه هم ثقيل, وخزى ما بعده خزي, فهم أئمة الصيادين. هذا حال الإنسان الذي يتغرب عن إلهه ويذهب برجليه إلى الكورة البعيدة. ولكن بينما كان الابن المتغرب يأكل الخرنوب مع الخنازير، كان الأب يسمن العجل ليوم عودته. ولقد أعد المسيح لمحبيه التائهين في ليل البحيرة وليمة سواها على جمر حبه، وأمر أسراب السمك أن تتجمع نحو اليمين.
6:21 فَقَالَ لَهُمْ: «أَلْقُوا الشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ الأَيْمَنِ فَتَجِدُوا». فَأَلْقَوْا وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ السَّمَكِ.
قبل أن نحاول فهم هذه الآية، يلزم أن نرد مفرداتها إلى ما يمكن أن تعنيه روحيا:
«فالشبكة» في الإنجيل: «يشبه ملكوت السموات شبكة مطروحة في البحر وجامعة من كل نوع …» (مت47:13)
«والجانب الأيمن» في لغة الإنجيل هو الجانب المكرم والمحبوب، وفي الأسماء اسم بنيامين يعني «ابن اليمين» أي ابن المحبة والإعزاز. وعند «يمين» الرب تقف الخراف المختارة (مت33:25)، والمسيح يجلس عن «يمين» الله، وعن يمين مذبح البخور ظهر الملاك لزكريا (لو11:1)، «وجبروت خلاص يمين (الرب)» (مز6:20)، أي عمل ذراع «اليمين» أي «المسيح».
كأن التلاميذ لم يستخدموا الجانب الأيمن! أي أن صيدهم كان من الجانب الشمال، هذا تعبير مستيكي، وليس في الواقع المنظور، بمعنى أن جهادهم كان شمالياً، حيث الشمال يعني التدبير المناقض للحق والأصول، بل والنعمة أيضاً. أما التدبير اليميني فهو الذي بحسب الحق والأصول وبرعاية النعمة. هكذا أخذت الكنيسة هذا المعنى واستخدمته في صلب الإفخارستيا؛ ففي القسمة السريانية أثناء تقسيم الجسد، وهو الجزء الأكثر سرا في القداس يصيح الكاهن قائلاً: [وعوض الخطية المحيطة بالعالم، مات الابن بالصليب، وردنا من التدبير الشمالى إلى التدبير اليميني.] (الخولاجي المقدس _ القسمة السريانية).
ومن واقع هذه الصلاة، يتبين أن الكنيسة تعتبر ان الإيمان اليهودي بحسب الناموس كان هو التدبير الشمالي الذي كانت تحيط به الخطية، وقد نقلنا المسيح بموته إل التدبير اليميني، أي الإيمان بابن الله لملء النعمة.
نفهم من هذا، أن قول المسيح للتلاميذ أن يلقوا الشباك إلى الجانب الأيمن من السفينة هو بمثابة دعوة إلى الكرازة باسم المسيح، حيث الشبكة هي شبكة الروح القدس المطروحة على العالم وكل الأمم بالكرازة، والسفينة هي الكنيسة التي أعطيت أن تبلغ بالمسيح إلى شاطىء الأبدية السعيدة بعد أن عبرت ليل الناموس بلا صيد يذكر أو حتى بلا صيد بالمرة!
«فألقوا ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السمك»: لقد ألقى بطرس بالفعل أول عظة يوم الخمسين فمسك سمكاً كثيراً جداً: «فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس. (أع41:2)
نعم ومنذ ذلك اليوم والشبكة مطروحة، ولكن لم يجذبوها بعد، ولن يستطع أحد قط أن يجذبها بسبب الصيد الذي لا يُحصى ولا يُعد، ولن يجذبها إلا ملائكة الله من أربعة أطراف الأرض، يوم يأتي الرب ونراه على الشاطىء فعلاً ويتعرف عليه المحبون!
7:21 فَقَالَ ذَلِكَ التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: «هُوَ الرَّبُّ». فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ الرَّبُّ اتَّزَرَ بِثَوْبِهِ لأَنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ.
القديس يوحنا دائماً في إنجيله صاحب رؤية يغذيها الإيمان: «ورأى وآمن» (يو8:20). والقديس بطرس صاحب حركة وسرعة. هنا القديس يوحنا عرف الرب مباشرة، لأن الاستعلان الذي يقدم المسيح نفسه به ليس طبيعيأ بل فائقا للطبيعة, لا تراه العين الجسدية إلا إذا كانت مفتوحة على الروح. والقديس يوحنا يعيش العين المفتوحة: «الذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه, وأظهر له ذاتي» (يو21:14). إن إنجيل يوحنا يلزم جداً أن يُفهم ويُعرف أنه إنجيل المحبة التي لها الاستعلان، وصاحبه كتبه من واقع أنه محبوب: «التلميذ الذي كان يسوع يحبه». لذلك ينبغي أن نتوقع فعلاً أن يكون هو الأول, أو ربما الوحيد, الذي يتعرف سريعا على الرب أينما وكيفما ظهر!! وهنا نجد أن القديس يوحنا يوحي إلى القارىء بهذا المعنى تماماً، كونه يقول عن نفسه: «التلميذ الذي كان يسوع يحبه» قبل أن يقول «إنه الرب»!
ويا للخجل الذي يكاد يمسك مني القلم!… كيف أن القديس يوحنا يظهر متسربلاً بالروح والنعمة والعين المفتوحة، يقابله في نفس المكان والزمان والمقام القديس بطرس عرياناً. وقد حاول الشراح الأجانب أن يهونوا من كلمة «عريان» وجعلوها أنه خالع ثوبه الخارجي فقط. ولكن الذي يعرف مهنة الصيادين في الشرق ويعاشرهم، يعلم تماماً أن الصياد يضطر لخلع ملابسه الداخلية ويكون نصفه الأسفل عرياناً تماماً لأنه يضطر دائماً إلى النزول في البحر. فهنا القصة على الواقع صحيحة ومحبوكة، ولكن على المستوى الرمزي تكشف حال بطرس أنه كان في غاية الحاجة أن «يشتري مني ذهباً مصفى بالنار (الإيمان) لكي تستغني، وثياباً بيضاء لكي تلبس, فلا يظهر خزى عريتك.» (رؤ18:3)
«اتزر… وألقى نفسه في البحر»: هذا التصرف عكس ما هو متوقع طبيعياً, أن يخلع الإنسان ملابسه ويلقي نفسه في البحر. إذن، كان القديس بطرس في وضع غير طبيعي, كان يرى نفسه عريانا أمام عيني ذاك الذي يرى خفايا الضمائر والقلوب. ستر جسده, والقصد الحقيقي أن يطلب ستر ضميره. فالقديس بطرس ولو أنه بكى بكاء مرا بعد أن أنكر سيده، إلا أنه لم يسمع بعد كلمة تريح قلبه. وهوذا الآن «الرب» على الشاطىء، فهي فرصته العظمى وبالدرجة الاولى.
القديس يوحنا بارع في تصوير المناظر التي تُرى بالعين الجسدية محبوكة وجيدة, بينما هي بآن واحد تصور مناظر روحية تخلب الألباب وتذيب القلوب. فهذا المنظر عينه، منظر القديس بطرس وهو يلقي بنفسه في المجهول سابحاً من البحر إلى الشاطىء, متسربلاً بثوب يستره، هو نفسه منظر النفس وهي خارجة من بحر العالم ومحيطه الخانق، تسعى نحو خالقها، سابحة في أجواء الروح المجهولة، لتلتقى من هو فاتح ذراعيه على شاطىء الأبدية يستقبل متقيه…
8:21 وَأَمَّا التّلاَمِيذُ الآخَرُونَ فَجَاءُوا بِالسَّفِينَةِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعِيدِينَ عَنِ الأَرْضِ إِلاَّ نَحْوَ مِئَتَيْ ذِرَاعٍ وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ السَّمَكِ.
التركيز في الرواية والوصف واضح أنه متجه نحو القديس بطرس, أما ذكر بقية التلاميذ فهو لتكميل الرواية. السفينة مُثقلة، تجر خلفها الشبكة الملآنة بالسمك الكبير. فبالإضافة إلى ثقل السمك، فالسمك يحاول أن يسبح في الاتجاه المعاكس للقرب من الشاطىء. أما مسافة المئتي ذراع فهي حوالى مئة ياردة أي ست وتسعون متراً تقريباً.
منظر بديع ، والكنيسة تحتضن المخلصين الذين انتشلتهم من أعماق بحر العالم، تجرهم جرا بالتعليم والخدمة والتعزية، وهم ممسوكون في شبكة الروح القدس, والرسل والتلاميذ والخدام الأمناء على كل درجاتهم واقفون يوجهون السفينة، وهي تسير الهوينى بعد أن تكون قد بلفت مناطق الأمان على شاطىء الأبدية ، والقباب الذهبية لأورشليم السمائية تخطف الألباب.
9:21 فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى الأَرْضِ نَظَرُوا جَمْراً مَوْضُوعاً وَسَمَكاً مَوْضُوعاً عَلَيْهِ وَخُبْزاً.
إنها الوليمة التي أعدها الرب للواصلين إلى الشاطىء, تشير من بعيد وبصورة مصغرة للغاية إلى قوله السابق: «وأتا أجعل لكم كما جعل لى أبي ملكوتاً لتأكلوا وتشريوا على مائدتي …» (لو29:22-30)
على كل حال هي مائدة قد أعدها الرب، والجمر فيها أساسي كالخبز، وإن كان السمك لا يدخل في مضمون الإفخارستيا إلا أنه من جهة اسمه العام هو طعام الإيمان، الإيمان «بيسوع المسيح ابن الله المخمس»، وهذه الكلمات الخمس هي مدلول الحروف الخمسة في كلمة «إخثوس» (السمك).
10:21 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «قَدِّمُوا مِنَ السَّمَكِ الَّذِي أَمْسَكْتُمُ الآنَ»
هم لم يمسكوه بحذقهم، ولكنه هو الذي جمعه لهم في شبكتهم! هذا الصيد الثمين يمثل باكورة الذين انضموا إلى الإيمان، وهو موضوع مسرة التلاميذ، والرب نفسه بنوع ممتاز: «من تعب نفسه يرى ويشبع … أقسم له بين الأعزاء، ومع العظماء تقسم غنيمة, من أجل أنه سكب للموت نفسه، وأحصي مع أثمة, وهو حمل خطية الكثيرين، وشفع في المذنبين.» (إش11:53-12)
11:21 فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَجَذَبَ الشَّبَكَةَ إِلَى الأَرْضِ مُمْتَلِئَةً سَمَكاً كَبِيراً مِئَةً وَثلاَثاً وَخَمْسِينَ. وَمَعْ هَذِهِ الْكَثْرَةِ لَمْ تَتَخَرَّقِ الشَّبَكَةُ.
سبق وأن ألمحنا أن مفهوم الشبكة بلغة الإنجيل هي دعوة الملكوت المطروحة على نفوس الناس, وهي مغزولة بالسداة الرسولية ولحمة الروح القدس، وعيونها تضيق لتصطاد أضعف أولاد الله وهي إما تُطرح على مستوى الناموس فتسمى «طرحة شمالية» أوالتدبير الشمالي فلا تصطاد شيئاً حتى ولو سهر الساهرون الليل بطوله؛ وإما تطرح على مستوى اليمين، على كلمة الرب، فيكاد لا يفلت منها إلا ما هو غير قابل للصيد.
ولقد سبق القديس لوقا القديس يوحنا في وصفه رحلة مشابهة كانت واضحة اللمسات، مطابقة لمتطلبات الشرح الروحي الخالص. كما قدم القديس متى في إنجيله الأساس الذي يكن أن نبني عليه الشرح:
القديس متى: «يشبه ملكوت السموات شبكة مطروحة في البحر وجامعة من كل نوع. فلما امتلأت، أصعدوها على الشاطىء، وجلسوا وجمعوا الجياد إلى أوعية، وأما الأردياء فطرحوها خارجاً, هكذا يكون في انقضاء العالم, يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار.» (مت47:13-29)
القديس لوقا: «ولما فرغ من الكلام قال لسمعام: ابعد إلى العمق وألقوا شباككم للصيد، فأجاب سمعان وقال له: يا معلم، قد تعبنا الليل كله ولم نأخد شيئاً, ولكن على كلمتلث القي الشبكة, ولما فعلوا ذلك أمسكوا سمك كثيرا جداً, فصارت شبكتهم تتخرق … وملأوا السفينتين حتى أخذتا فى الغرق.» (لو4:5-7)
القديس يوحنا: «وفي تلك الليلة لم يمسكوا شيئاً, ولما كان الصبح وقف يسوع على الشاطىء … فقال لم: ألقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فتجدوا. فألقوا, ولم يعودوا يقدرون أن يجذبوها من كثرة السمك … وجذب الشبكة إلى الأرض ممتلئة سمكاً كبيراً, مئة ؤثلاثاً وخمسون, ومع هذه الكثرة لم تتخرق الشبكة.» (يو3:21-11)
الشرح: المكونات المشتركة في الثلاثة الأناجيل ومدلولها الروحي [المركب، البحر, الشبكة, لسمك. هم: الكنيسة، العالم، المناداة بالملكوت، المؤمنون.
المفارقة بين قصة إنجيل لوقا وقصة إنجيل يوحنا، ومدلولها على أساس إنجيل متى:
القديس لوقا
أ _ المركب لم تفارق البحر (الكنيسة في الحاضر)
ب _ المسيح لم يغادر المركب (المسيح يقود الكنيسة في الحاضر)
ج _ السمك لم يفارق المركب (المؤمنون في جهاد الحاضر)
د _ المركب أخذت في الغرق (طغيان العالم على الكنيسة)
د _ الشباك تتخرق (أتعاب الكرازة وتجاربها)
و_ السمك لم يفرز، جيد مع ردي (المؤمنون تحت الاختبار)
القديس يوحنا
المركب بلغت الشاطىء (الكنيسة بلغت الأبدية)
المسيح على الشاطىء (المسيح يستقبل المخلصين)
السمك قدموه على الشاطىء (المخلصون يقدمون إلى المسيح)
المركب وصلت بكامل سلامتها (الكنيسة المنتصرة على شاطىء الأبدية)
الشباك لم تتخرق (تجلي الملكوت)
السمك كبير كله ومعدود (إحصاء المفديين المعروفين بالاسم)
13:21 ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ وَأَخَذَ الْخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ وَكَذَلِكَ السَّمَكَ.
كان رد المسيح عل توقفهم الحذر وتوقعهم المبادرة منه، أن تقدم نحوهم بالفعل واقترب من المائدة التي أعدها. ولكن لا يذكر هنا أي حركة من حركات الإفخارستيا المعتادة، فلا هو نظر إلى فوق, ولا هو كسر، ولا هو بارك. والسبب واضح، فالمنظر يصور شاطىء الأبدية. فنحن «الآن» فوق. والكثر انتهى بانتهاء زمان الصليب, والبركة كملت. والآن وقت حصيدها. وهكذا لا يبقى من الإفخارستيا إلا شركتها : «وأعطاهم». فالخبز هو شركة جسده في قمة تجليه، والسمك رمز الحياة الذي يمل اسمه «يسوع المسيح ابن الله المخلص».
وعن هذه البركة الأخيرة يقول القديس أغسطينوس: [وبهذا «الغداء» يستعلن كيف تتم بركة الشركة الفائقة].
ويقول القديس أغسطينوس أن القديس يوحنا بهذه الآية يكون قد انتهى من إنجيله.
14:21 هَذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ يَسُوعُ لِتلاَمِيذِهِ بَعْدَمَا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ.
لا يمكن أن يكون قصد القديس يوحنا أنه ظهر لتلاميذه ثلاث مرات وحسب، ولكن كان قصده في الحقيقة كما يرى القديس أوغسطينوس أن هذا هو يوم ثالث للأيام التي ظهر فيها المسيح لتلاميذه، باعتبار أن يوم القيامة بظهوراته العديدة هو اليوم الأول، واليوم الثامن لقيامته هو الثاني، وهذا هو الثالث. ولكن يرى العالم وستكوت أنه يقصد الظهور الخاص بالتلاميذ مجتمعين.
القسم الثانى: المسيح والقديس بطرس (15:21-19)
[ودعا يعقوب بنيه وقال لهم اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام.] (تك1:49)
15:21 فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاَءِ؟» قَالَ لَهُ: «نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ: «ارْعَ خِرَافِي».
«فبعد ما تغدوا»: تماما وعلى نمط ما تم بعد الإفخارستيا الكبرى التي قدم لهم فيها جسده ودمه، حيث بعد أن قام عن العشاء وغسل أرجلهم، وجلس وأعطاهم وصية المحبة، «قال له بطرس: يا سيد، لماذا لا أقدر أن أتبعك الأن, إني أضع نفسي عنك. أجابه يسوع: أتضع نفسك عني؟ الحق الحق أقول لك، لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات.» (يو37:13-38)
وبعد العشاء أيضاً: «قال لهم يسوع كلكم تشكون في في هذه الليلة، لأنه مكتوب أني أضرب الراعي، فتتبدد خراف الرعية، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل. فأجاب بطرس وقال لو: وان شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبداً. قال له يسوع: الحق أقول لك، إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات. قال له بطرس: ولو اضطررت أن أموت معك, لا أنكرك.» (31:26-35)
وللأهمية القصوى يلزم أن نقرأ مرة أخرى هذه الآية التي سبقت آية بطرس هذه والتي جاءت هكذا: «ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل», حيث يأتي هذا الوعد ليخفف من تأثير إنكار بطرس وكأنه يتناساه، وبهذا يأتي سؤال السيح للقديس بطرس, في إنجيل القديس يوحنا, بعد القيامة وفي الجليل أيضاً حسب النص الإنجيلي السابق, ليزيد من صدق رواية القديس يوحنا ومن دقتها وحبك موضوعها وتتميم وعد الرب بالحرف الواحد!
أما في إنجيل القديس لوقا فجاءت هكذا: «وقال الرب: سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت ثبت إخوتك. فقال له: يا رب إني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن، وإلى الموت. فقال أقول لك يا بطرس لا يصيح الديك اليوم قبل أن تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني.» (31:22-34)
«يا سعمان بن يونا»: «يونا» تأتي في اليونانية مزادا إليها الحرف ( ) في أصل الكلمة ( ) وفي المضاف إليه ( ) وهي تماما «يوحنا»، وهو نفس اللقب الذي خاطب به المسيح سمعان أول ما ما قابله وأعطاه اسم «بطرس» أي «الصخرة» = «بترا» باليوناية، أو «كيفا» أو «كيفاس» أو «الصفا»: «فجاء به إلى يسوع، فنظر إليه يسوع، وقال: أنت «سمعان بن يونا, أنت تدعى «صفا» الذي تفسيره بطرس» (يو42:1)
ويلزم هنا أن نذكر أن الرب لم يخاطب سمعان بن يونا هذا باسمه الجديد المضاف «بطرس» قط. كما أن القديس بولس لم يذكره باسمه الجديد منطوقاً باليوناية, ولكن ذكره منطوقاً بالعبرانية «صفا» في حين أن الأناجيل الأخرى تذكره باسمه اليوناني بطرس، إما وحده أو ضافا لاسمه الآخر سمعان. وهذه المعلومة هامة للغاية خاصة عند العلماء الذين يفحصون بتدقيق في صحة تسجيلات روايات الأناجيل، فهذه المعلومة كما ذكرناها لم تتبدل قط على مدى الأناجيل كلها.
وكون المسيح يخاطب القديس بطرس باسمه واسم والده، أي بلقبه الجسدي الطبيعي، فهذا فيه لفت نظر إلى طبيعة بطرس البشرية, التي ظهر بها حتى الآن, كإنسان عادي لتمييزه عن الرسول.
«أتحبني أكثر من هؤلاء؟»: أي «أتحبني أكثر من التلاميذ زملائك؟»، وهنا يستعيد ذهن بطرس ما سبق وقاله مدعيأ محبته الفائقة عن محبة بقية زملائه، كما جاء في إنجيل القديس متى: «وان شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبداً» (مت33:26)، بل إن في قوله في إنجيل القديس يوحنا ما يستشف أنه يدعي لنفسه «الحب الأعظم» بقوله: «إني أضع نفسي عنك» قياسا على قول المسيح: «ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه.» (يو13:15)
وهنا نلاحظ، كما سبق وأجملنا في مقدمة الأصحاح، كيف يضع المسيح أساس الرسولية على المحبة, جاعلاً المحبة الشرط الأساسي للكنيسة لاختيار مرسليها وخدامها: رؤساء أساقفة وأساقفة وكهنة وكل مصاف خدامها. وهنا تُقدم المحبة على الإيمان, على أساس أن المحبة الصادقة تحوي حتماً إيماناً صادقاً: «أما الآذ فيثبت الايمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة.» (اكو13:13)
كان الرب قد أبدى رفضه فيما سبق لأية محاولة للتسابق على أيهم أكبر: «وكانت بينهم أيضاً مشاجرة، من منهم يظن أنه يكون أكبر. فقال لهم: ملوك الأمم يسودونهم، والمتسلطون عليهم يدعون محسنين. وأما أنتم فليس هكذا، بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر، والمتقدم كالخادم.» (لو24:22-26)
أما قول المسيح: «أكثرمن هؤلاء» فهذا بالنسبة للوضع الرسولي أو للخدام على وجه العموم، ولكن الرب هنا يضع شرطاً للتقدم في الخدمة أو الرئاسة، فالأكثر حباً يُستأمن للخدمة الأكثر، وهذا حق, فالمحبة وحدها هي التي تتسع للعمل الأكثر.
«نعم يا رب أنت تعلم أني أحبك»: يوافق القديس بطرس على سؤال الرب أنه كان يحبه، ولكن تأتي الموافقة خلوا من ادعاء الأكثرية في المحبة، فلقد تعلم بطرس أن لا يقدم نفسه على الآخرين، وهذا تصحيح مليح لمواقفه السابقة. وهذا يلزم أيضاً أن يكون منهاجاً لكل مرسل وخادم. فليس لإنسان قط, كان من كان، قديساً أو نبياً, أن يدعي لنفسه الحب الأكثر للمسيح.
كذلك يأتي رد القديس بطرس مسنوداً بالتسليم لمعرفة الرب، فمحبة بطرس حتماً يعرفها المسيح، وهو لا يدعي لنفسه محبة إلا بالقدر الذي يعرفه الرب. لقد تنازل القديس بطرس عن غلواء مشاعره الخاصة التي فضحته وأخرجته عن حقيقة ما له وما فيه. وهذا أيضاً يتحتم أن يكون منهاجا لكل مرسل وخادم في كنيسة الرب، أن لا يشهد لنفسه إلا بالقدر الذي شهد به الآخرون له وعنه!!
«أرع غنمي»: «أرع»، معناها الدقيق: «أطعم»، لأن «أرع» جاءت بعد ذلك بالنسبة للقطيع، و«غنمي» تجىء بمعنى «حملاني» في اليونانية. ولكن في عدة أبحاث عميقة قام بها علماء مدققون في أصول اللغة اليونانية واستخدامها، اتفقوا على أن بالرغم من تعدد الكلمات المعبرة عن المحبة مثل: «أغابي»، و«فيلي»، أو أفعال الإطعام والرعاية مثل «بوسكين» و«بويمينين»، أو أسماء القطيع بين «حملان» و«خراف» و«غنم» ، إلا أنها جميعا لا تختلف في معناها، فهي كلها «محبة», وهي كلها «رعاية» وهي كلها «غنم» وذلك في الثلاثة أسئلة التي طرحها المسيح على القديس بطرس.
وفي قول المسيح «أرع غنمي»، يضع المسيح القديس بطرس في موضع الرسولية الصحيح، بعد أن كان قد أفرز نفسه بإنكاره المسيح ثلاثا. وهنا يشدد القديس أغسطينوس جداً على قول المسيح «غنمي» باعتبارها غنم الرب، مكرراً مرات ومرات أن يلتفت المرسل أو الخادم المؤتمن على الرعية إلى أنها غنم الرب، وليست غنمه هو، معطياً نصائح نافعة وجيدة وكثيرة جداً لمن يطلع عليها.
والملاحظ أن كلمة «غنمي» يقابلها في إنجيل القديس متى «كنيستي»: «وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي, وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.» (مت18:16)
فإذا أضفنا إلى هذه التصريحات ما قاله الرب لبطرس في إنجيل القديس لوقا : «وأنت متى رجعت، ثبت إخوتك» (لو32:22)، يتبين لنا مدى سخاء الرب المنقطع النظير في تشجيع القديس بطرس: «ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفني إيمانك» (لو32:22), لكي يعود ويتبوأ مركزه بين التلاميذ، بل وفي الكنيسة على مدى الدهور. ولكن تشجيع المسيح لم يبلغ أبداً حد منحه الرئاسة على كل الرعية أو التلاميذ. فليتذكر القارىء جيدا أن الرب شجب المشاجرة بينهم حول من فيهم يكون أكبر!!! فلماذا تكرس الكنيسة «المشاجرة» عينها لتكون جزءا من إيمان الكنيسة؟؟؟
16:21 قَالَ لَهُ أَيْضاً ثَانِيَةً: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا أَتُحِبُّنِي؟» قَالَ لَهُ: «نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ: «ارْعَ غَنَمِي».
المسيح يكرر السؤال الأول، ولكن يحذف منه الجزء الخاص بـ «أكثر من هؤلاء»، وكأنه اكتفى من رد القديس بطرس بأن حذفها من قلبه كما حذفها من رده، فلم تعد تقلق الرب من جهة الرعاية المزمع أن يلقيها عليه.
ولكن التكرار انحصر في «المحبة» فقط، وكأن الرب لم يكتف باعتراف القديس بطرس الأول أنه «يحب المسيح»، فهو هنا يطلب المزيد. فليس عبثاً يكرر المسيح السؤال عن المحبة!! وليس عبثاً يخرج الكلام من فم المسيح وكأنه يعتمد على التصحيح، والمزيد من طرف القديس بطرس وحده.
ولكن لينتبه القارىء، فالمسيح عندما كررو السؤال عن محبة القديس بطرس له، كان ينبهه أنه يأخذ من المسيح طاقة حب جديدة يضيفها على ما عنده. فالمسيح لا يسألنا عما عندنا كأنه من عندنا؛ ولكن على أنه من عنده: «لأنه من يميزك؟ وأي شيء لك لم تأخذه، وإن كنث قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ» (1كو7:4)
وهكذا عندما أعطى المسيح فرصة للقديس بطرس أن يعيد النظر في مستوى محبته على محبة المسيح. كانت فرصه لبطرس أن يستزيد من المحبة أخذاً وعطاء.
وعلى مستوى طاقة المحبة الثانية، ثنى له المسيح لياقة الرعاية على غنم الرب.
17:21 قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا أَتُحِبُّنِي؟» فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟
فَقَالَ لَهُ: «يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ارْعَ غَنَمِي».
كان حزن القديس بطرس في المرة الثالثة يرجع لإحساسه بأنه كان دون المستوى اللائق برسول، اذ تذكر الفراغ المخيف الذي كان يملأ قلبه تجاه المسيح أثناء المحاكمة لما سألوه ثالث مرة عن علاقته بالمسيح فأنكر!! هنا حزن بطرس عند سؤال الرب الثالث، إذ تذكر أيضاً بكاءه المر بعد إنكاره الثالث (مر72:14). وهنا كان رد بطرس هو التسليم الكلي للمسيح: «يا رب أنت تعلم كل شيء», على مستوى الاعتراف بكل ضعفه؛ فقط «أنا أحبك»!! لقد قبل المسيح اعتراف بطرس، وقبل محبته، وزادها له ثلاثة أضعاف!!! فصار بطرس راعياً أمينا للغاية على غنم الرب. والدليل القاطع على صلاح القديس بطرس وصلاحيته كراع في نظر الرب، أذ أردف الرب في الحال بالنبوءة له كيف سيضع نفسه عن الخراف!! «أية ميتة كان مزمعا أن يمجد الله بها.» (19:21)
لقد ظلت كلمات الرب ونصائحه ترن في قلب القديس بطرس حتى أواخر أيامه، والتي منها صاغ نصائحه للأساقفة نظرائه: «أطلب إلى الشيوخ الذين بينكم، أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يُعلن: ارعوا رعية الله التي بينكم، نظاراً (أساقفة)، لا عن اضطرار بل بالاختيار، ولا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كمن يسود على الأنصبة بل صائرين أمثلة للرعية. ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يبلى.» (ابط1:5-4)
18:21 اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلَكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لاَ تَشَاءُ».
بعد أن تأكد الرب أو بالحري بعد أن تأكد بطرس من نفسه من جهة محبته للرب، وبعد أن حمله الرب رعاية غنمه، أي استأمنه على الرسولية في كنيسته، بدأ الرب يؤكد لبطرس ماذا ينتظره في مستقبل الأيام. ولكن الرب وضعها كمقارنة بين حرية الخدمة التي ينعم بها في حداثته، وبين ما ينتظره من شدة سيُحمل عليها وتفرض عليه في شيخوخته. ولكن ليس القديس بطرس وحده هو الذي يفرز له هذا الصيب، ولكنه منهج خدمة الكنيسة كلها الذي افتتحه الرب بنفسه: «وكان يُقتاد بالروح في البرية أربعين يوماً يُجرب من إبليس.» (لو1:4-2)
وواضح من هذا أن «الآخر» الذي سيمنطق القديس بطرس ويحمله حيث لا يشاء, وهو مفرود الذراعين, هو الروح القدس، فهو الذي يقتاده حيث سيُصلب وحيث لم يكن يشاء أولاً. فمعلوم من قصة استشهاد القديس بطرس أنه بعد صدور الحكم عليه بالصلب استطاع الهرب من السجن، ولكن في خروجه سريعاً من روما قابله الرب في الاتجاه العكسي فسأله بطرس: الى أين أنت ذاهب يا رب؟ «كوفاديس»، فرة عليه الرب: لأصلب بدلاً منك. فعاد بطرس أدراجه وسلم نفسه للصليب, وأبى إلا أن يٌصلب منكساً! إذ حسب أنه كثير عليه أن يُصلب كالمسيح .
ومعلوم أن بطرس استشهد سنة 64 م على يد نيرون، أي بعد حديث الرب هذا بحوالى 34 سنة. ولكي يوضح الرب له أنه سيختط له منهجه بالتمام، عاد مباشرة وللتو وقال له كلمة السر: «اتبعني»!!
19:21 قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُمَجِّدَ اللَّهَ بِهَا. وَلَمَّا قَالَ هَذَا قَالَ لَهُ: «اتْبَعْنِي».
يعلق القديس يوحنا هنا على الكلام بحسب ما كان وما صار، لأنه يكتب إنجيله هذا سنة 95م تقريباً، والقديس بطرس استشهد سنة 64م، وصار ذلك معلوماً لدى الكنيسة كلها، كيف مجد القديس بطرس الله بموته، وهكذا أخيراً قبل الله استعداده الذي قاله في بكور حياته: «لو اضطررت أن أموت معك… إنى أضع نفسى عنك…»!!!
هكذا وضع القديس بطرس ذاته حباً في المسيح والكنيسة، وهكذا مات على الصليب سعياً وراء الذي أحبه ومات!! وتم قول الرب حرفياً: «ولكنك ستتبعني أخيراً» (يو36:13)
لقد ظل القيس بطرس يترقب واجفاً مجيء من سيمنطقه ويحمله حيث لا يشاء كل يوم، إذ حسب ذلك أنه لائق مهما كانت مشيئته. لذلك نسمعه يقول في رجفة اليقين: «عالماً أن خلع مسكني قريب كما أعلن لى ربنا يسوع المسيح أيضاً.» (2بط14:1)
وفي هذا يقول القديس أغسطينوس: [هذه هي خاتمة حياة الذي أنكر، والذي أحب، الذي ناء عجباً بظنونه، والذي انحنى بالمذلة من جراء انكاره, الذي اغتسل بدموعه، والذي استحسن اعترافه، ثم تكلل بآلامه! هذه كانت خاتمة ما بلغ: أن مات على حب مكتمل لاسم من صمم أن يموت معه ولكن منكساً.]
القسم الثالث: المسيح والقديس يوحنا (20:21-23)
20:21 فَالْتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ التِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ وَهُوَ أَيْضاً الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ الْعَشَاءِ وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ مَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُكَ؟».
القديس يوحنا هنا يضع نفسه في الصورة في ختام إنجيله ليؤكد وجوده الحي في الجماعة وفي الإنجيل معاً. وهنا يحاول الربط بيه وبين القديس بطرس، الأمر الذي نجده دائماً موجوداً في الإنجيل عامة؛ فـ «بطرس و يوحنا» صنوان عزيزان لا يفترقان. فنحن لا ننسى أنهما هما الاثنان كانا يتبعان معاً الرب وهو مقبوض عليه في طريقه إلى بيت حنان: «وكاذ سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع» (يو15:18)، والاثنان ركضا معاً إلى القبر. وحتى في هذه الآية يحاول أن يذكر القارىء بموقعهما على مائدة العشاء عدما أومأ القديس بطرس من الطرف الأخر للمائدة نحو القديس يوحنا لكي يسأل الرب عن الخائن من يكون! وبآن واحد يحدد القديس يوحنا موقعه من المسيح, على الصدر من جهة الشمال حتماً حسب التقليد (أي ملاصقاً للقلب)، ثم يزيد من إزاحة الستار عن علاقته مع الرب بقوله: «كان يسوع يحبه».
أما كون القديس يوحنا حسب قول القديس بطرس كان «يتبعه»، فهنا كلمة «يتبعه» تبدو لأول وهلة أنه كان يسير خلف المسيح. ولكن لغة القديس يوحنا تضرب باليمين وبالشمال، أي تشير إلى الواقع المتحرك وتهدف إلى الروح الثابت الأزلي . فالمعنى الروحي أن القديس يوحنا لم يكن في حاجة أن يدخل مدرسة المحبة التي مر القديس بطرس على فصولها الثلاثة بغاية الصعوبة، ثم فاز بالرسولية بعد محنة وامتحان وصار من الثابتين. فالقديس يوحنا هو ابن محبة المسيح، وقد وُلد يوم استضافه الرب «وَفِي الْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ تلاَمِيذِهِ. فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ». فَسَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ فَتَبِعَا يَسُوعَ. فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» فَقَالاَ: «رَبِّي أَيْنَ تَمْكُثُ؟». فَقَالَ لَهُمَا: «تَعَالَيَا وَانْظُرَا». فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ.» (يو35:1-39)، وتسجل في سجل الحب الإلهي يوم أن انحنى على صدر يسوع, ويوم أن ترك التلمذة خلف المعمدان واتبع الحمل الذي يرفع خطية العالم. فإن كان بطرس قد رآه الآن بعد القيامة «يتبع»، فقد كان منذ أن نادى المسيح بالملكوت، هو أول التابعين.
21:21 فَلَمَّا رَأَى بُطْرُسُ هَذَا قَالَ لِيَسُوعَ: «يَا رَبُّ وَهَذَا مَا لَهُ؟».
لقد ظن بطرس في نفسه أكثر مما ينبغي أن يظن. ظن أنه بعودته إلى مركزه في الجماعة الرسولية بهذا السخاء، ونواله صك تكريم الشهادة بين الشهداء، أن يسود على الجماعة ويقود. وكان أول اختباره على القديس يوحنا، نده في الحب وفي القربى, فكان بطرس يتلهف على أن يعرف مستواه بالنسبة لموقع هذا التلميذ الآخر بين الرسل التابعين وبين الشهداء المكمين، فابتدر الرب بالسؤال «وهذا ما له؟». يقصد: أنا عرفت موقعي وبدايتي، وهذا ما نصيبه؟ فكان السؤال برمته خارج اختصامه بل وخارج اللياقة؛ ورحم الله امرئاً عرف قدر نفسه!! فلقد كان وقع السؤال عند الرب موقعاً غير حسن وهل يُسأل الرب عن مشيئته؟
22:21 قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ فَمَاذَا لَكَ؟ اتْبَعْنِي أَنْتَ»
الرد هنا عميق ومتشعب! يضرب في الواقع، ويضرب حتى إلى منتهى الزمن؛ يكشف عن إلوهية متفوقة، وسلطان على الزمن وعلى الموت والحياة، وعلى مصائر الناس وأقدارهم. فالمسيح يستعلن وجوده القائم والدائم، وكيف يقبض على زمام الكنيسة في تحركها عبر الزمن برسلها وأبائها وأنبيائها, يحدد أيامهم ويقيس أعمارهم بخطة تنتهي حتماً بمجيئه.
كان سؤال بطرس يختص بمشيئة المسيح قبل أن يختص بحياة يوحنا، لأن حياة رسول لا تحددها الأقدار المحتومة، بل مشيئة الله المحتومة التي لا يفك ختومها إلا المسيح، مضيفاً عليها، أو مختزلا منها كما يشاء؛ لأنه كالآب يُحيى من يشاء!
وقول المسيح: «إن كنت أشاه أنه يبقى إلى أن أجيء», ليس هو افتراضاً للجدل، بل هو حق قائم بالحقيقة. فالذي أقام لعازر من الموت بعد أن أنتن، أعسير عليه أن يُبقي يوحنا لا يموت؟ والذي قام من بين الأموات ناقضاً الموت وأوجاعه, أكثير عليه أن يفصل بين يوحنا والموت؟
ولكن هل قالها الرب كمجرد رد لبطرس كي لا يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي؟ أم يقصد بها قصداً يلوح بإجراء ينوي أن يأتيه؟
لم يكن سؤال القديس بطرس نابعاً من ذاتية تتحرق شوقاً لمعرفة مصائر الرسل، بقدر ما كان يشعر أنه يمثل في كنيسة الله حركة ناشطة وعملاً, هما من واقع طبيعته التي هذبها له المسيح لتعمل على مستوى الروح.
وكان يشعر أن القديس يوحنا يمثل الحب الهادىء الوديع المتأمل والمتأجج كالنار شديدة الفعل بطينة الحركة. فكان بطرس يصبو أن يدرك في يوحنا مسار هذه القوة الفعالة، كما أدرك هو في نفسه مسار حركته التي ستنتهي بالشهادة! كانت غيرة بطرس من يوحنا كغيرة مرثا من مريم. لقد ضجت مرثا من قعود أختها تحت رجلي المسيح تسمع كثيراً ولا تعمل شيئاً؛ بينما هي قد هدها الجهد وأجهدتها الحركة في أعمال كثيرة لخدمة ضيافة الرب. وأخيراً انفجرت، لا في مريم، بل في المسيح تؤاخذه بصراحة: «يا رب اما تبالى بان اختي قد تركتني أخدم وحدي، فقل لها أن تعينني» (لو40:10). فكان الرب لها لائمأ، ولسلوكها مؤاخذاً، وعلى أسلوبها معنفاً، مع أنه كان يحبها، وأعطى لمريم الطوبى لأنها اختارت النصيب الصالح «الذي لن يُنزع منها.» (42:10)
وهنا تجيء كلمة: «لن يُنزع منها» بالنسبة لمريم موازياً ومطابقاً لقوله لبطرس بالنسبة ليوحنا: «أنه يبقى حتى أجيء». فحياة القديس يوحنا ومنهجه وأسلوبه، واضح أنه يمت بصلة وثيقة لأسلوب مريم ومنهجها. فكل منهما اختار المحبة والاستماع إلى «الكلمة» والتأمل فيها واتباع الرب من كل القلب، وكلاها فاز بإعجاب المسيح واستحوذ على محبته. وهذا كان بالنسبة لمريم «النصيب الصالح الذي لن ينزع منها»، وبالنسبة ليوحنا كان يشاء أن يبقى إلى الأبد. ولكنه، فيما يبدو لنا، أن المسيح أبقى على منهجه وإنجيله يحياه عاشقوه في كل العالم عوضا عنه إلى أن يجيء. وأليست الرهبانية الباقية إلى الأبد صورة لحياة يوحنا؟ هذا هو القديس يوحنا وهذه هي حياته الهادئة التي تحياها له الكنيسة ولسوف تحياها له الرهبنة إلى الأبد!
أما بطرس فليس له أن يتذمر، فالرب سبق وثبت اسمه وثبت إيمانه النشيط الشجاع العامل في الكنيسة، على نفس المنوال والى الأبد: «أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (مت18:16), وها هي الكنيسة تحيا إيمانه, فتزلزل أبواب الجحيم كل يوم.
لقد استؤمن بطرس على مفاتيح ملكوت السموات، وأما يوحنا فاستؤمن على أسرار السماء ذاتها واطلع على كل ما هو عتيد أن يكون، وشاهد السماء الجديدة والأرض الجديدة، وقاس مع الملاك أورشليم السماوية، وعاين عرش الله، وتعرف على كل الأجناد السماوية!
والآن: «بطرس» مات وإيمانه لا يزال يتكلم بعد! … و«يوحنا» مات ولا يزال حبه يُسبح به تسابيح الأزل…
«فماذا لك؟ أتبعني أنت»: ليس من شأن القديس بطرس أن يتابع حياة الرسل الآخرين، إن حدود مسئوليته تقف عند اتباعه هو للمسيح وحسب. فإن عاش يوحنا حتى مجيء المسيح فهذا ليس «له» ولا يخصه، وإن مات شهيداً أو بغير شهادة، فهذا أيضأ ليس له، يكفيه هو أن يتبع المسيح. هذا الرد ينفي أن يكون المسيح قد أعطى لبطرس حق الرئاسة على الرسل ولا حتى الإشراف أو القيادة. الرب أعطى بطرس أن يشدد إخوته عندما يرجع من محنته بعد أن ذاق مرارة الإنكار وحيرة الجحود. فكما تثبت إيمانه بصلاة الرب عنه، هكذا كان ينبغي أن «يثبت» بإيمانه إخوته عن اختبار.
ولقد كان بطرس حقاً عموداً ثابتاً وقوة مركزية ذات إشرع وسط التلاميذ. وقد أبدى شجاعته في مواجهة رؤساء الكهنة وعنف سلوكهم واتهمهم علنا وبكل قوة بتحمل جرم قتل المسيح «رئيس الحياة قتلتموه» (أع15:3)، حتى ضج منه رؤساء الكهنة واستصرخوه ليكف عنهم: «فلما أحضروهم، أوقفوهم في المجمع, فسألهم رئيس الكهنة قائلآ: أما أوصيناكم وصية أن لا تعلموا بهذا الاسم، وها أنتم قد ملأتم أورشليم بتعليمكم وتريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان. فأجاب بطرس والرسل وقالوا: ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس. إله آبائنا أقام يسوع الذي أنتم قتلتموه معلقين إياه على خشبة, هذا رفعه الله بيمينه رئيساً ومخلصاً، ليعطي إسرائيل التوبة وغفران الخطايا.» (أع27:5-31)
كان بطرس بالنسبة للكنيسة قلبها الخفاق، ولسانها الناطق، وروحها الوثابة، جريء جرأة الأسد، لا يلين ولا يهادن في مواجهة النظام اليهودي وعتق الرئاسة الكهنوتية. فاستطاع أن يحفظ «الكيان الرسولى» مستقلاً عن سطوة النظام اليهودي، فجعل له مكانة لا تقل عن مكانة السنهدريم وسلطانه، وعلى يديه بزغ نجم الكنيسة الأولى في فلسطين مبشراً بشروق شمس المسيحية على العالم كله.
«أتبعني أنت»: وكانت كلمة المسيح هذه لبطرس هي آخر كلمة قالها المسيح بحسب إنجيل يوحنا، والمعتقد أن بعدها اختفى عنهم! وهي لم تُكتب لبطرس فقط، بل كدعوة لكل قارىء وسامع.
23:21 فَذَاعَ هَذَا الْقَوْلُ بَيْنَ الإِخْوَةِ: إِنَّ ذَلِكَ التِّلْمِيذَ لاَ يَمُوتُ. وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ يَسُوعُ إِنَّهُ لاَ يَمُوتُ بَلْ: «إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ فَمَاذَا لَكَ؟».
المعنى الذي دافع به القديس يوحنا عن الخطأ الذي ارتكبه الإخوة (التلاميذ) بقولهم أن القديس يوحنا لا يموت، ينتهي بنا إلى فهم حقيقة أراد القديس يوحنا أن نفهمها دون أن يكتبها، وهي أن بقاءه إلى أن يجيء المسيح شيء وأنه لا يموت شيء آخر؛ أو بمعنى أخر أن بقاءه إلى أن يجيء المسيح لا يستلزم حتماً أن لا يموت؛ أو بمعنى أوضح، أن بقاءه إلى أن يجيء المسيح يمكن أن يكون حتى ولو مات, وهذا ما اعتبرناه لغة القديس يوحنا السرية التي قصد بها قيام ودوام الكنيسة الروحية التأملية المتبتلة، التي تحيا روح روح القديس يوحنا وانجيله من بعده، تسبح المسيح وتمارس الحب والتصوف, أي الحياة بحسب أسرار الروح التي يمثلها إنجيل القديس يوحنا وتمثلها الحياة الرهبانية الحية المتعففة, والمتخصصة في الصلاة والتسبيح، والتي ستبقى إلى أن يجيء الرب!!
ويحاول بعض شراح إنجيل القديس يوحنا أن يتخذوا من دفاع هذا القديس عن ضرورة موته، أذ كان قد مات بالفعل. ولكن الرد على هذا أنه لو كان قد مات فما هي الحاجة للدفاع من ضرورة موته؟
وأيضا فالآية القادمة (24:21) توضح بأجلى بيان أن القديس يوحنا الذي قال هذا، كاذ ما زال حيآ وأنه هو الذي كتب هذا وشهد بهذا!! وأنه بقوله هذا، يكون قد نقل هذه القضية لحكم الزمن والتاريخ, إن كان هذا الأمر سيحدث من عدمه!
وكما كان القديس بطرس يترقب كل يوم الضيف الذي سيمنطقه ويحمله حيث لا يشاء: «عالماً أن خلع مسكني قريب، كما أعلن لى ربنا يسوع المسيح أيضاً» (2بط14:1)، كذلك كان القديس يوحنا يشتهي كل يوم مجيء الرب ليحمله على السحاب. هكذا كتب بيده خاتمة سفر رؤياه، ردا على ما جاء على لسان الرب في الرؤيا: «أنا آتي سريعاً. آمين. تعال أيها الرب يسوع.» (رؤ20:22)
24:21 هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا وَكَتَبَ هَذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ.
هذه الآية تبرز شخصية القديس يوحنا كتلميذ، ورسول, وشاهد لحياة المسيح وموته وقيامته، ثم كاتباً لهذا الإنجيل، ملقياً بكل ثقله ومؤهلاته السابقة للتصديق على كل ما جاء في إنجيله.
وبصورة سرية ومبدعة, ينقل كل هذه المؤهلات من شخصه لإنجيله، فهو يقدم لنا إنجيلاً يحمل ختم التلمذة المدموغة بالحب والأمانة والصلة الفريدة بالمسيح؛ ويحمل ختم الرسولية المستودع فيها كل أسرار المسيح التي اطلح عليها بصفة خاصة جدا، لا نعلم إلا بعضا من أسبابها وخصوصيتها بسبب شخصيته المحافظة المقترة في الشرح والمحجمة عن الإسهاب!
ويحمل ختم الشهادة, ولا نقصد هنا شهادة العين بل شهادة الروح. وشهادة الروح هى الحق، لأنها تقوم على الاستعلان، أى على رؤية ما لا يُرى، بتدخل المشيئة الإلهية لازدياد المعرفة.
«نعلم أن شهادته حق»: القديس يوحنا يدرك الأصول التقليدية اليهودية في الشهادة، فهى لا تستقيم بواحد يشهد لنفسه حيث تكون شهادته ليست حقاً. هذا قاله المسيح نفسه عن نفسه سابقاً: «إن كنت أشهد لنفسي, فشهادتي ليست حقاً» (يو31:5), ولو أنه عاد ونفى أن يخضع لمقولة يهودية وهو ابن الله: «وإن كنت أشهد لنفسي ، فشهادتي حق، لأني أعلم من أين أتيت والى أين أذهب… لأنى لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني.» (يو14:8و16)
فالقديس يوحنا يعطي شهادته بصورة الجمع: «نحن نعلم»، فمن هم «نحن»؟ لقد تهرب الشراح من تفسير هذه الآية. ولكننا بصورة مبدئية، إذا عدنا إلى كيفية وظروف كتابة إنجيل يوحنا, نرى أن التقليد يقول إن بعض الرسل (كما يذكر نص للعلممة اكلمندس الإسكندري، ووثيقة موراتوري) مع بعض الأساقفة فيما حول أفسس، كانوا العامل المحرك للقديس يوحنا بمحاولتهم المتكررة ورجواتهم له أن يكتب إنجيله. هنا يقول بعض الشراح إن هؤلاء في مجموعهم يحملون مسئولية التصديق الأخير، فقد أعطاهم القديس يوحنا أن يكتبوا, عن أنفسهم, هذا المقطع من الآية: «ونحن نعلم أن شهادته حق».
ولكن ليست هذه هي الحقيقة, لأننا إذا عدنا إلى أسلوب القديس يوحنا في الكتابة عن نفسه فيما يخص المسيح والحق، نجده دائمأ يتكلم بصيغة «الجمع» معتبرا نفسه جزءاً لا يتجزأ من جسم الجماعة الرسرلية بكاملها، أي الكنيسة المعاصرة للمسيح والشاهدة له. لذلك نجده قد استهل رسالته الأولى بهذه الشهادة الجماعية هكذا:
+ «الذي كان من البدء، الذي سمعناه, الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا, من جهة كلمة الحياة.» (يو1:1-1)
وعلى هذا المنوال ظل يكتب الرسالة كلها بصيغة الجمع من أول آية إلى آخر آية:
+ «ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً.» (ايو4:1)
+ «ولكن نعلم أنه إذا اُظهر، نكون مثله، لأننا سنراه كما هو.» (ايو2:3)
+ «نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نحب الإخوة.» (ايو14:3)
+ «ونن قد نظرنا ونشهد, أن الآب قد أرسل الابن مخلصا للعالم.» (1يو14:4)
+ «نحن نحبه, لأنه هو أحبنا أولاً.» (1يو19:4)
+ «ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح، هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية.» (ايو20:5)
إذاً، فواضح من هذا كله، ومن خاتمة إنجيل يوحنا التي أتت بصيغة الجمع هذه، أن شخصية القديس يوحنا نفسه تقف تماماً وراء هذه الشهادة التي ختم بها إنجيله كما هي في رسالته أيضاً.
وهكذا يتبين للقارىء أن موضوع شك العلماء في أن القديس يوحنا هو الكاتب لهذه الخاتمة، هذا الفرض الذي استنبطوه من هذه الآية, أنه هو نفسه موضوع اليقين عندنا بكل يقين!!
25:21 وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ
العجيب في هذه الآية أنها تكشف أنه لا يزال فكر القديس يوحنا ووعيه الروحي بعد المائة سنة التي بلغها من عمره يحتفظ بهذه الصور الكاملة من أعمال الرب وكلماته، وما تشعه في قلبه من معان، والتي يهذ بها في ليله ونهاره. والقديس يوحنا لا يلجأ إلى التهويل ليصف ضخامة الحصيلة الروحية التي يعيها من حياة المسيح وأعماله، ولكن الأعماق التي تتوالى في ذهنه من خلف كل حادثة، والعمق منها ينادي عمقاً، هي التي صورت له كيف تضيق الدنيا بعجائب المسيح! وهل يمكن أن يتسع العالم لمعطيات الله وملكوته؟
(انتهى فى 22/8/1989)
ما كنت يا عزيزي القارىء أود أبداً أن انتهي من شرح إنجيل القديس يوحنا ، فعلى مدى سنوات ثلاث كاملات عشت في نعيم هذا السفر، أستمتع كل يوم بل كل ساعة بأضوائه التي تبهر النظر الروحي. ولكن الذي يعزيني أن الرب قواني بالرغم من ضعفي ووهن إمكانياتي لكي أنقل للقارىء شيئاً من ذخائر نعمته في هذا الإنجيل، ليعيش فيها، ليس ثلاث سنوات بل الحياة كلها.
تفسير إنجيل يوحنا – 20 | إنجيل يوحنا – 21 | تفسير إنجيل يوحنا | تفسير العهد الجديد | فهرس |
القمص متى المسكين | ||||
تفاسير إنجيل يوحنا – 21 | تفاسير إنجيل يوحنا | تفاسير العهد الجديد |