تأملات في سفر يونان – مقدمة – قداسة البابا شنودة الثالث

مقدمة

إن سفر يونان النبي مملوء بالتأملات الروحية الجميلة. وهدفنا في هذه المحاضرات أن نعرض لهذا السفر ممن الناحية الروحية البحتة وليس من جهة الجدل اللاهوتي. دروسا نافعة لحياتنا. نستفيد من عمل الله، ومن فضائل الناس، ومن أخطائهم..

وما أجمل ما فعلته الكنيسة إذ اختارت هذا السفر ليكون مقدمة للصوم الكبير، يسبقه بأسبوعين، بقصة جميلة للتوبة، وللصوم، حتى نستقبل أيام الأربعين المقدسة بقلب نقي ملتصق بالرب.

والعجيب أن كثيرين من الذين يدرسون سفر يونان، يركزون على أهل نينوى وصومهم، وينسون ركاب السفينة، وينسون يونان النبي ومشكلته. فماذا كانت مشكلة يونان؟

مشكلة يونان

في سفر يونان النبي، يريد أن يعرفنا حقيقة هامة هي إن الأنبياء ليسوا من طبيعة أخرى غير طبيعتنا. بل هم أشخاص “تحت الآلام مثلنا” (يع 5 : 17)، لهم ضعفاتهم، ولهم نقائصهم وعيوبهم، ومن الممكن أن يسقطوا كما نسقط. كل ما في الأمر أن نعمة الله عملت فيهم، وأعطتهم قوة ليست هي قوتهم وإنما هي قوة الروح القدس العامل في ضعفهم، لكي يكون فضل القوة لله وليس لنا كما يقول الرسول (2 كو 4 : 7).

وقد كان يونان النبي من” ضعفاء العالم ” الذين اختارهم الرب ليخزى بهم الأقوياء (1 كو 1: 27). كانت له عيوبه، وكانت له فضائله. وقد اختاره الرب على الرغم من عيوبه، وعمل به، وعمل فيه، وعمل معه وأقامه نبيا قديسا عظيما لا نستحق التراب الذي يدوسه بقدميه، لكي يرينا بهذا أيضا انه يمكن آن يعمل معنا ويستخدم ضعفنا. كما عمل مع يونان من قبل..

سقطات في هروب يونان

سنرى بعضا من ضعف يونان في موقفه من دعوة الرب. يقول الكتاب “وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلًا: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة، وناد عليها، لأنه قد صعد شرهم أمامي. فقام يونان ليخرج إلى تر شيش من وجه الرب”.

وهنا نرى يونان النبي وقد سقط في عدة أخطاء.

وكانت السقطة الأولى له هي المخالفة والعصيان.

* لم يستطع أن يطيع الرب في هذا الأمر، وهو النبي الذي ليس له عمل سوى أن يدعو الناس إلي طاعة الرب. عندما نقع في المخالفة، يجدر بنا أن نشفق على المخالفين، واضعين أمامنا قول الرسول ” اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون أيضا مثلهم..” (عب 13 : 3). إن كان الله القدوس الذي بلا خطية وحده يشفق على الساقطين، فالأجدر بنا أن نشفق عليهم نحن الذين نسقط مثلهم. ومع ذلك فأن يونان سقط، ولكنه مع ذلك لم يشفق…!

* على إن سقطة المخالفة التي وقع فيها يونان، كانت تخفى وراءها سقطة أخرى أصعب وأشد هي الكبرياء ممثلة في الاعتزاز بكلمته، وترفعه عن أن يقول كلمة وتسقط إلى الأرض ولا تنفذ..

كان اعتزازه بكلمته هو السبب الذي دفعه إلى العصيان، وحقا أن خطية يمكن أن تقود إلى خطية أخرى، في سلسلة متلاحمة الحلقات.

كان يونان يعلم أن الله رحيم ورؤوف، وأنه لابد سيعفو عن هذه المدينة إذا تابت وهنا سبب المشكلة!

وماذا يضيرك يا يونان في أن يكون الله رحيما ويعفو؟

يضيرني الشيء الكثير: سأقول للناس كلمة، وكلمتي ستنزل إلى الأرض. سأنادى بهلاك المدينة بسبب خطاياها، ثم لا تهلك المدينة، وتسقط كلمتي، وتضيع كرامتي وهيبتي. هذا الرب لا أستطيع السير معه على طول الخط. لو كان يثبت على تهديده، كنت أثبت معه! لكنى سأنادى بهلاك المدينة، فتتوب المدينة، ويعود الرب فيشفق. ولا تهلك المدينة. وتسقط كلمتي. فالأفضل أنى لا أذهب حرصا على كرامتي الشخصية، وحرصا على سمعتي، وعلى هيبة النبوة!!

إلى هذا الحد كان يونان متمركزا حول ذاته! لم يستطع أن ينكر ذاته في سبيل خلاص الناس. كانت هيبته وكرامته وكلمته، أهم عنده من خلاص مدينة بأكملها…….

كان لا مانع عنده من أن يشتغل مع الرب، على شرط أن يحافظ له الرب على كرامته وعلى هيبة كلمته .. من أجل هذا هرب من وجه الرب، ولم يقبل القيام بتلك المهمة التي تهز كبرياءه.. 

وكان صريحًا مع الرب في كشف داخليته له إذ قال له فيما بعد عندما عاتبه “آه يا رب، أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرض، لذلك بادرت إلى الهرب إلى تر شيش، لأني علمت إنك إله رؤوف ورحيم بطيْ الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر” (يون 4 :2).

* وكان هرب يونان من وجه الرب يحمل في ثناياه خطية أخرى هي الجهل وعدم الأيمان…

هذا الذي يهرب من الرب، إلى أين يهرب، والرب موجود في كل مكان؟! إن الله موجود في السفينة التي ستركبها، وفي البحر الذي سيحمل السفينة، وفي ترشيش الذي تهرب إليها. فأين تريد آن تختفي من وجه الرب؟!

صدق داود النبي حينما قال للرب “أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدت إلى السموات فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت. أن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصي البحر، فهناك أيضا تهديني يدك وتمسكني يمينك” (مز 139: 7 -10).

أما يونان فكان مثل جده أدم الذي ظن أن يختفي من وجه الرب وراء الشجر…

أكان يونان يظن أن الله غير موجود في السفينة أو في البحر، وأنه يمكنه أن يفلت من يده؟! أليس في هذا منتهى الجهل وعدم الأيمان بقدرة الله غير المحدودة؟! أم تراه عملا طفو ليا لجا إليه إنسان حائر لا يعرف كيف يتصرف؟! وما درى أن أمر الله سيلاحقه في كل موضع..! حقا أن الخطية تطفي في الإنسان نور المعرفة، وتنسيه حتى البديهيات!

وجد يونان في يافا سفينة ذاهبة إلى تر شيش، فدفع أجرتها، ونزل فيها…

والعجيب أن الخطية كلفته مالًا وجهدًا. دفع أجرة للسفينة ليكمل خطيته…

أما النعمة فننالها مجانا… عجيب أن نتعب فيها يضرنا، ونبذل وننفق. لعلها كانت بركة ليونان لو أنه لم يكن يملك دراهم في ذلك الوقت نساعده على السفر والعصيان..

عندما دفع يونان أجرة السفينة خسر مزدوجة: خسر ماله، وخسر أيضا طاعته ونقاوته…

هذه فكرة عن أخطاء يونان في هروبه وعصيانه، فماذا كان موقف الله من ذلك؟

العجيب أن الله أستخدم عصيان يونان للخير. حقا آن الله يمكنه أن يستخدم كل شيْ لمجد أسمه..

الله يستخدم الكل

لقد عصى يونان أمر الرب، وهرب راكبًا السفينة، ولكن الله الذي “يخرج من الآكل أكلا ومن الجافي حلاوة” (قض 14: 14).

الله الذي يستطيع أن يحول الشر إلى خير، أتستطاع أيضا أن يفيد من عصيان يونان…

إن كان بسبب طاعة يونان سيخلص أهل نينوى، فانه بعصيان يونان يمكن أن يخلص أهل السفينة…

في عصيان يونان نزل إلى السفينة، وكان للرب شعب في تلك السفينة. كان له أناس فيها يحبهم الرب ويبحث عن خلاصهم عن طريق عصيان يونان. آن يونان أداة في يد الرب، يكسب بطاعتها وبعصيانها.. وكأن الله يقول له: هل تظن يا يونان أنك قد هربت مني؟ كلا. أنا سأرسلك إلى ركاب السفينة، ليس كنبي، ولا كمبشر، ولا كصوت صارخ يدعو الناس إلى التوبة، وإنما كمذنب وخاطئ وسبب إشكال وتعب للآخرين، وبهذه الصورة سأخلصهم بواسطتك.

وهكذا تكون بركة في ذهابك، وبركه في هروبك. تكون بركة وأنت مهاب كنبي أمام أهل نينوى، وبركه وأنت ملقى في البحر كمذنب أمام أهل نينوى، وبركه وأنت ملقى في البحر كمذنب أمام أهل السفينة.. بك سأنقذ مشيئتي في أية صورة كنت، حتى وآنت في بطن الحوت، لا مع أهل نينوى ولا مع أهل السفينة… وأنت وحدك في بطن الحوت سأجعلك رمزا لموتي وقيامتي، فيذكر الناس قيامتي ويتعلمون..

هل ركبت البحر في هروبك يا يونان؟ إذا فقد دخلت في دائرة مشيئتي أيضاً. لأنني أملك البحر كما أملك البر. كلاهما في صنع يدي. وأمواج البحر ومياهه وحيتانه تطيعني أكثر منك كما سترى…

حقا أن الله صانع الخيرات يمكنه أن يصنع خيرا من كل شيء. يمكنه أن يستفيد من جبن بيلاطس ومن خيانة يهوذا، فيعملان على غير قصدهما في قضية الخلاص!! كل شيْ يدخل في يد الله، لا بُد آن يخرج منه خير. والله “يربح على كل حال قومًا” وكما قال الرسول “كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله” (رو 8: 28). 

لذلك يا أخي حاول أن تستفيد من كل الأحداث التي تمر بك، ومن كل الضيقات. استفد من خيانة الصديق، ومن عصيان الابن. أستفد من المرض كما من الصحة. كن مثل الله الذي يُخرِج من الجافي حلاوة….

نلاحظ أيضا في سفر يونان، أنه كما أستخدم الله من أجل تنفيذ مشيئته عصيان يونان وطاعته، كذلك أستخدم الكائنات غير العاقلة، فكانت في طاعته أكثر من النبي.

طاعة غير العاقلين

لقد أخجل الرب يونان النبي بطاعة أهل نينوى، وببر أهل السفينة وأيمانهم، وأيضا بطاعة الجمادات والمخلوقات غير العاقلة. ومن الجميل أن نرى كل هؤلاء في إرساليات إلهية وفي مهمات رسمية أدوها على أكمل وجه وأفضله.

فما هي هذه الكائنات غير العاقلة التي كانت عناصر نافعة في إتمام المشيئة الإلهية؟

* عندما ركب يونان السفينة، يقول لنا الوحي الإلهي “فأرسل الرب ريحا شديدة إلى البحر، فحدث نوء عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر” (يون 1: 4).

لقد أدت الريح واجبها، وكانت رسولا من الرب، قادت الناس إلى الصلاة. فصرخ كل واحد إلى إلهه. دخل النبي إلى السفينة، ولم يهتم إلى أن يدعو الناس إلى الصلاة. أما هذه الريح العاصفة، فقد نجحت ما فشل فيه هذا النبي.. وتحقق فيها قول داود في المزمور “الريح العاصفة الصانعة كلمته” (مز 148: 8). ونحن نتغنى بهذا الوصف الجميل مرتلين به كل يوم في التسبحة في الهوس الرابع متأملين في هذه الريح “الصانعة كلمته”!!

* وكما أدت هذه الريح الشديدة مهمتها في أول القصة أدت مهمة أخرى في أخر القصة، إذ يقول الكتاب “وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعد ريحا شرقية حارة. فضربت الشمس على رأس يونان فذبل فطلب لنفسه الموت..” (يون 4: 8). وهكذا دخل مع الله في تفاهم انتهى إلى المصالحة مع الله، بسبب هذه الريح “الصانعة كلمته”. أليس من الجميل أن تأخذ هذه الريح نفس الوصف تقريبا الذي أطلق على ملائكة الله المقتدرين قوة “الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه” (مز 103:20)!!

* وكما أستخدم الله الريح، أستخدم الحوت أيضا لتنفيذ مشيئته: وفي ذلك يقول الكتاب أولا “وأما الرب فأعد حوتا عظيما ليبتلع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال” (1: 17). ثم يعود فيقول “وأمر الرب الحوت، فقذف يونان إلى البر” (يون 2:10). وهكذا كان الحوت ينفذ أوامر إلهية تصدر إليه، وينفذها بدقة وحرص حسب مشيئة الرب.

* وكما أستخدم الله الريح والحوت، أستخدم الشمس والدودة واليقطينة.

ويقول الكتاب ” فأعد الرب الإله يقطينة فارتفعت فوق يونان..” (يون 4: 6) ويقوا “ثم أعد الله دودة عند طلوع الفجر في الغد، فضربت واليقطينة فيبست” (يون 4: 7)، وأيضًا “أن الله أعد ريحا شرقية حارة فضربت الشمس على رأس يونان” (يون 4: 8).

إن كل الكائنات في يد الرب، يستخدمها وفق مشيئته حسبما يريد، وهى في يده مطواعة خاضعة…يقول لها “أذهبي يا ريح، أذهبي يا شمس.. أذهبي يا موجة، اذهبي يا دودة..” فيتم كل شيْ دون نقاش..كلهم رسل أوفياء وهكذا استخدم الله الجماد ليقنع الإنسان، واستخدم غير العاقل ليقنع العاقلين..

في سفر يونان كانت كل هذه الكائنات مطيعة للرب، الوحيد الذي لم يكن مطيعًا، هو الإنسان العاقل، يمنان…الذي منحه الله حرية إرادة يمكنه بها أن يخالفه!

حقا أن الإنسان كثيرا ما يستخدم عقله وحريته استخداما رديئا. وكثيرًا ما يثق الإنسان بحكمته وثوقا يصطدم فيه بمشيئة الله. لذلك نصحنا الكتاب بقوله “وعلى فهمك لا تعتمد” (أم 3: 5). وعلل ذلك بهذه العبارة الحكيمة التي وردت مرتين في سفر الأمثال ” هناك طريق تبدو للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت” (أم 14: 12).

(أم 16:25) الإنسان مغرور دائمًا في حكمته وفي حسن تصرفه. ولذلك يقول الكتاب “كل طرق الإنسان مستقيمة في عينية” (أم 21: 2) “حتى الجاهل أيضًا” (أم 12:15).

هكذا الإنسان أما باقي الكائنات فلا تعرف غير الطاعة. على أنه لم يكن كل إنسان غير مطيع في سفر يونان، بل كل الناس أطاعوا، ما عدا يونان النبي!

ولعل أهم طاعة يطلبها منا الرب هي الطاعة في الإرساليات المتعِبة، وقد أعطانا مثالا بطاعة باقي الكائنات.

لعلنا نسر ونبتهج عندما يرسلنا الله برسالة مفرحة، وينطبق علينا قول الكتاب “ما أجمل أقدام المبشرين بسلام المبشرين بالخيرات” (رو10: 15). نفرح بهذه الإرساليات لما سيصادفنا فيها من مجد باطل نتيجة لمدح الناس وشكرهم إما الرسالة المتعبة فهي صعبة وعندما ننفذها إنما نفعل هذا من أجل الله وحده.

ما أصعب رسالة يطلب فيها الله من أحد أولاده أن ينادي على مدينة بالهلاك. إبراهيم أبو الآباء تشفع من أجل سدوم طالبا عدم إهلاكها مع أنه لم يكن هو المكلف بالمناداة بإهلاكها ولكنه لم يحتمل سماع الآمر ولو من بعيد…

على أن يونان لم يهرب من المهمة إشفاقا على نينوى، من الهلاك، بل على العكس هرب خوفا من أن تبقى المدينة ولا تهلك… لم يقل كلمة إشفاق، ولم يشفع فيها كإبراهيم عندما تشفع في سدوم. بل أنه حزن واغتاظ واغتم غمًا شديدًا ورأى أن الموت هو أفضل لنفسه من الحياة، كل ذلك لآن الله لم يُتَتِّم إنذاره وهلك المدينة.. هل كان في قلب يونان شيْ من القسوة أو الغلظة؟ أم أن اعتزازه بكلمته طغى على كل شيْ.. حتى على الحب والإشفاق؟ لست أدرى.

أما الكائنات الأخرى في سفر يونان فنفذت كل ما أمر به الرب، سواء كان مفرحًا في ظاهره أو متعبًا، يكفى أنه آمر قد صدر من فم الله..

* أمر الله الريح أن تصدم السفينة بشدة حتى كادت تنكسر، ففعلت كما أمر، وكان كذلك. لم تقل ما ذنب هؤلاء البحارة البررة الآمنين، ولماذا نسبب لهم نوءا عظيما في البحر؟ كلا أننا لسنا أحن من الله وقد أثبت الله فعل إن ذلك كان تدبيرًا حكيمًا منه. يقود بها بحار السفينة وركابها إلى الإيمان.

أراد الله للبحر أن يهيج فهاج، وأراد له أن يهدأ بعد إلقاء يونان فيه، فهدأ.. ما أعجب الطبيعة المطيعة التي لا تعصى لله أمرًا، كالإنسان.

* وأمر الله الحوت أن يبتلع يونان فأبتلعه، دون أن يؤذيه لآته لم يأخذ أمرا من الله بأن يأكله. ثم أمر الله الحوت أن يقذف يونان إلى البر، فقذفه إلى حيث أراد الله.

آني أقف أحيانا في عجب، أتأمل كيف كانت هذه الكائنات تتلقى أوامرها من الله، كيف كانت تتفهمها وتنفذها. أنها لا تعي ولا تدرك. ولكن الآمر يرجع إلى مشيئة الله العاملة فيها..

* وكما أمر الحوت الضخم الكبير لكي ينفذ جزءا من الخطة الإلهية، كذلك أمر الدودة البسيطة، أمرها أن تضرب اليقطينة فيبست.. ما أعجب هذا أن نرى حتى الدودة جزءا في العمل الإلهي المقدس الكامل.. حقا ما أجمل قول الكتاب “انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار” (متى 18:10).

أنها مشيئة الله منفذه كما يطلبها هو، لا كما تقترح الخليقة في جهالتها. وحكيم هو الذي يستسلم لمشيئة الله أيا كانت صورتها..

* يأمر الله اليقطينة لكي ترتفع ويكون ظلا على رأس يونان ” لكي يخلصه من غمه” فتنفذ اليقطينة هذا الآمر العطوف. ويكلف الله الشمس أن تضرب على رأس يونان فيذبل ويشتهي الموت، فتفعل كما يأمر الرب.. أنها ليست احن منه على يونان. لا بُد أن في ضربة الشمس فائدة ليونان وآلا ما كان الله قد أمر بها.. وكان كذلك.

حقا أن الطبيعة وكل الكائنات غير العاقلة، مثلها مثل الكائنات السمائية، من حيث إنها لا تعرف في علاقتها مع الله سوى عبارة “لتكن مشيئتك”..

ليتنا نأخذ درسا من كل هؤلاء، وندرك نحن أيضا عمق عبارة “لتكن مشيئتك” في حياتنا وحياة الناس. هذه العبارة التي فشل يونان في ممارستها، ولم يستطع أن يصل إليها آلا بعد تجارب كثيرة وصراع مع الله، وعقوبات، وإقناعات.. أخيرًا استطاع الله أن يقنعه بخيرية المشيئة الإلهية، مهما كانت مخالفة لمشيئته الذاتية.

لقد خلق الله العقل نعمة للإنسان. ولكن هذا العقل كثيرا ما يقف حائلا بين الإنسان وحياة التسليم!

يحدث هذا إذا انفرد العقل بذاته، بعيدا عن الاستنارة بالروح القدس، وبعيدا عن الاتضاع الذي ينحني به العقل خاضعا لمشيئة الله.. أمسك أحدهم برأسه بين يديه، وقال “هذه هي “تفاحة أدم” التي يتحدث عنها البعض”، يقصد أن عقله هو سبب كل سقطاته وتجاربه..

وليس العقل وحده هو الذي يقف ضد مشيئة الله، عندما يقتنع بأشياء أخرى تخالف ما يأمر به الرب، أو عندما يضع أوامر الرب في بوتقة الفحص والتحليل.. أنما هناك أيضا العاطفة التي قد تشتهى أمورًا يمنعها الرب عنها، فتقف هذه العاطفة أو هذه الشهوة ضد مشيئة الله..

ولذلك عندما يكون عقل الإنسان وعاطفته في يد الله، عندئذ تتفق مشيئة الإنسان مع مشيئة الله. وتكون طاعة الإنسان عن رضى واقتناع ومحبة لوصايا الله. وتكون طاعة الإنسان فرحة بوصايا الله وأوامره كمن وجد غنائم كثيرة كما كان يفعل داود… أما إذا تعارضت مشيئة الإنسان مع مشيئة الله، فلابد أن يكون هناك خلل في الإنسان، إما في طريقة تفكيره، وإما في شهوات قلبه.

وفي حالة تعارض المشيئتين هذه، يكون أمام الإنسان أحد طريقين للطاعة: أما أن يتضع الإنسان، ويلوم ذاته شاعرًا بخطئه، محاولا أن يصلح داخله لكي يتقبل مشيئة الرب بفرح. وأما أن يغصب الإنسان نفسه على الطاعة سواء فهم إرادة الرب أم لم يفهمها، رضى بها في داخله أم لم يرضى. المهم أنه لا يخالف… وأن يقول للرب في كل أمر “لتكن مشيئتك”.

على أن يونان لم يستطع أن يقول للرب “لتكن مشيئتك”. لم يستطع أن يتواضع أمام الرب، ولم يستطع أن يغضب ذاته على الطاعة. فاضطر الرب أن يتدخل بنفسه، كما سنرى في حديثنا المقبل..

 

فهرس سفر يونان النبي  تأملات في سفر يونان تفسير العهد القديم بحارة أُمَميّون كانوا أفضل من نبي
البابا شنودة الثالث
تفاسير يونان – مقدمة  تفاسير سفر يونان تفاسير العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى