القديس بيمن السائح وأخوته

 

ولد سنة ٣٥٠ م وكان له ستة أخوة هم انوبيوس أكبرهم و بایز وسمعان وألون ونسطور الملقب منذ القدم بالناسك وسأرماص الشاب. قيل ان جماعة التدميرين الذين غزوا مصر قبلا استولوا على جميع ممتلكات والد هؤلاء الاخوة ثم أوردوه حتفه .

وهؤلاء الأخوة السبعة اتفقوا معا على اعتناق سيرة الرهبنة واعتزل القديس بيمين عن الناس سنة ٣٨٥ م وانفرد في برية الاسقيط بمصر حيث تبعه أخوته الستة وكانت العيشة التي آثرها بيمين شديدة وصارمة للغاية اذ كان يقول « ان اللذة الشهوانية تطرد من القلب الندامة وخوف الله كما يطرد الدخان النحل فرائحتها تخمد النعمة وتنزع من التفس التعزية وحضور الروح القدس أيضا » غير أنه رأى في المستقبل ان هذه العيشة الغير الاعتيادية تنشيء في الانسان زهوا وفخرا ففضل عوضًا عن أن يصوم ثلاثة أيام أو أسبوعا أن يأكل كل يوم , بطريقة تجعله دواما شاعرا بالجوع . وعوضا عن أن يسهر الليل كله ينام منه أربع ساعات و يقضي نصف الباقي في الترتيل والصلاة والنصف الآخر في عمل يده . أما يومه فكان يقضي منه الی الساعة السادسة في عمله والى التاسعة في صلواته وما بقي يجمع فيه البقول التي يأكلها فيه .

وكان القديس في حياته يكثر من زيارة الشيوخ لكي يستفيد من آدابهم ولم يضجر من تأمل قول الأنبا موسى أحد معلمیه « يجب أن يكون لخادم الله قلب منسحق بالندامة ولابد أن يتخشع كل التخشع لاجل ذنوبه و يراها دائما أمام عينيه على أنه لا بد له حينئذ من أن يفتكر أبدا في زلات القريب ولا يحكم على أحد ما اذا لم يفوض له ذلك اما من باب المحبة وأما للقيام بواجبات وظيفته »

وفي سنة ٣٩٥ م اغار البرابرة على برية الاسقيط فانسحب هو واخوته الى فنبرينوت بالقرب من هیکل قديم للاوثان وأقام هناك عدة أعوام يسوس جماعة قليلة مساعداً أخيه الاكبر انوبيوس وكانوا يكرمون بعضهم اكراماً عجيباً . وحدث أن بيوس قضى أسبوعا في ذلك المعبد يرجم صباحا بالحجارة تمثالا كان فيه قصد اهانته و يأتي أمامه مساء جاثيا طالبا الغفران . فبيمين الذي شاهد تصرف أخيه هذا سأله عن مغزاه فأجابه انی لاجل تعليمك عملت هذا فالتمثال لم يكن يحزن وقت رشقه بالحجارة ولم يبهج أذ كنت أطلب الصفح فعلى هذا النحو ينبغی أن نتصرف أمام أحزان ولذات العالم » ومن هذا الدرس تعلم بيمين أن يقول « اني أصم لا اسمع ما يقال عنی واعمى لا ألتفت إلى نقائص القريب وأخرس لا أتكلم فيها ولا أحكم عليها بل أترك الحكم لله ».

وكان أحد السواح المقيمين تحت ارشاده يذهب أحيانا الى احدى البلاد القريبة و يبيع لمعلمه ما يشتغله من السلال . فجاء يوما طالبا منه أن يرشده الى طريقة يبيع بها السلال فقال له « اذا اراد أحد أن يشتريها بأكثر من ثمنها فلا تبعها وأما بأقل منه فسلم وكن على الدوام منتبها لكي يربح الناس منك وسر لانك تخسر لاجلهم » واتفق أن القديس شعر بأن رجلا اشترى منه السلال لكي يعمل معه معروفا فدفع له فضته واسترجع منه السلال قائلاً له « لا أريد أن أربح بخسارة الغير ».

 وأدرك القديس معنى قول السيد المسيح “من أحب أبا أو أما أو أخوة أكثر مني فلل يستحقني” بمعنی انه لا ينبغي أن يحبهم محبه تعوقه عن اتمام عمل خلاصه . فذات يوم جاءته والدته کی تشاهده فهرب منها مختفيا ولكنها لاحظته فتبعته وهی تبکی متوسلة اليه أن يقف لتشاهده وتخاطبه . أما هو فأجابها « لا تبكي لانك عتيدة أن تشاهديني في السماء الى الابد اذا سرت في طريقى » ومرة أخرى أرسلت اليه شقيقته تقول ان ابنها مسجون وقد وعد الحاكم باطلاقه اذا طلبت منه ذلك فرد عليها يقول « ليس لبيمين بنون يحزن عليهم فليفحصه الحاكم فان كان مذنبا فليعاقبه وان كان بريئا فليطلقه » فتعجب الحاكم من فضيلته وأطلق الشاب ولم يكن تصرفه هذا قساوة منه على أهله لان محبته وشفقته تجلت لكثيرين من الحزانی والمصابين الذين كانوا يلجاون اليه فيجدون فيه معزيا جليلا وكان يشعر بعطف گلی علی الخطاة حتی انه كان يقول « يجب أن نستعمل مع كل الخطاة كل ما نملك من الرحمة والمحبة لأننا إذا و بخناهم بشدة حينها يصرخون لنا بذنوهم نزيدهم حزنا ولكن ان كنا نهدیء روعهم ونطلب منهم أن يكفوا عن حزنهم و يلقوا اتكالهم على الله ونحذرهم من العودة للخطيئة في المستقبل يمكننا أن نجذبهم الى التوبة بسهولة ».

 ولما اشتهر القديس بيمين بصفات حسنة كثيرة في أنحاء القطر وأخصها استقراء الاحوال وكشف المكنونات . أصبح مقصدا لكل متحير وكثر القادمون اليه من كل مكان وقال له أحدهم يوما لقد كنت أخشى أن توصد في وجهی باب مغارتك لانه زمن صيام فأجابه « اني لا أعرف أن أغلق في وجه أي انسان هذا الباب الخشبی بل إني اجتهد بكل قوتي أن أغلق باب لسانی » والتجا اليه مرة أحد الرهبان لكي يعين له عملا يقوم به خلاف زرع الاراضي وأعطاء محصولها للفقراء فأجابه « أن هذا العمل الحسن لا يلزم أن يغير. ولما لامه البعض على تعيين فلاحة الارض كعمل خاص بالراهب قال « ان الذي يريد أن يفعل الخير لا يتخير نوعه بل فليعمل ما في قدرته » وحين طلب منه البعض أن يرشدهم الى كيفية ابادة الأفكار الرديئة أجابهم « اهملوا تلك الأفكار نظير المغلوق عليهم في السجن . لا تصغوا إليها ولا ترددوها من جديد في هواجسكم فتبيد من ذاتها کما تهلك الحيوانات التي لا توجد في مكان ليس فيه هواء ».

 ولما كشف له أحد الرهبان ضميره في انه كان يتعذب من قبل تصورات مختلفة أجابه « كما أن الذباب لا يستقر على وعاء مملوء من الماء المغلي الشديد الحرارة بل يستقر على الوعاء المملوء بالماء الفاتر وهناك يتولد الدود هكذا لا يستطيع الشيطان أن يضر بتجاربه الذين تتقد في قلوبهم محبة الله بل يستحوذ على الذي يكون قلبه فاترا في محبة الله.

وأحد الإخوة ارتكب زلة فتعهد له بأن يكفر عنها بأماته ثلاث سنين فقال له « أخاف أن لا تثبت على هذا القصد يجب أن ترضى باماته ثلاثة أيام وتعملها بحرارة » وآخر جاء يستشيره في بعض الوسائط التي يستعملها لينجو من تجربة شديدة وقوية فأمره أن يبعد عن مسكنه مسافة ثلاثة أيام وثلاث ليال و يصوم كل يوم حتى المغرب مدة سنة . وقيل أن راهبا كان متعذبا جدا من أفكار التجديف وحاول مرارا أن يخطر القديس بأمره ولكنه خشی فلمح منه ذلك وطلب اليه أن يكاشفه بأمره فشکی به تجربته فقال له « اذا وسوس اليك الشيطان بمثل هذه الافكار قل له « ان تجديفك يقع عليك أما أنا فلا آخذ منه جزءا لان قلبي يبغضه “.

وذات يوم جاءه رجل من سورية وسأله ای دواء أنفع لصلابة القلب فأجابة « الحرارة في الصلاة والمواظبة » وكان يحث الاخوة على دوام ممارسة الفرائض الالهية ولا سيما سر الإفخارستيا فقال لهم « أن الظباء بعد أن تفترس الافاعي في البراری تلتهب من سمومها فتطلب الماء لکی تبرد غليلها هكذا نحن نقدر أن نجتاز بادية هذا العالم بدون أن نبتلع شيئا من سمها ولا ننجو من ذلك الا بتكرار مباشرة الفضائل الالهية ».

وكانت الأجوبة الحكيمة التي يجاوب بها هذا القديس سائليه ناشئة من كثرة استنارته بشريعة الله ومواظبته على مطالعة الكتب المقدسة حتى انه قال في هذا الموضوع « كما أن الماء الجاري على توالي الزمن يتمكن من اقتلاع الصخور الراسخة هكذا المداومة على تلاوة كلام الله تلين القلوب الجامدة » ولكي يعزى ذلك البار الذين كانوا لا يجدون تعزية من كلمة الله لعدم فهمها قال لهم هكذا « كما أن الرقاة الذين يرقون الحيات لا يفهمون فحوى تلك الكلمات التي ينطقون بها ومع ذلك تفعل مفعولها في الحيات فتمنعها عن اللدغ هكذا كلام الله اذا تلى يستطيع أن يزعج الشياطين ولو لم يفهمه الذي يتلوه » .

 واعطى تلاميذه هذه القاعدة « لا تجاروا هواكم بل قاوموه في كل حين لان الذين يتبعون أهواءهم لا يحتاجون للشيطان ليجرهم فهم أنفسهم مجربون أشداء » وكان يقول « لا يمكن أن يطرد الشر بالشر . اذا فعل معك أحد شرا فافعل معه خيرا لتغلب الشر الذي يفعله معك بالخير الذي تفعله معه » وأضاف الى ذلك ما نصه « ان المقلق والمتذمر والمتظلم لا يستطيع أحد أن يكون راهبا وكذا ذوو الاميال الرديئة الشديدة ومن يجازي الشر بالشر » وكثيرا ما كان ينصح اخوته أن لا يكتموا التجارب في أنفسهم قائلا « لا شيء أحب للعدو من أن يرى واحدا مصرا على عدم اخبار رئيسه أو مرشده بتجاربه » وقوله « يجب أن تكون عيوب المرء دائما نصب عينيه بحيث أن ذلك يمنعنا عن ملاحظة عيوب الغير » وقوله « ان الصوم والانسحاق يمنعاننا عن رؤية زلات الغير ولو كانت تظهر مسوخا للذين يغفلون عن خطاياهم ، فلا ريب أن الذي يحكم على نفسه يقدر أن يعيش في كل موضع ويحتمل بصبر كل الشتائم » وقال يوما لراهب « ان من يملك نقاوة القلب هذه التي بها تستحق النفس أن ترى الله هو مقتنع أن فساد قلبه قد جعله أردأ من القتلة أنفسهم » أما أخوه انوبيوس فأثبت هذا الحكم بقوله « ان الدينونة التي يدين بها الإنسان نفسه تحجب زلات غيره فليس الانسان عادلا الا متی حكم على نفسه » وكان القديس بيمين يستعمل عادة هذا التشبيه هو « رجلان كان لكل منهما صاحب ميت في بيته فذهب الواحد الى الآخر وكلاهما يبكي على جسم حبيبه يتأسف عليه ومن ثم سبيلنا أن نشفق بعضنا على بعض ونشفق على زلات القريب ».

 وللقديس خلاف هذه الاقوال كثير ولا سيما فيما يتعلق بالصمت واحتقار الذات ، ومما يؤسف له اننا لم تقف على ما ذكرنا الا في مؤلفات الأجانب لفرط اهمالنا في حفظ آثار آبائنا وبعد أن مضى البار بيمين مدة في البرية يرشد و يعلم هجم البربر ثانيا على الجهة التي كان مقيما بها و كانوا يقتلون كل من وجدوه أمامهم حتى أضطر القديس أن يهرب هو والقديس ارسانیوس سنة ٤٣٠ م وأخيرا رقد في الرب في أواسط الجيل الخامس.

فاصل

القديس يوحنا

القرن الرابع العصر الذهبي

 

القديس ديديموس الضرير

 

مشاهير وقديسين الكنيسة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

زر الذهاب إلى الأعلى