تفسير إنجيل لوقا أصحاح 12 للأنبا غريغوريوس

الفصل الثاني عشر

12: 1- 12 احذروا من خمير الفريسيين :

 وفي هذه الأثناء تزاحمت عشرات الألوف من الشعب عند بيت الفريسي الذي اسـتـضـاف مخلصنا، حتى لقد كان بعضهم يدوس بعضاً من شدة الزحام. وعلى الرغم من أنه منذ قليل سمعه بعضهم يقول إن هذا الشعب شرير يطلب آية فلا يعطاها، (لو 11: 29) . وعلى الرغم مما صبه على رؤوس زعمائهم الدينيين من عبارات غضبه وويلاته، فقد ازداد عددهم جدا، وقد تقاطروا من كل حدب وصوب، لأنهم كانوا لا يزالون معجبين به، محبين له، راغبين في الإستماع إلى تعاليمه السماوية ورؤية معجزاته الإلهية. وقد كان هو راغباً عندئذ وعلى الدوام في أن يزودهم بتلك التعاليم ويدعم إيمانهم بتلك المعجزات، بيد أنه وجه قبل ذلك حديثاً خاصا إلى تلاميذه على مسمع منهم – بعد أن خرج من بيت الفريسي الذي دعاه – محذرا إياهم من رياء الفريسيين الذي رأوا مثلاً له منذ قليل في بيت أحدهم، قائلا لهم «احذروا قبل كل شيء من خمير الفريسيين الذي هو الرياء، لأنه ما من مكتوم إلا سيكشف، وما من مخفى إلا يعلمه . فقد كان الفريسيون يتظاهرون بشيء ويضمرون عكسه. وكانوا يقولون للناس في تعليـمـهـم مـالا يفعلونه هم أنفسهم في سلوكهم، مدعين لأنفسهم الصلاح وهم أشرار، زاعمين لأنفسهم التقوى وهم خطاة آثمون، داعين الناس إلى إلتزام أحكام الشريعة، بل إلى التزام أحكام أخرى جاءوا بها من عندهم كدليل على تطرفهم وتدقيقهم في طاعة الشريعة، في حين أنهم هم أنفسهم لم يكونوا يلتزمون بهذه أو بذلك من الأحكام. فكانوا يسممون عقول الناس بتعاليمهم التي كانت تسرى سمومها في عقولهم كما يسري مفعول الخمير في العجين حتى يختمر كله.

وقد حذر مخلصنا تلاميذه من أن يتأثروا هم بتعليمهم أو يفعلوا فعلهم حين يعلمون الناس، لأن الفريسيين كانوا يكتمون عن الناس شرورهم ويخفون عنهم خطاياهم وأثامهم، في حين أنه ما من مكتوم مهما طال كتمانه إلا سيكشف في يوم من الأيام. وما من مخفى مهما كانت وسائل الحرص والإحتياط في إخفائه إلا سيعلمه الناس عاجلا أو آجلا. فالرياء لا جدوى منه لأنه سريعا ما يفتضح أمره ، والمراعون سريعاً ما تتضح للناس حقيقتهم، فيفقدون الثقة فيهم ويزدرونهم ويحـتـقـرونهم ويكفرون بما سمعوه منهم من تعليم. ومن ثم ينبغي على تلاميذ مخلصنا ألا يظهروا للناس إلا ما يبطنون، وألا يتظاهروا بما ليس فيهم، وألا يطلبوا من غيرهم أن يفعلوا إلا ما يفعلونه هم أنفسهم. كما أنه ينبغي أن يصارحوا الناس بكل ما قاله لهم معلمهم وبكل ما علمهم إياه ولا يكتموا منه شيئاً. وينبغي أن يفعلوا ذلك علانية، مادام كل مكتوم سيكشف وكل مخفى سيعلم، إذ قال لهم فما قلتموه في الظلام سيسمع في النور، وما همستم به للأذن في المخادع سينادي به على السطوح.

وإذ كان مخلصنا يعلم أن مجاهرة تلاميذه بالتبشير به ويتعاليمه سيدفع بـخـصـومـه إلى اضطهادهم والتنكيل بهم وسفك دمهم، أراد التهـرين عليهم وتشجيعهم على مواصلة أداء رسالتهم، غير خائفين أو هيـابين أو مضطربين، فقال لهم بيد أنني أقول لكم يا أحبائي: لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد. ثم لا يستطيعون بعد ذلك شيئاً أكثر من هذا. وإنما أريكم ممن تخافون. خافوا من ذلك الذي بعد أن يقتل، يملك السلطان أن يلقي في جهنم. نعم أقول لكم من هذا خافوا. أليست خمسة عصافير تباع بمليمين، ومع ذ ذلك فواحد منها ليس منسيا أمام الله ؟ بل إنه حتى شعر رءوسكم معدود كله . فلا تخافوا إذن فإنكم أثمن من عصافير كثيرة، كما أقول لكم إن كل من يعترف بي أمام الناس، سيعترف به ابن الإنسان أمام ملائكة الله. أما من ينكرني أمام الناس فسوف أنكره أنا كذلك أمام ملائكة الله. ومن قال كلمة ضد ابن الإنسان يغفر له . أما من جدف على الروح القدس فلن يغفر له. فمتى ساقوكم إلى المجامع والحكام وذوى السلطان فلا يهمكم كيف أو بماذا تجيبون، أو ماذا تقولون، لأن الروح القدس سيلهمكم في تلك الساعة ما ينبغي أن تقولواه . ومن ذلك يبدو مدى ما كان يكن مخلصنا لتلاميذه من محبة، إذ خاطبهم قائلاً ، يا أحبائي، كما يبدو مدى ما كان يغمرهم به من عناية ورعاية وحدب وحنان، لا يغمر به إلا الأب أبناءه حين يرسلهم لأداء. مهمة مقدسة ولكنها خطيرة وخطرة، فهو لا يفتأ يزودهم من وصاياه بما يطمئنهم ويهدىء من روعهم ويقوى من عزائمهم، مؤكدا لهم أنه سيظل دائما بروحه معهم يشد من أزرهم ويعاونهم على احتمال، ما سيتعرضون له من آلام، ولو أدت بهم إلى الموت، إذ يمسك بهم أعداؤه وأعداؤهم ويقتلونهم، قائلا لهم ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ثم لا يستطيعون بعد ذلك شيئاً أكثر من هذا. وإنما أريكم ممن تخافون. خافوا من ذلك الذي بعد أن يقتل، يملك السلطان أن يلقي في جهنم . نعم أقول لكم من هذا خافواه . فإن أقصى ما يملكه أعداء السيد المسيح هو أن يقتلوا رسله والمؤمنين به، أي تنزع أرواحهم من أجسادهم، ثم لا يستطيعون ذلك شيئاً، لأنه إن كانت الأجساد تضمحل، وفي رقادها راحتها مما تلاقي في الحياة من المتاعب والآلام، فإن الأرواح تظل حية، لا يملك أن يمسها إنسان بسوء، بل إنها تنتقل من حياة السجن التي هي فيه، والعذاب الذي تعانيه على الأرض، إلى حياة الحرية والإنطلاق والنعيم الأبدي في السماء، فليس في الموت من أجل غاية سامية أو رسالة سماوية ما يبعث على أي خوف، أو يتضمن في ذاته أي شر، وإنما فيه الخير كل الخير، والسلامة كل السلامة، والسلام كل السلام. أما الذي ينبغي أن يخاف الإنسان منه حقاً، فهو الذي بعد أن يقتل الجسد ويهلك في الدنيا، قادر أن يهلك الروح ويلقى بها في جهنم . وبذلك يقضي لا على العنصر الفاني في الإنسان فحسب، وإنما يهلك العنصر الخالد فيه أيضاً، وذلك هو الله وحده الذي في يده حياة الإنسان في الدنيا وفي الآخرة على السواء. والذي كـمـا يملك أن يحيى الإنسان ويميته في الأرض، يملك كذلك أن يحيى الإنسان في السماء لو كان هذا الإنسان بارا، ويميتـه لـو كـان شريراً، مانحاً الحياة الأبدية لذاك في النعيم الذي أعده لراحة الأبرار، وقاضياً بالموت الأبدى على هذا في جهنم التي أعدها لهلاك الأشرار. فلئن كان هذا هو ما لله من سلطان، إن منه وحـده ينبغي أن يخاف الإنسان، وإياه وحده ينبغي أن يراعي في كل ما يقول، وكل ما يفعل، وكل ما يصدر عنه من مشاعر أو خواطر، أو نوايا أو أفكار. ولكن كان الأشرار من الناس يعادونه أو يعتدون عليه لأنه يراعي الله في كل ذلك، فلا ينبغي أن يخاف منهم، أو يخشى غضبهم، لأنهم مهما فعلوا به ولو قتلوه ، فلن يوازي ذلك مقدار ذرة مما يفعل الله بهم جزاء شرورهم، ثم إنه مهما حدث له من الناس فإن الله لن ينساه ، لأن الله يسبغ عنايته وحمايته على أصغر مخلوقاته وأقلها شأناً، فكم بالأحرى يسبغها على الإنسان الذي جعله سيد مخلوقاته، ولا سيما إن كان صالحاً باراً مومنا به، مصحيا بكل شيء في سبيل ولائه له وحبه إياه، وتبشيره بالخلاص الذي أنعم به على البشر بغداء ابنه الحبيب. ومن ثم قال فادينا لتلاميذه أليست خمسة عصافير تباع بمليمين ومع  ذلك فواحد منها ليس منسيا أمام الله ؟ بل إنه حتى شعر رؤوسكم معدود كله. فلا تخافوا إذن فإنكم أثمن من عصافير كثيرة.. فإن كان الله لا ينسى حتى العصافير التي هي أضعف المخلوقات وأزهدها ثمناً، وإنما يحفظ حياتها، ويوفر لها طعامها. وإن كان يحصى كل شعرة في الإنسان ويشملها برعايته، فهل يجدر بالإنسان ـ إذ يعرف ذلك ـ أن يخاف كائناً غير الله وهل يجدر به إن هدده أي خطر مهما كان مصدره أو كانت جسامته أن يرتاب في عناية الله وحمايته له ورعايته إياه ؟ .

وقد وهب مخلصنا تعزية أخرى لتلاميذه وهو يشجعهم على التبشير به والمناداة باسمه مهما لاقوا من صنوف الضيقات وعانوا من ألوان العذاب وشربوا من كؤوس الموت، قائلا لهم كما أقول لكم إن كل من يعترف بي أمام الناس، سيعترف به ابن الإنسان أمام ملائكة الله،، أي أنهم إذا اعترفوا أمام الناس – هم أو سواهم من المؤمنين ـ بأنه هو المسيح ابن الله مخلص العالم الذي تنبأ الأنبياء بأنه سيتخذ جسد الإنسان وصورة ابن الإنسان ويحل بين الناس ليفديهم بدمه ويرفع علهم عقوبة الهلاك المحكوم بها عليهم من أجل شرورهم، سيعترف هو بهم في يوم الدينونة أمام ملائكة الله الماثلين حول عرشه، فينالون باعترافه بهم الكرامة والمجد اللائقين بالقديسين المستحقين لبنوة الله ورعوية ملكوت السماوات. وتلك هي قمة الكرامة التي لا قمة بعدها، وذروة المجد التي لا ذروة تعلوها. وأما من يفعل عكس ذلك، فيكون نصيبه عكس ذلك أيضاً، إذ قال مخلصنا وأما من ينكرني أمام الناس فسوف أنكره أنا كذلك أمام ملائكة الله.. لأن الذي ينكر أن هذا هو المخلص لن ينال الخلاص، إذ سينكره صانع الخلاص ومانحـه في يوم الدينونة أمـام ملائكة الله، فلا يكون نصيبه إلا الخزي والهوان والهلاك.

وقد كان مخلصنا يعلم أن كثيرين من الناس السطحيين الذين تستهويهم مظاهر العالم الكاذبة، وتبهرهم  أمـجـاده الباطلة، يزدرون بمخلصنا لبساطة مظهره الإنساني، وتواضع مـركـزه الإجتماعي، فيستكثرون أن يكون هذا هو ابن الله، وينكرون أن هذا هو المسيح الذي ينتظرونه، فيتكلمون عنه في هزء وسخرية بيد أن موته وقيامته وصعوده إلى السماء، ثم نزول الروح القدس على تلاميذه وما يؤدي إليه ذلك من آيات ومعجزات تجرى على أيدي التلاميذ لا تجعل لأولئك المنكرين المستنكرين عذراً ولا مبرراً في الاستمرار في إنكارهم، أو التمادي في استنكارهم، بعد أن اكتملت الأدلة على أن هذا الإنسان البسيط المتواضع الذي كانوا يهزأون به ويزدرونه هود المسيح ابن الله، ومن ثم ستكون جريمتهم فادحة ويكون هلاكهم أكيداً، ولذلك قال مخلصنا إن من قال كلمة ضد ابن الإنسان يغفر له. أما من جدف على الروح القدس، فان يغفر له، ، أي أن الذين أنكروا مخلصنا قبل اكتمال البراهين على حقيقة شخصيته يكون باب الغفران مفتوحاً أمامهم إذا عادوا فآمنوا . وأما الذين أنكروه بعد اكتمال تلك البراهين، فقد دللوا على فساد عنصرهم وعناد قلوبهم وعمى بصائرهم وسيطرة الكبرياء عليهم وتأصل الشر فيهم بحيث شابهوا الشيطان نفسه في كل صفاتهم وتصرفاتهم، ومن ثم استحقوا ما استحق الشيطان من سقوط وهلاك أبدى، فلن تكون ثمة مغفرة لهم. وهذا هو ما يصنع الفارق دائما بين من يخطأ إلى الله عن جهل، وبين من يخطأ إليه عن علم وعن عمد. فإن ذلك يغفر الله له إذا عاد تائباً، وأما الآخر الذي يجدف على الرغم من معرفته بالله وبالمسيح وحقيقته، فإنه يجدف عن علم وعن قصد شرير، وخبث قلب، وليس لهذا الأخير مغفرة لأنه قد فقد نور البصيرة، وصار معاندة للروح القدس الذي يهب البصيرة ويمنح القدرة على التمييز بين الخير والشر. إنه لن يغفر له، لأنه هو نفسه لن يطلب الغفران بعد أن فارقه الروح القدس الذي ينخس القلب للتوبة، ولا يفارق الروح القدس إنساناً إلا بعد أن يمسي رافضاً ومقاومة لنداء الروح.

وقد كان ثمة مشجع آخر ساقه مخلصنا إلى تلاميذه ليدعوهم إلى الجرأة في أداء الرسالة التي كلفهم بها مهما لاقوا في سبيل ذلك من عنت وعسف وطغيان، إذ قال لهم “فمتى ساقوكم إلى المجامع والحكام وذوى السلطان فلا يهمكم كيف أو بماذا تجيبون، أو ماذا تقولون، لأن الروح القدس سيلهمكم في تلك الساعة ما ينبغي أن تقولواء ، أي أنهم متى ساقوهم بسبب تبشيرهم باسم المسيح ليحاكموهم أمام المجامع التي هي معابد اليهود، والتي هي في الوقت نفسه محاكمهم، أو أمام ذوى السلطان من الملوك أو الولاة أو رؤساء الكهنة أو أعضاء مجلس السنهدريم الذي هو السلطة الدينية والمدنية العليا لليهود، فلا يساورهم الهم بشأن ما عسي أن يدافعوا به عن أنفسهم، أو يدفعوا الاتهامات التي سيوجهونها إليهم، لأن الروح القدس الذي سينزل عليهم بعد صعود مخلصنا فيمتلكون من نعمته وقوته سيضع في فمهم عند ذاك الكلام الذي يقولونه، ولن يستطيع بشر مهما بلغ من سطوته وسلطته وقوة حجته أن يناقض ذلك الكلام أو ينقضه، لأنه كلام الله ذاته، فليتشجع التلاميذ إذن في أداء رسالتهم، ولا يهابوا أحداً، لأنه إن كان الله معهم فمن عليهم؟

12: 13، 14 المسيح لا يمارس اختصاصات السلطات الأرضية :

وقد كانت رسالة معلّمنا على الأرض رسالة روحية خالصة. كما كان سلطانه سلطاناً روحياً خالصاً، فلم يضع للناس تشريعا أرضيا، ولم يشأ أن يكون له سلطان المشرع الأرضي، ولم يقض بين الناس في شـكـون أرضـيـة، ولم يشأ أن يكون له سلطان القاضي، ومن ثم لم يـتـعـرض للتشريعات المدنية للدولة ولم يتدخل في المنازعات القضائية بين الأفراد، لأن هذه كلها أمور أرضية زائلة، في حين كان تعليمه هو تعليما سماوياً خالداً يتعلق لا بالحياة الدنيوية في الأرض، وإنما بالحياة الروحية في السماء، هادفاً لأن يدعو الناس لأن يخضعوا في الأرض، لا لشريعة الأرض، وإنما لشريعة السماء، ولذلك حدث أن قال له واحد من الجمع ، يا معلم قل لأخي أن يقاسمني الميراث، . معتقدا أن مخلصنا بما له من هيبة وسلطان سيقضي في النزاع الناشب على الميراث بينه وبين أخيه. بيد أن مخلصنا أوضح له أنه لا يتعرض لمثل هذه الأمور التي تتعلق بالمنازعات المالية ولا شأن له بها، ولم يزعم أنه مختص بالقضاء فيها، قائلا له أيها الرجل من أقامني قاضياً عليكما، أو مقسما بينكما؟.. بيد أن القول الصادر عن الرب يسوع المسيح هنا لا يهدم القضاء ولا يلغيه ولا يبطل الحاجة إليه، بل يؤكده ، ولكنه يحيله إلى المختصين به من أهل القضاء. وفي نفس الوقت يكشف عن دعوة السيد المسيح الروحية إلى حياة الكمال التي تعلو على مستوى الاختصام إلى القضاء الأرضى. فالذين نزل مستواهم الروحي إلى حد الاختصام، لهم القضاء المدني يفصل في خصوماتهم، ولهم أيضا شريعة العهد القديم التي أعطيت لمن يتنازعون فيما بينهم على شكون الميراث، أما أتباع السيد المسيح فلهم شريعة الكمال التي تسمو بهم على الاهتمام بالمنازعات على المال والأرض وما إليها من أمور فانية زائلة.

12: 15- 31 السيد المسيح يحذر من الجشع :

ولربما كان ذلك الرجل الذي طلب من مخلصنا أن يقسم الميراث بينه وبين أخيه، يهدف من طلبه هذا إلى الجور على نصيب أخيه في الميراث بدافع من الجشع لينال أكثر مما يستحق. كما كان كل اهتمامه متجها إلى المال والإكثار منه .. . وإذ كان مخلصنا يعلم هذا التفت إلى تلاميذه وإلى غيرهم ممن كانوا واقفين يستمعون إليه وقال لهم وانتبهوا واحذروا من الجشع، لأن حياة الإنسان ليست في كثرة ما يملكه . ثم ضرب مخلصنا لهم مثلاً يوضح لهم فيه ما يعني قائلاً: إن رجلاً غنيا أخصبت أرضه، ففكر في نفسه قائلاً: ماذا أفعل فإنني لا مكان عندي أ ى أجمع فيه ثماري؟ . ثم قال: هذا ما أفعل . أهدم مخازني وأبنى أكبر منها، وهناك أجمع ثماري وخيراتي، وأقول لنفسي يا نفس إن لك خيرات وفيرة مدخرة لسنين كثيرة فاستريحي وكلي واشربي وتنعمي. ولكن الله قال له: أيها الغبي، في هذه الليلة تسترد نفسك منك . فلمن يكون هذا الذي أعددته؟ هكذا الذي يكتز لنفسه، ولا يكون غنيا فيما لله، ، أي أن إهتمامات الإنسان لا ينبغي أن تنصب على إقتناء ما في الدنيا من متاع مادي وأرضى زائل، يحصر كل آماله فيه، ويجعل كل إتكاله عليه، لأنه مهما أكثر وأدخر منه فسيموت في أي لحظة ويتركه فيخرج من الدنيا خاوى الوفاض صفر اليدين، وقد خسرها وخسر الآخرة معها، وإنما ينبغي أن تنصب إهتماماته على تقوى الله في أعماله وفي كل أحواله، وعلى إقتناء المواهب والبركات الروحية والسمانية التي لا يمكن أن ينتزعها الموت منه، وإنما تظل كنزاً خالداً مدخرا له لينعم به إلى آخر الدهر في الحياة الأبدية .

ثم قال مخلصنا لتلاميذه ولذلك أقول لكم لا يشغلكم الهم لأجل حياتكم بشأن ما عساكم أن تأكلوا، أو لأجل جسدكم بشأن ما عساكم أن تلبسوا، فإن الحياة أهم من الطعام، والجسد أهم من اللباس . تأملوا الغربان، فإنها لا تزرع ولا تحصد وليس لها مخادع ولا مخازن، ومع ذلك فإن الله يقوتها. فكم أنتم بالحري أفضل من الطيور؟ ومن منكم إذا أقلقه الهم يستطيع أن يضيف إلى قامنه ذراعا واحدة ؟ فإن كنتم لا تستطيعون أن تفعلوا هذا الذي هو أقل الأمور، فلماذا تهتمون بما عداه ؟ . انظروا إلى الزنابق كيف تنمو. لا تكد ولا تغزل، ومع ذلك أقول لكم إن سليمان نفسه في كل مجده لم يلبس كواحدة منها، فإن كان العشب الذي يوجـد اليـوم في الحقل وفي الغد يطرح في التنور يلبسه الله هكذا، فكم بالأحرى يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟. فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون أو مـا تشـريون ولا تقلقـوا، فإن هذا كله يطلبه الوثنيون في العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم محتاجون إلى هذا. ولكن بالأحرى اطلبوا ملكوت الله، فيعطى لكم فوق هذا ذلك كله. لا تخف أيها القطيع الصغير، فإنه قد حسن لدى أبيكم أن يعطيكم الملكوت. ببعوا ما تملكون وتصدقوا. أعدوا لأنفسكم أكياساً لا تبلى وكنزاً في السماء لا ينفد. حيث لا يقربه سارق ولا يفسده سوس، لأنه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضـاء . ذلك أنه مادام الإنسان لا يفيده ما يكنز من مال، لأنه سيموت ويتركه على أي حال فلدن تمتع به متعة جسدية في الأرض فترة من الزمن مهما طالت، إنه إذ يبذل في جمعه كل همه، ويركز في الاحتفاظ به كل إهتمامه، ويعلق عليه كل آماله، ويجعل عليه كل اتكاله، يصرفه ذلك عن التطلع إلى أي متعة روحية، تنتقل به من الأرضيات الغانية إلى السمائيات الخالدة. كما يصرفه الاتكال على المال الزائل عن الاتكال على الله الأزلي، فيخسر حياته الأبدية ويستوجب غضب الله عليه غضبا أبدياً، لا يجدي معه كل ما في الدنيا من أموال، ولا ينقذه منه كل ما فيها من مقتنيات ومشتهيات. لذلك لا ينبغي أن يدور كل اهتمام الإنسان حول حياته الجسدية، حاصراً كل همه فيما عساه أن يأكل، أو ما عساه أن يلبس. وإنما فليهتم قبل كل شيء بحياته الروحية التي هي الحياة الحقيقية، لأنها أهم مما يأكله الجسد من طعام أو يرتديه من لباس، ولأن الله هو الذي خلق الجسد وهو الذي يدبر له طعامه ولباسه. ويكفي الإنسان أن يتأمل فيما حوله من خليفة الله من أعلاها مكانة إلى أدناها شأناً، فإنه سيجد حتى الغربان التي لا تزرع كالإنسان ولا تحصد، وليس لها كالإنسان مخادع تأوي إليها أو مخازن تضع فيها محاصيلها، يدبر لها الله القوت فتأكل وتشبع بغير أن تحمل لذلك هما، أو تبدي نحوه إهتماماً. فإن كان الله يدير هكذا شكون الغربان التي هي من أدنى مراتب الأحياء، أفلا يدير شئون الإنسان الذي خلقه على صورته، وأعطاه السلطان على كل خليـقـتـه ؟ وماذا يجدي الإنسان همه أو إهتمامه إن كان الله لا يدبر شلونه؟ أيستطيع أن يزيد في قامته ذراعاً واحدة، أو يزيد في عمره يوماً واحداً؟ فإن كان عاجزاً مهما اهتم ـ عن أن يحقق لنفسه ذلك الذي هو من أهون الأمور عند الله، فلماذا يريك نفسه ـ وهو يدرك عجزه – بالاهتمام الذي يبلغ درجة الهم في تدبير حياته بأكملها، ناسياً تدبير الله القدير، أو متناسياً إياه ؟ . إن الأعشاب وهي أضعف نبات الأرض يبث الله فيها الحياة، فتنعو دون أن تبذل أي مجهود تكسوها زنابق بديعة التكوين رائعة الألوان، حتى إن أعظم للملوك وهو سليمان الذي أحاط نفسه بكل أمجاد الملوك وفخامة أرديتهم لم يكن ليستطيع أن يصنع لنفسه رداء يلبسه أبدع من واحدة من تلك الزنابق أو أروع جمالاً. فإن كانت تلك الأعشاب الدقيقة الرقيقة التي تنمو في الحقل ثم سرعان ما تذبل وتجف وتغدو وقوداً يحترق في التنور، يكسوها الله بذلك الرداء الذي ليس أبدع ولا أروع منه. فكم هو قادر أن يكسو الإنسان الذي أعده لملكوته، ووعده – إن أطاعه – بأن يكون آخر الأمر معه في الملكوت ؟. بيد أن الإنسان بسبب قلة إيمانه، ولعدم اتكاله لذلك على الله، لا يفتأ مـهـمـومـاً مهتما بما عساه أن يأكل، وما عساه أن يشرب، وما عساه أن يلبس. ومن ثم أوصى مخلصنا تلاميذه وأوصى المؤمنين جميعاً بألا يقلقوا بشأن ذلك كله، كما يقلق الوثنيون في هذا العالم، لعدم إيمانهم بالله، فلا تفتأ تلك الاهتمامات الأرضية تسيطر عليهم وتستعبدهم. وأما تلاميذ مخلصنا وكل المؤمنين به فلتطمئن قلوبهم، واثقين كل الثقة، وموقنين كل اليقين بأن أباهم الذي في السماء يعلم أنهم محتاجون إلى تلك الأمور كلها. فلو أنهم اتجهوا إليه وطلبوا ملكوته السماوي قبل أي شيء من تلك المطالب الأرضية، لأسبغ عليهم نعمته فأعطاهم ملكوته السماوي، وأعطاهم كذلك أثناء حياتهم على الأرض ما هو ضروري لحياتهم الأرضية. وليس معنى ذلك بطبيعة الحال أن يقعد الإنسان عن العمل طلباً لمأكله ومشربه وملبسه، وإنما معناه ألا يجعل من ذلك غايته التي لا غاية له في الحياة سواها، وإنما فليجعله وسيلته إلى تقوى الله ، وإلتزام ما ينبغى نحوه من خضوع وخشوع وولاء، وليجعله سبيله في الأرض إلى بلوغ ملكوت السماء.

12: 32- 40 الاستعداد للمجيء الثاني :

ثم أخذ مخلصنا يشجع تلاميذه على أن يتكلوا على الله كل الاتكال فيما يعانون من الضيق والعوز وشظف العيش في هذا العالم، قائلا لهم «لا تخف أيها القطيع الصغير، فإنه قد حسن لدى أبيكم أن يعطيكم الملكوت. بيعوا ما تملكون وتصدقوا. أعدوا لأنفسكم أكياساً لا تبلي، وكنزاً في السماء لا ينفد، حيث لا يقربه سارق ولا يفسده سوس، لأنه حيث يكون كنزكم، هناك يكون قلبكم أيضاً. لتكن أحقاؤكم مشدودة ومصابيحكم موقدة. وكونوا كأناس يترقبون عودة سيدهم من العرس حتى إذا جاء وقرع يفتحون له على الفور. سعداء أولئك الخدام الذين متى جاء سيدهم يجدهم يقظين، الحق أقول لكم إنه يتمدطلق ويجلسهم إلى المائدة ثم يقف ويخدمهم، وإذا جاء في الهزيع الثاني أو جاء في الهزيع الثالث وجدهم يفعلون هكذا. فطوبى لأولئك الخدام . ولكن اعلموا أنه لو عرف رب البيت في أية ساعة يأتى اللص لظل ساهراً، فلم يسمح لأحد بأن يقتحم بيته . فكونوا أنتم أيضا مستعدين، لأنه في ساعة لا تتوقعونها يأتى ابن الإنسان، . فقد كان تلاميذ مخلصنا الذي آمنوا به وتبعوه حفنة قليلة جدا من القوم البسطاء المتواضعين المسالمين وسط أعداد ضخمة من الأغنياء والأقوياء والبغاة والعناة والأشرار وسافكي الدماء الذين أنكروه ورفضوه، كأنهم القطيع الصغير من الخراف الوديعة بين أفواج هائلة من الذئاب الشرسة وكل أنواع الوحوش المفترسة، فإنهم على الرغم من قلة عددهم قد نالوا نعمة عظيمة ارتفعت بهم إلى مرتبة لا يمكن أن يصل إليها أغنى الأغنياء أو أقوى الأقوياء، أو أعتى العقاة مهما بلغ شرهم أو بلغت شراستهم. ومع ذلك فإن إيمان أولئك التلاميذ القلائل بمعلمهم ابن الله، وولاءهم له قد جعلهم أهلا لرضى أبيهم السماوي عنهم، حتى لقد شاءت مسرته أن يسبغ عليهم أسمى نعمة يمكن أن يتطلع إليها إنسان في الأرض، إذ وهبهم ملكوت السماء، ومن ثم ينبغي عليهم إزاء تلك الهبة السامية السمانية، لا أن يتخلوا عن الخوف والقلق بصدد المقتنيات الدنيوية التي يهتم الناس بتوفيرها للمستقبل فحسب، وإنما أن يتخلوا حتى عن مقتنياتهم التي يمتلكونها في الحاضر من خزائن مال ومخازن قمح وغير ذلك من ممتلكات الدنيا، ويتصدقوا بها على الفقراء، كعلامة ، علامات نبذهم للإهتمامات الأرضية وتطلعهم بعمل الخير إلى الإهتمامات السمائية وحدها. لأن المال قد يسرقه اللصوص، والقمح قد يفسده السوس، وكل ما هو أرضى مصيره إلى الفناء، وأما ما يصنعونه من خير لوجه الله فيظل محفوظا في السماء بمثابة كنز ثمين حصين خالد، لا يسرقه سارق ولا يفـسـده سـوس ولا يلحق به فناء، ولأنهم إن كان كنزهم في الأرض لا تفتاً قلوبهم متشبثة بالأرض التي فيها كنزهم، فيظلون أبناء الأرض، ومن ثم يكون مصيرهم كمصير الأرض وهو الهلاك. وأما إن كان كنزهم في السماء فإن قلوبهم لا نفتا تتطلع إلى حيث ذلك الكنز في السماء، فيصبحون أبناء السماء، ومن ثم يكون مصيرهم في ذلك الموطن الخالد هو الحياة الأيدية الخالدة. كما أنهم ينبذهم الأرضيات، وتطلعهم إلى السمائيات يكونون مستعدين دائما ليوم الدينونة الرهيب الذي سيجيء فيه المسيح إلى الأرض مجيده الثاني ليدين الأحياء والأموات. وينبغي أن تكون حالة الاستعداد هذه دائمة لا تتوقف، مستمرة لا تنقطع، وأن يكونوا على الدوام يقظين ومتأهبين لإستقباله وأحقاؤهم مشدودة ومصابيحهم موقدة، أي أن يكونوا مستعدين بأجسادهم، بحيث تكون جاهزة رهن إشارته لتنفيذ مشيئته، ومستعدين في نفس الوقت بأرواحهم بحيث تكون مضيئة كالمصابيح الموقدة لتسير في موكب ضيائه، وتستقبل بها طلعته. وليداوموا السهر وهم مستعدون منتبهون هكذا، بحيث لا تستأثر بإنتباههم الدنيا فتشغلهم عن إستعدادهم، أو يدفع بهم الفنور في الإيمان إلى الاستسلام للدوم الذي هو إنطفاء جذوة الروح. وإنما ليكونوا وكأناس يترقبون عودة سيدهم من العرس، حتى إذا جاء وقرع يفتحون له على الفور، مهما أبطأ في مجيده، ومهما كان ذلك في ساعة متأخرة من الليل، فيعلم عندئذ أنهم كانوا ساهرين في إنتظاره ، متأهبين لإستقباله، ومن ثم يفرح بهم ويكافلهم على محبتهم وإخلاصهم وولائهم، إذ يتمنطق ويجلسهم إلى المائدة ثم يقف ويخدمهم، فيملأ ذلك بالسعادة قلويهم . وهذا هو ما يفعله مخلصنا بخدامه الذين يظلون ساهرين – وقد تعلقت به أرواحهم ـ في إنتظار مجيئه، فإنه يحبهم كما أحبوه، ويخدمهم كما خدموه ، ويكرمهم كما أكرموه . فيا لها من غبطة عندئذ تملأ جـوانـحـهم، ويا له من نعيم تسبح فيه عندئذ أرواحهم، ومن ثم فليظل تلاميذ السيد المسيح ويظل كل المؤمنين به مستعدين على الدوام في حياة القداسة والشخوص بعقولهم وقلوبهم وأرواحهم إلى ملكوت السماوات، متأهبين لمجيئه الثاني في يوم الدينونة، لأنه سيجيء في ساعة لا يعلمها أحد أبدا من الناس. فإن توانوا أو تهاونوا أو تضعضعوا أو تراجعوا، يجيء بغتة فيجدهم غير مستعدين ولا متأهبين، فيكون نصيبهم النقمة بدل النعمة، والهلاك الأبدي بدل الحياة الأبدية . فكما أنه الوعرف رب البيت في أية ساعة يأتي اللص، لظل ساهراً، فلم يسمح لأحد بأن يفـتـحـم بـيـتـه . أما إن غفل أو نام يأتى النص فـيـجـرده من كل ما يملك . فليكونوا هم أيضاً مستعدين، لأنه في ساعة لا يتوقعونها يأتي مخلصنا ابن الإنسان الذي هو في نفس الوقت ابن الله، و ايجلس عندئذ على عرش مجده ، وتجتمع أمامه كل الشعوب، فيفرز بعضهم من بعض كما يفرز الراعي الخراف من الجداء، ثم يقيم الخراف عن يمينه، وأما الجداء فمن يساره . . حينئذ يقـول الملك للذين عن يمينه: تعالوا أيها المباركون من أبي لترثوا الملكوت المعد لكم منذ إنشاء الـعـالـم .. ثم يقـول أيـضـاً للأشرار الذين عن يساره : اذهبوا عنى يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته .. فيمضى هؤلاء إلى العذاب الأبدى . وأما الأبرار فإلى الحياة الأبدية (مت 25: 31 -46). بيد أن هذا القول يمكن أن ينسحب من حيث المبدأ على مجيء الموت فجأة، ومن ثم فإن على كل إنسان – فضلاً عن رجال الدين ـ أن يكونوا دائماً مستعدين لملاقاة الموت وساعة الانطلاق من هذا العالم بالاستعداد اللائق بالخدام اليقظين الساهرين، لتلبية دعوة سيدهم للخروج من دار الزوال والفناء إلى دار الخلود والبقاء.

12: 41- 48 مكأفاة الوكيل الأمين ومجازاة الوكيل الشرير:

وعندئذ قال بطرس لمخلصنا يارب أتقول لنا نحن هذا المثل أم للجميع ؟»، أي هل توجه لنا نحن تلاميذك فقط هذا المثل الذي يتعلق برب البيت الذي يظل ساهرا لئلا يقتحم اللى بيته، وهل توجـه لنـا وحـدنـا مـا سبق هذا المثل من تعاليم، أم توجه هذا المثل وهذه التعاليم للناس جميعاً؟. وقد أجاب مخلصنا عن هذا السؤال في موضع آخر إجابة سريحة واضحة، إذ قال لتلاميذه وما أقوله لكم أقوله للجميع، (مر 13: 37). فلا ريب أن تعاليم مخلصنا موجهة للناس جميعاً، وإن كانت موجهة إلى تلاميذه بصفة خاصة. لأنه أراد منهم أن يستوعبوا هذه التعاليم إستيعاباً كاملاً ليعلموها بعد ذلك لسائر الناس، وليكونوا في ذلك هم الطليعة والقدوة في الانتفاع بتلك التعاليم، ونيل ما تنطوى عليه من نعمة جزيلة، وما تؤدى إليه من نعيم أبدى، وكذلك في إقناع سائر الناس بها لينتفعوا هم أيضاً بها وينالوا نعمتها ونعيمها. بيد أن مخلصنا حين أجاب عن سؤال تلميذه بطرس كان يوجه تعليمه هذه المرة لتلاميذه بصفة خاصة، لأنه جعلهم وكلاء له على الأرض وخداما لكلمته ولكنيسته. كما كان يوجه ذلك التعليم لكل من يتسلمون من التلاميذ تلك الوكالة لينهضوا بها من بعدهم إلى نهاية الزمان، إذ قال الرب له المجد ومن تراه ذلك الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على عبيده ليقدم لهم ما يخصهم من الطعام في حينه ؟ . مغبوط ذلك العبد الذي متى جاء سيده وجده يفعل هكذا، الحق أقول لكم إنه سوف يقيمه على كل أمواله. أما إن قال ذلك العبد في قلبه إن سيدي سيبطئ في مجيئه وراح يضرب المبيد والإماء ويأكل ويشرب ويسكر، فإن سيد ذلك العبد يأتي في يوم لم يكن يتوقعه وفي ساعة لم يكن يعلمها، فيشطره نصفين، ويجعل نصيبه مع الكافرين. إن ذلك العبد الذي علم مشيئة سيده، فما استعد وما عمل بمشيئته سيضرب كثيراً. أما ذلك الذي لم يعلم وارتكب ما يستوجب الضرب فسيضرب قليلا. فكل من أعطى كثيراً يطلب منه الكثير، ومن أودع كثيراً يطالب بما هو أكثر، . أي أن مخلصنا يريد من تلاميذه الذين منحهم الوكالة عنه أن يكونوا أمناء حكماء في أداء العمل الموكول إليهم، وهو أن يقدموا للناس الغذاء الروحي الذي يحتاجون إليه في الوقت المناسب لذلك، والذي يتمثل في دعوتهم إلى الإيمان، وتعليمهم مبادئه، وتقويمهم إذا انحرفوا، موجهين إياهم إلى الروحيات إذا وجدوهم منغمسين في الماديات، وإلى السمائيات إذا وجدوهم متشبثين بالأرضيات، جاعلين من أنفسهم قدوة لهم يقتدون بها، ومثالاً يحذون حذوه في محبتهم ووداعتهم وتقواهم وقداستهم، لأنه سعيد ومغبوط ومبارك ذلك الذي متى جاء مخلصنا في يوم الدينونة فوجده يفعل هكذا، فإنه سيفرح به ويكافئه على أمانته وحكمته، بأن يرفع من مكانته، ويسبغ عليه مزيدا من نعيمه ونعمته أما إن تكامل ذلك الوكيل وتواكل بحجة أن السيد سيبطئ في مجيله لمحاسبته، فيتخذ من ذلك تكأة لأن يسيء إلى أولئك الذين أقامه سيده وكيلاً لرعايتهم، فيروح يضطهدهم بدلاً من أن يرعاهم، ويعاديهم بدلاً من أن يحبهم، ويعتدى عليهم بدلاً من أن يدافع عنهم، ويجعل من نفسه قدوة لهم في الشر والشرة والفسق والفساد، فيحصر كل همه وإهتمامه في أن يأكل ويشرب ويسكر، متكالباً على الجسديات والأرضيات، بدلاً من أن يجعل من نفسه قدوة لهم في الخير والزهد والقداسة والصلاح، واضعاً نصب عينيه كل ما هو روحي وسماوي، بيد أن سيد ذلك الوكيل الشرير لا يلبث أن يجيء فجاة في يوم لم يكن يتوقعه وفي ساعة لم يكن يعلمها، فيشطره نصفين، ، قاضياً عليه بأشد أنواع العقاب والعذاب، وجاعلاً جزاءه هو جزاء الكافرين الذي هو الهلاك الأبدي. ومما يزيد في مسئولية ذلك الوكيل أن يكون قد تلقى عن مخلصنا السيد المسيح أو عن تلاميذه مبادئ العقيدة المسيحية، وعلم بها وتعلمها وفهمها وأدرك ما تنطرى عليه من وصايا وأحكام وفروض وواجبات، ومع ذلك لم يعمل بها ولم يأبه لها، بل خالفها وتمرد عليها وارتد عنها، فإن عقابه في يوم الدينونة سيكون شديداً، وعذابه سيكون أليما مستديماً، على خلاف ذلك الذي لم يعلم من مبادئ تلك العقيدة شيئاً ولم يتعلمها، ولم يفهمها، ولم يدرك متطلباتها ومقتضياتها، فإن هذا سيكون عذرا يخفف عقابه وعذابه عما ارتكب من شرور، فيكون عقابه أقل شدة، ويكون عذابه أقل إيلاماً. وذلك لأن الذي أعطاه الله كثيراً من المواهب وأودعه كثيراً من وسائل المعرفة والفهم والإدراك، ومن ثم ألقى على عاتقه كثيراً من المسئوليات التي هو قادر بمواهبه على النهوض بها، والتي هو مستطيع بمعرفته وفهمه وإدراكه أن يؤديها على أفضل صورة وعلى خير وجه، مطلوب منه عند الحساب في يوم الدينونة أنه بقدر ما أخذ يكون قد أعطى، بل إنه مطلوب منه أن يكون من الحماس والإخلاص وشدة الأمانة وعمق الإيمان في أداء رسالته التي أؤتمن عليها، بحيث يكون قد أعطى أكثر مما أخذ، كالمدين الذي لا يسدد ما عليه من الدين فحسب، وإنما يسدده مع ربحه، لأن مواهب الله وعطاياه لنا دين في أعناقنا لله ، ينبغي أن نبذل كل ما في طاقتنا واستطاعتنا من جهد كي نستثمره ، ونطرح بين يدي الله مع ذلك الدين ثمره. وبقدر ما نضع بين يدي الله من ثمر حياتنا على الأرض، يهبنا من نعمته في السماء. 

12: 49- 53 الدعوة المسيحية ستؤدي إلى إنقسامات ومنازعات :

وقد تكلم مخلصنا في العبارة السابقة عن الجزاء العظيم والكريم الذي يناله الوكيل الأمين الحكيم حين يأتى سيده فيجده يتصرف بأمانة وحكمة، ولعل تلاميذه فهموا هذه العبارة على غير وجهها الصحيح، إذ كانوا لا يزالون يعتقدون أنه قريباً سيجلس على عرش مملكة اليهود الأرضية، فتوهموا أنه . إذ جعلهم وكلاءه – سيكافئهم على إخلاصهم له بأن يجعلهم أمراءه ووزراءه في مملكته التي لابد . وهو الذي طالما نادى بالسلام – سيجعل السلام يسودها، فيحيون حياة سؤدد وسلام، ومن ثم أراد مخلصنا أن يصحح لهم فهمهم الخاطئ، ويبدد أوهامهم الدنيوية الزائفة، ويعلن لهم الحقائق القاسية المريرة التي سيصطدمون بها قريبا ليعوها ويتوقعوها ويكونوا على استعداد لاستقبالها واحتمالها، فقال لهم ولقد جئت لألقى على الأرض نارا، فماذا أريد إلا أن تكون قد أمطرمت؟ ولی معمودية لأصطبغ بها، وما أشد ما أعاني حتى تتم . أتظنون أني جلت لأجلب على الأرض سلاماً؟ أقول لكم: كلا، بل انقساما. فإنه منذ الآن سيكون خمسة في بيت واحد منقسمين ثلاثة ضد إثنين، واثنان مند ثلاثة، فيعادي الأب ابنه، والابن أباه، وتعادي الأم ابنتها، والابنة أمها، والحماة زوجة ابنها، وزوجة الابن حماتها،، أي أنه إن كان قد جاء لينعم بالسلام على أهل الأرض، فإن ذلك لن يكون إلا بـعـد صـراع عنيف مخيف يضطرم كالنار بين الأفكار التي جاء هو بها، وبين الأفكار التي غرسها الشيطان في أهل الأرض، وبعد صراع عنيف مخيف يضطرم كالنار أيضا بين الذين يعتنقون الأفكار التي جاء هو بها ويؤمنون به وبها، وبين الذين يتشبثون بالأفكار التي غرسها الشيطان فيهم ويدافعون عنها دفاع الوحوش الشرسة المفترسة التي يتقمصها الشيطان فينفث فيها كل ما فيه هو من وحشية وشراسة وشهوة للافتراس. وكلما إزداد عدد المؤمنين بمخلصنا، إزداد عدد المقاومين لهم من جنود الشيطان، وإزدادت نار الصراع بين الجانبين اضطراماً واحتداماً، وهذا هو بالذات ما أراده مخلصنا ليقاوم الشر بالخير حتى يفتيه، ويقاوم الأشرار بالأخيار حتى يقضى عليهم، ولابد أن يسقط في حومة هذا الصراع كثيرون من الشهداء المدافعين عن الخير المقاومين للشر. وسيكون مخلصنا أول شهيد، لأنه سيقدم نفسه ذبيحة لتكفير خطايا البشر فيصطبغ بدمه الذي سيغوص فيه ويصطبغ به، كما يغوص المعتمد في مياه المعمودية ويصطبغ بها. وما أشد ما سيعاني من الإهانات والإعتداءات والآلام والأوجاع قبل تلك المعمودية التي سيعتمد فيها، لا بالماء الرائق الصافي، وإنما بالدم الأحمر القاني، وتلك هي مـعـمـودية الدم. ثم يتوالى بعد ذلك استشهاد الشـهـداء، وسيكون تلاميذه من أوائلهم، لأن مـجـيـلـه لن يؤدى على الفور إلى السلام الذي يحلمون به ، ويتوهمونه ليعيشوا في ظله آمنين هانتين، وإنما سينقسم الناس في أمره، فيؤمن به البعض إلى حـد الاسـتـشـهـاد والفداء، ويذكره البعض الآخر ويناصـبـون المؤمنين به أقبح ألوان العداء، ويلاحقونهم بأقسى صنوف الاعتداء، ويبلغون في ذلك حـداً لا يتورعـون معه عن الخيانة والدسيسة والغدر، ولا يشبعون من سفك الدماء. وسيبلغ هذا الانقسام من الشناعة والبشاعة حدا يؤلب فيه الشيطان أفراد الأسرة الواحدة بعضهم ضد البعض الآخر، حتى إنهم لو كانوا خمسة وآمن منهم إثنان ينقلب ضدهم الثلاثة الآخرون الذين يرفضون الإيمان. أو أمن ثلاثة منهم ينقلب ضدهم الإثنان الآخران الرافضان. فيعادي الأب المذكر ابنه المؤمن، وقد انعدم في قلبه حنان الأبوة الذي لا يلعدم حتى في قلب الحيوان. ويعادي الابن المذكر أباه المؤمن وقد نسي ما ينبغي على الابن نحـو أبيه من حب واحـتـرام وإكرام. وتعادي الأم المذكرة ابنتها المؤمنة، وقد فقدت عاطفة الأمومة التي هي غريزة من غرائز حتى الوحوش المفترسة، وتعادى الابله المنكرة أمها المؤمنة، فتغدو – بعد أن رضعت من لبنها وشبعت من حنانها ـ أقسى عليها من أي غريمة حاقدة شرسة. وتعادي الحماة زوجة ابنها وهي بمثابة ابنتها، وتعادي زوجة الابن حماتها وهي بمثابة أمها. وعلى هذا المنوال يعادي كل منكر لمخلصنا كل مومن به، ولو كان من أقرب أقربائه وأحب أحبائه، بل أو كان من ذات لحمه ودمه، لأن الشيطان الذي جاء مخلصنا ليقضى على مملكته لا يتورع في سبيل مقاومته عن أن يسيطر على أولئك الذين يستسلمون لسلطانه ويرتضون أن يكونوا من جنده وأعوانه، فيحرضهم حتى على أقرب أقربائهم وأحب أحبائهم، بل على آبائهم وأبناءهم، وأما مخلصنا فقد أعلنها حرباً على الشيطان لن تنطفئ نارها أو يخـمـد أوارها حتى يقضى عليه القضاء الأخير، مهما اقتضت هذه الحرب من جهد وعناء، ومهما سقط في ساحتها من شهداء.

12: 54- 59 توبيخ اليهود لعدم معرفة شخصيته رغم نبوءات أنبيائهم:

وبعد أن خـاطب مخلصنا تلاميذه بتلك الإنذرات والتحذيرات، وصحح فهمهم الخاطئ لرسالته وما سيترتب عليها، إلتفت إلى الجموع من عامة اليهود الذين على الرغم مما سمعوا من تعاليمه وما رأوا من معجزاته لم يؤمنوا بأنه هو المسيح ابن الله الذي تنبأ بمجيله أنبياؤهم، والذي كانوا بالفعل ينتظرونه، وخاطبهم قائلا لهم : متى رأيتم سحابة تطلع من المغرب قلتم على الفور إن المطر سيأتي، فيكون كذلك. ومني هبت ريح الجنوب قلتم سيكون حر فيكون، يا مراؤون، تعرفون أن تميزوا وجه السماء والأرض، وأما هذا الزمان فكيف لا تعرفون أن تميزوه ؟ ولماذا لا تحكمون بالحق من تلقاء أنفسكم؟». وذلك أن اليهود كانوا أذكياء وبارعين في التنبؤ بما سيكون عليه الجو، ويما إذا كان سيغدو مطيراً أو حارا، مستنبطين ذلك من العلامات التي تدل عليه. وكانوا يرتبون على تلك التنبؤات حياتهم الزراعية والإجتماعية. ومع ذلك عميت أبصارهم وبصائرهم أمام أقوال مخلصنا وأعماله وتصرفاته وكل تفاصيل حياته، فلم يدركوا أن هذا هو المسيح الذي ينتظرونه، على الرغم من أن كل تلك الأقوال والأعمال والتصرفات، وكل تفاصيل تلك الحياة السامية السماوية التي عاشها، كانت مطابقة كل المطابقة لما تنبأ به أنبياؤهم عن المسيح، وقد حددوا في نبوءاتهم تحديداً دقيقاً موعد مجيئه. حتى إذا جاء في الموعد المحدد بالضبط لم يشأ لهم رياؤهم ولم تشأ لهم كبرياؤهم إلا أن يصطنعوا الغفلة والغباء، فأنكروه وتذكروا له، غيرة منه وحسدا له وحقداً عليه، وقد ناصبوه العداء ثم صلبوه . في حين أنهم لو كانوا قوماً فاضلين عادلين يفكرون بالمنطق، ويحكمون بالحق، دون أن تتحكم فيهم الأهواء والأغراض العمياء لعرفوا من تلقاء أنفسهم واعترفوا بأن هذا هو المسيح ابن الله الذي ينتظرونه . ومن ثم وبخهم . مخلصنا بتلك العبارات التي يصفهم فيها بالرياء، ويصمهم بالظلم، إذ يغمضون أعينهم عن الحقيقة ويحكمون بغير الحق، وإذ أخطأوا إلى الله بذلك، كما أخطأوا إليه قبل ذلك، وجعلوا من أنفسهم خصوماً له، نصحهم مخلصنا قائلاً: «إذا ذهبت مع خصمك إلى الحاكم، فاجتهد وأنت في الطريق أن ترضيه كي تتخلص منه، لئلا يسوقك إلى القاضي، فيسلمك القاضي إلى شرطي، ويلقي بك الشرطي في السجن. أقول لك إنك لن تخرج من هناك حتى توفى آخـر مليم» . وذلك أن الإنسان الحكيم إذا كان في طريقه مع خصمه إلى القاضي، وكان يعلم أنه هو المخطئ، يـجـتـهـد أن يتصالح مع ذلك الخصم وهو في الطريق، مرتضـيـاً تنفيذ كل طلباته واشتراطاته ليتخلص من خصومته له. لأنه إن لم يفعل ذلك ساقه الخصم إلى القاضي فيحكم ضده ، ويسلمه إلى الشرطي ليلقي به في السجن تنفيذاً للعقوبة التي حكم بها القاضي عليه، فيظل فيه حتى يستوفي عقوبته كاملة. وهكذا فإن اليهود وقد أخطأوا إلى الله إذ رفضوا قبول ابنه، وإذ أخطأوا إليه كثيرا قبل ذلك، فلينتهزوا فرصة حياتهم على الأرض ويتصالحوا مع الله، مرتضين تنفيذ كل أحكامه ووصاياه ، قبل أن يصلوا إلى يوم الدينونة الذي يقفون فيه أمام الديان، فيدينهم، ويسلمهم إلى ملائكته فيلقون بهم في جهنم النار الأبدية، حيث يستوفون العقوبة التي يحكم بها عليهم، وهي الهلاك الأبدى. وإذ كانت هذه هي وصية مخلصنا لليهود وللعالم كله، قال بولس الرسول إنه بذلك وكان الله في المسيح مصالحة العالم لنفسه، (2كو 5: 19). وفي قول مخلصنا إنك لن تخرج من هناك حتى توفى آخر منيم، بيان لكمال العدل الإلهي . فكما أن الله لا حد لرحمته، كذلك لا حد لعدله، وأن رحمته لن تكون على حساب عدله، فلا رحمة في يوم الحساب لمن لا يستحق الرحـمـة، ولمن لم يكن أهلاً لنيل كفارة المسيح عن خطاياه . ثم إن تصریح مخلصنا له المجد بهذا النطق القدسي الن تخرج من هناك حتى توفى آخر مليم، دليل على أن عذاب الأشرار أبدى .

زر الذهاب إلى الأعلى