تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 13 للأنبا غريغوريوس
الفصل الثالث عشر
لو13: 1-9 مثل شجرة التين الغير المثمرة:
وجاء في ذلك الوقت قوم أنبأوا مخلصنا بأمر قوم من الجليليين غضب عليهم الوالي الروماني بيلاطس البنطي، فذبحهم وهم يقدمون ذبائحهم في هيكل أورشليم، حتى لقد اختطلت دماؤهم بدماء ذبائحهم، وربما فعل بيلاطس بهم ذلك لإتهامه إياهم بالاشتراك في فتنة ضد الرومان، أو ضده هو شخصياً، أو لأي سبب آخر، لأنه كان عاتياً عنيفاً، يكره اليهود ويحتقرهم، معتبراً إياهم شعباً حقيراً شريراً، كثير التمرد والعصيان، فكان يحكمهم بالقهر والقسر، وقد روى التاريخ أنه أجرى كثيراً من المذابح التي قتل فيها أعداداً ضخمة من اليهود أثناء حكمه إياهم. بيد أ أنه يبدو أن أولئك الذين أنبأوا مخلصنا بأمر تلك المذبحة التي قتل فيها بيلاطس قوماً من الجليليين، حدثوه عن ذلك بأسلوب ينطوي على الشماتة والتشفي في أولئك الجليليين، لعداوة ربما كانوا يضمرونها لهم، أو لعلهم حدثوه بأسلوب ينطوي على الاعتقاد بأن أولئك الجليليين ما أصابتهم تلك البلوى إلا لأنهم أشرار، معقبين بذلك على ما قاله مخلصنا في ذلك الحين من أن يوم الدينونة سيفاجئ الأشرار بغتة فيكون مصيرهم الهلاك الأبدى. ولذلك أراد مخلصنا أن يوبخهم على شماتتهم وتشفيهم، أو أراد أن يصحح خطأ فهمهم فيما قالوا. فأجابهم قائلاً «أتحسبون أن أولئك الجليليين كانوا أكثر إثما من سائر الجليليين إذ أصابهم هذا البلاء ؟ إنى أقول لكم: كلا فإنكم ما لم تتوبوا فستهلكون بالمثل جميعاً. أو تحسبون أن أولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام فقتلهم كانوا أكثر شرا من كل الساكنين في أورشليم ؟ إنى أقول لكم. كلا فإنكم ما لم تتوبوا فستهلكون بالمثل جميعاً، أي أنهم إن كانوا فيما قالوا شامتين متشفين في أولئك الجليليين الذين أهلكهم بيلاطس، فليعلموا أنهم ـ ما لم يتوبوا سيلاقون نفس المصير الذي لاقاه أولئك، وهو الهلاك. وإن كانوا فيما قالوا متوهمين أن البلوى لا تصيب إلا الأشرار، فليعلموا أنهم هم أيضاً أشرار، وما لم يتوبوا فسيهلكون جميعاً. لأن البلايا لا تصيب الأشرار وحدهم في هذه الدنيا، حتى يمكن إتخاذها دليلاً على شرهم، وإنما هي نصيب الأخيار أيضاً، وربما كان نصيب الأخيار منها أكثر وأوفر. فلم يكن أولئك الذين ذبحهم بيلاطس من الجليليين أكثر إثما من سائر الجليليين، أو الأئمون وحدهم في الجليل، إذ راحوا ضحية هذه المذبحة. كما أن أولئك الذين سقط عليهم البرج فقطهم في سلوام القريبة من أورشليم أكثر شرا من كل الساكنين في أورشليم، أو هم الأشرار وحدهم في أورشليم، إذ راحوا ضحية هذه الكارثة. وإنما ذاتك الحادثان هما صورتان من صور البلايا التي تصيب الأشرار والأخيار على السواء، فلا ينبغي لإنسان أن يشمت في ضحايا تلك البلايا أو يتشفى فيهم أو يدينهم متهماً إياهم بالخطيئة والإثم، لأن جميع الناس ـ ما لم يتوبوا ـ هم خاطئون وأثمون وهم أشرار سيهلكون في يوم الدينونة جميعاً. ومن ثم لا ينبغي لخاطئ أن يدين خاطئا مثله، لأن الدينونة هي لله وحده، ولأنه لا يمكن لإنسان أن يصف إنسانا آخر بأنه شرير في وقت من الأوقات، لأن باب التوبة مفتوح للجميع حتى آخر لحظة من حياتهم. فربما تاب ذلك الموصوف بأنه شرير فأصبح صالحاً. ولكي يوضح مخلصنا لسامعيه ذلك المعنى ضرب لهم هذا المثل قائلاً «كانت لرجل شجرة تين مغروسة في كرمه. وقد جاء يبحث فيها عن ثمر فلم يجد. فقال للبستاني: ها أناذا قد جئت ثلاث سنوات متوالية باحثاً عن ثمر في شجرة التين هذه فلم أجد . فاقطعها. لماذا تعطل الأرض أكثر من هذا ؟ فأجاب وقال له: يا سيدي دعها هذه السنة أيضاً حتى أحفر من حولها وأضع سماداً، لعلها تثمر في السنة القادمة وإلا فاقطعهاء ، وواضح أن شجرة التين غير المثمرة هنا رمز للإنسان الشرير الذي لم يصنع في حياته خيراً، بل بالعكس يعطى قدوة سيئة للمجتمع الذي يعيش فيه ويفسده ، ومن ثم يستحق الهلاك. بيد أن الفرصة تظل مع ذلك مفتوحة أمامه، عساه أن يرتدع عن الشر ويرتد إلى سبيل الخير. ولا يفتأ الله حينذاك يتيح له من أسباب الصلاح التي تخصب النفس العقيمة، كما يخصب السعاد الأرض المجدبة، عسى أن ينصلح حاله ويتوب عن شروره وآثامه ولو في آخر لحظة، فعندئذ يستحق البقاء والحياة الأبدية. أما إن أوغل في العناد، وتشبث بالفساد، وظل كالشجرة العقيمة على الرغم من كل ما اعتنى بها البستاني وحفر من حولها ووضع من السماد، فإن مصيره سيكون كمصير هذه الشجرة، لأنه مثلها لا يصلح إلا وقوداً للنار، حيث الهلاك الأبدى، ونلاحظ أن هذا المثل الذي ضربه مخلصنا – فضلا عن معناه القريب الذي ينهي به الناس عن أن يدين بعضهم بعضاً. ينطوى على معنى آخر أبعد من هذا، وهو أن الله أعلن شريعته للأمه اليهودية، وانتظر أن تذمر هذه الشريعة فيها ثمراً صالحاً، ولكنه قد أطال إنتظاره دون أن يجد فيها أي ثمر، ولم يجد منها إلا كل شر. وقد كان في مجىء مخلصنا إليها فرصة أخيرة متاحة لها لأن تعطى من ثمرها، وترتدع عن شرها، بفضل تعاليمه السامية، ونعمته السابغة، ولكنها سمت آذانها عن تعاليمه، وأغمضت أعينها عن نعمته، وأوغلت في عنادها، وتشبثت بفسادها، وظلت كالشجرة العقيمة غير ذات الثمر، فكان مصيرها كمصير هذه الشجرة، وهو الهلاك.
لو13: 10-17 معجزة شفاء المرأة المنحنية :
وقد حدث أن كان مخلصنا كعادته يعلم في أحد مجامع اليهود في يوم السبت، وإذا امرأة من الحاضرين في المجمع كان قد استولى عليها روح نجم أصابها بمرض منذ ثمانية عشر عاماً أدى بها لأن تظل منحنية على الدوام، فلم تكن لتستطيع أن تنتصب البتة. وكان الروح النجس بذلك يعذبها ويسبب أشد الآلام لها. لأن من طبيعته الشريرة أن يتلذذ بتعذيب الناس وإيلامهم. فلما رآها مخلصنا أشفق عليها من تلك المحنة التي ظلت تعانيها طوال تلك السنوات، وهي أسيرة لا تستطيع الفكاك من ذلك الروح اللعين الذي أوثقها بقيده الرهيب، ومن ثم دعاها مخلصنا إليه بدون أي طلب منها وإنما بمحض حنانه ومحبته ورحمته للمكروبين ورأفته بالمعذبين، وقال لها أيتها المرأة إنك محلولة الوثاق من مرضكه، ووضع يديه عليها، ففي الحال انتصبت قائمة وقد برئت من علتها فأخذت في غمرة فرحتها ودهشتها تمجد الله الذي لا يمكن أن تتم مثل هذه المعجزة إلا بقوته وقدرته وحده . ومع أن هذه المعجزة كانت كافية لأن تفتح أبصار كل الذين رأوها من اليهود فيدركوا أن الذي صنعها هو المسيح ابن الله الذي هو الله ذاته في نفس الوقت على مقتضى نبوءات أنبيائهم. إلا أن رئيس المجمع وهو أكثر الحاضرين علماً بتلك النبوءات قد عمى بصره كما عميت بصيرته عن هذه الحقيقة ودفع به حقده على مخلصنا وحسده له وغيرته منه لأن يمتلئ حنفاً ويتأجج غضباً، فتغافل عن عظمة هذه المعجزة وروعتها، وتجاهل وضوح مغزاها ودلالتها، وتمسك بأمر تافه كل التفاهة، سخيف كل السخف، وهو أن مخلصنا إذ صنع هذه المعجزة في يوم السبت إنما خالف الشريعة اليهودية التي تنهى عن القيام بأي عمل في ذلك اليوم، معتبراً أن مخلصنا إذ قال كلمة للمرأة ووضع يديه عليها قد قام بعمل تعتبره الشريعة جريمة شنعاء. وقد إلتفت رئيس المجمع إلى الحاضرين وقال لهم وهو مغتاظ وإن لكم ستة أيام يحل فيها العمل، ففيها تعالوا واطلبوا الشفاء وليس في يوم السبت، . فأجابه الرب وقال أيها المراؤون ألا يحل كل منكم في يوم السبت ثوره أو حماره من المذود فيسقيه؟ وهذه إينه إبراهيم، وقد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت ؟ . فقد كانت الشريعة اليهودية تسمح لليهودي بأن يحل بهائمه من أوتادها المربوطة فيها ويذهب بها إلى ينابيع الماء ليسقيها، أفلا تسمح هذه الشريعة ـ في نظر أولئك الفقهاء المراثين – لهذه المرأة البائسة التي هي مظلهم إبنة إبراهيم الذي كانوا يتفاخرون بأنهم ينتسبون إليه، أي أنها أختهم، وقد ربطها الشيطان كل هذه السنين الطوال أن يفعل لها مخلصنا ما يغطون هم لبهائمهم، فيحلها من رباطها، ويسقيها بنعمة الشفاء، كما كانوا هم يسقون بهائمهم بالماء ؟. إن فقهاء اليهود كانوا يفسرون الشريعة على هواهم وعلى مقتضى أهوائهم فيفسدونها ويفسدون حياة الناس بها، ومن ثم أقحم مخلصنا بقوله هذا، لا رئيس المجمع فحسب، وإنما كل الذين كانوا في المجمع ممن كانوا يقاومون مخلصنا من الكتبة والفريسيين، وغيرهم ممن كانوا يتاجرون بالدين تحت ستار الغيرة على الدين. فتولاهم الخزى وتستلوا خجلين متخاذلين. وأما الذين آمنوا بمخلصنا من الشعب فقد فرحوا جميعاً بما فعل، وكانوا لا يفتأون يفرحون بجميع الأعمال التي كانت تجري على يديه.
إن هذه القصة المتعلقة بالمرأة المنحنية والتي لم يذكرها غير إنجيل القديس لوقا، تكشف لنا عن حقيقة هامة تخفى على كثيرين ممن لا يؤمنون بغير ما تدلهم عليه الحواس الظاهرة، وهي أن هناك من الأمراض ما ينجم عن ربط الشيطان. إذ قال الرب يسوع وهذه إبنة إبراهيم وقـد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة. أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط؟» . وحينما شفاها قال لها بالنطق السامي أيتها المرأة إنك محلولة الوثاق من مرضك، ثم وضع يديه عليها، ففي الحال انتصبت قائمة. فهذا التعبير من رب المجد تعبير فريد من نوعه في الأناجيل جميعها، وهو تعبير يصرح فيه رب المجد عن نوع من الأمراض يجيء نتيجة وربط الشيطان، . فهذا المرض إذن ليس مرضاً عضوياً، ولا حيلة للطب البشرى فيه، ولا يتم الشفاء منه إلا بإزالة العلة الأساسية التي نجم عنها، وذلك بطرد الشيطان من المريض، وهذا يقتضى قوة روحية عالية تزيد كثيراً على قوة الشيطان الرابط. لأنه كما قال مخلصنا هما من إنسان يمكنه أن يدخل بيت جبار وينهب أمتعته إن لم يوثق الجبار أولاً، وعندئذ يلهب أمتعته، (مر 3: 27)؛ (مت 12: 29) ، ولقد تم شفاء المرأة المنحنية في الحال لأن الشافي هو رب المجد يسوع المسيح الذي بسلطان لاهوته طرد الشيطان بكلمة منه، وحل وثاق الشيطان عن المرأة بالأمر الذي أصدره، وبلمسة يده الإلهية. وأما غير السيد المسيح فلا يستطيع ذلك إلا إذا كان السيد المسيح قد منحه سلطاناً على الشيطان فصارت له القوة الطاردة للشياطين الشافية للأمراض الناجمة عن ربط الشيطان.
لو13: 18-21 مثل حبة الخردل:
ثم قال مخلصنا ماذا يشبه ملكوت السماوات، و بماذا أمثل له ؟ إنه يشبه حبة خردل أخذها رجل وغرسها في بستانه، فنمت وصارت شجرة عظيمة، و ، وأرت طيور السماء إلى أغصانها، . وقال أيضاً بماذا أشبه ملكوت الله؟ إنه يشبه خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال من الدقيق حتى اختمر كله»، وقد كان مخلصنا يعني بملكوت السماوات ويملكوت الله هذا الكنيسة، وهي ملكوته هو الذي تسود فيه على الأرض شريعة السماء وشريعة الله التي هي شريعته هو، تلك الشريعة التي طالما نادي بها في تعاليمه، شريعة الحب والسلام والتسامح والصلاح والقداسة والطهارة والعفة والتقوي، والاتجاه في كل عمل وفي كل قول وفي كل تفكير وفي كل شعور، لا إلى الأرضيات، وإنما إلى السمائيات، مع الإيمان بمخلصنا باعتباره المسيح ابن الله مخلص البشر وفاديهم، الذي جاء إلى العالم واتخذ صورة الإنسان متجسداً من روح القدس في أحشاء السيدة العذراء مريم، وأظهر مجده وأعلن تعاليمه، ثم قبض اليهود عليه وقتلوه على خشبة الصليب ومات وظل مدفونة في القبر ثلاثة أيام، ثم قام من بين الأموات، وصعد إلى السماء، بكل التفصيلات التي وردت في إنجيله المقدس. وقد قصد مخلصنا بتشبيه هذا الملكوت هنا بحبة الخردل أنه لن يسود العالم دفعة واحدة، أو في سرعة خاطفة، على مثال الممالك الأرضية التي ينشئها الغزاة الفاتحون بجيوشهم الجرارة وأساطيلهم الجبارة، يغيرون بها كالإعصار الكاسح الجائح على الأمم والشعوب في صخب وضجيج فيسودنها ويستعبدونها، كما كان اليهود يعتقدون أن المسيح الذي ينتظرونه سيفعل كى يقودهم ليفتح بهم العالم كله ويجعلهم سادة كل الأمم والشعوب ومستعبديها، وإنما سيكون ملكوت السماوات وملكوت الله الذي هو في ذات الوقت ملكوت المسيح مخلصناء صغير الحجم في بدايته، بحيث لا يتجاوز عدد تلاميذه والمؤمنين به وقتذاك . بيد أن هذا العدد القليل لم يكن إلا بمثابة حية الخردل التي هي أصغر الحبوب، ولكنها متى غرسها البستاني في أرض جيدة وتعهدها بالرعاية لا تلبث أن تنمو حتى تشبه شجرة عظيمة تأتي طيور السماء لتأوى في أغصانها. وهذا هو الذي سيحدث بالنسبة لذلك العدد القليل من تلاميذ مخلصنا والمؤمنين به في البداية، فإنهم لن يلبثوا أن يزداد عددهم شيئاً فشيئاً حتى يصبحوا مملكة عظيمة، وكنيسة جامعة، تشمل في النهاية العالم كله، ويحتل فيها مخلصنا عرش القلوب، وتسود فيها شريعته على كل الشعوب، ويأوي إليها كل الضائعين والمصالين والجائعين إلى المحبة، والمحتاجين إلى الأمان، والمتلهفين إلى السلام والاطمئنان، والمعذبين والمكروبين والمحرومين والمظلومين من البشر، ولن يكون نمو هذا الملكوت وامتداد رقعته وازدياد عـدد المنضوين تحت لوائه في صخب غزو الغزاة، أو ضجيج إغارة القادة الفاتحين من غزاة الأرض وقادتها، وإنما سيحدث في سكون يشبه سكون الخميرة الصغيرة وهي تفعل فعلها في العجين الكثير حتى يختمر آخر الأمر كله. وذلك أن شريعة مخلصنا التي يسود بها ملكوته على الأرض تملك بذاتها وفي ذاتها القوة الكفيلة بأن تجعلها تفعل فعلها في القلوب وفي غير علف ولاعسف ولا قسر ولا إكراه، لأنها تنطوي على نعمة الله التي هي سر الحياة، والتي يسعى إليها الإنسان في أعماق سريرته ليحفظ بها حياته، إذ أنه بدونها لا تكون ثمة حياة .
لو30: 22-30 اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق:
وكان مخلصنا يمر بالمدن والقرى يعلم وهوفي طريقه إلى أورشليم، لأنه لم يتوقف عن التعليم قط في أي مكان ذهب إليه، أو في أي مكان مر به. ولم يقصر تعاليمه على أهل المدن المترفين المثقفين، وإنما أغدق هذه التعاليم أيضاً على أهل القرى الفقراء البسطاء الذين لم ينالوا قسطاً من ثقافة أو تعليم .
وفي هذه الأثناء تقدم إليـه واحد ممن كانوا في الغالب من أعدائه الذين كانوا لا يفـتـأون يوجهون إليه الأسئلة، مترصدين له عسى أن يجيب إجابة تنطوي على ما يخالف الشريعة اليهودية أو ما يدعو إلى إستياء اليهود منه وإنقضاضهم من حوله، إذ سأله قائلاً ، يارب أقليلون هم الذين يخلصون؟، وقد كان هذا السؤال ينطوي على فخ خبيث نصبه لمخلصنا؛ فلو أنه قال الذين يخلصون كثيرون برهن بذلك على تساهله في أحكام الدين التي كان فقهاء اليـهـود يتفاخرون بتشددهم وتزمتهم في دعوة الناس إلى الخضوع لها، مهددين إياهم إن لم يفعلوا ذلك بالهلاك الأبدى . ولو أنه قال إن الذين يخلصون قليلون أغضب بذلك سائر اليهود منه، لأنهم كانوا يعتقدون أنهم جميعاً سينالون الخلاص لمجرد أنهم يهود. ومن ثم لم يقل مخلصنا إن الذين سيخلصون كثيرون أو قليلون، وإنما أوضح طريق الخلاص لمن يريدونه ويتطلعون إليه، قائلا لذلك الذي سأله ، ولكل الذين كانوا يستمعون إليه، بل للبشر جميعاً: «اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق، فإنني أقول لكم إن كثيرين سيلتمسون الدخول فلا يستطيعون، حين يكون رب البيت قد قام وأغلق الباب وأخذتم وأنتم واقفون خارجاً تقرعون الباب قائلين: ربنا ربنا افتح لنا. فيجيبكم قائلاً: لا أعرفكم من أين أنتم؟. فتأخذون عندئذ تقولون إننا أكلنا وشرينا أمامك، وقد علمت في شوارعنا. فيجيبكم: إني أقول لكم، لا أعرفكم. من أين أنتم ؟ اذهبوا عنى جميعاً يا فاعلى الإثم. هناك يكون البكاء والصرير على الأسنان، إذ ترون إبراهيم وإسحق ويعقوب وكل الأنبياء في ملكوت الله وأنتم مطروحون خارجاً. وسيأتون من المشارق والمغارب، ومن الشمال والجنوب، ويجلسون إلى مـوائد في ملكوت الله. فهاهم أولاء آخرون سيكونون أولين وأولون سيكونون آخرين، . وقد بين لهم بذلك أن طريق الخلاص ليس سهلاً كما يتصورون، وأن بابه ليس متسعاً لكل من يريد الدخول منه لمجرد أنه يهودي، أو لمجرد أنه أدى الشعائر الطقسية التي تفرضها الشريعة اليهودية، أو لمجرد أنه اعتقد في نفسه الصلاح والتقوى بغير حق، وإنما الطريق إلى الخلاص ملىء بالمتاعب والمصاعب، والشدائد والضيقات، وصنوف الهوان والحرمان، التي تقتضى ممن يتطلع إليه كثيراً من الجهد والجهاد، وقوة العزيمة والصبر على المكاره الأليمة، في إيمان صادق وتفان عميق، وزهد كامل في الأرضيات، وتعلق كامل بالسمانيات، مهما لقي في سبيل ذلك من الأوجاع ومن أنواع العنت والعسف والعنف والعداوة والعدوان من الشيطان أو من الأشرار من بنى الإنسان. وكما أن الطريق إلى الخلاص وعر بهذه الصورة فإن باب الخلاص ضيق لا يستطيع الدخول منه إلا الذين اجتازوا ذلك الامتحان . وأما أولئك الذين يتهاونون في إيمانهم، أو يستهينون بما يقتضيه منهم ذلك الإيمان، أو يكون سطحياً أو شكليا أو يتخذون منه مجرد مظهر يخدعون به الناس، فإنهم لا يخدعون بذلك إلا أنفسهم، فإنهم حين يحاولون دخول باب الخلاص بعد أن دخله كل الأبرار والأطهار، يأتي عندئذ مخلصنا وهو رب الخلاص فيغلق ذلك الباب في وجوه أولئك الأئمة الأشرار. وإذ أنهم مخدوعون في أنفسهم بما تظاهروا به في حياتهم من ورع وتقوى، يروحون يقرعون الباب من الخارج طالبين الدخول، وهم ! لا يغتاون يصرخون قائلين «ربنا ربنا افتح لناه ، ولكنه يتبرأ منهم ومن معرفته لهم، لأن الكامل القداسة والطهارة، لا يمكن أن يسمح للنجسين الدنسين بأن يدخلوا ملكوته أو يقتربوا منه. وعندئذ يروح أولئك يذكرون له الحجج التي يتوهمون أنها تبرر قبوله لهم، قائلين له: إننا أكلنا وشربنا أمامك، وقد علمت في شوارعنا، . بيد أن هذه حجج واهية كاذبة، لأن يهوذا الاسخريوطي أكل وشرب مع مخلصنا، ومع ذلك خانه وسلّمه لأعدائه. ولأن مخلصنا علم في شوارع اليهود، ومع ذلك عذبوه وصلبوه . فليس كل الأكلين الشاربين على مائدة مخلصنا أبراراً، وليس كل الذين سمعوا تعاليمه أطهاراً، ماداموا قد خانوه وخانوا تعاليمه، لا في زمن وجوده على الأرض فحسب، وإنما في كل زمان أتى أو يأتي بعد ذلك إلى الأبد، ومن ثم يرفض مخلصنا حججهم الواهية الكاذبة هذه، ويعود فيتبرأ منهم ومن معرفته لهم، ويطردهم قائلاً واذهبوا عنى جميعا يا فاعلى الإثم،، فيظلون مطرودين مطروحين خارج باب الخلاص الذي هو باب ملكوت السماوات. فلا يملكون إلا البكاء حـقـداً، والصرير على الأسنان حسداً وحنفاً وغيظاً، إذ يرون الأبرار الأطهار من أبناء العهد القديم ومن أبناء العهد الجديد يتنعمون في ذلك الملكوت، في حين هم يكابدون العذاب في نار جهنم. ولسوف ينطبق ذلك بصفة خاصة على اليهود الذين كانوا يعتبرون أنفسهم وحدهم دون سائر أمم الأرض أصحاب الحق في الخلاص والملكوت، فإذا بهم وهم في لهيب النقمة والغضب الإلهى يرون قـومـاً من الوثنيين يأتون من كل أنحاء الأرض، وينعمون بالخلاص، ويتنعمون في الملكوت. لأن العبرة في عبور باب الخلاص هي استحقاق الخلاص، سواء أكان ذلك المستحق له يهوديا أم غير يهودي، وسواء أجاء متقدماً في الزمان أم جاء متأخراً، لأن بعض الذين جاءوا أخيراً ربما استحقوا الخلاص دون الذين جاءوا أولا، فيكون الآخرون أولين والأولون آخرين. وهكذا رسم مخلصنا سبيل الخلاص، وحدد معالم الطريق إليه، وما على الذين يتطلعون إلى الخلاص إلا أن يسعوا في طريقه الوعر ليجتازوا آخر الأمر بابه الضيق. فلم يعد ثمة ما يستوجب التساؤل بعد ذلك عما إذا كان الذين سيستطيعون ذلك من الناس قليلين أم كثيرين، لأن الطريق – وإن كان وعرا مفتوح للناس جميعاً، والباب.. وإن كان ضيقاً. فسيدخل منه كل الذين يجتازون منهم ذلك الطريق.
لو13: 31-33 هيرودس الملك يهدد بقتل السيد المسيح :
وفي ذلك اليوم الذي تحدث فيه مخلصنا الحديث السابق، جاء إليه بعض الفريسيين وقالوا له أخرج وامض من هنا، فإن هيرودس يريد أن يقتلك.. وقد كان هيرودس أنتيباس ملك الجليل – وهو ابن هيرودس الكبيـر – يخاف من إزدياد نفوذ مخلصنا على نفوس الشعب في مملكته، ويخشى أن يطيح به ليجلس على عرشه. ولكنه إذ كان لا يجرؤ على قتله لإلتفاف شعب الجليل حوله وتعلقهم به، أراد أن يبعده عن ولايته إلى أورشليم في ولاية اليهودية، حيث كان يعلم أن رؤساء الكهنة وشيوخ اليهود هناك يريدون قتل مخلصنا ويسعون إلى ذلك بما كانوا يتقنونه من أساليب الدسائس والمؤامرات. ومن ثم أرسل إليه أولئك الفريسيين الذين كانوا هم أيضا أعداء لمخلصنا، وكانوا يريدون التخلص منه بأى حيلة أو وسيلة، فجاءوا إليه متظاهرين – بما اتصفوا به من الرياء ـ بالإشفاق عليه وإسداء النصيحة إليه، عساه أن يخشاهم أو يخشى ملكهم، فيترك الجليل إلى حيث ينتظره أولئك الذين كانوا أشد عداء له وأقدر بما يملكون من سلطان على الفتك به. بيد أن مخلصنا أجابهم بما يدل على أنه لا يخشاهم ولا يخشى ملكهم، إذ قال لهم اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أناذا أطرد الشياطين وأنجز أعمال الشفاء اليوم وغداً، وفي اليوم الثالث سأكمل، غير أنني ينبغي لي أن أواصل مسيرتي اليوم وغداً واليوم الذي يليه ثم أمضى، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارج أورشليم، . وقد وصف مخلصنا هيرودس بالتعب لأنه كان بالفعل يتصف بصفات الثعلب في شره ومكره ودهائه وتعطشه إلى سفك الدماء. ولقد كان لمخلصنا الحق في أن ينعته بهذا النعت دون أن يكون متعديا بذلك الوصية التي تدعو إلى توقير الناس لملوكهم، لأن من صفات مخلصنا أنه نبي (تث 18: 15 ، 18) . وقد كان للأنبياء دون سواهم من الناس أن يعنفوا الملوك على شرورهم وينتهروهم وينعتوهم بما يطابق أخلاقهم وطبائعهم من النعوت، تقويماً لهم وتحذيراً من عواقب شرورهم، باعتبار الأنبياء مرسلين من الله، ومفوضين بأن يكلموا ويعلموا باسمه الناس من أكبر كبير إلى أصغر صغير. كما أن من صفات مخلصنا أنه ملك، بل ملك الملوك (مز 71 : 11) . وله عليهم سلطان التعنيف والانتهار إذا كانوا من الآثمين الأشرار. وقد طلب مخلصنا إلى أولئك الفريسيين الذين بعث بهم هيرودس أن يخبروه بأن تهديده إياه بالقتل لن يوقفه عن أداء الرسالة التي جاء من أجلها إلى العالم، وأنه سيواصل أداء هذه الرسالة على الرغم من ذلك التهديد، فيطرد الشياطين ممن استولت عليهم الشياطين، ويشفى المرضى مما أصابهم من الأمراض، وإن كانت المدة الباقية له على الأرض لأداء هذه الرسالة على وشك الإنتهاء. ولكنه سيواصل مسيرته حتى يكملها، وعندئذ سيمضى إلى أورشليم، لا لأن هيرودس هدده بالقتل، وإنما بمحض إختياره هو، لأنه كان يعلم أن اليهود سيقتلونه هناك على مقتضى التدبير الإلهي لإتمام عمل الفداء، إذ كان هو الذبيحة الحقيقية التي لم تكن ذبيحة الفصح اليهودي إلا رمزاً لها. وقد كانت ذبيحة الفصح لا يصح تقديمها إلا في هيكل أورشليم، فضلاً عن أنه لم يكن يمكن الحكم علي نبي بالقتل إلا بعد محاكمته أمام أعلى محكمة يهودية، وهي مجلس السنهدريم، الذي كان مقره في أورشليم، وإذ كان من صفات مخلصنا أنه نبي كان لا يمكن أن يصدر عليه الحكم بالموت إلا بواسطة ذلك المجلس . ولا يمكن تنفيذ هذا الحكم إلا في أورشليم حيث كان مقر ذلك المجلس.
لو13: 34-35 رثاء السيد المسيح على أورشليم :
وإذ كانت أورشليم ، هي المدينة المقدسة، التي يقوم فيها الهيكل بيت الله، والتي كـان أهلها أحـدر الناس بأن يكونوا عالمين بالشريعة وعاملين بها، كان الأجدر بها أن تكرم الأنبياء الذين يرسلهم الله إليها. ولكنها بدلاً من ذلك كانت ترجمهم وتقتلهم، وكان الأجدر بها بالحرى أن تؤمن بالمسيح ابن الله الذي تنبأ كل الأنبياء بمجيئه. ولكنها بدلاً من ذلك أنكرته وتنكرت له حين جاء، ثم عذبته وصلبته. ولذلك خاطبها مخلصنا في تأنيب وتوبيخ ممتزجين بالمرارة والألم، وبالإشفاق والرثاء، قائلاً لها «يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم من مرة أردت أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خراباً. الحق أقول لكم إنكم لن تروني منذ الآن حتى الوقت الذي تقولون فيه: مبارك الآتي باسم الرب» . أي أنه على الرغم من أن أهل أورشليم قتلوا الأنبياء ورجـمـوا المرسلين من الله إليها، عمل هو مراراً كثيرة على تعليمهم وتقويمهم وتبصيرهم بالواجب عليهم وتحذيرهم من الهلاك الذي يهددهم إذا استمروا في غيهم وضلالهم وبغيهم وفساد أعمالهم، وقد أسبغ عليهم من الرعاية والعناية والمحبة والحنان ما تسبغه الدجاجة على فراخها إذ تأخذها في حضنها وتضمها تحت جناحيها، لتحميها من الأعداء، وتقيها من حر الصيف وبرد الشتاء. ولكن أهل أورشليم مع ذلك عادوا ذلك الذي رعاهم، واعتدوا على ذلك الذي اعتنى بهم، وكرهوا ذلك الذي غمرهم بمحبته، وقسوا أشنع وأبشع قسوة على ذلك الذي أغدق عليهم فيضاً من حدائه، ورفضوه . فكان العدل يقضى بأن يرفضهم، وأن يتركهم لينالوا جزاء ما ارتكبوا من شرور، وما اقترفوا من آثام، قاضياً بالهلاك عليهم، وبالخراب على هيكلهم الذي ـ وهو بيت الله ـ جعلوه وكر لصوص (مت 21: 13). وبعد أن كان قائماً بينهم يرونه بأعينهم، سيبعد عنهم، ويختفي عن أعينهم، فأن بروه إلا حين يأتي في مجيده الثاني للدينونة، فيهتف عندئذ كل الأحياء قائلين مـبـارك الآتي باسم الرب، (المزمور 117: 26) . وعندئذ سـيـديلهم ويحكم بالهلاك الأبدى عليهم .