تفسير إنجيل لوقا أصحاح 3 للأنبا غريغوريوس

الفصل الثالث

3: 1-6 يوحنا المعمدان يعد الطريق أمام المسيح 

لقد كان ملاخي النبي هو آخر أنبياء اليهود في العهد القديم، وقد عاش قبل ميلاد السيد المسيح بنحو أربعمائه عام. ثم انقطع بعد ظهوره الأنبياء طوال هذه الفترة، حتى ظهر يوحنا المعمدان في بداية القرن الأول الميلادي. وقد ذكر القديس لوقا موعد ظهوره بالتحديد إذ قال إنه في السنة الخامسة عشرة من حكم طيباريوس قيصر، حين كان بيلاطس البنطى واليا على اليهودية، وهيرودس حاكماً للجليل، وفيلبس أخوه حاكماً على إيطورية وأراضي تراخونيتس، وليسانيوس حاكماً في أبيلينية، وكان حنان وقيافا رئيسين للكهنة، كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية، ، وكانت هذه الفترة التي ظهر فيها يوحنا من أسوأ فترات التاريخ ولا سيما بالنسبة لليهود، فقد كان طيباريوس من أشنع وأقسى قياصرة الدولة الرومانية التي كانت تخضع لها الأمة اليهودية في ذلك الحين، وكان بيلاطس البنطي الذي عينه طيباريوس والياً على اليهود من أعنى وأعنف الولاة الرومان وأكثرهم عجرفة وصلفاً وسفكاً للدماء، وكان هيرودس وفيلبس وليسانيوس الذين كانوا يحكمون اليهود تحت سيطرة الرومان من أبشع وأفظع الحكام جوراً وظلماً ووحشية وفساد أخلاق وكان رؤساء كهنة اليهود أنفسهم، وعلى رأسهم حنان وقيافا أسوأ مثال لرؤساء الكهنة في تاريخ اليهود كله، إذ كانوا يتخذون من مناصبهم الكهنوتية تجارة يجمعون عن طريقها المال، ويسترون بمسوحها جورهم وفجورهم وفسقهم وفسادهم. وكانوا لا يصلون إلى مناصبهم هذه أو يحتفظون بها إلا بالمكايد والمؤامرات، وإلا بمساعدة ومساندة الرومان الذين كانوا يستعبدون أمتهم ويسومونها الذل والهوان بواسطتهم وبالتواطؤ في ذلك معهم.

في هذه الظروف التي كانت تحيط باليهود ظهر بينهم ذلك النبي الجديد يوحنا المعمدان، بعد أن كان قد انقطع ظهور الأنبياء بينهم منذ عهد بعيد. وقد رأينا كيف أن يوحنا عاش تقياً منقشفاً متوحداً في البراري، استعداداً لأداء الرسالة التي كان مكلفاً . الله بأدائها. وإذ كان يوحنا كاهناً من سبط هارون، لم يكن يجوز له على مقتضى الشريعة أن يقوم بالخـدمـة الدينيـة ككاهن أو كنبي قبل أن يبلغ سن الثلاثين (عد 4: 3 و 23 و 30و 35 و 39و 43 و 47)، (1أخ 23: 3) فما بلغ هذه السن حتى أظهر نفسه للناس، وبدأ في إنجاز رسالته، وإذ كانت هذه الرسالة تنحصر في تهيئة نفوس الناس لمجيء المسيح المنتظر وتمهيد أفكارهم لا لتعاليمه، جاء ممتلكـاً من الروح القدس ومؤيداً بكلمـة الله، إلى كل نواحي الأردن، يدعو الناس لأن يتوبوا وينطهروا من شرورهم ليغفر الله خطاياهم، حتى إذا آمنوا بدعوته وأبدوا اعتزامهم التوبة على يدیه عمدهم بالماء في نهر الأردن، برهاناً على إيمانهم ورمزاً لتويتهم ورغبتهم في تطهير أنفسهم لمغفرة خطاياهم، وفقاً لما هو مكتوب عن يوحنا في سفر أقوال إشعياء النبي، الذي وصفه في نبوءاته قائلاً : “صوت صارخ في البرية : أعدوا طريق الرب، مهدوا سبله. كل واد سيمتلئ، وكل جبل وكل تل سينخفض، والطرق المنعرجة ستصبح مستقيمة، والوعرة ستصبح مستوية ، وسيبصر كل بشر خلاص الله” (إش 40: 3 ـ 5). ويدل ذلك على أن صوت يوحنا كان قوياً جـهـورياً في إعلان دعوته لأن يستعد الناس، مـطـهـرين أنفسهم من آثامهم، ممتنعين عن خطاياهم، مهيئين عقولهم، فاتحين قلوبهم لمجيء الرب مخلصهم الذي طالما انتظروه وتطلعوا إلى اليوم العظيم الذي سيأتي فيه لينتشلهم من هوة الهلاك التي ألقوا فيها بأنفسهم، وعندئذ سيملأ السلام والعدل والمساواة الأرض، فإن كل نفس وديعة متواضعة كالوادي المنخفض ستمتلئ بالنعمة وتنال حقها من العظمة والسمو. وكل نفس متعالية متعجرفة، مهما كان مدى تعاليها وعجرفتها، إذا تابت فستنخفض لتساوي في مكانتها الودعاء المتواضعين. وأما إذا كابرت وأصرت على كبريائها وغرورها فستهوي إلى أسفل سافلين. والذين يسلكون في حياتهم الطرق الملتوية، ستكون كلمة الله قادرة على أن تجعلهم يستقيمون، والذين كانوا يجدون في طاعة وصايا الله وعورة، سيجدونها بنعمة الله سهلة أمامهم، ميسورة لهم، لأن كل بشر سيبصر خلاص الله الذي سيفتح ـ لا أمام اليهود وحدهم وإنما أمام بني الإنسان جميعاً – سبيل النجاة من الهلاك المحكوم به عليهم، بالغداء الذي دبرته حكمته ورحمته الإلهية لخلاصهم. 

3: 7-18 شهادة يوحنا المعمدان للسيد المسيح 

وكان يوحنا صارماً عنيفاً في تعليمه، صلباً لا يلين، ثابتاً لا يتزعزع، صارخاً جهوري الصوت في توبيخه للجميع بغير استثناء على شرورهم وآثامهم، بأشد الألفاظ قوة وقسوة، في غيـر مـواريـة ولا محاباة، جريداً لا يخاف من أحـد ولا يبالي بسلطان إنسـان مـهـمـا بلغ هذا السلطان. فكان لا يفتأ يوبخ جموع الذين كانوا يأتون إليه ليعتمدوا منه، ولا سيما من الفريسيين والصدوقيين (مت 3: 7)، قائلا لهم «يا أبناء الأفاعي من أشار عليكم بالهرب من الغضب الآتي. أثمروا إذن ثمراً يليق بالتوبة، ولا تروحوا تقولون في أنفسكم أبونا هو إبراهيم، لأنني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم. ها إن الفأس قد وضعت على أصول الشجر، فكل شجرة لا تثمر ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار . وعلى الرغم من أن جموع اليهود آمنوا بأنه نبي حتى لقد اعـتـقـد كثيرون أنه هو المسيح الذي ينتظرونه” (لو 3: 15) . وعلى الرغم من أنهم جاءوا إليه راغبين في سماع تعاليمه ونيل المعمودية منه، وبخهم على شرورهم السابقة، ناعتاً إياهم بأنهم «أبناء الأفاعي، ، لأن آباءهم كانوا غير مسممين بالشر فحسب، وإنما أصبحوا يتغنون الشر في غيرهم كما تنفث الأفاعي سمومها في ضحاياها، وكانوا هم في ذلك مثل آبائهم. فكانوا مستحقين للغضب الذي صبه الله عليهم من أجل شرورهم، ومن ثم سألهم يوحنا عن علة إدراكهم الآن لهذا الغضب الأتى عليهم، وعمن أشار عليهم بأن يعملوا على الهرب من ذلك الخطر الذي يهددهم. وقـد كـانـوا حـتى ذلك الحين غافلين عنه، سادرين في آثامهم وخطاياهم. ثم أسدى إليهم نصيحته بأنهم إن كانوا يريدون حقاً الخلاص من هذا الغضب وهذا الخطر، فلا سبيل إلى ذلك إلا التوبة التي تقتضي عودتهم إلى تقوى الله، والخشوع له والخضوع لأحكامه ووصاياه ، بتقويم أنفسهم، وتغيير منهجهم الشرير في الحياة بتطهير قلوبهم وتنقية ضمائرهم، بحيث تكون أعمالهم ثماراً طيبة كفيلة بالدلالة على أن توبتهم صادقة ولائقة بهذه التوبة ومحققة لها. فلا يكفي أن يقولوا في أنفسهم إنهم أبناء إبراهيم، متوهمين أن هذا سبب كاف للبرهنة على صلاحهم مادام إبراهيم كان صالحاً لأن إبراهيم وإن كان صالحاً فإن أبناءه أصبحوا أشراراً فلا يجديهم الاتكال على صلاحه لإعفاء أنفسهم من عواقب شرورهم، ولأن الله قادر على أن يغنيهم بسبب هذه الشرور. وكما خلق آدم من التراب فهو قادر على أن يخلق من الحجارة أبناء صالحين خليقين حـقـا بأن ينتـسـبـوا إلى إبراهيم. وقد حذرهم يوحنا وأنذرهم بأن اللحظة الحاسمة قد جاءت، وأن الله إن كان قد صبر عليهم طويلا، فإن ذلك لن يستمر بعد الآن، وقد جاء المسيح الذي أصبح مجينه فاصلاً بين عهدی النقمة والنعمة، لأنه سيفعل بالناس ما يفعله البستاني الذي يجيء معه بفأسه ليفرز الشجر واحدة واحدة، فكل شجرة يجدها لا تثمر ثمراً جيداً يجتثها بالفأس من أصولها ويلقى بها في النار، لأنها إذ لا ثمر لها لا تصلح لشيء إلا أن تكون وقوداً للنار. وأما الشجرة المثمرة فسيبقى عليها ويرعاها بعنايته ويرويها بنعمته لتزداد جودتها ويتكاثر ثمرها. وقد فعل هذا التحذير الصارم والإنذار الرهيب فعله في نفوس اليهود، فسألته جموعهم ” فماذا تفعل؟” . لقد كانوا يعرفون أحكام الشريعة الموسوية وكانوا يعتقدون أنهم بطاعتهم الظاهرية الشكلية لها قد فعلوا كل شيء يجعلهم صالحين أمام الله، ويكفل لهم رضاءه عنهم. وها هو ذا يوحنا الذي آمنوا بأنه نبي يلقبهم مع ذ ذلك بأبناء الأفاعي ويصفهم بالشر ويصمهم بالإثم ويحطم كل أوهامهم عن أنفسهم، فماذا عليهم إذن أن يفعلوا غير ما فعلوا ؟ . وعندئذ بدأ يوحنا يلقنهم أول درس من دروس العهد الجديد الذي جاء السيد المسيح ليؤسسه، والذي جاء هو من قبله ليمهد أذهان الناس له، وكان هذا الدرس هو جوهر تعاليم العهد الجديد، وهو أن ينبذ الناس الأرضيات بما فيها من حيوانية وقسوة وكراهية وأنانية، متجهين إلى السمانيات بما فيها من روحانية ورحمة ومحبة وإحسان، وهو زهدهم في الاهتمامات الأرضية الزائفة الزائلة، متطلعين إلى الأمجاد السمائية الحقة الخالدة . إذ أجابهم يوحنا قائلاً لهم ومن كان لديه ثوبان فليعط من ليس لديه، ومن كان لديه طعام ليفعل هكذا، . وقد جاء إلى يوحنا لينال المعمودية منه قوم ممن كان اليهود يعتبرونهم أكثر الناس شراً وقسوة وظلماً وإجراماً، حتى لقد كانوا يقرنونهم دائماً حين يذكرونهم بالخطاة والزناة، وأولئك هم العشارون الذين كانوا يقومون بجباية العشور، أي الضرائب، بتكليف من الحكام الرومان. وكانوا بالفعل قوماً لا ضمائر لهم، يستغلون وظائفهم في التجبر على الناس واقتضاء ضرائب منهم أكثر مما هو مستحق عليهم ليستولوا على ما زاد منها لأنفسهم، وذلك بأكثر الوسائل حطة ووحشية وإذ شعر الذين جاءوا إلى  يوحنا منهم بما يثقل كواهلهم من الأثام وأعمال الإجرام، سألوه ـ إذ أرادوا التوبة ـ عن السبيل إلى توبتهم، قائلين له «ماذا نفعل يا معلم؟، فقال لهم لا تجبوا أكثر مما هو مقرر لكمه ، إذ كان هذا هو أشنع آثامهم وأبشع مظاهر إجرامهم. كما جاء إلى يوحنا بعض الجند الذين كانوا من أشد الناس فظاعة وفظاظة وغلظة قلب وانعدام ضمير، واعتداء على الناس وافتراء عليهم واغتصاباً للرشوة منهم في غير شفقة ولا رحمة. وقد قال هؤلاء أيضاً ليوحنا : ، ونحن ماذا نفعل؟، فقال لهم ولا تظلموا أحداً، ولا تفتروا على أحد، واكتفوا بأجوركم.. وهكذا كان يوحنا ينصح كل من يجيء إليه بما يتلاءم مع حاله، وبما يتفق مع تعاليم العهد الجديد الذي جاء ليمهد أذهان الناس وقلوبهم له .

وقد رأينا أن اليهود كانوا في ذلك الحين ينتظرون مجيء المسيح على مقتضى الموعد الذي ذكره دانيال النبي في نبوءته (دا 9: 21- 27). وكذلك على مقتضى الموعد الذي ذكره يعقوب أبو أسباط اليهود حين تنبأ بأنه عندما لا يعود لليهود ملك ولا مشرع يجيء “شيلون”، الذي معناه المخلص، وإذ كان كل الشعب مترقباً ذلك المجيء. ومنتظراً إياه في لهفة، لم يلبثوا ـ إذ رأوا ما عليه يوحنا المعمدان من صلاح وتقشف وتقوى ومداومة على المناداة بكلمة الله ـ أن ظنوا أنه هو المسيح الذي ينتظرونه . بيد أن يوحنا إذ علم أفكارهم، بادر إلى تصحيح ما وقعوا فيه من خطأ، والتصريح بأنه ليس هو المسيح، لأن المسيح من القوة والعظمة بالنسبة إليه بحيث إنه لا يستحق أن يكون خادماً له، إذ أجاب الجميع قائلاً لهم وأنا أعمدكم بالماء، ولكن سيأتي بعدي من هو أقوى منى، وأنا لست مستحقاً أن أحل أربطة حذائه، فهو سيعمدكم بروح القدس وبالنار، ذلك الذي مذراته في يده ، وسينقى بيدره، ويجمع القمح في مخزنه، وأما التبن فيحرقه بنار لا تنطفئ ، وبذلك اعترف يوحنا بأن غاية ما يستطيعه هو أن يعمد الناس بالماء ليمهد لهم سبيل التوبة والمغفرة، وبعد بذلك قلوبهم لاستقبال سيده الذي جاء هو ليمهد الطريق أمامه، والذي لن يعمدهم كما فعل هو بالماء الذي لا يصلح إلا لأن يطهر الجسد فحسب، وإنما . لأنه أقوى منه بغير قياس، وأعظم منه إلى غير حد ـ سيعمدهم بروح القدس الذي هو روح الله ذاته، والذي هو من القوة والقدرة بحيث يطهر، لا الجسد وحده، وإنما الروح ذاتها، وتصـهـرها كما نصهر النار المعدن في البوتقة، فلا تفتاً تزيل عنه كل ما علق به من شوائب ورواسب، حتى يغـدو خالص الصفاء شديد النقاء، ولسوف يأتي ذلك السيد العظيم الذي يعترف يوحنا بأنه ليس مستحقاً أن يحل أربطة حذائه، كما يأتي الزارع في وقت الحصاد ومذراته في يده لينقي بيدره الذي وضع فيه محصول حقله، فيجمع القمح الذي يرمز إلى الأبرار في مخزنه، أي في ملكوته. وأما التبن الذي لا يصلح إلا وقوداً للنار والذي يرمز إلى الأشرار، فيحرقه بنار لا تنطفئ.

وأمور أخرى كثيرة كان يوحنا يبشر بها الشعب، وهو يعظهم، في حدود المهمة التي أرسله الله لإنجازها، وهي أن يتقدم السيد المسيح كما يتقدم التابع الملك ليعلن عن مجيله ويدعو الناس إلى استقباله بما يليق به من عظمة وجلال.

3: 19- 20 جرأة يوحنا المعمدان وصراحته 

وقد رأينا أن يوحنا كان في تعليمه صريحاً لا يواري من الحقيقة شيئاً، جريئاً لا يجارى أحداً ولا يتعلق أحداً ولا يهاب إنسانا مهما كانت مكانة هذا الإنسان، حتى لقد كلفته هذه الصراحة وهذه الجرأة حريته، ثم كلفته بعد ذلك حياته ذاتها، لأنه تصدي في هجومه على شر الأشرار، لكل أصحاب السطوة والنفوذ في بلاد اليهود من فريسيين وصدوقيين وغيرهم من أعضاء المجلس الذي كان له السلطان الأعلى على اليهود، وهو مجلس السنهدريم. بل إنه فعل ذلك حتى مع هيرودس أنتيباس ملك الجليل الذي كان عاتياً عنيفاً، شرها شريراً سافكاً للدماء. فكان يوحنا يوبخه علانية على كل الشرور التي كان يرتكبها وكان هيرودس قد اغتصب هيروديا زوجة أخيه فيلبس أثناء حياة أخيه هذا وأخذها لنفسه . فكان يوحنا لا يفتأ يصرخ في وجهه قائلا له في جرأة “لا يحل لك أن تأخذها زوجة لك” (مت 14: 4)، ومن ثم سخط هيرودس عليه، ولم يلبث أن ألقي به في السجن، ثم بعد ذلك أرسل فقطع رأسه (مت 14: 10). 

3: 21- 23 عماد السيد المسيح 

وحين بلغ السيد المسيح الثلاثين من عمره اعتزم أن يعلن ذاته للناس ويشرع يؤدى رسالته التي جاء من أجلها إلى العالم، لأنه ككاهن وكنبي لم يكن يجوز له الخدمة الدينية وفقاً للشريعة قبل أن يبلغ هذه السن (عد 4: 3 ، 23، 30). ومن ثم شاءت إرادته أن يبدأ هذه الخدمة بأن يعتمد من يوحنا المعمدان، ليتم في هذه المعمودية أول إعلان للعالم عن شخصيته، وعن حقيقة طبيعته، وهو الذي حبلت به أمه لا من بشر، وإنما من روح القدس الذي هو الله ذاته . ومع أن السيد المسيح كان بغير خطيئة يحتاج معها لأن يتطهر بالمعمودية منها، أو ليبدي اعتزامه التوبة عنها، فإنه إذ اتخذ طبيعة الإنسان وخضع للشريعة اليهودية، فعل ما فعله سائر اليهود ليبدي لهم أنه بطبيعته كإنسان واحد منهم، ومن ثم يقول القديس لوقا إنه وإذ اعتمد جميع الشعب، اعتمد يسوع أيضاً، . وعندئذ جاء الإعلان الإلهي. إذ فيما كان يصلي أثناء ما كان يوحنا يعمده، كعادته أثناء حياته كلها، لأنه كان دائم الصلاة لأبيه السماوي ودائم الاتصال به، لأنه واحد معه، وقع في تلك اللحظة أمر مهيب رهيب، لم يحدث أن رأى البشر له مثيلا من قبل في هيبته ورهبته، إذ انفتحت السماء في بهاء عظيم، ونزل روح القدس على السيد المسيح في صورة جسمية مثل حمامة، ليكون مرئيا لجميع الحاضرين، ولأن الحمامة هي رمز السلام والطهارة والجمال. وجاء صوت من السماء سمعه جميع الحاضرين، هو صوت الله الآب يقول السيد المسيح أنت ابني الحبيب الذي به سررت، . وبذلك تحققت نبوءة إشعياء النبي التي تقول إن السيد المسيح «يحل عليه روح الرب، (إش 11: 2)، ونبوءته القائلة بلسان السيد المسيح ، “روح السـيـد الرب على، لأن الرب مسحنى لأبشر المساكين” (إش 61: 1). كما تحققت كل النبوءات التي أشارت إلى أن السيد المسيح هو ابن الله، ومنها قولها بلسان الله “يولد لنا ولد ونعطي ابنا وتكون الرئاسة على كتفه” (إش 9: 6)، وقوله “أنا أكون له أباً وهو يكون لي أبناً، (1صم 7: 14)، وقوله “هوذا .. مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحی علیه فيخرج الحق للأمم” (إش 42: 1) .. وهكذا تم الإعلان الإلهي للبشر أن : يسوع هذا الذي جاء من الناصرة ليعتمد من يوحنا المعمدان، هو ابن الله الحبيب الذي سرت به نفسه، لأنه ارتضى أن يقوم بعمل الفداء، مقدماً نفسه ذبيحة لغفران خطايا البشر وخلاصهم من الهلاك الذي كان محكوماً به العدالة الإلهية عليهم . وإذن فهذا هو المسيح الذي كان اليهود ينتظرونه، لا بشهادة بشر ولا بشهادته هو نفسه، وإنما بشهادة الله ذاته . وقد أيد ذلك يوحنا المعمدان كما جاء في إنجيل القديس يوحنا، إذ قال عن السيد المسيح هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم.. وشهد يوحنا المعمدان) قائلاً إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه .. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله: (يو 1: 29- 34). 

وبهذا الإعلان الإلهي بدأ السيد المسيح إنجاز رسالته التي جاء من أجلها إلى العالم. وكان عندئذ في الثلاثين من عمره .

3: 23- 38 سجل أنساب السيد المسيح 

وما من شك في أن وصف السيد المسيح بأنه أبن الله، إنما هو وصف روحي وليس وصفاً جسدياً، وهو وصف إلهي وليس وصفاً بشرياً. لأنه من غير المعقول أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قد تزوج زوجة وأنجب منها ابناً، كما ينجب الناس ذوى الأجساد أبناء من زوجاتهم. لأن الله روح، منزه عن المادة، ويستحيل على العقل البشري المحدود أن يدرك طبيعته اللاهوتية غير المحدودة، ومن ثم يستحيل أن ينطبق على البشر ذوى الكيان المادى الجسدي، فوصف السيد المسيح بأنه ابن الله ليس إلا تعبيراً قصد الله به أن يجعل طبيعة الرابطة التي تربطه بالسيد المسيح قريبة إلى أفهام الناس بذات الألفاظ التي يستخدمونها في علاقاتهم الاجتماعية. بيد أن هذه الألفاظ البشرية قاصرة بطبيعة الحال عن أن تعبر عما هو فوق مستوى البشر، وفوق مداركهم. فلا ينبغي أن يقصر الإنسان معناها على ما يفهم هو منها عندما يستخدمها. وهذا كذلك هو الشأن بالنسبة لوصف السيد المسيح بأنه كلمة الله (يو 1: 1). ولعل القول بأن السيد المسيح هو ابن الله، والقول بأنه هو كذلك كلمة الله، يوضح أحدهما الآخر، ويفسر كل منهما معنى الآخر، وإن يكن ذلك مع هذا بنفس اللغة البشرية القاصرة عن التعبير عن : المعاني الإلهية التي لا يحيط بكنهها إلا الله وحده . ومما يدل على ذلك أن السيد المسيح صرح بأنه هو والله الآب واحد، وأن من رأه فقد رأى الآب (يو 14: 9-11). فالسيد المسيح ابن الله، وهو في نفس الوقت الله ذاته. وذلك لأن الأمر كله متعلق بطبيعة الله التي لا يمكن أن يدركها بشر، ولأن الله واحد. فإن قيل إن له ابنا بالتعبير البشري فلابد أن تكون طبيعة الابن وذاته . هي نفسها طبيعة الله وذاته. وإن قيل إن له كلمة، فلابد أن تكون طبيعة الكلمة وذاته هي نفسها طبيعة الله وذاته، وإلا نسبتا إلى الله التعدد في طبيعته وفي ذاته، في حين أن الله منزه عن التعدد بأي معنى من المعاني، وعلى أي وجه من الوجوه . فلئن تحدثنا إذن عن ابن الله، إننا تتحدث في ذات الوقت عن الله نفسه، ولكن تحدثنا عن كلمة الله، إننا نتحدث في ذات الوقت عن الله نفسه كذلك، وهذا سر من أسرار الطبيعة الإلهية لا ينبغى ولا يليق أن ننزل به إلى مستوى التفكير فيه أو الحديث عنه، قياساً على الطبيعة البشرية.

ومن الواضح أن السيد المسيح الذي جاء من روح القدس وليس من إنسان، والذي قال عنه الملاك للسيدة العذراء إن القدوس الذي سيولد منك يدعى ابن الله،، لا يصح أن يدخل في سلسلة أنساب بشرية، وإن كان من جهة الجسد من نسل الملك داود، لأن أمه كانت من سلالة هذا الملاك. وقد أوضح السيد المسيح نفسه هذا المعنى في تعاليمه، إذ جاء في إنجيل متى أنه وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً : ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ فقالوا له : ابن داود . قال لهم : فكيف إذن يدعوه داود بالروح ربی، قائلاً قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك تحت قدميك ؟ فإن كان داود إذن يدعوه ربه، فكيف يكون ابنه؟» (مت 22: 41 – 45). بيد أن تلاميذ السيد المسيح ورسله أرادوا أن يثبتوا لليهود أن يسوع الناصري هو المسيح الذي تنبأ بمجيده الأنبياء وقالوا إنه سيجيء من نصل داود، حتى درج اليهود على أن يلقـبـوا المسيح الذي ينتظرونه بابن داود. وقـد كـان الذين آمنوا به حين جـاء يلقبونه عندما يخاطبونه بابن داود. ومن أمثلة ذلك أنه جاء في إنجيل منى ،ولما مضى يسوع من هناك تبعه أعميان يصرخان قائلين : ياابن داود ارحمنی، (مت 9: 27)، وجاء فيه أن «امرأة كنعانية قد خرجت من تلك النواحي تصرخ قائلة : ارحمني يارب ياابن داود، (مت 15: 22) وكان الذين يرون معجزات السيد المسيح يتساءلون عما إذا كان هذا هو ابن داود، قاصدين بذلك الاستفهام عما إذا كان هذا هو المسيح المنتظر الذي سيجيء على مقتضى النبوءات من نسل داود. ومثال ذلك أنه جاء في إنجيل متى أنه “جيء إليه برجل كان به شيطان وكان أعمى وأخرس فشفاه فدهش كل الجمع قائلين : أليس هذا هو ابن داود؟” (مت 12: 22). وقد جاء في رسالة بولس الرسول إلى أهل روما أن السيد المسيح “صار من نسل داود من جهة الجسد، (رو 1: 3). ومن ثم أورد القديسان متى ولوقا في بشارتيهما سلسلة نسب السيد المسيح ليثبتا أن يسوع الناصري هو اين داود الذي تكلمت عنه النبوءات، لأنه قد جاء من جهة النسب من نسل داود. وفضلاً عن ذلك كانت للقديسين متى ولوقا حكمة أخرى يقصدان إليها حين أوردا سلسلة نسب السيد المسيح وهي أنهما أرادا القول أن السيد المسيح وهو كلمة الله إذ تجسد، قد اتخذ الصورة الحقيقية الكاملة للإنسان ليتمم فيها الرسالة التي جاء من أجلها إلى العالم، وهي خلاص البشر. 

فهو بهذا المعنى إنسان وابن إنسان، ولا سيما أنه هو نفسه كان يلقب نفسه بابن الإنسان، إثباتاً لهذه الحقيقة. ومثال ذلك أنه جاء في إنجيل القديس متى أنه سأل تلاميذه قائلاً “ومن تقول الناس إني هو، أنا ابن الإنسان ؟” (مت 16: 3) . وجاء في إنجيل مرقس أنه قال لتلاميذه “إن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً.. ويقتل، وبعد ثلاثة أيام يقوم» (مر 8: 31). وجاء في إنجيل القديس يوحنا أنه قال “ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يو 3: 13) . وأنه قال “كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته، وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان” (يو 5: 26و 27). وبهذا المعنى يكون السيد المسيح هو انسل المرأة، الذي جاء في سفر التكوين أنه سيسحق رأس الحية التي هي رمز الشيطان مصدر الشر والهلاك. إذ جاء في هذا السفر فقال الرب الإله للحـيـة : لأنك فعلت هذا .. أضع عـداوة بينك وبين المرأة، وبين تسلك ونسلهـا. هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه، (تك 3: 14و 15).

وإنه إن كان السيد المسيح قد تجسد في أحشاء السيدة العذراء من روح القدس، ولم يكن من نسل رجل، فإن اليهود حين كانوا يذكرون الأنساب لم يكونوا يستندون في ذلك إلى نسب الأم وإنما إلى نسب الأب. ولذلك فإن القديسين متى ولوقا حين أرادا أن يبرهنا لليهود على أن يسوع الذي صلبوه هو المسيح الذي ينتظرونه، وأنه من نسل داود كما تنبأ الأنبياء، لم يذكرا نسبه من جهة أمه القديسة مريم، مع أنها كانت من نسل داود، وإنما من جهة يوسف الذي كان على الرغم من أنه لم يتزوجها معروفاً بأنه زوجها، والذي إن لم يكن أباً حقيقياً للسيد المسيح، فإنه كان أبا اعتبارياً له. ولذلك يقول القديس لوقا حين أورد قائمة نسب السيد المسيح أنه “على ما كان الناس يظنونه ابن يوسف”. وقد أثبت القديسان متى ولوقا أن يوسف من نسل داود من واقع سجلات الأنساب التي كان اليهود يحرصون على تدوينها ويهتمون اهتماماً عظيماً بالاحتفاظ بها. ومن ثم جاء نسب يوسف في الفصل الأول من إنجيل القديس متى في سلسلة تبـدأ من إبراهيم الأب الأول لليهود، وتشتمل على اسم الملك داود باعتباره الجد الأول الذي ينتسب إليه يوسف (مت 1: 1 – 16) . وأما القديس لوقا فإنه حين أراد إثبات نسب يوسف إلى داود لم يبدأ سلسلة هذا النسب نازلاً بها من إبراهيم، وإنما بدأ بها صاعداً من يوسف نفسه إلى أجداده الأولين ومنهم داود. وقد ختم هذه السلسلة بقوله إنها تنتهي عند شيث، بن آدم، بن الله، ملمحاً بذلك إلى السيد المسيح هو ابن الإنسان وابن الله في نفس الوقت.

زر الذهاب إلى الأعلى