تفسير انجيل لوقا أصحاح 7 للأنبا غريغوريوس
الفصل السابع
7: 10-1 معجزة شفاء عبد قائد المائة :
وبعد أن أتم فادينا هذه الأقوال كلها في مسامع تلاميذه وسائر الذين كانوا حاضرين من الشعب، دخل مدينة كفر ناحوم، وكان لقائد مائة روماني وثني عبد مريض قد أشرف على الموت، وكان عزيزا عليه فلما سمع بحضور فادينا إلى المدينة، وكانت قد بلغته أخبار معجزانه السماوية وقدرته الإلهية، أوفد إليه شيوخ اليهود يسألونه أن يأتي ويشفى عبده ، لأنه خشى بسبب أنه وثني أن يجيء بنفسه فيرفض الرب يسوع مقابلته أو الاستجابة لطلبه، لأن اليهود كانوا لا يدخلون بيوت الوثنيين ولا يخالطونهم ومن ثم تشفع لديه ببعض الكبراء من شيوخ اليهود في المدينة فجاءوا إليه، وإذ ظنوا كما ظن قائد المائة أن مخلصنا سيرفض المجيء لشفاء عبد ذلك القائد بسبب وثنيته، أخذوا يتوسلون إليه بإلحاح أن يقبل رجاءه، وهم يسوقون إليه المبررات التي يستحق من أجلها ذلك الوثني عطف مخلصنا وتجاوزه عما توهموه من كراهيته للوثنيين كما كان سائر اليهود يكرهونهم قائلين له إنه يستحق منك هذا الصنيع، لأنه يحب أمتنا وهو الذي بنى لنا المجمع. أي أنه على الرغم من وثنيته يحب أمة اليهود، بل إنه هو الذي بني مجمعهم الذي هو معبدهم. وليس أدل من ذلك على ميله إلى اليهود، واستحقاقه أن ينال من مخلصنا النعمة التي يغدقها على كل يهودي. بيد أن مخلصنا لم يكن في حاجة إلى كل هذه الحجج والمبررات، لأنه جاء لخلاص البشر جميعاً وليس لخلاص اليهود وحدهم كما كانوا يتوهمون.
ومن ثم مضى مع أولئك الشيوخ. حتى إذا أصبح غير بعيد عن بيت قائد المائة أرسل إليه هذا بعض أصدقائه قائلا له ويارب لا تتعب نفسك، فإنني لست مستحقاً أن تدخل تحت سقف بيتي، ومن ثم لست أجدني مـسـتـحـقاً أن أجيء إليك. لكن قل كلمة فيشفي غلامي، لأننى أنا أيضاً خاضع لسلطان، ولي جند تحت أمرى، فأنا أقول لهذا اذهب فيذهب، ولعبدي أفعل هذا فيفعله . وقد برهن ذلك القائد بذلك على أمرين يدلان دلالة واضحة على أنه كان رجلاً فاضلاً نبيلاً، لأنه على الرغم مما كان عليه القواد الرومان ولا سيما في البلاد التي يستعمرونها ويستعبدونها من صلف، وكبرياء واستعلاء، برهن على تواضعه الجم، ولا سيما مع إنسان – مهما اشتهر عنه من سموه وقدرته ـ كان يهودياً، حتى لقد استشعر ذلك القائد في نفسه أنه غير مستحق أن يدخل ذلك الإنسان تحت سقف بيته، كما أنه غير مستحق أن ينال شرف المثول بين يديه. فضلاً عن أنه ـ على الرغم من أنه كان وثنياً ـ برهن على إجلاله العظيم لمعلمنا وإيمانه العميق بشخصه الإلهى، وسلطانه السماوى، حتى لقد كان موقناً أن مجرد كلمة تصدر عنه كفيلة بشفاء العبد المريض، وإن كان ذلك العبد غير حاضر بين يديه، بل يرقد بعيداً في البيت. فكما أنه وهو القائد يملك السلطان على جنوده بحيث إذا أصـدر أي أمر إليـهم أطاعـوه على الفور، هكذا أيقن أن مخلصنا يملك السلطان على نفوس البشر وعلى كل شئون حياتهم، بحيث إذا أمر يطاع أمره على الفور أيضاً. ولذلك فإن مخلصنا لما سمع ذلك نعجب منه والتفت إلى الجمع الذي كان يتبعه وقال : أقول لكم إني لم أجد لدى أحد في كل إسرائيل إيماناً بهذا القدره . ولعل هذا كان إيذانا بإيمان الوثنيين بمخلصنا، في حين أن اليهود بني إسرائيل الذين جاء في البداية إليهم، والذين كان المفروض أن يكونوا هم أول المؤمنين به، لم يرفضوه ويكفروا به فحسب، وإنما نكلوا به أيضاً وقتلوه . ونعلم من إنجيل القديس متى أن ذلك القائد بعد أن أرسل شيوخ اليهود ليتشفعوا له لدى فادينا، ثم أرسل أصدقاءه للقائه، جاء هو نفسه ليقدم إليه فروض الإجلال ويلتمس منه بنفسه شفاء عبده ، وقد كان لذلك القائد المتواضع المؤمن ما أراد، لأنه حين رجع إلى البيت مع الذين أوفدهم، وجدوا أن الـعـبـد المريض قد . من مرضه، بقدرة معلمنا وحدها، وبمجرد مشيئته.
7: 11- 17 معجزة إقامة ابن أرملة نايين :
وفي اليـوم التالي ذهب معلمنا الإلهي إلى مدينة تدعى نايين، إحدى مدن الجليل، وكانت تقع على بعد خمسة أميال جنوب شرقي الناصرة، وهي التي تسمى اليوم «نين، وكان يصحبه تلاميذه وجمع عظيم من اليهود الذين بهرتهم معجزاته. فلما اقترب من باب المدينة، إذا ميت محمول على نعش، كان هو الابن الوحيد لأمه التي كانت أرملة، وكان معها جمع كبير من تلك المدينة. وكانت تبكي ملتاعة متفجعة على وحيدها الذي فقدته في ريعان شبابه، فإذ رآها ربنا ومخلص نفوسنا، تحنن عليها قلبه الرقيق الرحيم وقال لها ولا تبكي، ، ثم تقدم ولمس النعش، فوقف الذين كانوا يحملونه، فقال «أيها الشاب لك أقول قم، فجلس الميت وقد عادت إليه الروح على الفور وبدأ يتكلم، فسلمه لأمه لتفرح وتجفف دموعها، ومن ثم استولى الخوف على كل الحاضرين ممن كانوا مع مخلصنا من أتباعه، وممن كانوا يشيعون الجنازة من أهل نايين. وقد بهرتهم تلك المعجزة العظيمة التي لا يسع من يراها إلا أن يرتجف مما تنطوي عليه من سلطان لا يملكه إلا الله وحده، و ه، وأخذوا يمجدون الله قائلين : قد قام فينا نبي عظيم، وقـد تـفـقـد الله شعبه، ، إذا كان ظهور الأنبياء الذين يصنعون المعجزات قد انقطع منذ مئات السنين، حتى ظن اليهود ـ الذين كانوا يعتقدون أنهم شعب الله ـ أن الله قد غضب عليهم وحجب وجهه علهم، ففرحوا وتهللوا بظهور ذلك الذي قالوا عنه إنه نبي، غير مدركين أنه ليس نبياً فحسب، وإنما هو رب الأنبياء. ومن ثم ذاع عنه هذا الأمر، لا في منطقة الجليل فحسب التي تقع فيـهـا مـدينة نايين، وإنما كذلك في كل منطقة اليهودية التي تقع فيها أورشليم، والتي تبعد عن الجليل مسافات شاسعة. كما ذاع هذا الأمر في كل النواحي المحيطة بها.
7: 18- 35 يوحنا المعمدان يوفد رسولين للسيد المسيح :
وقد بلغت أنباء كل هذه المعجزات التي كان يصنعها مخلصنا أسماع يوحنا المعمدان وهو في السجن، حيث ألقى به هيرودس ملك الجليل، فأخبر يوحنا بها تلاميذه، تأكيداً للشهادة التي سبق له أن شـهـد بها أمامهم عن فادينا قائلاً لهم “أنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” (يو 1: 34) ، ويبدو أن بعض تلاميذه كانوا مترددين في الإيمان بأن هذا هو المسيح الذي تنبأ الأنبياء بأنه سيأتي ليخلص بني إسرائيل، بسبب ما رأوه من وداعـتـه وتواضعه وبساطة مظهره، في حين أنهم كانوا يعتقدون أن المسيح سيأتي في صورة ملك جبار وقائد مغوار، يحيط به كل ما يحيط بالملوك والقواد الفاتحين من فخامة وسلطان وهيلمان، ومن ثم دعا يوحنا اثنين من أولئك التلاميذ وأوفدهما إلى فأدينا ليتحققا بنفسيهما مما سبق أن شهد به عنه، ليتوطد إيمانهما به، طالباً إليـهـما أن يقـولا له «أأنت هو الآتي أم تنتظر آخر؟، فجاء الرجلان إليه وقالا إن يوحنا المعمدان قد أوفدنا إليك لنسألك : أنت هو الآتى أم ننتظر آخر؟، وكان مخلصنا في تلك الساعة التي جاء فيها هذان الرجلان يعلم الجموع التي كانت لا تفتأ محتشدة حوله، ويصنع المعجزات لمن يحتاجون إليها منهم، فشفي أمامهما كثيرين من المرضى والمعلولين من أمراضهم وعللهم، وطرد الأرواح الشريرة ممن تملكتهم تلك الأرواح وعذبتهم، ووهب البصر لعميان كثيرين. ثم التفت إلى تلميذي يوحنا اللذين كانا يساورهما الشك في أنه هو المسيح الآتي إلى العالم الذي تنبأ عنه الأنبياء، وقال لهما واذهبا وأخبرا يوحنا بما رأينما وسمعتما : العمى يبصرون، والمقعدون يمشون، والبرص يطهرون ، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون، . أي أنهما قد رأيا بنفسيهما أنه هو الذي تحققت فيه نبوءات النبي عن المسيح إذ قال وهو يأتي ويخلصكم حينئذ تتفتح عيون العمى، وآذان الصم تتفتح . حينئذ يقفز الأعرج كالأيل ويترنم لسان الأخرس، (إش 35: 4 – 6). وقال على لسان المسيح «روح السيد الرب على، لأن الرب مسحنى لأبشر المساكين، (إش 61: 1). ثم قال للتلميذين إذ أدرك ما في نفسيهما من الشك في أنه هو المسيح “مغبوط من لا يشك في”، أي سعيد ومبارك ذلك الذي يرى أعماله الإلهية، ولا يشك في أنه هو ابن الله .
ثم لما انصرف رسولا يوحنا، أراد مخلصنا أن يمحو ما قد يكون خامر نفوس الحاضرين من الظن بأن السؤال الذي أوفد يوحنا رسوليه ليوجهاه إليه يدل على أن يوحنا نفسه قد تزعزع إيمانه به وتراجع في شهادته له، فأخذ مخلصنا يمتدح يوحنا قائلاً ماذا خرجتم إلى البرية لتروا؟ أقـصـيـة تهزها الريح ؟ بل مـاذا خـرجـتـم لتروا؟ أإنساناً يرتدي ثياباً ناعمة ؟ هاهم أولاء الذين يرتدون ثياب الترف والدميم يقيمون في قصور الملوك. بل ماذا خرجتم لتروا؟ أنبيا؟ نعم أقول لكم وأكثر من نبي . فإن هذا هو الذي كتب عنه : ها أناذا أبعث أمام وجهك رسولي الذي يهييء طريقك أمامك. لأنني أقول لكم إنه ليس بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان، أي أن يوحنا الذي عاش في البرية متعبداً متقشفاً ناذرا نفسه لخدمة الله منادياً بين الناس بالتوبة عن خطاياهم، مندداً بالأئمة والأشرار، لايلين في ذلك أو ينحني : كما تنحنى القصبة الرخوة أمام هبوب الريح . وإنما كان صلباً جريئاً في توبيخه حتى للكتبة والفريسيين الذين كان اليهود كلهم يخافونهم ويرهبونهم. بل أمام هيرودس نفسه ملك الجليل، الذي كان من أشرس الملوك وأشدهم جبروتاً وبطشاً وسفكاً للدماء.
وقد كان يوحنا لا يفتأ يجاهر على رؤوس الأشهاد بلومه وتعيفه على ما يرتكب من شرور، ولا سيما على تلك الفعلة النكراء التي اقترفها إذ اغتصب زوجة أخيه فيلبس وهو حى واتخذها زوجة له، فلم يضعف يوحنا أمامه ولم يعبأ بتهديده له وهو عالم بما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من عواقب وخيمة قد تبلغ حد الموت. وبالفعل قبض هيرودس عليه ثم قتله . ولم يكن يوحنا الذي وصفه مخلصنا بأنه ليس بين المولودين من النساء أعظم منه يستمد عظمته مما يرتدي من الثياب الناعمة وما يتمتع به من الترف والنعيم الذي يتمتع به الساكنون في قصور الملوك، إذ كان يرتدي لباساً من وبر الإبل ويطوق حـقـويه بمنطقة من جلد، وكان طعامه جراداً وعملاً برياً، (مت 3: 4). وإنما كان يستمد عظمته من أنه كان نبياً، بل كان أعظم من نبي. لأن أنبياء العهد القديم كنه لم ينالوا النعمة التي نالها هو، لأنهم جميعاً لم يكونوا يرون من مجد ابن الله الذي تنبأوا بأنه سيأتي إلى العالم إلا لمحات خافتة، تشبه لمحات النور التي يراها الناس من كوكب بعيد أشد البعد يتراءى لهم خلال حلكة الظلام في أغوار السماء. وأما يوحنا فقد رأي ابن الله ماثلاً قبالته، ومتجسدة أمام عينيه بكل مجده، وبكل نوره الذي لا تضاهيه كل الأنوار التي تسطع من كل كواكب السماء، واستحق أن يعمده ويضع يده على رأسه المباركة فضلاً. عن أنه هو وحده – دون كل أنبياء العهد القديم ـ الذي اختارته الحكمة الإلهية ليجيء مع ابن الله في نفس الوقت ليهييء طريقه أمامه، ويمهد نفوس الناس لاستقبال ذلك الملك السماوى، كأولئك الذين كانوا يتقدمون ملوك الأرض ليعلنوا مجيلهم، وينادوا بدعوة الناس لاستقبالهم الاستقبال اللائق بالملوك، فكان يوحنا هو الذي تحققت فيه نبوءة ملاخي النبي التي تقول وها أناذا أرسل ملاكي فيهيىء الطريق أمامي، (ملا 3: 1). كما كان هو الذي تحققت فيه نبوءة إشعياء النبي التي تقول «صوت صارخ في البرية : أعدوا طريق الرب. قوموا في القفر سبيلا لإلهنا.. فيعلن مجـد الرب ويراه كل بشر، (إش 40: 3-5).
بید أنه وإن كان يوحنا المعـمـدان أعظم من كل أنبياء العهد القديم، بل أعظم من كل المولودين من النساء وغير أن الأصغر منه في ملكوت الله أعظم منه، لذلك فإن الأصغر منه، إما يشير به مخلصنا إلى من جاءوا بعـد يوحنا من مـؤمنى الـعـهـد الجـديد، الذين حصلوا على امتيازات بالمسيح أعظم في جوهرها من تلك التي حصل عليـهـا يوحنا قبل مـوت المسيح وصلبه. وفي هذه الحالة تكون العظمة المقصودة هنا : عظمة امتيازات الخلاص ووسائط الخلاص، لا عظمة فضائل، وإما أن يكون الأصغر منه، هو السيد المسيح ذاته، فإنه أيضاً بالجسد من بين مواليد النساء، وهو أصغر من يوحنا المعمدان سناً، لأنه يصغره ـ في الجسد ـ بستة شهور (لو 1: 26) . ولكنه أعظم من يوحنا بقـدر مـا يكون الخالق أعظم من عبده المخلوق. والراجح أن هذا هو المعني القريب لعبارة مخلصنا وفادينا يسوع المسيح.
فلما سمع جميع الشعب والعشارون الحاضرون امتداح سيدنا ليوحنا المعمدان، فرحوا بهذه الشهادة عنه وأقروا بأن الله الذي هداهم إلى الإيمان بيوحنا هو الإله الحق، لأنهم كانوا قـد اعتمدوا بمعمودية يوحنا، مدفوعين بذلك الإيمان. وأما الفريسيون وعلماء الشريعة الذين كانوا يعرفون الشريعة حق المعرفة ويعلمون ما جاء بها من مشيئة الله ومشورته التي تضمنت مجيء يوحنا المعمدان ليهيىء الطريق للمسيح الفادي، فقد عصوا تلك المشيئة ورفضوا تلك المشورة، وأنكروا يوحنا المعمدان وازدروه ، ومن ثم لم يعتمدوا منه، تلك المعمودية التي كانت رمزا للتوبة والتماسا لغفران الخطايا، فلم يريدوا التوبة وتمسكوا بخطاياهم.
وقد كان الفريسيون وعلماء الشريعة هم قادة الشعب ومعلموه، فكان الشعب يتبعهم في طرقهم المعوجة، ويطيعهم في تعاليمهم المضللة، ومن ثم أفسدوا الجيل كله بفسادهم . ولذلك قال ربنا ومخلصنا في سياق كلامه عن يوحنا المعمدان «بماذا أشبه أناس هذا الجيل ؟ من يشبهون ؟ إنهم يشبهون صبية جالسين في السوق ينادي بعضهم بعضاً قائلين : زمرنا لكم فلم ترقصوا نحنا لكم قلم تيكوا. فقد جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزاً ولا يشرب خمراً فقلتم أن به شيطاناً. وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فقلتم هوذا رجل أكول وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة. بيد أن الحكمة قد تبين برها لكل أبنائها، . أي أن أبناء ذلك الجيل كانوا لاهين جاهلين لا يأخذون أمراً مأخذ الجد، ولا يفكرون في أمر تفكيراً ناضجاً عميقاً، مشابهين في ذلك الصبية الذين كان من عادتهم أن يجلسوا في السوق ينادون بعضهم بعضاً، ويقلدون الكبار في الأفراح فيرقصون، ويقلدونهم في الأحزان فيبكون. ومن ثم كانوا سريعاً ما يتحولون من الفرح إلى الحزن، ومن الحزن إلى الفرح إذ كان كل ما يفعلونه لعباً في لعب، وعبثاً في عبث ـ فكان أبناء ذلك الجيل يفعلون مثل هذا حتى فيما يتعلق بديانتهم وعقيدتهم : إذ جاء يوحنا المعمدان متوحداً متقشفاً لا يأكل الخبز ولا يشرب الخمر، فكان ينبغي أن يوقروه ويعتبروه نبياً، لأن سيرته وتعاليمه لو تأملوها لوجدوا أنها تدل على أنه نبي ولكنهم بدلاً من ذلك ازدروه واحتقروه، وقالوا في تسرع واستخفاف إن به شيطاناً، أي أنه مجنون، ومن ثم لم يؤمنوا به، ولم ينتفعوا بتعاليمه. ثم جاء ابن الإنسان الذي هو ابن الله منتهجاً طريقاً غير طريق يوحنا. فكان يخالط الناس، حتى الخطاة منهم، ويشاركهم فيما يأكلون ويشربون، ليتخذ من ذلك فرصة لتعليمهم وتقويمهم. وقد برهن لهم بتعاليمه ويمعجزاته على أنه ليس نبياً فحسب، وإنما هو المسيح ابن الله الذي كانوا ينتظرونه. فكان ينبغي لذلك أن يفكروا فيما قال وفيما فعل، ويستنتجوا من ذلك حقيقة شخصيته ولكنهم بدلاً من ذلك ازدروه أيضاً واحتقروه، وقالوا، لا في تسرع واستخفاف فحسب، وإنما كذلك في كيد وتنديد وتجريح وافتراء قبيح، إنه رجل أكول، وشريب خمر، محب للشارين والخطاة . فوصفوا – في كيدهم وحقدهم وظلام عقولهم وسواد قلوبهم ـ ما كان يتجلى فيه من خير وفضيلة، بأنه شر ورذيلة. ومن ثم لم يؤمنوا به هو كذلك ولم ينتفعوا بتعاليمه . بيد أن أولئك الذين كانوا من الحكمة وصفاء الروح، ونقاء السريرة، ونور البصيرة، بحيث تبينوا حقيقة شخصية مخلصنا من أقواله وأعماله، فأمنوا به، وانتفعوا بتعاليمه، لأنهم لم يكونوا كالصبية في تفكيرهم وشعورهم كما كان سائر أبناء ذلك الجيل. وإنما كانوا من الأبرار الأخيار الناضجين عقلا وروحاً، وشعوراً وضميراً. فكانوا هم صفوة ذلك الجيل، وكانوا هم الصف الأول من تلاميذ رب المجد.
7: 36- 50 في بيت الفريسي يغفر للمرأة الخاطئة :
وكان الفريسيون من أعدى أعداء مخلصنا، لأنه نزع عنهم قناع الرياء الذي كانوا يتظاهرون به أمام الشعب بالورع والتـقـوى، ويستأثرون عن طريقـه بالـتـبـجـيـل، والإجلال في المجتمع اليهودي، ومن ثم زعزع مخلصنا من مكانتهم، وحط من منزلتهم، فكانوا لا يفتأون يتريسون له ليتصيدوا منه خطأ أو يمسكوا عليه خطيئة لينالوا منه ويعملوا على هلاكه. وكانوا يفعلون ذلك جهاراً وعلانية أحياناً، كما كانوا يسعون إليه بالحيلة والمكر أحياناً أخرى، متظاهرين بالتودد إليه، والرغبة في تكريمه وتعظيمه، عسى أ أن يفلحوا بالمكر فيما لم يفلحوا فيه بالجهر، ومن ثم حدث أن دعاه أحد الفريسيين ليتناول الطعام معه، وربما أضمر أن يستدرجه إلى قول أو عمل يتهمه فيه بمخالفة الشريعة، أو في القليل يتخذ من ذلك القول أو العمل ذريعة للتنديد به والانتقاص من قدره أمام الشعب الذي كانت تسحره أقواله وتبهره أعماله. وربما دعاه لينال بدعوته إلى بيته شرفاً أمام الناس وكرامة.
فدخل مخلصنا بيت الفريسي وجلس إلى المائدة ، فلم تلبث أن حانت الفرصة التي كان الفريسي يترقبها ويتلهف على اقتناصها، إذ حدث أن امرأة خاطئة في المدينة حين علمت أن ذلك الإنسان السامي ذا القـدرة السماوية جالس في بيت الفريسي، جاءت بقارورة طيب، ووقفت من ورائه عند قدميه باكية في أنسحاق شديد وندم عظيم، وأخذت تبلل قدميه بدموعها، وتمسحهما بشعر رأسها، وتقبل قدميه وتضمنهما بالطيب في صمت ت أبلغ من الكلام، وفي خشوع عظيم وإيمان عميق وصراعة باكية، ملتمسة في صمتها وخشوعها وإيمانها وضراعتها أن يغسلها ذلك الشخص الإلهي من خطاياها، ويطهرها من آثامها، ويمحو بيده الرحيمة ما تعاني – وقد أستيقظ ضميرها ـ من آلامها. وقد تقبل مخلصنا منها كل ذلك في رضاء وسماحة وحنان. بيد أن الفريسي الذي دعاه لما رأى ذلك وجد فيه ضالته التي كان ينشدها لينال من مخلصنا، فقال في نفسه ولو كان هذا نبياً لعلم من هي ، هذه المرأة التي تلمسه، وما هو حالها، وأنها خاطئة، . بيد أن مخلصنا كان بالفعل يعلم من هي هذه المرأة، وأنها خاطئة لا يجوز ليـهـودي أن يلمسها لئلا يتنجس، ولكنه إذ أنه ما جاء إلى العالم إلا لخلاص الخطاة وتطهيرهم من نجاستهم .
وإذ علم ما يدور في ذهن الفريسي، التفت إليه وقال له : يا سمعان عندي شيء أقوله لك، فقال «قل يا معلمه ، قال كان لدائن مـدينان، يداين أحدهما بخمسمائة دينار، والآخر بخمسين. وإذ لم يكن لديهما ما يفي بالسداد أبرأهما كليهما من الدين. فأيهما خليق بأن يحبه أكثر؟، فأجاب سمعان وقال «أظن أنه هو الذي أبرأه من الأكثر ، فقال له بالصواب حكمت، ، ثم التفت إلى المرأة وقال لسمعان أترى هذه المرأة ؟، لقد دخلت بيتك فلم تعطني ماء لقدمي، وأما هي فبالتهما بدموعها، ومسحتهما بشعر رأسها. أنت لم تقبلني، وأما هی فمنذ أن دخلت بيتك لم تكف عن تقبيل قدمي. أنت لم تدهن بالزيت شعري، وأما هي فقد بعد ضمخت بالطيب قدمي . لذلك أقول لك إن خطاياها الكثيرة مغفورة لها، لأنها أحبت كثيراً، وأما الذي يغفر له قليل، فإنه يحب قليلاً، وقد كان من مظاهر إكرام الضيف والتعبير عن محبته عند اليهود، أن يغسل المضيف قدمي الضيف بالماء، وأن يقبله، وأن يدهن بالزيت شعره. وقد أثبت ذلك الفريسي أنه على الرغم من كونه قد استضاف مخلصنا لم يقدم له أيا من واجبات الضيافة هذه التي كان متعارفاً عليها. فدل بذلك على تقصيره المخل نحو ضيفه الإلهي العظيم، مما : أيضاً إهانة لجلاله، كما دل أيضاً على عدم إيمانه به. وقد أيد ذلك بتقريره بينه وبين نفسه أنه ليس نبياً، وأما تلك المرأة الخاطئة فقد دلالت بما فعلت من مظاهر التكريم التي أبدتها لذلك المعلم العظيم، على محبتها العظيمة له. كما دللت بذلك الذي فعلت على توبتها الصادقة بدموعها الكثيرة عن خطاياها الكثيرة، وعلى ضراعتها أن يقبل توبتها ويغفر لها تلك الخطايا، موقنة أن له هذا السلطان، فعلى قدر ما أبدت من المحبة له، على قدر ما برهنت على التوبة عن خطاياها. فكانت محبتها هي الدليل على توبتها.
ولذلك قبل مخلصنا هذه التوبة منها، وغفر لها خطاياها، قائلاً لها مغفورة لك خطاياك,. بيد أن الجالسين معه إلى المائدة من الفريسيين وجدوا في هذا القول اتهاماً آخر يوجهونه إليه غير اتهامه بقبوله الخطاة وعطفه عليهم. فأخذوا يقولون في أنفسهم من هذا أيضاً الذي يغفر الخطايا ؟» . لأن غافر الخطايا هو الله وحده ، فهو إذن يساوى نفسه بالله ، وإذ كانوا ينكرون مكابرين أن هذا هو المسيح ابن الله، اعتبروا ذلك جريمة يستحق عليها الموت بحكم شريعتهم، على الرغم من أنه سبق أن فند تهمتهم هذه التي سبق أن وجهوها إليه حين قال للمفلوج «أيها الرجل مغفورة لك خطاياك، فلما قالوا : من هذا الذي يجدف؟ فمن يقدر أن يغـفـر الخطايا إلا الله الـواحـد وحـده ؟، قال لهم ، أيهـمـا أيسر : أن يقـال مـغـفـورة لك خطاياك، أم أن يقال قم وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان السلطان على الأرض أن يغفر الخطايا..، ثم قال للمفلوج : لك أقول قم أحمل فراشك واذهب إلى بيتك. ففي الحال قام أمامهم وحمل ما كان راقداً عليه وذهب إلى بيته وهو يمجد الله، فذهلوا جميعاً، (لو 5: 17-26) . وإذ كان قد سبق أن أفحمهم بذلك لم يعبأ هذه المرة بحقدهم وعنادهم، ولم يشأ أن يرد عليهم، وإنما التفت إلى المرأة الخاطئة وقال لها إن إيمانك قد خلصك فاذهبي بسلام، فخرجت مطهرة من آثامها، مغفورة لها خطاياها، وقد بدأت منذ تلك اللحظة صفحة جديدة في حياتها.