تفسير إنجيل لوقا ٩ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح التاسع
صديقنا السماوي والتلاميذ
إن كنَّا قد رأينا في السيِّد المسيح الصديق المُحب لكل البشر، العامل بلا انقطاع لنقبل صداقته معنا وفينا، فإن هذا الأصحاح يقدِّم لنا غاية هذه الصداقة ألا وهو تجلِّيه في مؤمنيه وخدَّامه ليُعلن طبيعته السماويَّة في حياتنا. لقد افتقر لأجلنا ودخل معنا الآلام لكي يحملنا إلى غناه ومجدِه السماوي.
لم يقدِّم السيِّد أمجاد تجلِّيه دُفعة واحدة، لكنه إذ اختار الاثنى عشر تلميذًا تجلَّى في حياتهم خطوة خطوة ليعلن سلطان ملكوته خلال إرساليَّتهم بلا إمكانيَّات زمنيَّة لكنهم يحملون سلطانه في شفاء النفوس والأجساد. وهبهم أن يلمسوا تجلِّيه وإمكانيَّاته السماويَّة خلال رُعب هيرودس منه من بعيد. وشبَع الجموع الجائعة، وإعلان الآب عن شخصه لسمعان بطرس، وأخيرًا إذ حدَّثهم عن الصليب حمل معه ثلاثة من تلاميذه ينعمون عيانًا ببهائه على جبل تابور. بعد هذا التجلِّي المنظور خشيَ عليهم من الكبرياء فحدَّثهم عن الالتزام بالصليب والسلوك بروح التواضع مع خدمة الآخرين خلال الطريق الضيِّق.
- إرساليَّة التلاميذ 1-6.
- اضطراب هيرودس 7-9.
- التلاميذ وإشباع الجموع 10-18.
- التلاميذ والتعرف على شخصه 19-21.
- التلاميذ والصليب 22-27.
- التلاميذ ومجد التجلي 28-36.
- التلاميذ وإخراج الأرواح الشرِّيرة 37-43.
- التلاميذ وتسليم ابن الإنسان 44-45.
- التلاميذ والتواضع 46-48.
- التلاميذ وخدمة الآخرين 49-50.
- التلاميذ والنار من السماء 51-56.
- شروط التلمذة للسيِّد 57-62.
- إرساليَّة التلاميذ
سبق لنا الحديث عن هذه الإرساليَّة أثناء تفسير مت 10: 1، مر 6: 7، لذا نكتفي هنا بإبراز أن السيِّد المسيح كصديقٍ سماويٍ نزل إلى أرضنا وحّل بيننا، واختار له تلاميذ من بين الأمميِّين ليتجلَّى فيهم معلنًا ذاته خلال إمكانيَّاته التي قدَّمها لهم، هذه الإمكانيَّات هي:
أولاً: “ودعا تلاميذه الإثنى عشر”، هذه الدعوة الإلهيَّة للتلمذة لا تحمل قسرًا أو إلزامًا لقبولها عُنوة، إنما هي عرض حِبّي من الله نحو مُحبوبيه. لكنها في عيني قابليها تمثِّل توكيلاً، خلاله يعمل الوكيل باسم موكِّله ولحسابه وبإمكانيَّاته. فالتلاميذ خلال هذه الدعوة قبَلوا مركزًا جديدًا هو “الوكالة”، يعملون كوكلاء أسرار الله.
ثانيًا: “وأعطاهم قوَّة وسلطانًا على جميع الشيَّاطين وشفاء أمراض” [1].
إذ أقامهم وكلاء أسراره لم يبخل عليهم بمنحهم قوته وسلطانه على جميع الشيَّاطين وشفاء أمراض.
كثيرون لهم سلطان خلال مراكزهم كملوك أو رؤساء أو أشراف وقضاة، لكنهم لا يحملون في داخلهم قوَّة، فيُسيئون إلى مراكزهم كما إلى نفوسهم، أما السيِّد المسيح فقد وهبهم مع السلطان قوَّة. هذه القوَّة لا تقوم على مظاهر زمنيَّة خارجيَّة، إنما هي “روحه القدُّوس” الذي يسكن فيهم ويعمل بهم.
لقد ادَّعى الشيطان لنفسه سلطانًا، يسنده في ذلك ضعف البشريَّة التي اِنحنت أمامه ليملك عليها، حتى دُعي “رئيس هذا العالم”، كما دُعِي بالقوي. لكن سلطانه قام على خداعه للبشر وضعف البشرية، وجاءت قوَّته خلال ضلاله واِنحرافه. وكان لزامًا للتلاميذ لكي يُجابهوا هذا العدو أن يحملوا سلطانًا مسنودًا بالقوَّة الإلهيَّة.
ثالثًا: وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله، ويشفوا المرضى” [2].
هذه الإمكانيَّة هي “قوَّة الكرازة بالملكوت”، ليست حديثًا فلسفيًا، ولا دعوة لسلوك تقوي فحسب، إنما هي تمتُّع بالملكوت في داخل النفس. بمعنى آخر الكرازة الرسوليَّة هبة يقدِّمها الروح القدس حين ينقل النفس من الظلمة إلى ملكوت النور، لتنعم خلال مياه المعموديَّة بالبنوَّة لله، وتحوِّل الموقع الداخلي إلى سماء مقدَّسة للرب.
رابعًا: “وقال لهم: لا تحملوا شيئًا للطريق، لا عصى ولا مزودًا ولا خبزًا ولا فضَّة، ولا يكون للواحد ثوبان” [3].
إنه يسأل تلاميذه ممارسة الترك والتخلِّي، لا ليعيشوا في حرمان، وإنما ليكون لهم الرب نفسه كل شيء. والعجيب أنه قدَّم لهم القوَّة والسلطان ووهبهم قوَّة للكرازة وعمل الأشفية قبل أن يسألهم الترك؛ يأخذوه هو بكل إمكانيَّاته فيرفضوا الزمنيَّات بكل تفاهاتها.
لقد سألهم ألا يحملوا شيئًا، لا عصى ولا مزودًا ولا خبزًا ولا فضَّة ولا يكون لهم ثوبان، وصيَّة تليق بمن يدخل هيكلاً أو مقدَّسا للرب، فلا يحمل معه شيئًا من أمور هذا العالم، حتى لا يرتبك في شيء أو ينشغل بغير الله. هكذا يليق بالتلاميذ أن تصير حياتهم كلها وكأنها “وجود مع الله في مقدِسه”، يشعرون على الدوام – أينما وُجدوا كمن في مُقدَّسات إلهيَّة.
ليهبنا الله هذا الشعور الذي يملأ القلب مخافة مقدَّسة، ويرفع النفس لتحيا كمن تجلس في السماء، لا ترتبك بحِمل أمور هذه الحياة، ولا تحتاج إلى عصا أو مزود أو خبز أو فضَّة ولا تطلب ثوبين.
خامسًا: “وأيّ بيت دخلتموه فهناك أقيموا، ومن هناك اُخرجوا” [4].
لقد وهبهم أيضًا عطيَّة العضويَّة مع بعضهم البعض في جسدٍ واحدٍ، فإذ يجد الرسول بيوت المؤمنين مفتوحة له بكونها منازله الخاصة به، يقيم في أي بيت بلا كُلفة الضيافة، إنما يعيش كواحدٍ من أعضاء الأسرة، يشاركهم طعامهم اليومي العادي، ويبقى هناك حتى يخرج من المدينة.
لعلَّ هذه الوصيَّة أيضًا تقدَّم للخادم اِلتزامًا بالجديَّة في العمل، فلا يستغل محبَّة الناس له في المسيح ويحوِّلها إلى مجاملات، فتتحوَّل حياته إلى ولائم عِوض التركيز على نشر كلمة الله والكرازة بإنجيله. عدم التنقُّل من بيت إلى بيت ينزع عن العائلات روح المنافسة في واجبات الضيافة، الأمر الذي يشتهر به الشرق حتى يومنا هذا.
أخيرًا ربَّما أراد بهذا أن يكون هذا البيت نواة لإِنشاء كنيسة للمدينة، حيث يعتاد المؤمنون أن يلتقوا بالرسل فيه، وهناك يتعبَّدون خاصة ممارسة سرّ الشركة أو الإفخارستيا في اليوم الأول من الأسبوع. هكذا إذ ينفتح أول بيت للرسول ينال هذه البركة، فإنه على العكس: “كل من لا يقبلكم فاُخرجوا من تلك المدينة، واُنفضوا الغبار أيضًا عن أرجلكم شهادة عليهم” [5].
هكذا فعل برنابا وشاول عند خروجهما من أنطاكية (أع 13: 50). ولعلَّه يقصد بذلك أن الأمور الزمنيَّة مهما سمت فهي كالغبار الذي لا موضع له إلا عند القدمين. فعندما يرفُض الناس الكلمة الروحيّة من الخادم، يرفض هو أيضًا منهم حتى أتفه الأمور الزمنيَّة! الكنيسة لا تطلب مالاً بل تنفضه كغبارٍ عن قدميها، إنما تطلب النفوس! وقد جاءت الكنيسة تشدِّد على الأساقفة والكهنة ألا يقبلوا عطايا الأشرار غير التائبين، وكأنها تنفض الغبار على عتبة أبوابهم شهادة عليهم حتى يتوبوا!
يرى القدِّيس أمبروسيوس أن هذا الغبار يشير إلى الضعفات التي يليق بالراعي أن يحملها عن شعب الله، كقول الرسول: “من يضعف وأنا لا أضعف” 2 كو 11: 29)، لكن لا يترك الضعفات تلتصق به، بل يلقيها تحت قدَّميه، إذ يقول: [من واجب الكارز بالإنجيل أن يأخذ على عاتقه ضعفات المؤمنين الجسديَّة ويحملها بعيدًا ويسحقها تحت قدميه، هذه الأعمال البطَّالة التي تشبه الغبار.]
- اضطراب هيرودس
إن كان السيِّد قد وهب تلاميذه إمكانيَّات سماويَّة للعمل لحساب صديقهم السماوي، فقد أراد أن يكشف لهم خطوة بخطوة عن سلطانه وإمكانيَّاته، وها هو الإنجيلي لوقا يروي لنا كيف اضطرب هيرودس عند سماعه عن أخبار السيِّد المسيح وأعماله. لم يقف الأمر عند اضطرابه، وإنما أيضًا تغيَّرت أفكاره، فمع كونه صدُّوقيًا لا يعترف بالقيامة من الأموات إلا أنه أمام الأحداث قال: “يوحنا أنا قطعت رأسه، فمن هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا؟” [9]. لقد تشكَّك في الأمر وبدأ يفكِّر فيما يقوله الناس ألعلَّه يوحنا أو إيليَّا أو واحدًا من الأنبياء القُدامى قد قام؟ وقد بدأ ضميره يثور في داخله، فلم ينسب قتل يوحنا لخداع هيروديَّا أو ابنتها، ولا للسياف بل لنفسه، قائلاً: “أنا قطعت رأسه”، وكان يطلب أن يرى يسوع. هذا كله قد تحقَّق خلال سماع هيرودس لأعمال السيِّد المسيح، دون أن يتحدَّث معه أحد بكلمة توبيخ أو يكرز له ببشارة مفرحة.
يمكننا أيضًا أن نقول إن كان صوت يوحنا المعمدان السابق للرب، الذي يهيئ الطريق قدَّامه لم يُخْمِد حتى بعد قتله، بل بقي عاملاً يُرعب قلب هيرودس، فكم بالأكثر كلمة المسيح نفسها والكرازة بها حين ينطق هو بها خلال تلاميذه؟ إنها كلمة – كما يقول الرسول بولس – لا تفيد!
- التلاميذ وإشباع الجموع
نال التلاميذ الدعوة وتمتَّعوا بقوَّة وسلطان، ورأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم عن هيرودس الذي ينهار مضطربًا. والآن يُعلن لهم الرب أنه هو مُشبع الجموع الجائعة زمانًا طويلاً. وقد سبق لنا الحديث عن إشباع الجموع (مت 14: 14-21، مر 6: 35-44)، لذا نكتفي هنا بإبراز النقاط التالية:
أولاً: أراد السيِّد أن يختلي بتلاميذه منفردًا في مدينة بيت صيْدا، لكن الجموع إذ علموا تبعوه، فقبِلهم، وفي الأصل تعني الكلمة “قبِلهم” رحَّب بهم واستقبلهم. كان التلاميذ في حاجة أن ينفرد بهم السيِّد، لكن حتى هذا اللقاء المنفرد هو من أجل الشعب، فإن جاء يقابلهم الرب ببشاشة وترحاب. راحته وراحة تلاميذه في إراحة المتعبين، وإشباع النفوس الجائعة.
ثانيًا: جاءت هذه المعجزة بعد اِختيار التلاميذ وإرساليَّتهم ليُعلن غاية الإرساليَّة هي “إشباع البشريَّة الجائعة”.
يُعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على موقع هذه المعجزة بين الأحداث التي حولها، قائلاً:
[ما هو السبب الذي جعل البشير يذكر موت يوحنا المعمدان، إذ يشير هيرودس إلى موته [9]؟ ربَّما لأن الإنجيل الذي يُشبع الشعوب الجائعة بدأ بانتهاء الناموس.
لقد قدَّم الغذاء بعد شفاء نازفة الدم رمز الكنيسة، وبعد إرساليَّة الرسل المُرسلين للكرازة بملكوت الله.
تأمَّل من هم الذين تمتَّعوا بالوليمة؟ لم يتمتَّع بها الكسالى ولا الساكنون في المدينة كمن هم في المجمع ولا طالبو كرامات العالم، إنما يتمتَّع بها الباحثون عن المسيح في البرِّيَّة… هؤلاء يقبلهم المسيح، ويحدِّثهم لا عن العالم بل عن ملكوت السماوات. وإن كان من بينهم من غطَّت القروح جسده، يعطيهم الرب يسوع دواءه.
لقد دبَّر الله أن يُنقذ الذين شفاهم من جراحاتهم المؤلمة من الجوع، ويهبهم الغذاء الروحي، إذ لا يستطيع أحد أن يتمتَّع بالوليمة السماويَّة إن لم يُشفَ أولاً. المدعوُّون للوليمة تمتَّعوا بالشفاء أولاً. فمن كان أعرج نال القوَّة للمشي ليأتِ عند الرب، ومن كان قد حُرم من نور عينيه لم يدخل بيت الرب إلا بعد عودة البصر إليه. هكذا يسير الرب بتدبير حسن مقدَّس في كل حين، إذ يعطي أولاً غفران الخطايا ودواء للجراحات ثم يهيئ الوليمة السماويَّة…
القلوب الجائعة للإيمان الراسخ لا تُشبَع إلا بجسد المسيح ودمه.]
ثالثًا: يقول الإنجيلي “والمحتاجون إلى الشفاء شفاهم” [11]، إذ لم ينعم بالشفاء كل المرضى، إنما الذين يشعرون بالحاجة إلى الشفاء فيطلبون الطبيب. فطبيبنا سخي وقادر على الإبراء، لكنه لا يهب عطاياه إلا لسائليه، الذين يشعرون بالحاجة إليه، حتى لا يستخفُّوا بالعطيَّة ويحتقرونها.
ربَّما تتساءل: أنا لا أشعر بمرضي، فماذا أفعل؟ اِفعل ما صنعتهُ الجموع، إذ سارت وراءه تريد أن تسمعه، فتجوع إليه وتشعر بالحاجة إلى الشبع، عندئذ حتى إن لم تسأله شيئًا، التلاميذ يسألونه، والرب نفسه يتكفَّل بإشباع اِحتياجاتهم. نحن نحتاج أن نجلس معه، ونسمع صوته خلال إنجيله، فنشعر بالحاجة إلى الشفاء وإلى الشبع. يقول القدِّيس أمبروسيوس: [عندما يبدأ الإنسان في الاستماع يشعر بالجوع، ويرى الرسل جوعَهُ، فإنهم وإن كانوا لا يُشبِعون اِحتياجه، لكن المسيح يشبعه.]
رابعًا: من باب العاطفة البشريَّة سأل التلاميذ السيِّد: “اِصرف الجمع ليذهبوا إلى القرى والضياع حوالينا، فيبيتوا ويجدوا طعامًا، لأننا ههنا في موضع خلاء” [12]. كانت عاطفة التلاميذ بشريَّة مجرَّدة وحساباتهم أيضًا بشريَّة، إذ ظنُّوا أن الأمر يحتاج إلى مالٍ كثيرٍ لشراء طعامٍ لهذا الشعب. وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس: [لم يكونوا بعد قد فهموا أن غذاء المؤمنين لا يُباع، أما المسيح فيعرف أنه ينبغي أن يتمِّم لنا الفداء، وأن وليمته مجانيَّة.]
خامسًا: يُعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على الغذاء الذي يقدِّمه لنا السيِّد المسيح حتى لا نخور في الطريق فلا نبلغ إلى الآب، معلنًا أن طعام الرب قوي يسند في الطريق، فإن خُرْنا، فالسبب هو فينا، أننا بإهمالنا نبدِّد القوَّة التي يهبنا إيَّاها. لقد اِستطاع إيليَّا أن يسير أربعين يومًا تسنده وجبة غذاء قدَّمها له الملاك ولم يَخُر كما سبق فخار في الطريق، أما وجبة المسيح فتسندنا كل أيَّام حياتنا.
أخيرًا فقد سبق لنا دراسة المفاهيم الرمزيَّة لعدد الرجال الذين شبعوا (5000 رجل) وللخمس خبزات والسمكتين الخ. إنما ما نود توضيحه هنا أن التلاميذ إذ تقبَّلوا البركة من يديّ المخلِّص ليس فقط أشبعوا الجميع، إنما بقيَ إثنتا عشر قُفَّة مملوءة كِسَرًا، لكل منهم قُفَّة، شهادة عمليَّة لعمل الله معهم. حينما يقدِّم المؤمن للغير يشبع الآخرون، وتمتلئ يداه ببركات الرب، بمعنى أن العطاء يُزيد بركة الرب في حياتنا.
- التلاميذ والتعرُّف على شخصه
“وفيما هو يصلِّي على اِنفراد كان التلاميذ معه،
فسألهم قائلاً: من تقول الجموع إنِّي أنا؟” [18]
إذ اِلتقَت به الجموع تحدَّث معها، وشفى جراحاتها، وقدَّم لها طعامًا يشبعها، أما تلاميذه فدخل بهم معه إلى خُلْوة اِنفراديَّة لعلَّهم إذ يروه يصلِّي يستطيعون إدراك علاقته الفريدة مع أبيه. لقد صلَّى وكانوا معه، ليعلِّمهم الصلاة كطريقٍ للتمتُّع بأسرار الآب والابن، لذا جاء السؤال: من تقول الجموع إني أنا؟ لكي يعود فيسألهم: وأنتم من تقولون إنِّي أنا؟
إن كنَّا مع الجموع ننعم بأعماله العجيبة ونشبع ونرتوي، فإنه يريدنا أن نلتقي معه على اِنفراد نتمتَّع بأسراره الإلهيَّة، إذ يريد أن يقدِّم لنا نفسه شخصيًا، لنقول له مع بطرس الرسول: “مسيح الله!” وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس: [يشمل هذا الاسم كل شيء، ويعبِّر عن طبيعته، ويحوي كل الفضائل.]
وقد سبق لنا الحديث عن هذا الحديث في شيء من التفصيل (تفسير مت 16: 13-20؛ مر 8: 27-30)، مع عرض تعليقات الآباء عليه.
- التلاميذ والصليب
إذ أعلن بطرس الرسول إيمانه بالسيِّد المسيح، اِنتهرهم وأوصاهم ألا يقولوا ذلك لأحد [21]، “قائلاً أنه ينبغي أن ابن الإنسان يتألَّم كثيرًا، ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويُقتل، وفي اليوم الثالث يقوم” [22].
لقد وضَّح أن غاية وصيَّته هذه لتلاميذه تأجيل الإعلان عن شخصه حتى تتحقَّق أحداث الصلب والقيامة، لأنهم “لو عرِفوا لَمَا صلبوا رب المجد” (1 كو 2: 8)، فلا يريد إعاقة هذه الأحداث. ففي الوقت الذي فيه أراد أن يُعلن عن ذاته لتلاميذه حتى لا يتعثَّروا بصلبه، أرادهم أن يصمِتوا ولا يُعلنوا عن شخصِه حتى يتم الصليب.
الحقيقة أن الكشف عن ذاته قد اِلتحم بالصليب، فلا قيمة لذبيحة الصليب ما لم يُعلن شخص المصلوب كابن الله الوحيد ومسيحه القدُّوس، ولا يمكننا أن نتمتَّع بشخص المسيَّا كابن الله وننعم به خارج الصليب. إن كان السيِّد المسيح هو الصديق السماوي، فقد جاء ليحملنا بحبه إلى صليبه، هناك بالحري نتعرف عليه ونقبله ونثبت فيه كأعضاء جسده، وندخل به إلى حضن أبيه.
هذا ولا يمكننا أن نتعرَّف على صليبه إلا بِحِملنا إيّاه معه كاختبارٍ يوميٍ تقويٍ، لذا اِلتحم حديثه عن صلبه بحديثه عن صلْبنا نحن معه يوميًا، أو حملنا صليبه وتمتَّعنا بشركة آلامه، إذ يكمل الإنجيلي حديثه هكذا: “وقال للجميع: إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسه، ويحمل صليبه كل يوم، ويتبعني” [23].
يكشف لنا عن ذاته كي لا نتعثَّر في صليبه، ويجتذبنا إلى صليبه لكي ننحني معه نشاركه آلامه كل يومٍ بفرحٍ، فنُحسب أهلاً لشركة أمجاده. هذه هي شهوة قلب كل رسول بل وكل مؤمن: “لأعرفه وقوَّة قيامته وشركة آلامه متشبِّهًا بموته” (في 3: 10).
يقول القدِّيس جيروم: [صليبه هو عمود البشريَّة. عندما أقول “الصليب” لا أفكِّر في الخشبة، بل في الآلام. هذا الصليب يوجد في بريطانيا والهند وكل المسكونة… وأنت إن لم تكن نفسك مستعدَّة لحمل الصليب، كما هو الأمر بالنسبة لي (للمسيح) لا يمكنك ان تكون لي تلميذًا. طوبى للإنسان الذي يحمل في قلبه الصليب والقيامة، فيكون موضع ميلاد المسيح وقيامته! طوبى لمن له بيت لحم في قلبه، فيولد المسيح فيه كل يوم!… يُصلب المسيح فينا كل يوم، ونحن نصلب عن العالم… طوبى لمن يقوم فيه المسيح كل يوم! فإنه يقوم إن كان الخاطئ يتوب عن خطاياه حتى الهفوات منها!]
الصليب لا يحطِّم حياتنا مادمنا نحمله مع السيد المسيح غالب الموت، أو بمعنى آخر مادام يحمله المسيح الساكن فينا. خارج المسيح الصليب محطِّم للنفس، أما في المسيح، فهو طريق الخلاص والقيامة. لهذا يقول السيِّد المسيح نفسه: “فإن من أراد أن يُخلِّص نفسه يُهلكها، ومن يُهلك نفسه من أجلي فهذا يُخلِّصها” [24]، بمعنى أن من أراد أن يُخلِّص نفسه أي يمجِّدها بقيامتها الأبديَّة يلزمه أن يُهلكها بحملها الصليب مع مخلِّصها. فإن الصليب وإن حمل صورة الهلاك من الخارج، لكنه واهب الخلاص.
سحبت هذه العبارة الإلهيَّة فكر كثير من رجال التربية الحديثة، في أبحاثهم عن تربية الأطفال، إذ كشفت لهم عن مفهوم الحب الوالدي الحق، فإنه لا يستطيع أحد أن يُخلِّص أولاده ما لم يُهلك ذاته أو “الأنا ego”. فإن كثيرين يُحبُّون أنفسهم أو ذواتهم في أولادهم، يريدون أن يشكِّلوا أبناءهم حسب أهوائهم وميولهم واشتياقاتهم، لا حسب فكر الأبناء ومواهبهم وإمكانيَّاتهم. إنهم في الحقيقة يأسرون أولادهم في سجن “الذات” الذي يصعب على الوالدين أن يحرِّروا أبناءهم منه! ونحن نستطيع أن نقول بأننا إذ نُصلب مع المسيح ننكر ذواتنا ونكفر بها، لنعيش أعضاء أحياء في جسد المسيح، هنا لا نأسر أولادنا في “الأنا”، إنما نشعر بهم كأشخاصٍ وأعضاءٍ معنا في الجسد الواحد، لهم شخصيَّاتهم المستقلَّة ومواهبهم وطاقاتهم وإمكانيَّاتهم التي يضمرها روح الله القدُّوس نفسه، أما نحن فنخدمهم ونوجِّههم بالحب الحق بلا أنانيَّة.
إذن الصليب هو سرْ حياة كل عضو في حياته الخاصة، وفي علاقاته الأُسريَّة، وفي علاقاته الكنسيَّة والاجتماعيَّة… إذ يعيش باذلاً في الرب لا يطلب لنفسه شيئًا فينال كل شيء. بقدر ما يجحد ذاته تنمو نفسه بالحب ويتجلَّى الله فيه، ويكون موضع حب السماء والأرض أيضًا، لهذا يؤكِّد القدِّيس أغسطينوس إنه يلزمنا أن نُهلك ذواتنا لنربح أنفسنا.
مرَّة أخرى يحدِّثنا عن الصليب بأسلوب آخر، قائلاً: “لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وأهلك نفسه أو خسرها؟” [25]. هنا لا يقصد بالعالم سكَّانه، إنما أمور هذا العالم الماديَّة والمعنويَّة. كما يقول القدِّيس أغسطينوس إن الإنسان إذ يعيش بروح الأنانيَّة “يحب ذاته”، فيما هو يتقوقع حول ذاته ينطلق إلى أمور العالم ليقتنصها لحساب ذاته. يريد أن يكون العالم كله خاضعًا لملذَّاته، عاملاً لحساب غناه أو كرامته أو ملذَّات جسده، فيفقد حبُّه لنفسه، إذ يُهلكها. أما من يقبل الصلب مع المسيح فإنه إذ يجحد ذاته وينطلق خارج الأنا ليموت بالحب عن الآخرين، ويتَّسع قلبه لاحتمال وخدمة الجميع، فيربح الكل لنفسه! لنمُت، فنحيا! لنُدفن مع البذار، فنُثمر ثلاثين وستِّين ومائة! فالصليب ربح لا خسارة، مادام يمثِّل شركة مع المصلوب.
هكذا يحدِّثنا السيِّد المسيح عن صلبنا معه، الأمر الذي يصعب على الإنسان الطبيعي أن يقبله، لذا يقول: “لأن من اِستحى بي وبكلامي فبهذا يستحي ابن الإنسان متى جاء بمجده ومجد الآب والملائكة القدِّيسين” [26]. وكما يقول العلامة ترتليان: [سأكون في أمان إن كنت لا اَستحي من ربِّي… لقد صُلب ابن الله، إني لا اَستحي وإن كان الناس يخجلون منه. لقد مات ابن الله، وأنا بكل طريقة أؤمن بهذا.] والخجل من السيِّد المسيح وصليبه قد يكون بالكلام كما بالعمل. فمن لا يحمل سمات السيِّد المسيح ويسلك بروحه ويقبل آلامه يكون قد اِستحى به وبصليبه.
هكذا يحثُّنا علي قبول السيِّد المسيح المصلوب في حياتنا اليوميَّة لكي نستطيع أن نختبر أمجاده، ونُحسب معه ورثة الله، نُكرم أمام السمائيِّين. هذه الخبرة، خبرة الأمجاد التي نبلغها خلال الصليب، ليست خبرة أُخرويَّة أو اِنقضائيَّة نتذوَّقها في العالم المقبل فحسب، وإنما هي خبرة حيَّة ننعم بعربونها الآن. لهذا يختم السيِّد حديثه عن الآلام واهبة الأمجاد بقوله: “حقًا أقول لكم أن من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله” [27].
لعلَّه قصد بهؤلاء القوم الثلاثة تلاميذ الذين حملهم معه علي جبل تابور لمعاينة مجده في لحظات التجلِّي، إذ جاء الحديث عن التجلَّي بعد هذا القول مباشرة، ولعلَّه قصد بالقوم التلاميذ الذين رأوا ملكوت الله يُعلن بين شعوب الأمم. غير أن القدِّيس أمبروسيوس يرى أن هؤلاء القوم هم المؤمنون الذين منهم من عاينوا السماء كمعلِّمنا بولس الرسول. ويمكننا أيضًا القول بأن هذا الوعد الإلهي يمس حياة كل واحد منَّا حين يتجلَّى ملكوت الله داخل النفس ينزع عنها موتها وفسادها ويهبها بهاءً سماويًا في الرب.
ويرى بعض المسيحيِّين الذين من أصل يهودي أن هذا القول يُشير إلى اليهود الذين يبقون تائهين في هذا العالم حتى يُعلن ملكوت الله لهم في أواخر الدهور برجوعهم عن رفضهم للمسيح.
(راجع أيضًا تفسير مت 16: 28؛ مر 9: 1).
- التلاميذ ومجد التجلِّي
يمكننا في غير مبالغة أن نقول بأن غاية الإنجيل هو تمتُّعنا بتجلِّي السيِّد المسيح في كنيسته، في كل عضو من أعضائها، أي في أعماق نفوسنا، حتى ننطلق إلي إعلان مجده الكامل في يوم الرب العظيم. فإن كان الصليب والقيامة والصعود يمثِّلون عملاً واحدًا متكاملاً يحتل مركز إيماننا، فإن السيِّد المسيح في صلبه وقيامته وصعوده إنما يود أن يهبنا البصيرة الروحيَّة لنعاينه متجلِّيًا فينا، فنختبره وسط آلامنا مصلوبًا عنَّا، يقدِّم لنا بهجة قيامته وأمجاد سماواته في أعماقنا الداخليَّة. بمعنى آخر إن كنا نجاهد إنما لكي بالإيمان يُعلن السيِّد المسيح متجلِّيًا فينا، حتى نراه وجهًا لوجه متجلِّيًا في كمال بهائه في يوم الرب العظيم.
وقد سبق لنا الحديث عن التجلَّي (تفسير مت 17، مر 9) في كثير من الإفاضة، مع تعليقات للآباء… لذا اَكتفي هنا بتعليق للقدِّيس أمبروسيوس، إذ يقول: [رأى بطرس واللذين معه هذه النعمة مع أنهم كانوا مثقَّلين بالنوم، لأن بهاء اللاهوت غير المُحوى يسحقنا. إن كان ضوء الشمس لا يمكن للعين البشريَّة أن تثبِّت نظرها فيه فكيف يحتمل الجسد البشري مجد الله؟ لهذا في القيامة يلبس الجسد شكلاً أكثر نقاوة ورقَّة، متحرِّرا من نقائصه! لهذا أراد (بطرس) أن يتمتَّع بصورة القيامة بعد تلك الراحة (النوم الثقيل)، لهذا عند اِستيقاظهم رأوا مجده؛ ونحن أيضًا يليق بنا أن نستيقظ، فنشاهد عظمة المسيح. لقد تهلَّل بطرس لأن جاذبيَّة هذا الدهر لم تستطع أن تسبيه عن سحر القيامة. لذا قال: “جيِّد يارب أن نكون ههنا” علي مثال الدهر الآتي، “لي اِشتهاء أن اَنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا” (فى 1: 23).]
ويلاحظ في التجلِّي الآتي:
أولاً: لأهميَّة التجلِّي أفاض الإنجيليُّون الثلاثة متَّى ومرقس ولوقا الحديث عنه، أما الإنجيلي يوحنا فتحدَّث عنه في اِختصار شديد ولكن بقوَّة ويقين، إذ يقول: “ورأينا مجده” (يو 1: 14). ولعلَّ التجلِّي لم يفارق قلب القدِّيس بطرس وفكره كل أيام كرازته، حاسبًا في التجلِّي علامة صدق الرسالة المسيحانيَّة، رابطًا بين التجلِّي وقوَّة بهاء المسيح ومجيئه، إذ يقول: “لأننا لم نتبع خرافات مُصنَّعة، إذ عرَّفْناكم بقوَّة ربَّنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنَّا مُعاينين عظمته، لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجدًا، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسْنَى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سُرِرت به، ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنَّا معه في الجبل المقدَّس” (2 بط 1: 16-18).
ثانيًا: إن كان التجلِّي قد تحقَّق في اليوم الثامن من حديث الرب مع تلاميذه عن الصليب، فإنه حتى في لحظات التجلِّي كان موسى وإيليَّا يتكلَّمان معه عن “خروجه الذي كان عتيدًا أن يكمِّله في أورشليم” [31]. وكأن تجلِّي الرب فينا، أو تمتُّعنا بشركة بهائه ومجده فينا، هو ثمرَّة قبولنا صليبه في حياتنا، ويبقى هذا الصليب موضوع شُغلنا حتى وسط أمجاد التجلِّي. بمعنى آخر لن ننعم بتجلِّي الرب فينا في هذا العالم، ولا بظهور مجده لنا في اليوم الأخير، ما لم نقبل وصيَّة الصلب معه، وعندما ننعم بتجلِّيه هنا وهناك يبقى الصليب موضوع فرحنا وتسبيحنا الأبدي. هكذا يلتحم الصليب بالمجد، ويُعلن المجد قوَّة الصليب وسِرِّه الإلهي.
ثالثًا: تهتم الكنيسة بالتجلِّي، فتحتفل به كعيدٍ سيِّديٍ، بكونه شهادة حق للاهوته المُختفي في حجاب الجسد، أعلنه السيِّد لبعض من تلاميذه قدر ما يحتملوا ليُدركوا ما تنعم به الكنيسة في الأبديَّة بطريقة فائقة لا يُنطق بها.
في هذا التجلِّي نرى ما يهبه لنا ربَّنا كعطيَّة حين يغير طبيعة جسدنا التُرابي إلى جسد روحاني، ويقيمنا من فسادنا إلي عدم الفساد، خلال اِتِّحادنا به وتمتُّعنا بشركة ميراثه الأبدي، وكما يقول الرسول: “الذي سيُغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجده…” لكن تجلِّي الرب هو إعلان حقيقته المحتَجَبة عنَّا بسبب ضعفنا، مقدِّما إيَّاها قدر ما نحتمل، أما مجدنا نحن فهو عطيَّة مجانيَّة يهبها لنا.
رابعًا: يقول الإنجيلي: “وفيما هو يصلِّي صارت هيئة وجهُه متغيِّرة” [29]. وكما قلنا إن إنجيل لوقا هو إنجيل “الصلاة”، لكن صلاة ربَّنا يسوع هي حديث الشركة مع الآب الواحد معه في اللاهوت، وليس حديث من تبنَّاه الله كعطيَّة. علي أي الأحوال حملنا ربَّنا يسوع معه علي الجبل، وكنائبٍ عنَّا أيضًا صلّى، حتى إن أردنا أن نتغيَّر عن شكلنا، وننعم بتجلِّي الرب في أعماقنا، يلزمنا أن نرتفع علي الجبل معه لنصلِّي، فلا طريق للتجليِّ بدون الصلاة!
- التلاميذ وإخراج الأرواح الشرِّيرة
إن كان السيِّد المسيح قد اصطحب معه ثلاثة من تلاميذه إلى الجبل المقدَّس ليعلن لهم عن طبيعته كصديق سماوي، يشهد له الآب نفسه أنه الابن الوحيد موضع سروره، فيه تكمل النبوَّات ويتحقَّق الناموس، لذلك جاء موسى وإيليَّا متهلِّلان بمجيئه يتحدَّثان عن صلبه أو خروجه. به يفرح المجاهدون فيطلبون البقاء معه علي الجبل أبديًا ويُسر الراحلون (مثل موسى). أنه موضوع سلام السماء والأرض، ومصالحتهما معًا بدمه، فإنه نزل إلى السهل ليتجلَّى بطريقة أخرى، خلال عمله الإلهي بإخراج الأرواح الشرِّيرة التي حطَّمت حياة الإنسان. لقد جاء ليحمل البشريَّة إلى تجليِّه والتمتُّع بأمجاده، لكن هذا لن يتحقَّق إلا بتحريرها من عبوديَّة إبليس وجنوده. لهذا نزل السيِّد إلى السهل ليجد شخصًا قد اِستحوز عليه الشيطان فمزَّقه وصرعه [42]، وصار عِلَّة مرارة لأبيه وأقربائه وكل من هم حوله، فتقدَّم ليُنقذه هو وكل من هم حوله.
يمكننا القول بأن صديقنا السماوي الابن الوحيد بارتفاعه على الجبل وتجلِّيه يعلن بصورة أو أخرى البشريَّة وقد اِلتحمَت به لتنعم بشركة أمجاده، فتُفرِّح الآب وتُسِر السمائيِّين. وفيها تكمل كلمة الله وتتحقَّق النبوَّات، أما الابن الذي في السهل، وقد أسره الشيطان، فيمثِّل حال البشريَّة التي أحزنت قلب الآب وخَسرت شركتها مع السمائيِّين بسبب العصيان.
اشتكى الآب من المرارة التي يعيشها بسبب ابنه، قائلاً: “اُنظر إلى ابني، فإنه وحيد لي” [38]. جاءت هذه الكلمات قويَّة ومملوءة حكمة، فمن جهة لم يطلب من المخلِّص إلا أن “ينظر”. هذه الطلبة تحمل إيمانًا بحب المخلِّص الذي لا يَحتمل أن ينظر إنسانًا متألِّمًا وأبًا يتعذَّب من أجل وحيده، ومن جانب آخر فإنه يعلن أبوَّتَه الحانية لكنها عاجزة: “فإنه وحيد لي“. هذا وفي حديثه قدَّم عتابًا: “طلبت من تلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا” [40]. فمع الاسِترحام المملوء إيمانًا قدَّم شكوى عن عجز التلاميذ!
الآن ماذا فعل السيِّد المسيح؟
أولاً: عاتب الجماهير: “أيها الجيل غير المؤمن والمُلتوي، إلى متى أكون معكم واَحتملكم؟ [41]، فقد اِشتهى جيلاً مؤمنًا يحمل سلطانًا يُرعب الشيَّاطين!
ثانيًا: قدَّم للآب نداءً: “قدِم ابنك إلي هنا” [41]، فإنه يريد كل مؤمن أن يتطلع إلي النفوس المحطَّمة والأسيرة كأبناء له يقدِّمها للرب خلال الصلاة لتنعم بالخلاص.
ثالثًا: اِنتهَر الروح النجس، وشفَى الصبي، وسلَّمه إلى أبيه [42]، أيْ طرد العدو المغتصب من موقع اِحتلاله لكي يُرجع الصبي إلى والده. لا يكفي طرد العدو، إنما يلزم رد المُغتصب لصاحبه، بمعنى آخر غاية مسيحنا ليس تحريرنا من إبليس فحسب، وإنما ردِّنا إلى حضن أبينا لنوجد معه ننعم بأحضانه الإلهيَّة. هذه هي غاية صديقنا السماوي: ردَّنا إلى أبينا في كمال الحرِّيَّة الحقيقية!
- التلاميذ وتسليم ابن الإنسان
للمرَّة الثانية يتحدَّث السيِّد المسيح مع تلاميذه عن صلبه، قائلاً: “إن ابن الإنسان سوف يُسلَّم إلى أيدي الناس” [44]، بعد أن تحدَّث معه موسى وإيليَّا في ذات الموضوع. وبينما تعجَّبت الجموع من سلطان السيِّد وقوَّته، إذ خلَّص الصبي من الروح النجس، أراد ألاَّ ينسحب قلب التلاميذ إلي أمجاد زمنيَّة، بل إلى الصليب كإعلان لسلطانه في خلاص البشريَّة.
مع أن كلام السيِّد عن الصليب كان واضحًا لكنهم لم يفهموا القول، وبتدبيرٍ إلهيٍ أخفى عنهم سرْ الصليب حتى يتحقَّق.
- التلاميذ والتواضع
لم يفهم التلاميذ حديث السيِّد الخاص بتسليمه للصلب كطريق لملكوته السماوي، إنما علي العكس بدأوا يفكِّرون من عسى أن يكون أعظم فيهم، فأخذ السيِّد المسيح ولدًا “وأقامه عنده، وقال لهم: من قَبِل هذا الولد باسمي يقبلني، ومن قبِلني يقبَل الذي أرسلني، لأن الأصغر فيكم جميعًا هو يكون عظيمًا” [48].
كصديقٍ سماويٍ يملك لا خلال العظمة الزمنيَّة والاعتداد بالذات، إنما خلال الحب المملوء تواضعًا، لذلك أراد في تلاميذه أن يحملوا سِماته ليملُكوا معه بروح التواضع.
يحذِّرنا الأب أوغريس من الكبرياء، في حديثه عن “ضد أفكار الشهوات الثمانية”، قائلاً: [روح المجد الباطل أكثر الأفكار خبثًا، مستعد أن ينمو في نفوس الذين يمارسون الفضيلة. يقودهم إلى إظهار جهادهم علانيَّة ليجمع المديح من الناس، فيتخيَّلون في أنفسهم أنهم يُشفون الناس، ويُفزِعون الشيَّاطين، وأن جماهير الناس يزدحمون حولهم ليلمسوا ثيابهم… شيطان الكبرياء هو علَّة تحطيم النفس تمامًا.]
ويحثنا الأب دوروثيؤس على التواضع، قائلاً: [لنتَّضع نحن أيضًا إلى حين فنخلُص. فإن كنَّا لا نستطيع احتمال متاعب كثيرة لأننا ضعفاء، فلنتَّضع. فإنني بيقين أؤمن أن العمل القليل الذي يُمارس بتواضع يجعلنا برحمة الله نوجد في ذات الموضع الذي ناله القدِّيسون بتعبٍ عظيمٍ كخدامٍ حقيقيِّين لله. نعم! إننا ضعفاء وعاجزين عن ممارسة أعمال كثيرة، لكن ألا نستطيع أن نتَّضع ؟ حقًا يا اخوة طوبى للإنسان الذي له تواضع حق.] (راجع أقوال الآباء أيضًا في تفسير (مت 18: 1، مر 9: 35).
- التلاميذ وخِدمة الآخرين
“فأجاب يوحنا وقال:
يا معلِّم رأينا واحدًا يُخرج الشيَّاطين باسمك،
فمنعناه لأنه ليس يتبع معنا.
فقال له يسوع: لا تمنعوه،
لأن من ليس علينا فهو معنا” [49-50].
كما قلنا في تفسير مر 9: 38، أن الإنجيلي يوحنا لم يمنعه عن غيرةٍ منه أو حسدٍ له لكنه ِاِشتاق أن يكون معهم في تبعيَّتهم للسيِّد المسيح. وواضح من إجابة السيِّد المسيح أن هذا الرجل لم يكن ضدًا للمسيح بفمه ولا بقلبه، ولا قام بالعمل بفكر فردي اِنعزالي، إنما ربَّما ظروفه لم تسمح له بالتبعيَّة مع التلاميذ بشكل منظور، إنما كان واحدًا معهم في الإيمان. علي أيْ الأحوال فإن صديقنا السماوي بكلماته هذه يقدِّم لنا مفهومًا جديدًا للجماعة المقدَّسة، إنها ليست لقاءً جسديًا مجرَّدًا، لكنها وِحدة حياة وإيمان. أراد السيِّد في تلاميذه أن يكونوا أصحاب قلب متَّسِع بالحب يشتاقون أن يمارس الكل موهبته ليعمل الجميع لحساب ملكوت الله دون تعصُّب، لكن في وحدة إيمان ووحدة فكر روحي مستقيم.
- التلاميذ والنار من السماء
“وحين تمَّت الأيام لارتفاعه ثبَّت وجهُه لينطلق إلي أورشليم.
وأرسل أمام وجهُه رُسلاً،
فذهبوا ودخلوا قرية للسامريِّين حتى يعدُّوا له.
فلم يقبلوه لأن وجهُه كان متَّجهًا نحو أورشليم.
فلما رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا:
يارب أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليَّا أيضًا؟
فالتفت وانتهرهما، وقال: لستما تعلمان من أيِّ روح أنتما.
لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُهلك أنفس الناس بل ليُخلِّص،
فمضوا إلي قرية أخرى” [51-56].
أولاً: يقول الإنجيلي “حين تمَّت الأيَّام لارتفاعه” [51]، مستخدمًا ذات التعبير “ارتفاعه” الذي استخدم عند ارتفاع إيليََّا (2 مل 2: 9-11)، وفي تمجيد العبد المتألِّم (إش 42: 1) وعند صعود السيِّد المسيح (أع 11: 1-2)… وكأنه إذ قرُبت أيَّام السيِّد المسيح ليتمجَّد بدخوله إلي الآلام كعبدٍ ليعبُر إلي أمجاده صاعدًا إلي السماوات ثبَّت وجهُه منطلقًا نحو أورشليم، مركز المحاكمة وتدبير صلبه! فقد جاء لأجل هذه الساعة لكي يتألَّم عنَّا فيمجدنا معه وبه وفيه.
ذهب إلى أورشليم منطلقًا، كأنه يود أن يُسرع بالأحداث التي ترقَّبتْها كل الأجيال بكونها عمل الله الخلاصي، به يتمجَّد المؤمنون.
ثانيًا: رفضته قرية للسامريِّين، والسامريُّون كما نعلم هم غرباء نازحون من بابل ليقطُنوا عِوض المسبيِّين من إسرائيل سنة 721 ق.م، فجاءت عبادتهم خليطًا بين اليهوديَّة والوثنيَّة، لا يقبلون من العهد القديم سوى أسفار موسى؛ وكان اليهود لا يطيقون السامريِّين، وأيضًا السامريُّون لا يطيقون اليهود.
رفضت القرية أن تقبل المخلِّص، فاستأذن يعقوب ويوحنا السيِّد المسيح أن يطلبا كإيليَّا نارًا من السماء (2 مل 1: 10-11) فتفنيهم. ولعلَّه بسبب هذا الروح المتَّقد دعاهما السيِّد “بُوَانرْجس” أي اِبنيْ الرَعد
(مر 3: 17). لكن الرب رفض موبِّخًا إيَّاهما، فإنه ما جاء ليَدين بل ليُخلِّص. إنه طويل الأناة، ينتظر توبة الجميع، وبالفعل قَبلت السامرَّة الإيمان فيما بعد (أع 8: 5-25).
لم يأت السيِّد المسيح ليصطاد النفوس للإيمان قهرًا، إنما بالحب وطول الأناة، لأن من يقبل الإيمان عن خوف سرعان ما يتركه، أما من يقبله خلال الحب فيثبت فيه. يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [يليق بنا أن نستخدم اللطف في اِستئصال المرض، فإن من يُصلح حاله خلال الخوف من آخر، يعود بسرعة فيسقط في الشرّ.]
لقد طلب التلميذان أن تنزل نارًا من السماء للإفناء، لكن الرب يقدِّم نفسه صديقًا سماويًا كندى يطفئ لهيب الشهوات، وإن أرسل نارًا فهو يقدِّم روحه القدُّوس الناري يلهِب القلب حبًا لا اِنتقامًا!
- شروط التلمذة للسيِّد
إن كان صديقنا السماوي يفتح ذراعيه بالحب مشتاقًا أن يضُم الكل إليه لينعموا بشركة أمجاده، فإنه لا يرسل نارًا تُفني رافضيه. وفي نفس الوقت لا يَصلح الكل للتلمذة له، بل من يتجاوب معه ليحمل فِكرِه وسِماته. وقد قدَّم لنا الإنجيلي لوقا ثلاثة أمثلة لأُناس اِلتقوا معه بقصد التلمذة له. في دراستنا لإنجيل متَّى (8: 19) أوردت تعليقات بعض الآباء في أمر الشخصين الأوَّلين: الكاتب الذي طلب أن يتبع المسيح لكن بنِيَّة غير صادقة، فأجابه السيد: “للثعالب أوجِرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه”، وكأن ابن الإنسان لم يجد له موضعًا فيه، أما الثاني فهو إنسان حسن النِيَّة مشتاق للتلمذة، لكن عاقه واجب عائلي ضرورى في نظر الناس، ألا وهو الاهتمام بوالده حتى يدفنه. على أي الأحوال أضاف الإنجيلي لوقا شخصًا ثالثًا اِشتاق أن يتتلمذ للرب ويتبعه، لكن ليس في جِدِّيَّة كاملة أو نضوج صادق، فأراد أولاً أن يودِّع الذين في بيته. فكانت إجابة السيِّد له: “ليس أحد يضع يدَه علي المِحراث وينظر إلي الوراء يصلح لملكوت الله” [62].
ويلاحظ في هذه الأمثلة الثلاثة الآتي:
أولاً: صديقنا السماوي يعرف القلب الداخلي، فالأول والثالث طلبا التلمذة، ففضح قلبيهما الأول غير نقي في أعماقه وأهدافه، والثالث متواكل غير جاد، أما الثاني فلم يطلب بشفتيْه لكن الرب سمع طلبه ودعاه للتلمذة وإذ حدَّثه في صراحة أنه يوَدْ أن يَدفن والده أولاً، رفعه فوق الواجبات الزمنيَّة من أجل العمل الكرازي الخالد. الأول والثالث حُسبا أنهما غيوران ويصلُحان للعمل، والثاني في تواضع لم يطلب لكن الرب دعاه. بمعنى آخر ليتنا نطلب التلمذة لله لا بشفاهنا بل بنقاوة قلبنا ولهيبِهِ الداخلي، فيدعونا الرب نفسه ويضمِّد جراحات ضعفنا مهيِّئًا حياتنا للشهادة له.
ثانيًا: يُعلِّق القدِّيس أغسطينوس على الرجل الأول، قائلاً: [إذ أراد هذا الإنسان أن يتبع المسيح تأكَّد السيِّد أنه كان يطلب ما لنفسه لا ما هو ليسوع المسيح (في 2: 21)، إذ يقول: “ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات” (مت 7: 21). هكذا كان هذا الإنسان لا يعرف نفسه كما كان الطبيب يعرفه. فلو أنه رأى نفسه وأدرك أنه مملوء رياءً ومكرًا لعرف مع من كان يتكلَّم. لذلك قال له: “للثعالب أوْجِِرَة، ولطيور السماء أوْكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه” [58]، بمعنى أنه ليس له موضع في إيمانك. ففى قلبك تجد الثعالب لها أوْجِرة. إذ أنت مملوء مكرًا. وفي قلبك تجد طيور السماء أوكارًا لأنها مرتفعة ومتشامخة. أنت مملوء مكرًا وكبرياء فلا تتبعني، إذ كيف يمكن للماكر أن يتبع البساطة؟]
يمكننا أيضًا أن نقول بأن هذا الإنسان كان مرتبطًا بمحبَّة العالم، وقد طلب التلمذة للسيِّد، لا لأجل السيِّد نفسه، لكن بِغْية كرامة أرضيَّة أو نفع مؤقَّت، لهذا أعلن له السيِّد عن طبيعة المُعلِّم، فإن الثعالب التي تعيش في البرِّيَّة لها أوْجِرة ترتبط بها، وفيها تستريح، والطيور التي تهيم في الجو لها أوْكار تعود إليها من حين إلي آخر، أما ابن الإنسان فسماوي ليس له في الزمنيَّات راحة، ولا في الأرض موضع استقرار. لذلك فأنت لا تصلح بعد للتلمذة له إلا إن تحرَّر قلبك عن الأرض تمامًا، وانطلقت نفسك مرتفعة نحو السماويَّات. صديقنا سماوي يوََد في تلاميذه أن يحملوا سِِمة الفكر السماوي والحياة العُلويَّة الفائقة.
ثالثًا: يقدِّم لنا القدِّيس أمبروسيوس تفسيرًا مقاربًا لتفسير القدِّيس أغسطينوسبخصوص الإنسان الأول، إذ يقول:
[بالرغم من طاعته وخدمته المستمرَّة، لكنه لم ينل رِضى الرب، فإن الرب لا تهمُّه الخدمة الظاهرة بل نقاوة القلب، لذا سبق فقال: “من يقبل هذا الولد باِسمي“، معلِّمًا إيَّانا ألا تكون البساطة مغرضة، ولا المحبَّة حاسدة، وأن يكون البذل بلا غضبٍ، مشيرًا للبالغين أن يكون لهم قلب الأطفال… يليق بك أن تنعم بالبساطة الحقيقيَّة، أي تقتني هذه الطبيعة بالجهاد. لهذا قال الرب: “من قبِلَ هذا الولد باسمي فقد قبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني“. حقًا إن من يقبل من يتمثِّل بالمسيح يقبل المسيح، ومن يقبل صورة الله يقبل الله، لكننا إذ لم نستطع أن نرى صورة الله حلّ الكلمة بيننا بالتجسُّد ليقرِّب اللاهوت إلينا مع أنه أعلى منَّا…
“للثعالب أوْجِرة“؛ فالشيطان كالثعلب مخادع، ينصب الفخاخ ويحيا بالمكر… يبحث عن فريسة داخل مسكن الإنسان نفسه.
ويقارن الرب الهراطقة أيضًا بالثعالب، لذا يعزلهم عن حصاده: “خذوا لنا الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم” (نش 2: 15)، الذين يستطيعون إفساد الكرم الصغير لا الكبير…
كثيرًا ما تشير طيور السماء للأرواح الشرِّيرة التي تبني أوْكارها في القلوب الشرِّيرة، فلا يجد ابن الله وسط هذه القلوب كلها أين يسند رأسه.
المكر لا يترك مكانًا للبساطة، ولا موضعًا للإلهيَّات في هذه القلوب… أما إذا رأى الرب طهارة قلب فيسند فيه عمل عظمته، أي الهبة العظيمة الفائقة التي تنسكب في قلوب الصالحين.]
رابعًا: يُعلِّق القدِّيس أغسطينوس عن الشخص الثاني الذي لم يطلب التلمذة بشفتيه كالأول، إنما تحدَّث بنقاوة قلبه، فكان مستعدًا للتلمذة، لكنه خلال اِلتزام عائلي تجاه والده طلب التأجيل، إذ يقول: [إيمان قلبه أعلن عن نفسه أمام الرب، لكن عاطفته واِلتزامه (الأُسَري) جعله يؤجِّل، غير أن المسيح الرب إذ كان يهيئ البشر للإنجيل لم يرد أن يُوجد عذر بسبب عاطفة جسديَّة مؤقَّتة. حقًا إن الشريعة الإلهيَّة قد قرَّرت هذه الالتزامات، والرب نفسه وبَّخ اليهود لأنهم حطَّموا هذه الوصيَّة الإلهيَّة (مت 15: 4-5). ويقول الرسول بولس في رسالته: “التي هي أول وصيَّة بوعد”… ما هي؟ “اِكرم أباك وأُمّك” (أف 6: 2). إذن هذا الشاب اِشتاق أن يطيع الله ويدفن أباه… حقًا يجب إكرام الأب، لكن يجب أن يطاع الله أولاً. يلزم محبَّة من ولدنا، لكنه لا يُفضل عمَّن خلقنا. كأنه يقول له: دعوتك لإنجيلي؛ أنا محتاج إليك للقيام بعملٍ آخر أعظم من العمل الذي توَد أنت أن تقوم به… دع الموتى يدفنون موتاهم.]
إن كان عيب الأول أنه في حماس بشري قال “اَتبعك أينما تمضي” بينما كان قلبه مرتبطًا بالعالم، فالثاني عيبه قوله “أمضي أولاً وأدفن أبي“. فجعل دفن أبيه “أولاً“، بينما يلزم أن يكون الله أولاً. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [جاء في سفر نشيد الأناشيد درس لنا، إذ تقول الكنيسة: “دبَّر الحب لي” (الترجمة السبعينيَّة)، أي ليكن الحب في تدبيره المناسب، يُقدِّم للكل كما يليق به، فلا تضع الحب الذي يجب تقديمه أولاً في المؤخِّرة… حب والديك لكن لتُفضِّل الله عنهما. لاحظ والدة المكابيِّين، وهي تقول: “يا أولادي أنا لا أعرف كيف ظهرتم في رحمي” (2 مك 7: 22). هكذا أوصتهم، فتبعوا وصيَّتها.]
يقول القدِّيس أمبروسيوس: [لكن كيف يُمنع هذا الإنسان من دفن أبيه مع أن هذا العمل من أعمال التقوَى؟ يعلِّمنا الرب أن يكون هو في المقدِّمة ويأتي بعده الإنسان. هذا العمل حسن لكنه غير لائق، لئلاَّ إذ يقسِّم (التلميذ) اِهتمامه تفتر محبَّته (للكرازة) ويتأخَّر نُموُّه. يليق بنا أن نذهب أولاً لعمل الكرازة حتى لا تُعاق… لذلك عندما أرسل الرب التلاميذ أمَرَهم ألا يُسلِّموا على أحد في الطريق، ليس لأن المحبَّة تُضايقه، وإنما لأن الاهتمام بنُموُّ الخدمة يُرضيه بالأكثر.]
يكمل القدِّيس أمبروسيوس حديثه فيقول: [لكن كيف يمكن لأن يدفن الموتى موتاهم؟ هنا يشير إلى موت مزدوج موت الجسد وموت الخطيَّة، بل ويوجد موت ثالث به نموت عن الخطيَّة ونحيا لله، كما فعل المسيح الذي مات عن الخطيَّة: “لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطيَّة مرَّة واحدة، والحياة التي يحياها فيحياها لله” (رو 6: 10). يوجد موت يفصل الجسد عن الروح، هذا الموت يجب ألا نخشاه ولا نهابه، لأنه بداية الانطلاق وليس عقوبة، الأقوياء لا يرتعبون منه، والحكماء يشتهونه، والتعساء يتمنُّونه إذ قيل “يطلب الناس الموت ولا يجدونه” (رؤ 9: 6). ويوجد موت آخر يضع نهاية لملذَّات العالم حيث لا يموت الجسد بل تموت الخطيَّة، هذا الموت نمارسه عندما نُدفن مع المسيح ونموت معه في المعموديَّة (رو 6: 4؛ كو 2: 22)، نموت عن أمور هذا العالم، وننسَى حياتنا الأولى، هذا الموت أراده بلعام لكي يحيا لله، عندما تنبَّأ: “لتمُت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخِرتهم” (عد 23: 1). والموت الثالث يحمله المسيح (بالصليب) لحياتنا، فنحن نعرف أنه هو الحياة الأبديَّة (يو 17: 3)، يراه الأبرار الآن كما في لغز،ٍ لكنهم يرونه أخيرًا وجهًا لوجه لأن: “نفس أنوفنا مسيح الرب أُخذ في حفرهم الذي قلنا عنه في ظلِّه نعيش بين الأمم” (مر 4: 20)، وكان رجاء داود يكمن تحت ظل جناحيْه (مز 56: 2)، واِشتهت الكنيسة ظلُّه لتجلس تحته (نش 2: 3). إن كان ظلَّك يا ربِّي يسوع له نفع كهذا فكم تكون حقيقتك؟… “حياتكم مستترة مع المسيح في الله، متى أظهر المسيح حياتنا فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا في المجد” (كو 3: 3-4). عجيبة هي هذه الحياة التي لا تعرف الموت!… لا يمنع الرب أن نبكي ونَدفن موتانا، لكنه يضع التقوَى الدينيَّة في المرتبة الأولى ثم تليها الرباطات العائليَّة. ليُترك الموتى (روحيًا) أن يدفنوا موتاهم أما المُختارون فليتبعوه.]
خامسًا: أما بالنسبة للشخص الثالث فكان إنسانًا غير جادٍ في التبعيَّة للسيِّد، ذا قلب منقسم، يريد أن يتبع المسيح وفي نفس الوقت يحِنّْ للعالم. مثل هذا يبدأ ولا يكمل، لهذا قيل له: “ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله” [62].
الله يريد القلب كله له، ويبقى له دون اِرتداد للوراء، حتى لا يصير عمود ملح كامرأة لوط التي خلصت بخروجها من سدوم مع لوط وبنتيها، لكنها لم تكمل الطريق بل اِرتدَّت بقلبها فهلكت. من أجل هذا جاءت الوصايا تشدِّد لا أن نبدأ فقط، وإنما أن نكمل صابرين حتى النهاية لكي نخلص، فمن كلمات ربَّنا يسوع: “الذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا، والذي في الحقل فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه” (مت 24: 17-18). هكذا من اِرتفع بالرب إلى السطح يعاين الأسرار السماويَّة، فلا ينزل إلى أسفل حيث الزمنيَّات، ومن انطلق إلى حقل الكرازة فلا يرجع عن الخدمة.
كتب القدِّيس جيروم إلى باولا Paula سائلاً إيَّاها ألا تُفرِط في الحزن بسبب وفاة بلاسيلا Blaesilla، يقول: [بالتأكيد، الآن إذ نؤمن بالمسيح ونحمله في داخلنا، فبسبب زيت مسحته التي قبلناها (1 يو 2: 27) يليق بنا ألا نفارق هيكله – أي عملنا المسيحي – ولا نرتبك كالأمم غير المؤمنين، بل نبقى على الدوام في الداخل كخدَّام مطيعين لإرادة الرب.] وكأنه يطالبها إذ كرَّست حياتها لخدمة الله والعمل الإنجيلي التعبُّدي لا تتراجع خلال الحزن فتترك عملها بسبب وفاة أحد، بل تكمِّل طريق جهادها حتى النهاية.
يقول القدِّيس يوحنا كاسيان: [إنه الأمر شرِّير للغاية أنه بينما يجب عليك أن تحمل المبادئ الأوليَّة والبدايات لكي تنطلق متقدِّما نحو الكمال تبدأ تسقط مرتدًا لأمور أردأ. فالعبرة لا لمن يبدأ بهذه الأمور بل لمن يصبر إلى المنتهى فيُخلُص (مت 24: 13).] كما يحثُّنا على الجهاد الروحي بلا توقُّف ولا تراجع، قائلاً: [إن ثِمة اِتِّهامًا موجَّها بطريقة خفيَّة في سفر التثنية إلى الذين يقولون بأنهم نبذوا هذا العالم غير أنهم ينهزمون في عدم إيمان خشية ضياع ممتلكاتهم الأرضيَّة، إذ قيل: “من هو الرجل الخائف والضعيف القلب، ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ تذوب قلوب اخوته مثل قلبه” (تث 20: 8) أيِّ شهادة أكثر وضوحًا من هذه؟… أليس من الواضح أن الكتاب المقدَّس يؤْثِر ألاَّ يقدِموا على هذا العهد في أوائل مراحله أو يحملوا اسمه، لئلا يصيروا قدوة سيِّئة تجتذب الآخرين للاِنحراف عن كمال الإنجيل المقدَّس.]
إنجيل القديس لوقا: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16– 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24
تفسير إنجيل القديس لوقا: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15– 16 – 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24
الأصحاح الثامن |
تفسير إنجيل القديس لوقا |
الأصحاح العاشر |