تفسير إنجيل لوقا أصحاح 9 للأنبا غريغوريوس
الفصل التاسع
6-1:9 السيد المسيح يرسل تلاميذه للتبشير ويزودهم بوصاياه :
ثم دعا معلمنا تلاميذه الاثني عشر رسولاً وبعث بهم كي يبشروا به في بلاد فلسطين التي لم يكن هو قد ذهب إليها ليمهدوا عقول أهلها لبشارته. وقد أعطى التلاميذ قوة من قوته وسلطاناً من سلطانه على كل الشياطين بجميع مراتبها وطغماتها وقواتها وقدرتها، وعلى شفاء الأمراض بكل أنواعها من أهونها إلى أعصاها على ا الشفاء، ليصنعوا مثلما كان هو يصنع من معجزات إخراج الشياطين ممن تسلمت عليهم، وشفاء المرضى من كل أمراضهم، كي يرى الناس ذلك منهم فيها بوهم ويصدقوهم فيما أرسلهم معلمنا من أجله، وهو أن يبشروا بملكوت الله الذي جاء هو ليفتح أبوابه للناس جميعاً ويدعوهم للدخول فيه، ويشفوا المرضى. وقد أوصى تلاميذه قائلاً ،لا تحملوا شيئاً للطريق، لا عصاً، ولا حقيبة زاد، ولا خبزاً، ولا مالاً، ولا يكون لواحد منكم ثوبان . وذلك لأن رحلتهم كانت قصيرة لن يحتاجوا أثناءها إلى شيء من ذلك، وحتى إذا احتاجوا فلا ينبغي أن يتحرجوا من أن يقبلوا ـ كما فعل هو ـ مساعدات الذين يؤمنون بكلامهم، ويستضيفونهم في منازلهم، ويقدمون لهم ما يلزمهم من مأوى وطعام. لأنهم إنما يعملون في خدمة كلمة الله. ومن ثم فإن الله سيهيئ لهم من يتكفل باحتياجاتهم، لأن العامل مستحق أجرته، كما قال مخلصنا فيهذا المعنى (لو 10: 7).
فضلا عن أنهم لا ينبغي أن يهتموا في رحلتهم تلك بمظهرهم الخارجي، وإنما فليقنع كل منهم بالثوب الذي هو مرتديه مهما كان قديماً أو باليا، فلا يهتم بأن يأخذ معه ثوباً آخر يبدو به أمام الناس ليحترموه، لأن احترام الناس لهم جميعاً لا ينبغي أن يكون صادراً عما يرتدونه من ثياب، وإنما عما ينادون به بينهم من تعاليم، وما يصنعونه أمامهم من معجزات، وما يؤدون لهم من خير. ثم إنهم مهما ابتعدوا عن معلمهم فإنه سيكون مع ذلك بقوته الإلهية معهم، يحميهم مما عسى أن يتعرضوا له من مخاطر، ويوفر لهم ما عسی أن يحتاجوا إليه من ضرورات. فليكن اتكائهم عليه كاملا، فلن يعوزهم إذا فعلوا ذلك شيء، وسينالون منه نعمة، إذ تقول المزامير عن مخلصنا ابن الله وقبلوا الابن لئلا يغضب.. طوبى لجميع المتكلين عليه، (مز 2: 12)
ثم زود مخلصنا تلاميذه بمزيد من إرشاداته قائلا لهم أى بيت دخلتموه ، فهناك أقيموا، ومن هناك أمـضـوا. ومن لا يقبلكم، فأخرجوا من تلك المدينة وانفضوا الغبار عن أقدامكم، شهادة ضدهم، ، أي أنهم في جولتهم التبشيرية إذا وجدوا في أي مدينة يدخلونها إنساناً صالحاً يؤمن ببشارتهم ويستضيفهم في بيته، فليقيموا في ذلك البيت ولا ينتقلوا منه إلى أي بيت آخر، إلى أن يزمعوا الرحيل من تلك المدينة، ليكون ذلك البيت بمثابة كنيسة يعرف الناس مكانها ويقصدون إليها ليسمعوا كلمة الله فيها. وفعلاً حدث أن تلك البيوت التي أقام فيها الرسل وصلوا وبشروا تحولت من بعدهم إلى كنائس تدشنت بكلمة الله وصلوات قديسيه. كما أوصى معلمنا تلاميذه بذلك لئلا يكون في تنقلهم من بيت إلى بيت ما يثير شبهات أهل المدينة ولا سيما رؤساؤها في حقيقة مقصدهم. فيتهموهم بما هم منه أبرياء . وأما إذا لم يجدوا في تلك المدينة من يقبلهم أو يستمع إلى بشارتهم أو يؤمن برسالتهم فليخرجوا منها، وأينفضوا حتى ما علق بأقدامهم من غبارها، إعلاناً عن رفض أهلها لكلمة الله التي بعث بها إليهم، وكفرانهم بها، وإزدرائهم بمن جاءوا ليبلغوهم إياها، فيكون ذلك شهادة ضد أهل تلك المدينة في يوم الدينونة، يحاسبهم الديان عليها، ويدينهم بمقتضاها. وقد أطاع التلاميذ معلمهم، فراحوا يطوفون في المدن والقرى. ويبشرون بالإنجيل، ويشـفـون المرضى في كل مكان يذهبون إليه، عاملين بوصايا معلمهم ومسترشدين بإرشاداته. فكان ذلك، على مقتضى قصد معلمنا فيما قصد، خير تدريب لهم على التبشير بعد ذلك، لا في بلاد فلسطين وحدها، وإنما في العالم أجمع.
9: 7- 9 الملك هيرودس يسمع بأعمال المسيح فيرتبك:
وقد سمع هيرودس أنتيباس ملك الجليل بكل ما يجرى على يدى مخلصنا، ولا سيما بعد أن انتشر تلاميذه في كل أرجاء البلاد يبشرون به، فارتبك ذلك الملك الطاغية السافك للدماء من كل ما سمع عنه من معجزات يصنعها بنفسه أو بواسطة تلاميذه ، حتى لقد ذاعت شهرته بين اليهود جميعاً، وراحوا يفكرون فيما بينهم فيما عساه أن يكون: فقال قوم منهم إنه يوحنا المعمدان قد قام من بين الأموات بعد أن قتله هيرودس. وقال قوم آخرون إنه إيليا النبي قد ظهر ثانية. وقال فريق ثالث إنه أحد الأنبياء الأولين غير هذا وذاك قد قام. وهكذا اعتقدوا جميعاً أن مخلصنا ليس إنساناً عادياً، وإنما هو نبي من أنبيائهم السابقين قد عاد إلى الحياة بعد موته بمئات السنين. وعلى الرغم من أنهم لم يدركوا أن هذا هو المسيح ابن الله الذي تنبأت كل أسفارهم المقدسة بمجيله، فإن كلامهم عنه في إجلال وإكبار بأنه نبي أغاظ هيرودس وأفزعه وبلبل فكره، ومن ثم راح يقول إن يوحنا قد قطعت أنا رأسه، فمن هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذه الأمور؟، ولعله خاف بالفعل من أن يكون هذا هو يوحنا الذي سبق له أن قطع رأسه وقد عاد إلى الحياة لينتقم لنفسه منه، بيد أنه على أي حال خاف أن يكون هذا أي نبي من الأنبياء غير يوحنا، لأن أي نبی سیویخه كما سبق ليوحنا أن وبخه ـ على شروره وآثامه وجرائمه التي ارتكبها، وسينقص من مهابته وسطوته لدى الشعب، وربما أدى إلتفاف الشعب حول ذلك النبي إلى زعزعة مكانته هو والإطاحه بعرشه، ومن ثم كان يبغي أن يرى مخلصنا، ليتحقق من صدق ، ما كانت جموع الشعب تقوله عنه، وليقتله كما قتل يوحنا من قبل. وقد كان يستطيع بحكم سلطانه أن يستدعيه إليه، ليتحقق بنفسه من صدق ما علمه عنه، ولكنه فيما يبدو لم يجرؤ على ذلك، بسبب ما كان لمخلصنا من مكانة لدى الشعب، وربما كذلك بسبب ما لا بد أنه سمعه عن هيبته ورهبة شخصيته، فأحجم عن أن يتعرض له، وانتظر على مضض.
9: 10- 17 معجزة إشباع الخمسة آلاف :
ولما رجع رسل فادينا من جولتهم التبشيرية في بلاد اليهود أخبروه بكل ما فعلوا، فأخذهم معه على انفراد إلى موضع قفر عند مدينة تدعى بيت صيدا، ليستريحوا من عناء رحلتهم بعيداً عن الجموع التي كانت لا تفتأ تتزاحم حوله في كل مكان، فلا تترك له ولا لتلاميذه فرصة ليـسـتـريـحـوا لحظة واحدة، إذ كان ذلك الموضع الذي أخذهم إليه برية بعيدة تقع على الشاطئ الشرقي من نهر الأردن قرب مصبه. غير أن جموع الناس الذين كانوا يتلهفون على رؤيته ويبحثون عنه أينما ذهب لم يلبثوا أن علموا بمكانه البعيد فتبعوه إليه، فلم يغضب من ذلك أو يتضجر وإنما استقبلهم، وأخذ يكلمهم كعادته عن ملكوت الله، والمحتاجون منهم إلى الشفاء شفاهم. وقد مكثوا معه اليوم كله، حتى إذا بدأ النهار يميل، تقدم إليه تلاميذه الاثنا عشر، وقالوا له وأصرف الجموع حتى يذهبوا إلى القرى والضياع القريبة ليبيتوا هناك ويجدوا طعاماً، لأننا هنا في مكان قفر . وقد كان مخلصنا يعلم ما هو مزمع أن يفعل، ولكنه أراد أن يـخـتـبـر مـدى إيمان تلاميذه به وبقدرته، فقال لهم وأعطوهم أنتم ليأكلوا» ، فقالوا وليس لدينا غير خمس خبزات وسمكتين، إلا أن نذهب ونبتاع لهذا الشعب كله طعاماً،، إذ كانوا نحو خمسة آلاف رجل، فبرهن التلاميذ بقولهم هذا على أنهم حتى ذلك الحين، وعلى الرغم من كل ما صنع معلمـهـم أمـام أعينهم من معجزات تفوق مدارك البشر وقدرتهم، لم يكونوا بعد قد أدركوا كل الإدراك حقيقة شخصيته الإلهية القادرة على كل شيء، ومن ثم قال لهم أجلسوهم جماعات خمسين خمسين،، ففعلوا ذلك وأجلسوهم جميعاً. وعندئذ أخذ الخمس الخبزات والسمكتين، ثم رفع نظره إلى السماء وباركها وكسر وأعطي تلاميذه ليقدموا للجمع، فأكلوا وشبعوا جميعاً، ثم رفعوا من الكسر التي تبقت . عنهم اثنتي عشرة فقة ممثلة. وقد برهن مخلصنا بهذه المعجزة الفذة على سلطانه على عالم المادة الجامدة ، كما برهن بمعجزة تهدئة البحر والريح على سلطانه على المادة السائلة وعلى الهواء، بل لقد برهن بذلك كله على أنه هو الخالق، كما صرح بذلك القديس يوحنا ، إذ قال في بشارته وكل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان، (يو1: 3)، لأنه إذ أوجد من العدم طعاماً لذلك الآلاف من الناس إنما خلقه خلقاً، كما خلق في البدء كل شيء. ولدن كان يمكن لبعض الكافرين به والمنكرين لألوهيته أن يعللوا معجزات الشفاء التي صدمها بأسباب نفسية لدى المرضى أنت كما يزعمون إلى شفائهم، فلن يمكنهم ذلك أمام هذه المعجزة التي أعطى الناس بها طعاماً منظوراً وملموساً أكلوا ، منه حتى شبعوا، ثم فاض من هذا الطعام مقدار كبير احتفظوا به كما أحتفظ موسى في القديم بمقدار من الخبز الذي أعطاه الله بمعجزة لبنى إسرائيل حين جاعوا وهم هائمون في صحراء سيناء بعد أن نفد ما لديهم من طعام، حتى إذا رأوا بأعينهم فيما بعد أو رأى أحفادهم هذا المقدار من الخبز الذي احتفظ به موسى، تذكروا تلك المعجزة التي صنعها الله لهم، فاستمروا في إيمانهم، واستقر ذلك الإيمان في قلوبهم. كما برهن مخلصنا بتلك المعجزة التي صنعها على أنه مستعد في كل حين لأن يسد بقدرته الإلهية احتياج المؤمنين المحتاجين إلى أي شيء مهما بدا لهم مستبعداً أو مستحيلاً.
9: 18- 27 من هو يسوع؟
وقد حدث أن كان فادينا يصلى على إنفراد، كعادته كلما أتيحت له فرصة لذلك بين كل فترة وأخرى من فترات خدمته التعليمية التي كانت تستغرق كل وقته. وكان تلاميذه ـ الذين هم بمثابة عائلته – محيطين به أو قريبين منه وهو يصلي، ليعلمهم أن يصلوا في كل حين، على إنفراد أو مع الناس، وليهيئ أذهانهم بصلاته وصلاتهم معه للإجابة عن السؤال الخطير الذي كان مزمعاً أن يوجهه إليهم، كي يمتحن مدى ما وصلوا إليه من الإيمان به والإدراك لحقيقة شخصيته. وقد مهد لذلك بأن سألهم قائلاً من تقول الناس إنى أنا؟.. وقد كان يعلم أكثر منهم ما يقوله الناس عنه، ولكنه كان بهذا السؤال يستدرجهم إلى موضوع سؤاله الأصيل والأهم، فأجابوا إنهم يقولون إنك يوحنا المعمدان. وآخرون يقولون إنك إيليا، وغيرهم يقولون إنك أحد الأنبياء الأولين قد قام، ، ويبدو من ذلك أن اليهود قد أدركوا أن مخلصنا ليس إنساناً عادياً من أناس الأرض، وإنما هو شخصية سامية نزلت من السماء . ولما كانوا لا يعرفون في حياتهم أسمى من شخصية الأنبياء، فقد اعتقدوا أنه يوحنا المعمدان وقد عاد إلى الحياة بعد أن قتله ملكهم هيرودس. أو أنه إيليا النبي الذي يعرفون من أسفارهم المقدسة أنه لم يمت، وإنما صعد حيا في مركبة نارية إلى السماء (2مل 2: 11) ، أو أنه على أي حال أحد أولئك الأنبياء الأولين الذين كانوا قديسين أبراراً ممتلئين من روح الله ، وقد نزل مرة أخرى من السماء إلى الأرض ليواصل رسالته النبوية. فبرهن اليهود بذلك على أنهم – وإن كانوا قد اعتبروا مخلصنا من أسمي الشخصيات التي يعرفونها ويقدسونها ـ لم يدركوا بعد أن هذا هو المسيح ابن الله الذي ينتظرونه، والذي تنبأ بمحيله كل أنبيائهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن المسيح سيجيء في صورة ملك جبار وقائد مغوار يخلصهم من ربقة سادتهم الرومان الذين كانوا يستعبدونهم، ويقودهم بجيوشه الجزارة ليفتح بهم العالم كله ويجعلهم سادة البشر جميعاً ومستعبديهم. ولم يكونوا يعتقدون أنه سيجيء في صورة إنسان وديع متواضع لا يعادى أحداً ولا يعتدي على أحد كما جاء مخلصنا. وقد كان هذا الاعتقاد الخاطئ لدى اليهود هو الذي أراد مخلصنا أن يصححه في أذهان تلاميذه . ومن ثم وجـه إليهم سؤاله الذي كان يهدف إليه منذ البداية، قائلاً لهم وأنتم من تقولون إنى أنا ؟.. وعندئذ جاءت الإجابة الرائعة التي كان يريدها منهم، إذ قال بطرس نيابة عنهم أنت هو المسيح الله، ، فبرهن بذلك على أن التلاميذ قد انكشفت لهم الحقيقة السمائية السامية التي ظلت خافية على سائر اليهود، وأدركوا أن هذا الإنسان البسيط الوديع المتواضع هو المسيح ابن الله، وأنه هو الله ذاته لابساً صـورة إنسان. فعلى الرغم من أنه لم يسبق له أن صرح لهم بهذه الحقيقة، آمنوا بها مما سمعوه من تعاليمه، وما رأوه من معجزاته، وما تبينوه طوال ملازمتهم له كماله المطلق الذي هو كمال الله وحده ، ومن جلاله الفائق الذي هو جلال الله وحده . بيد أن مخلصنا لم يشأ أن تذاع هذه الحقيقة في نطاق أوسع من نطاق تلاميذه ، قبل الموعد المحدد لذلك، لأن البراهين التي كانت خليقة أن تقنع الناس بها لم تكن قد أكتملت بعد، ولم تكن لتكتمل إلا بموته وقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السماء، ولم يشأ أن تذاع هذه الحقيقة في محيط واسع لما يترتب على إذاعتها من تعطيل الصليب، وبالتالي من تعطيل تدبير الغداء والخلاص كما سبق أن قلنا. ومن ثم نهى تلاميذه في حزم وانتهار عن أن يصارحوا بتلك الحقيقة أحداً قبل أن يحين الوقت الملائم لذلك.
ثم أوضح فادينا لتلاميذه أن طريقهم وطريق كل الذين سيؤمنون به وكل الذين سيسعون إلى الخلاص بواسطته، ستكون مغطاة لا بالزهور والرياحين والمباهج والمسرات، وإنما بالأشواك والعراقيل والصعاب وكل ألوان العذاب. لأن العالم كله سيقوم ضدهم، معادياً لهم، ومعندياً عليهم، ومطارداً إياهم، ومدعيا الأكاذيب في حقهم، وساعياً إلى تحطيمهم وهلاكهم. فأولئك الذين يتبعونه، منكرين ذواتهم، حاملين كل يوم صليبه الذي يرمز إلى آلامه، صامدين أمام كل الأهوال، مجاهرين ومفاخرين حتى النفس الأخير بالإيمان به وبتعاليمه، سيهلكون في الأرض، ولكنهم بذلك يبرهنون على أنهم أبرار فينالون الخلاص في السماء. أما أولئك الذين ينكرونه، أو يكفرون به، أو يتخلون عنه، أو يتخاذلون أمام المتاعب التي يواجهونها من أجله، أو يخزون من الاعتراف به ويتعاليمه، متشبثين بحياتهم الأرضية الفانية، ناجين بها من كل خطر يتهددها بسببه، فإنهم بذلك لا ينالون الخلاص بواسطته، فيخسرون حياتهم السمانية الباقية. ومن ثم يخرجون بصفقة خاسرة، لأنهم في سبيل الحرص على حياة قصيرة – ولو ربحوا فيها العالم کله – سرعان ما ستنتهي، سيفقدون الحياة الأبدية التي لا تنتهى. لأنهم كما أنكروا ابن الله الذي اتخذ صورة الإنسان ونزل من السماء ليخلصهم، سينكرهم هو عندما يجيء ثانية للدينونة. ومن خزوا من الإيمان به وبتعاليمه، سيخزى هو منهم في ذلك اليوم لأنهم أثبتوا أنهم أشرار، ومن ثم سيحكم عليهم الحكم الخليق بالأشرار وهو الهلاك. إذ قال مخلصنا لتلاميذه ومن أراد أن يتبعني قلينكر ذاته ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني. لأن من أراد يخلص حياته يهلكها، ومن أهلك حياته من أجلي يخلصها. لأنه ماذا يستفيد الإنسان لو أنه ربح العالم كله وأهلك نفسه أو خسرها؟ فإن من خزى منى ومن كلامي، سيخزى منه ابن الإنسان متى جاء في مجده ومجد أبيه وملائكته القديسين ، ثم أوضح مخلصنا لتلاميذه أن ملكوت الله الذي تسود فيه شريعة الله على الأرض لن يتأخر حتى يوم الدينونة الذي حدثهم عنه، وإنما سيجيء ذلك الملكوت بمجرد أن يستمع العالم إلى البشارة بمجيء مخلص العالم ويؤمن به. وسيكون ذلك في وقت قريب حتى إن بعض الحاضرين ممن كانوا يستمعون إليه عند ذاك سيشهدون ملكوت الله. إذ قال لهم الحق أقول لكم إن بعض الحاضرين هنا لن يذوقوا الموت حتى يروا ملكوت الله، . وبالفعل عاش بعض التلاميذ حتى شهدوا بشارة فادينا تملأ الأرض كلها.
9: 28- 36 معجزة التجلي :
وبعد هذا الكلام الذي وجهه مخلصنا إلى تلاميذه بنحو ثمانية أيام، أخـذ معه ثلاثة من تلاميذه الأقربين، وهم بطرس ويعقوب ويوحنا، وصعد إلى الجبل ليصلى. وقد كان معلمنا كما رأينا يصلي دائماً. بيد أنه كان يصلى على الخصوص حين يشرع في عمل خطير جليل. وقد كان يزمع في هذه المرة أن يتيح لتلاميذه أن يروا لمحة من مجده الإلهي العلى المتواري خلف جسده الإنساني المتواضع، ليتوطد إيمانهم به وبحقيقة شخصيته، وليكون في هذه اللمحة قبس من مـجـده العظيم الذي سيأتي به في مجيئه الثاني الذي سبق له أن كلمهم عنه في حـديثه الأخير إليهم. ففيما كان يصلى تغير منظر وجهه الإنساني الجسدي، متخذا صورته الإلهية النورانية. وصارت ثيابه بيضاء متألقة كالبرق. فأصبحت هيئته كلها نورا في نور. وإذا رجلان ممن في السماء يخاطبانه، وهما الدبيان العظيمان موسى وإيليا، اللذان إذ رأيا ربهما متجليا في طبيعته الإلهية أسرعا إليه يقدمان له فروض الإجلال والولاء. وقد تراءيا في مجد هو المجد الروحاني المتلألئ بالضياء الذي يتسربل به الأبرار والقديسون في ملكوت السماء. وكانا يتكلمان عن إنطلاقه الذي كان مزمعاً أن يتممه في أورشليم، منتقلاً من الموت إلى الحياة، ثم صاعداً من الأرض إلى أحضان أبيه السماوي . إذ كان هذا هو الحـدث الجليل الذي يتم به التدبير الإلهي الأزلي، والذي يفرح بإتمامه كل أهل السماء. أما بطرس والتلميذان الآخران اللذان كانا معه، فقد كانوا حين حدث هذا مثقلين بالنوم، فلما أفاقوا رأوا مـجـد معلمهم، ورأوا الرجلين اللذين كانا واقفين معه. وفيما هما منصرفان عنه. قال بطرس لمخلصنا ، يا معلم جميل أن تكون هنا. فلنصنع ثلاث مظال: واحدة لك، وواحدة لموسى، وواحدة لإيليا» . إذ أنه من فرط ذهوله وانبهاره من المنظر الرائع الذي رآه لم يكن يعي ما يقول. لأن مخلصنا وهو في هيئته الإلهيـة لم يكن محتاجاً لمظلة يقيم تحتها، ولا كان يحتاج لمثل هذه المظلة موسى وإيليا وهما في عالم الأرواح . ولكن بطرس إذ بهره سحر المكان الذي كان عند ذاك متألقاً بالأنوار السماوية ود أن يقيم إلى الأبد في ذلك المكان، مع معلمه والنبيين اللذين كانا يخاطبانه . وبينما كان بطرس يقول ذلك، إذ سحابة ظهرت وغطته هو والتلميذين الآخرين، فخافوا وهم يدخلون في السحابة، لأنها لم تكن سحابة عادية من سحاب الأرض، وإنما هي سحابة نورانية متألقة الضياء باهرة البهاء، كان ظهورها هو العلامة الظاهرة لوجود الله في ذلك المكان. وقد طالما ظهرت هذه السحابة لبنى إسرائيل حين كانوا في صحراء سيناء كعلامة لوجود الله بينهم، ولا سيما في خيمة الإجتماع التي كانت هي معبدهم وهيكلهم، فكانوا يرهبون هذه السحابة ويهابونها، إذ جاء مثلاً في سفر الخروج ثم غطت السحابة خيمة الاجتماع وملأ بهاء الرب المسكن، فلم يقدر موسى أن يدخله (خر 40: 34 و35). كما جاء في سفر أخبار الأيام أنه عندما أتم الملك سليمان بناء هيكل أورشليم حدث أن بيت الرب امتلأ سحاباً، ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب، لأن مجد الرب ملأ بيت الله، (2 أخ 5: 13 و 14)، وفيما كانت السحابة تغطى التلاميذ كـــلامـة لوجـود الله، إذ صوت من السحابة يقول «هذا هو ابني الذي اخترته، فله اسمعواء . وكان هذا هو صوت الله الآب يعلن أن مخلصنا هو ابنه الذي اختاره ليقوم بفداء البشر، تكفيراً عن خطاياهم. وبما أنه هو ابن الله وهو الله ذاته متجسداً، فليسمع له التلاميذ وليسمع له البشر جميعاً ويطيعوه فيما يقول، طاعتهم لله الآب ذاته. و وقد أراد الله الآب أن يسمع التلاميذ هذه الشهادة بآذانهم عن ابنه ليتوطد إيمانهم به ، وقد أشار مخلصنا إلى هذه الشهادة وهو يعلم إذ قال إن «الآب نفسه الذي أرساني يشهد لي، (يو 5: 37) . وحين مضى ذلك الصوت الإلهي رأى التلاميذ معلمهم وحده، فلزموا الصمت، ولم يخبروا أحدا في تلك الأيام بشيء مما رأوا. لأن أحـداً لم يكن ليصدق حـيـنـد مـا يقولونه إذا أخـبـروا بما رأوا ، ولم يكن أحـد ليـصـدق ذلك عن مخلصنا إلا حين تكتمل البراهين على حقيقة شخصيته حين يقتله اليهود، ثم يموت، ثم يقوم في اليوم الثالث من بين الأموات ويصعد إلى السماء.
9: 37- 41 شفاء المصاب بالصرع – من هو الأعظم ؟
وفي اليوم التالي، بعد ذلك التجلّى الذي تراءى فيه مخلصنا أمام تلاميذه في هيئته الإلهية وأضاء كالشمس في حلكة الظلام، إذ نزلوا من الجبل، استقبله جمع عظيم مع باقي تلاميذه . وإذا رجل من الجمع صرخ قائلاً « يا معلم أتضرع إليك أن تنظر إلى ابنى، فإنه وحيدي، وإن روحاً يتملكه فيصرخ بقتة ويهزه بعنف ويصرعه فيرتمي وهو يزيد، ثم لا يغادره إلا بالجهد، مرضضاً إياه . وقد طلبت من تلاميذك أن يطردوه فلم يستطيعواه . فأجاب مخلصنا وقال «أيها الجيل غير المؤمن والملتوي، حتى متى أكون معكم وأحتملكم ؟. . فإن التلاميذ لم يستطيعوا إخراج الشيطان من الصبي لعدم رسوخ إيمانهم بعد به الرسوخ الكافي لأن ينجحوا حين يغيب عنهم في أن يستخدموا بأنفسهم السلطان الذي منحه إياهم. كما أن بعض فشلهم في ذلك يرجع إلى عدم إيمان الجمع الذي كان محيطاً بهم. ومن ثم غضب مخلصنا من أولئك وهؤلاء، لأنه كان يوشك أن يتركهم بعد زمن وجيز لينطلق إلى السماء. فكان على تلاميذه أن يكتمل إيمانهم به قبل أن يصعد عنهم ليواصلوا رسالته، معززين ذلك باستخدام القدرة التي أفاضها عليهم فيصنعوا المعجزات التي يصنعها هو. كما أنه كان ينبغي أن يكتمل إيمان سائر اليهود من أهل ذلك الجيل به، بعد ما سمعوه من تعاليمه وما رأوه من معجزاته، وبعدما احتمل من غباوتهم وغلظة قلوبهم وعمى أبصارهم وبصائرهم، ثم التفت إلى الرجل الذي توسل إليه أن يخرج الشيطان من وحيده ، وقال له أحضر لي إينك هنا، . ففيما هو يتقدم إليه صرعه الشيطان وهو يهزه بعنف. فانتهر مخلصنا ذلك الروح النجس فأذعن على الفور وانطلق هارباً، ومن ثم يرئ الصبي مما كان يسببه له من نوبات صرع عنيفة، فسلمه مخلصنا إلى أبيه سليماً معافى. فذهل الجمع من عظمة الله التي تجلت في قدرة مخلصنا، وقد بهرتهم تلك القدرة التي لا يمكن أن تكون إلا قدرة الله وحده .
وفيما كان الحاضرون كلهم يتعجبون من ذلك الذي فعله مخلصنا ومن كل ما فعل من قبل أمامهم من معجزات، علم هو بما راود تلاميذه في تلك اللحظة . من إزدهاء بقدرة معلمهم، ومن آمال كانوا لا يزالون يعقدونها على ذلك السلطان الذي أظهره، وهم لا يزالون ـ على الرغم من كل ما سبق أن قاله لهم – يعتقدون أنه سيقيم مملكة أرضية يكونون فيها هم العظماء والكبراء، ومن ثم فإنه كي يصحح مرة أخرى هذا الفهم الخاطئ في أذهانهم قال لهم «أما أنتم فأودعوا هذا القول في أذهانكم: إن ابن الإنسان سوف يسلم إلى أيدي الناس . وكان من قبل قد أوضح لهم أن أولئك الناس الذين سيسلم إليهم سيقتلونه. فلا ينبغي للتلاميذ أن يستمروا في الاستسلام لأوهامهم الكاذبة عن ملكوته الأرضي، ولكنهم مع ذلك لم يفهموا قوله، وكانت تلك الأوهام التي تسيطر على عقولهم، تخفي معنى ذلك القول عنهم فتحول بينهم وبين أن يفهموه – بيد أنهم تهيبوا أن يسألوه عنه، خشية أن يكونوا قد أساءوا الفهم فيويخهم مرة أخرى، بعد أن وبخهم منذ قليل على عدم إيمانهم .
غير أن التلاميذ تمسكوا مع ذلك باعتقادهم أن معلمهم سيكون ملكا أرضياً وسيقيم مملكة أرضية، ومن ثم خامرهم الفكر فيمن عسى أن يكون هو الأعظم بينهم في تلك المملكة. فعلم معلمنا فكر قلوبهم، وإذ أراد أن يصحح تفكيرهم الخاطئ فيما يتعلق بمملكتة، وفيما يتعلق بمفهوم العظمة ذاتها، ليدركوا معني ال العظمة الحقيقية، التي كانوا وكان البشر جميعاً في ذلك الحين يسيئون فهمها ويعتبرونها تكمن في الثروة والجاه والمنصب والسلطان، أخذ طفلاً وأقامه بينهم، ليكون تعليمه لهم بوسيلة حسية ملموسة يستطيعون بعقولهم البسيطة أن يفهموها، وقال لهم إن من يقبل هذا الطفل باسمى فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني، لأن الأصغر بيلكم جميعاً سيكون هو الأعظم فيكم.. أي أن العظيم هو الذي ينصف ببساطة الأطفال ووداعـتـهم وتواضعهم، وهو الذي بهذه المميزات الروحية السماوية، لا بالثروة أو الجـاه أو المنصب أو السلطان أو غير ذلك من الميزات المادية الدنيوية، خليق بأن يؤمن بمخلصنا ابن الله، ومن ثم يؤمن بالله الآب الذي أرسله لخلاص العالم. لأن الأكثر بساطة ووداعة وتواضعاً بحيث يبدو هو الأصغر بين الناس في هذه الحياة الدنيا على الأرض، هو الذي سيكون الأعظم في الحياة الأبدية . في ملكوت السماء.
9: 49 – 50 من ليس ضدكم فهو معكم :
وقال يوحنا أحد تلاميذ مخلصنا يا معلم رأينا واحداً يطرد الشياطين باسمك فمنعناه ، لأنه غير تابع لناه ، وقد اعتقد يوحنا أنه هو وسائر التلاميذ قد أحسنوا بذلك صنعاً، لأن ذلك الذي كان يطرد الشياطين باسم معلمهم لم يكن من تلاميذه القريبين إليه، الملازمين له. فبرهن يوحنا بذلك وبرهن التلاميذ جميعاً على أنهم ظنوا أنهم احتكروا لأنفسهم إمتيازات الإيمان بمعلمهم، وما تتضمنه هذه الإمتيازات من سلطان لا يصح أن يكون لأحد غيرهم وإن كان مؤمناً بمعلمهم إيماناً راسخاً يتمكن به من إخراج الشياطين باسمه. ومن ثم برهن التلاميذ بذلك على أنهم لا يزالون ـ على الرغم من كل تعليم مخلصنا لهم ـ يتطلعون إلى الأمجاد الدنيوية، معتبرين أنفسهم هم وحدهم أصحاب الحق في المناصب العليا التي يؤهلهم لها إختياره إياهم ليلازموه ويتتلمذوا عليه. ومن ثم صحح لهم هذا الفهم الخاطئ، قائلا لهم ولا تمنعوه ، لأنه ليس ضدكم، ومن ليس ضدكم فهو معكمه ، أي أنه ما دام ذلك الرجل قد آمن به، كما آمنوا هم به، وكان إيمانه من القوة بحيث استطاع أن يخرج الشياطين باسمه كما كانوا يفعلون هم، فليعتبروه واحداً منهم، وإن لم يكن تلميذاً له مثلهم، أو ملازما له معهم. ف . فإنه ما دام لم يعمل ضده أو ضدهم، فهو معه ومعهم، وقد أعطاه إيمانه به الحق في رعوية ملكوته السماوي.
9: 51 – 59 السيد المسيح لم يأت ليهلك بل ليحيى:
وعندما حان الوقت الذي حدده التدبير الإلهي، والذي كان يعرفه فادينا معرفة كاملة ودقيقة، لإرتفاعه من الأرض إلى السماء التي جاء منها. وإذ كان يعلم أن ذلك سيحدث في أورشليم، اعتزم المضى إلى تلك المدينة ليتمم ذلك التدبير الإلهي، الذي كان يتضمن أن يقيض اليهود عليه ويهزأوا به ثم يقتلوه على خشبة الصليب. ومع ذلك لم يتراجع أو يتردد، وإنما تقدم بنفسه وبمحض إرادته وبكامل إختياره لينجز عمل الفداء الذي ارتضاه من أجل خلاص البشر. وإذ كانت تقع في طريقه إلى أورشليم قرية من قرى السامريين، أرسل رسلاً أمامه إلى أهلها ليعدوا له مكانا يستريح فيه. ولكن السامريين هناك لم يقبلوه ضيفاً عليهم، بل إنهم لم يقبلوه حتى أن يمر في قريتهم، لأنه كان متجهاً إلى أورشليم التي كانوا يعادون أهلها وكان أهلها يعادونهم. وقد رأى تلاميذه أن في ذلك إهانة لمعلمهم الذي كان الجميع يستقبلونه بالترحاب في كل مكان، فغضبـوا أشد الغضب، وقال له تلميذاه يعقوب ويوحنا ، يارب أتريد أن نطلب أن تنزل نار من السماء فتحرقهم كما فعل إيليا ؟.. وقد كان هو قادراً أن يفعل هذا. وكان تلاميذه قادرين أيضاً أن يفعلوه بمقتضى السلطان الذي وهبه إياهم. بيد أن مخلصنا ـ على الرغم من أن تلميذيه اللذين قالا ذلك، إنما قالاه غيرة منهما على كرامته . غضب غضبا شديداً من قولهما، وانتهرهما إنتهاراً عنيفاً، قائلاً لهما «لستما تعلمان من أي روح أنتماء ، أي أنه مازال يكمن في روحكما من الشر ما لستما تعلمانه، ذلك الشر الذي ظل طوال مكوثه مع تلاميذه يسعى جاهداً لإنتزاعه من أرواحهم بتعاليمه السمانية السامية عن المحبة والتسامح والغفران. ولكن كان إيليا قد أنزل ناراً من السماء لتحرق الخطاة، فقد كان ذلك في العهد القديم، عهد النقمة والإنتقام، لا في العهد الجديد الذي جاء به هو، عهد النعمة والسلام. وقد أوضح ذلك لتلميذيه المانقين قائلاً إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك نفوس الناس، بل ليحييها، . فقد كان هذا هو جوهر رسالته التي جاء من أجلها إلى المعالم، بل لقد كان هذا هو الهدف الذي من أجله ارتضي أن يضحى بنفسه ذبيحة علي الصليب. وقد طالما أوضح ذلك لتلاميذه، فكيف تخطر في بال تلميذيه هذين تلك الفكرة الشريرة التي تنطوي على الرغبة في الإنتقام، والتي تناقض رسالته وتناقض هدفه، كما تناقض كل التعاليم التي سمعاها منه وكان ينبغي أن يعملا بها ويعاملا الناس على أساسها، ثم يعلماها للناس من بعده.
وهكذا أعطى مخلصنا نفسه مثلاً حياً للكمال الذي ينادي به ويدعو الناس إلى سلوك سبيله. وبرهن على أنه يعمل بما يقول، ويقول بما يعمل، ومن ثم غفر لأهل تلك القرية السامرية إهانتهم له، ومضى في هدوء مع تلاميذه إلى قرية أخرى للسامريين كان أهلها أقل تعصباً وأكثر أدباً، فقبلوا أن يمر في قريتهم ويستريح بعض الوقت عندهم.
9: 57- 62 من شروط الخدمة التجرد والتفرغ :
وفيما كان فادينا سائراً مع تلاميذه في الطريق قال له واحد ، يارب أتبعك أينما تمضى. وقد علم فادينا أن هذا الرجل – الذي تعلم من إنجيل القديس متى أنه كان من الكتبة الذين هم من علماء الشريعة اليهودية، لم يكن مخلصاً في رغبته التي أبداها. إذ كان قد رأى ما صنعه الفادي من معجزات، ورأى التفاف الناس حوله وتعلقهم به. فاعتقد أنه سيجني من ذلك مالاً وفيراً وسيكون له مركز ممتاز في المملكة. ومن ثم اعـتـقـد أنه لو تبعه فسيكون له نصيب من ذلك المال، وسينال مغانم كثيرة مما سيكون له من ذلك المركز. ومن ثم أجابه فادينا قائلاً إن للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكاراً. وأما ابن الإنسان فليس له موضع يسند إليه رأسه، . أي أنني فقير أشد الفقر فلا تطمع مني في شيء معا تطمع فيه، ولا تتطلع إلى شيء مما تتطلع إليه. وقد . كان هذا القول كفيلا بأن يصرف ذلك الرجل عنه، وقد خاب أمله فيما كان يطمع فيه ويتطلع إليه. بيد أن هذا القول يدل على الدرجة التي إختارها مخلصنا من درجات الفقر، حتى إنه لم يكن يملك مجرد كوخ متواضع يبيت فيه. كما لم يكن له في المجتمع اليهودي أي منصب من المناصب ذات المركز الرفيع، كأن يكون رئيساً للكهنة أو عضوا في مجلس السنهدريم . وإنما ظل اليهود . على الرغم من كل تعاليمه ومعجزاته – يعيرونه بأنه نجار.
وهكذا شاءت الحكمة الإلهية أن يجيء المسيح مخلص العالم فقيراً في المال، متواضعاً في المركز الإجتماعي. وذلك لكي يقتلع جذور تلك المفاهيم التي رسخت في عـقـول الناس من أن أهم مـا فـي الحـيـاة هو المال والمركز. فقد أدت هذه المفاهيم بالناس إلى الإنحطاط من حياة الروح إلى حياة المادة، والابتعاد عن الجوهر السامي في الإنسان إلى الجوهر الدنيء. ومن ثم فقدوا الإنسان الذي في كيانهم واستبقوا الحيوان الكائن في ذلك الكيان. فكان هذا هو سبب مأساتهم وإذ كانت رسالة مخلصنا هي أن ينقل الناس من عالم المادة إلى عالم الروح، ومن مملكة الأرض إلى ملكوت السماء، أثبت لهم بالمثل الذي ضربه بذاته، أن الثراء ليس ثراء المال وإنما ثراء النفس، وأن المركـز الدنيوي لا يصح أن يكون هـدفـاً لهم، لأنه وهم زائل، وإنما يجب أن يكون هدفهم هو المركـز السماوي، لأنه حقيقة خالدة. كما أثبت لهم – بإشتغاله نجاراً قبل أن يبدأ رسالته التعليمية ـ أن العمل مهما كان متواضعاً لا يصح أن يكون موضع الإزدراء أو الإستهانة مادام عملاً شريفاً، بل يجب أن يكون موضع الإحترام والتكريم، وإنما الذي يستحق الإزدراء والإستهانة هو الإنسان الذي يعمل عملاً غير شريف مهما كان مركزه رفيعاً، أو الذي لا يعمل على الإطلاق مستغلاً عمل الآخرين من العبيد والتابعين، ظالماً إياهم، أثماً في حقهم، مغتصباً ثمرة جهدهم وجهادهم. ولكن رفض معلمنا أن يتبعه ذلك الرجل الذي لم يكن أهلاً لأن يكون تلميذاً له، لقـد فـعل العكس بالنسبة لرجل آخر إختاره هو لأن يكون تلميذا له، إذ رآه بحكمته الإلهية أهلا لذلك، فقال لمه «اتبعني» . فقال الرجل «يارب ائذن لي أولا أن أذهب لأدفن أبي، ، ربما لأن أباه كان قد مات بالفعل وهو يريد أن يدفنه، أو لأنه كان شيخاً وهو يريد أن يظل بجانبه يخدمه في شيخوخته حتى يموت ويدفنه. وما من شك في أن هذا شعور نبيل من الرجل نحو أبيه. بيد أن الرب يسوع أوضح له أن الرسالة التي إختاره لأدائها أكثر نبلا، لأنها تتعلق بخدمة الآب السماوي، التي ينبغي أن يقدمها على أي خدمة أخرى ولو كانت لأبيه الأرضي، ومن ثم قال له ودع الموني يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهب ويشر بملكوت الله، ، أي دع الموني بالروح يدفنون الموتى بالجسد، أو بعبارة أخرى، دع أهل الأرض ذوى الإهتمامات الأرضية الذين هم في حكم الموتي يدفنون موتاهم بالجسد، وأما الإهتمامات السماوية التي من أهمها التبشير بملكوت الله، والتي تؤدى إلى الحياة الأبدية، فتتطلب ممن يختارهم مخلصنا أن يكرسوا كل حياتهم لها، وينقطعوا إنقطاعاً كاملاً لأدائها، مهما بذلوا في سبيل ذلك من تضحيات.
وقال له رجل آخر أيضاً يارب سأتبعك، ولكن ائذن لي أن أذهب أولا كي أودع أهل بيد وقد كان ذلك كذلك ينطوى على شعور نبيل من الرجل نحو أسرته. بيد أن مخلصنا أوضح له أيضاً أن الرسالة التي سيوضع على عاتقه أداؤها إذا تبعه، أكثر نبلا. لأن الذي إختار خدمة السماء ينبغي أن يترك في سبيلها كل خدمات الأرض، في ثبات وتصميم وحسم، وبغير تزعزع أو تردد أو إرتداد، تاركاً الأرض خلفه، واضعا السماء نصب عينيه. وإلا جذبته الأرض فأبعدته عن السماء، وجعلته غير قادر على الوصول إليها وغير جدير بأن يكون من أبنائها، إذ قال مخلصنا لذلك الرجل ما من أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يكون أهلا لملكوت السماوات”.