تفسير إنجيل لوقا 3 للقمص أنطونيوس فكري
الآيات 1-7
الآيات (1-2): “وفي السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر إذ كان بيلاطس البنطي واليًا على اليهودية وهيرودس رئيس ربع على الجليل وفيلبس أخوه رئيس ربع على ايطورية وكورة تراخونيتس وليسانيوس رئيس ربع على الابلية. في أيام رئيس الكهنة حنان وقيافا كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية.”
هنا نجد لوقا الطبيب الرجل العلمي يحدد الميعاد بالسنة. السَّنَةِ الْخَأمِسَةِ عَشْرَةَ مِنْ سَلْطَنَةِ طِيبَارِيُوسَ قَيْصَرَ = كان طيباريوس قيصر مشاركاً لأغسطس قيصر في حكم الإمبراطورية الرومانية لمدة سنتين قبل وفاة أغسطس. وبهذا تكون السنة الخامسة عشرة لطيباريوس هي سنة 26 م. أي والمسيح عمره 30 عاماً فالمسيح ولد سنة 4 ق.م. وكَانَ بِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ وَالِيًا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ = فبعد موت هيرودس الكبير انقسمت مملكته إلى أرباع. هِيرُودُسُ أنتيباس رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الْجَلِيلِ (هيرودس شهرته أنتيباس) وَفِيلُبُّسُ أَخُوهُ (هيرودس وفيلبس ابنا هيرودس الكبير) رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى إِيطُورِيَّةَ.. وكان بعد موت هيرودس الكبير مباشرة أن ابنه أرخيلاوس كان نصيبه اليهودية والسامرة وملك سنوات بسيطة ولشروره أقاله قيصر روما وعيَّن على اليهودية والياً رومانياً. وصارت اليهودية تتبع روما مباشرة عن طريق والٍ روماني، وكان في هذه الأيام هو بيلاطس البنطي. وَلِيسَانِيُوسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الأَبِلِيَّةِ كان ليسانيوس هذا يحكم قسماً إدارياً صغيراً بين دمشق وجبل حرمون. والإبلية مدينة واقعة شمال غرب دمشق. وإِيطُورِيَّةَ هي شرق الأردن وبحر الجليل ولأن مملكة هيرودس إنقسمت إلى أربعة أجزاء جاء من هنا لفظ رئيس ربع. فِي أَيَّأمِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا = هناك رئيس كهنة واحد بحسب الشريعة. وكان رئيس الكهنة هو حنان وأقاله وعزله الوالي الروماني وعين قيافا (زوج ابنته) مكانه إلا أن حنان استمر هو الرجل القوي يحكم من وراء اسم قيافا، لذلك ففي محاكمة المسيح، نجدهم أخذوا المسيح أولًاً إلى حنان ثم ذهب إلى قيافا. ونجد لوقا في دقة يقول رئيس الكهنة بالمفرد فهذا بحسب الشريعة لا يوجد سوى رئيس كهنة واحد. كل هذه الأسماء من ملوك ورؤساء كهنة تشير:-
1- إلى أهمية يوحنا المعمدان، فكل هؤلاء لتحديد بدء خدمة أعظم مواليد النساء. إلا أنه في بدء خدمة المسيح لم يحدد أي اسم فهو بدء كل شيء.
2- بين كل هؤلاء العظماء لم يوجد من استحق أن يكون سابقًا للمسيح سوى يوحنا.
3- يظهر ما وصلت إليه إسرائيل من مذلة، فلم تعد فقط خاضعة للإمبراطور الروماني بل مقسمة إلى أربعة أجزاء. ورئيسان للكهنة. وكان في هذا تحقيقًا لنبوة أبيهم يعقوب (تك10:49). لقد زالت السلطة اليهودية.
4- بهذا اتضح التاريخ المدني العالمي للأحداث الخطيرة التي بها كان الخلاص للبشر.
آية (3): “فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا.”
بدأ يوحنا كرازته بالتوبة متخذًا المعمودية علامة للتوبة. فإن كانت خدمة المسيح هي خدمة الزرع فخدمة يوحنا هي الحرث والفلاحة استعدادًا للزرع.
الآيات (4-6): “كما هو مكتوب في سفر أقوال إشعياء النبي القائل صوت صارخ في البرية اعدوا طريق الرب اصنعوا سبله مستقيمة. كل واد يمتلئ وكل جبل وأكمة ينخفض وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرقا سهلة. ويبصر كل بشر خلاص الله.”
يوحنا صوت يدوي في البرية لقبول الحق خلال السبل أو الطرق المستقيمة، إنه ينادي للنفوس اليائسة التي تشبه الوديان المنخفضة أن تمتلئ رجاءً (كان يبشر بأن المواعيد التي للأباء جاء وقت تحقيقها، هو كان كمجدد للرجاء بأن يوم الرب على الأبواب، كان هذا مدخلاً للمسيّا، ففي المسيح تحقيق لوعود الأنبياء). والنفوس المتشامخة كالجبل أن تتضع، بهذا يتمتع الكل بالخلاص. وقد يقصد بالأودية الأمم التي حطمتها الوثنية وأفقدتها كل رجاء، وبالجبال اليهود المتكبرين. والسبل المستقيمة هي دعوة لترك كل طريق معوج ملتوٍ ودعوة يوحنا لا تزال قائمة لكل نفس، فإن أعماقنا لن تبصر خلاص الله ما لم نسمع صوت يوحنا في داخلنا يملأ قلوبنا المنسحقة بالرجاء ويحطم كل عجرفة وكبرياء ويحول مشاعرنا الداخلية عن المعوجات ويجعل شعابنا العميقة سهلة. ولما كان إنجيل لوقا موجهاً لليونان، فقد اقتبس لوقا كلمات إشعياء النبي التي تفتح أبواب الرجاء لكل الأمم = وَيُبْصِرُ كُلُّ بَشَرٍ خَلاَصَ اللهِ = فالمسيح سيأتي مخلصاً لكل العالم.
فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر جميعا (إش40 : 5).
ويبصر كل بشر خلاص الله (لو3 : 6).
ورأى الربيون أن أيات إشعياء هذه تتكلم عن عودة الشعب من السبي أما الإنجيليين فرأوها واضحة أنها عن خلاص المسيح المعلن. وأن النبوة كانت تعلن أن المعمدان كان يبشر بالملكوت الماسيانى. وفي هذا يتفق الترجوم مع الرؤية الإنجيلية إذ يرى الترجوم أن (إش40 : 9) تفهم على أنها أنباء مفرحة تأتى إلى صهيون وليس أن صهيون هي التي تعلن هذه الأخبار وتبشر بها. وتصير هذه الأنباء المفرحة التي أتت لصهيون هي بشارة المعمدان بإقتراب ملكوت السموات “توبوا لأنه قد إقترب ملكوت السموات” (مت3 : 2).
آية (7): “وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الأتي.”
يا أولاد الأفاعي (هو يقول هذا لكل من أتى بغير نية التوبة خاصة الفريسيين) = فهم يشبهون الأفعى في الأذى والخداع والمكر، وحب الأذية للآخرين، وهي سامة قاتلة للإنسان. ولهم فكر أرضي كما تسعى الحية على بطنها.
الآيات 8-14
الآيات (8-9): “فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أبا لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تقطع وتلقى في النار.”
يوحنا يريدهم أن يتشبهوا بإبراهيم في تقواه وإيمانه وأعماله.
الآيات (10-14): “وسأله الجموع قائلين فماذا نفعل. فأجاب وقال لهم من له ثوبان فليعط من ليس له ومن له طعام فليفعل هكذا. وجاء عشارون أيضًا ليعتمدوا فقالوا له يا معلم ماذا نفعل. فقال لهم لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم. وسأله جنديون أيضًا قائلين وماذا نفعل نحن فقال لهم لا تظلموا أحدًا ولا تشوا بأحد واكتفوا بعلائفكم.”
من تحرك قلبه سأله ماذا أفعل فطلب من الناس العاديين، أعمال الرحمة= من له ثوبان فليعط.. والعشارون الذين اشتهروا بأن يأخذوا أضعاف الجزية المقررة، يأخذون الكثير لهم ويعطوا للحكومة الجزية المفروضة. هؤلاء طلب منهم المعمدان أن يكفوا عن طمعهم= لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم. والجنود الذين اعتادوا استغلال وظيفتهم في ظلم الناس قال لهم لا تظلموا أحدًا. إذًا التوبة هي ترك الخطية وممارسة أعمال الرحمة لكل محتاج. ولم يطلب يوحنا المعمدان أن يترك أحد وظيفته بل يكون أمينًا فيها ولا يستغلون وظيفتهم في أي شر.
الآيات 15-18
آية (15): “وإذ كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح.”
كان زهد يوحنا وقوة كلماته سببًا في أن يظنه الناس أنه هو المسيا المنتظر.
الآيات (16-18): “أجاب يوحنا الجميع قائلًا أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني الذي لست أهلًا أن احل سيور حذائه هو سيعمدكم بالروح القدس ونار. الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع القمح إلى مخزنه وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ. وبأشياء آخر كثيرة كان يعظ الشعب ويبشرهم.”
كانت الكلمات السابقة عينة فقط لما وعظ به يوحنا من توبيخ مع بث روح الرجاء.
الآيات 19-20
الآيات (19-20): “أما هيرودس رئيس الربع فإذ توبخ منه لسبب هيروديا امرأة فيلبس أخيه ولسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها. زاد هذا أيضًا على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن.”
لم تكن عظات يوحنا قاصرة على الشعب بل امتد توبيخه للملك هيرودس الذي كان متزوجًا من ابنة الحارث الملك العربي، فترك زوجته الشرعية وهجرها وأراد أن يتزوج بامرأة أخيه فيلبس هيروديا الجميلة في حياة فيلبس أخيه. فقاومه يوحنا معترضًا على هذا فسجنه. وهيروديا كانت هي أيضًا قد هجرت فيلبس. وكان هيرودس هذا شريرًا رديء السمعة، وهو المشهور بأنتيباس.
وصار سجن هيرودس ليوحنا المعمدان لإسكات صوت الحق، هو رمزًا لمحاولات اليهود تقييد الكلمة النبوية التي تشهد للمسيح.
الآيات 21-23
آية (21): “ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضًا وإذ كان يصلي انفتحت السماء.”
ولما اعتمد…… اعتمد يسوع أيضًا= لماذا اعتمد يسوع؟
1- هو الذي عَمَّد الماء أي قدَّسه لنعتمد نحن بالماء والروح بعد ذلك.
2- هو اعتمد، وقبل الروح بعد ذلك ليحدث لنا نفس الشيء، ففي المعمودية نموت مع المسيح ونقوم معه فنصبح مستعدين لحلول الروح القدس فينا. إذًا معمودية المسيح كانت تأسيسًا لسر المعمودية.
3- كان عماد المسيح عمل اتضاع ووداعة منه.
4- كان تكريسًا لذاته للعمل (بالمعمودية) فنزول المسيح إلى الماء وتغطيسه فيه (كما نزل يونان إلى عمق الماء) كان إشارة لقبوله الموت (وكما عبر يشوع ماء الأردن مع الشعب ليدخلوا لكنعان الأرضية فالمسيح عبر معنا الموت لندخل معه كنعان السماوية، وكان قبول المسيح للمعمودية هو قبول للموت ونحن نموت معه في المعمودية ليدخلنا معه بقيامته وقيامتنا معه في المعمودية للأمجاد السماوية). كما كان عبور شعب إسرائيل لنهر الأردن المشقوق، إشارة لعبورنا إلى كنعان السماوية بالموت. وكان شق نهر الأردن وتوقف سريانه إشارة لأننا بالمعمودية نجتاز الموت دون أن يكون للموت سلطان علينا، بل بالموت نعبر إلى الحياة، وذلك لأن المسيح رأسنا قد خرج من الأردن رمزًا لقيامته وليقيمنا معه.
وتبع معمودية المسيح وتكريسه لذاته، تكريس الآب له للعمل بحلول الروح القدس عليه فمسحه وصار اسمه المسيح أي الممسوح أي المخصص والمكرس لعمل الفداء.
وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي = الصلاة هنا هي إشارة للصلة التي بينه وبين الآب، وهذه الصلة كانت هي السبب في إنفتاح السماء وظهور الأقانيم الثلاثة كمنفصلين ولكنهم في الحقيقة هم واحد. وظهورهم كمنفصلين كان لنفهم أن هناك تمايزاً في الأقانيم، ولكنهم بالحقيقة ثالوث غير منفصل.
- لا يقبل بأي حال من الأحوال أن نفهم أن الروح القدس حلَّ على المسيح لأنه لم يكن فيه الروح سابقاً فامتلأ من الروح القدس في المعمودية، لأن المسيح مولود بالروح القدس، وملء الروح القدس لم يفارقه لحظة واحدة ولا طرفة عين كونه هو الإله ابن الله الذي أخذ ناسوته من العذراء “لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين.. القداس الباسيلي”. ولكننا نفهم أن ما حدث هو أن الروح القدس حل على البشرية التي يحملها المسيح وذلك لحسابنا كبشر .
ونفهم ما جاء في (لو1:4) “أن يسوع رجع من الأردن ممتلئاً من الروح القدس” أن هذا إشارة إلى امتلاء البشرية التي فيه، أما المسيح لم يوجد قط لا قبل الميلاد ولا بعد الميلاد بدون ملء الروح القدس. لاهوتيا فالابن والروح القدس واحد، لكن الروح القدس حل على جسد المسيح، ليحل بعد ذلك على كنيسة المسيح أي جسده (مز 133) كما قيل في (لا2: 4) عن تقدمة الدقيق “ملتوتة بزيت.. مدهونة بزيت” ملتوتة أي معجونة (عجينة الدقيق بالزيت) وهذا إشارة للإتحاد الأقنومى بين الابن والروح القدس، وهو إتحاد لا ينفصل، ومدهونة إشارة إلى حلول الروح القدس على المسيح لمسحه وتكريسه لعمل الفداء، وليحل على بشريته لحساب البشر.
- وإذا أخذنا معمودية المسيح بتغطيسه في الماء ثم خروجه منه نفهم هذا أنه إعلان المسيح لقبوله الموت، ثم القيامة، وبهذا فالمسيح يؤسس بمعموديته سر المعمودية التي بعدها سيحل الروح القدس على كل معمد مؤمن. لأن المعمودية هي موت ودفن مع المسيح وقيامة معه (رو3:6-5).
آية (لو 22:3):- “22وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَأمَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً:«أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ».”
آية (23): “ولما أبتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي.”
نحو ثلاثين سنة = هي السن التي ملك فيها داود ويوسف وهي السن التي يبدأ فيها الكاهن عمله فالمسيح ملك وكاهن.
تفسير إنجيل لوقا – 2 | إنجيل لوقا – 3 | تفسير إنجيل لوقا | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل لوقا – 4 |
القمص أنطونيوس فكري | ||||
تفاسير إنجيل لوقا – 3 | تفاسير إنجيل لوقا | تفاسير العهد الجديد |