تفسير إنجيل لوقا اصحاح 2 للقمص متى المسكين
(هـ) ميلاد المسيح
(20-1:2)
+ «يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبـل وتلد
ابنـاً وتدعو اسمه عمانوئيل.» (إش 14:7)
+ «لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه
ويدعى اسمه عجيبـاً مشيراً إلهـا قـديرا أبـاً أبـدياً رئيس
السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود
وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى
الأبد.» (إش 9: 6و7)
إذ قدم لنا الإنجيل الوعد بميلاد يوحنا والمسيح، ثم أكمل الوعد بميلاد يوحنا المعمدان، أصبح من الواجب أن يبدأ بوصف ميلاد المسيح. وكما رأينا في البشارة بالمسيح ما يفوق ما جاء في البشارة بيوحنا المعمدان، هكذا يأتي ميلاد المسيح ولو بالتماثل مع ما جاء في ميلاد المعمدان ولكن بصورة فائقة للغاية. وإن تصدر زكريا بالتسبيح والمديح لميلاد المعمدان، فهنا تتصدر الملائكة في السماء لإعلان الميلاد والتهليل له وبث الفرح العظيم بالخلاص الأعظم بميلاد المسيح.
ويمتاز ميلاد المسيح بأمرين كبيرين:
أـ فقد أخـذ ميلاد المسيح وضعاً عالمياً في صميـم تـاريخ العالم بمقتضى تسجيله في سجلات الاكتتاب العام للمسكونة كلها، الأمر الذي أحدر يوسف وخطيبته الحامل مـن الـروح القدس من الناصرة إلى بيت لحم مدينة داود. ومن هنا أخذ ميلاد المسيح اعتباراً هاماً في مقدرات العالم «لأن عيني قد أبصرتا خلاصك، الذي أعددته قـدام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأمم، ومجـداً لشعبك إسرائيل.» (لو 2: 30-32)
ب ولكن في مقابـل هـذا الارتفاع والسمو في مركز المولود بالنسبة لمقدرات العالم، نجده في ميلاده يكشف عن انتباهة خطيرة في مضمون حياة هذا المولود ومستقبله، إذ يجعل ميلاده في مغارة لعدم وجود مأوى تأوي إليه والدته القديسة، وكانت المغارة مأوى للبهائم والدواب، استحسنت فيها العذراء مذوداً صغيراً يسع طفلها الذي وضعته فوق التبن. وهكذا كان يحمل رؤية مستقبلية كيـف سیسند ظهره العاري على خشبة الصليب يوم يفارق هذا العالم، العالم الذي استقبله في مذود وشيعه على الصليب! وهكذا في إظهاره لفقره الشديد في دخوله وخروجه من هذا العالم يكشف عن رسالته ومضمونها في الخلاص الذي صنعه للفقراء والمذلولين والمظلومين والمعدمين ومـن أجـل كـل مـن عـطـف عليهم !!
أما لماذا يفصل ق. لوقا قصة الميلاد البتولي عن إنجيل حياته وأعماله، فواضح لكل ذي بصيرة أن قصة الميلاد تحتفظ بسر المسيح في شخصه الخاص جداً، كما تحمل أوضاعاً سرية غاية السرية لأمه العذراء القديسة التي يظن أنها ما باحته قط لإنسان ما غير ق. لوقا لما ألح عليها وعلمت بالروح أن سرها سيصير جزءا لا يتجزأ من سر الخلاص للعالم كله.
1:2 «وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة».
«أُوغسطس قيصر»:
كان أول إمبراطور روماني، واسمه الأصلي غايس أوكتافيوس، وكان ابن أخت يوليوس قيصر. و « أوغسطس» كلمة لاتينية تعني ” الجليل والمهاب والرفيع القدر”، وتقابلها في اليونانية كلمة: سباسطس ” (أع 21:25). وقـد أخـذ لقـب خـالـه يوليوس قيصـر سـنة 43 ق.م بالمجاملـة بالانتخاب، وبمضي السنين أسقطت كلمة يوليوس وبقيت قيصر. وبالتشاور بين أعضاء السيناتو (مجلس شيوخ الدولة) اخترعوا له اسم أوغسطس، وكانت تفيد وضعاً دينياً قريباً من التأليه، وكان يعني الحاكم الأعلى للامبراطورية الرومانية، وصار أول إمبراطور. وكلمة إمبراطور أصلاً لقب حربي، فكل جنرالات رومـا كـان لهـم هـذا اللقب، ثم ألغيت من الجنرالات جميعاً واحتكرها قيصر. وحينئذ زالت الجمهورية الرومانية وبرزت مكانها الامبراطورية الرومانية تحت إمرة أوغسطس قيصر سنة 30 ق.م. وفي أوج اعتلاء أوغسطس قيصر عرش روما بعد نحو خمسة وعشرين سنة من سلطنته، وقد خضعت له كل دول العالم، ولد المسيح! وكأنه جاء ليستلم عرش العالم من يد أوغسطس قيصر. وفي ذلك الوقت كان من أ أعمال أوغسطس أنه أصدر مرسوماً لكي تكتتب المسكونة كلها. وفي هذا الوقت كانت قد توقفت جميع الحروب وأخضعت الدول جميعاً لسلطان روما وتم ضبطها ليسود السلام على العالم أجمع.
وهناك على الطريق من الجليل إلى بيت لحم كان يسير معاً يوسف والعذراء القديسة ممتطيـة الدابة، يسندها يوسف، يتحدثان عن رؤى القدير والمصير، وإذا سألتهما إلى أين؟ يقولان إنه أمر قيصر أن نذهب وتكتتب في مدينة أجدادنا الذين ورثنا منهم اسم داود، ودماؤه لا تزال تجري في عروقنا، زرقاء هي وملكية!! حقيران للغاية في منظرهما لدى العالم وقيصر، ولكن كانا يضعان أساس مملكة المسيا التي ستقتلع قيصر وروما وكل امبراطوريات العالم فيما هو آت من الزمان لتسود مملكة السماء: + «كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فصار جبلاً كبيراً وملأكل الأرض.» (دا 2: 35,34).
وقبل أن ننتقل إلى الآية القادمة ننبه ذهن القارئ أن القديس لوقا، وهو طبيب ومؤرخ ملهم بدأ هنا يدخل قصة ميلاد المسيح في عمق التاريخ، وأي تاريخ؟ تاريخ المسكونة العام والعلني، إذ بهذا الأمر الإمبراطوري تسجل يوسف ومعه مريم في سجلات العالم المدني باعتبارهما أبوي يسوع رسمياً وبموافقة السماء. وهنا نعجب من التدبير الإلهي المتقن، كيف سخر الله الحوادث وأخضع تاريخ العالم ليسجل ميلاد المسيح في سجلات أعظم دولة!! إذ أصبح العالم يؤرخ منذ ذلك اليوم لميلاد المسيح: “.A.D“ ” بعد الميلاد ” . وهنا ندعو: ليت الذين يمجيدون أن مسیح التاريخ يطأطئوا الرأس لهذا التدبير الإلهي المحكم والفريد. فإن أوغسطس قيصر ليس من ذاته وخياله أمر بالاكتتاب المسكوني العام، بل هو عمل الله الذي على أساسه ولد قيصر وقامت روما! فإن كان منذ الأزل: «أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 16:3)؛ إذن، فليستعد العالم لدخول المخلص ويسجل له يوم دخوله في أفخر سجلاته، محدداً يوم ميلاده. وإن كان بسبب إهمال المسجلين والمؤرخين تاه منهم تحديد اليوم، غير أن القديس لوقا عمل كل ما في استطاعته أن يحدده إلى أقرب سنة بحسب الاكتتاب العام، ثم مرة أخرى سجل بدء خدمة المسيح: «ولما ابتدأ يسوع (يخدم) كان له نحو ثلاثين سنة…» (لو 23:3)
2:2 «وهذا الإكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية».
هنا يعطي القديس لوقا قرينة لتحدد زمان الاكتتاب، فجعله الأول ليميزه عن أي اكتتاب آخر غير رسمي سبق أن صدر أو أي اكتتاب آخر جاء بعد ذلك. ثم زاد تمييزه بذكر كيرينيوس أنه كان وقتها والياً على سورية. إلى هذا الحد كان القديس لوقا مدققاً في تحديد هذا الزمان. وللأسف أخفق المؤرخون المحدثون: أولاً: عن فهم قصد القديس لوقا؛ وثانياً: عن الوصول إلى بؤرة هذا التحديد المتقن. وكل هذا وغرض القديس لوقا الهام أن يربط هذا اليوم المقدس المبارك بتاريخ العالم.
3:2و4 «فذهب الجميع ليكتتبوا، كل واحد إلى مدينته. فصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية، إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم، لكونه مـن بيـت داؤد وعشيرته».
هنا تضافر العلماء ليحددوا كل الظروف والأسباب التي حدث بالإمبراطور لإصدار هذا الأمر بالاكتتاب. ويعوزني هنا المكان، ويعوز القارئ القدرة على المتابعة لأسجل له أبحاث مـا يقـرب مـن عشرين عالماً من أقوى علماء التاريخ والكتاب المقدس، ولكن يمكن للقارئ الرجوع إلى كتاب العالم هوارد مارشال في كتابه لشرح إنجيل القديس لوقا صفحة 100 ليطلع على مجرد أسماء وأبحاث هؤلاء العلماء.
نستخلص من ذلك أن الإمبراطور أصدر هذا الأمر بالاكتتاب ليكون عاماً ويشمل كل الأراضي التي تحت سلطانه. والسبب الأساسي هو إدارة وترتيب سياسة الإمبراطورية وتقنين الضرائب. أما بخصوص ذهاب كل واحد إلى مدينته، فكان ضمناً ليسجل في سجلات الدولة أملاكه ومخصصاته تحت إشراف الحكام.
ولكن يؤكد القديس لوقا هنا في الآية (4:2) أن يوسف انطلق إلى مدينة بيت لحم: «لكونه من بيت داود وعشيرته» وهنا إشارة ذكية أن يوسف أدرك بالروح ومن ملابسات إعلان الملاك أنه قد أصبح مسئولاً أمام الله والتاريخ عن عودة العذراء مع ابنها المنتظر، وهو “المخلص” رجاء كل اليهود والعالم إلى مدينة أبيه داود، بيت لحم اليهودية، ليولد فيها حسب النبوات وحسب رجاء كل اليهود، الأمر الذي جعله يحمل هم وبركة رحلة العذراء السريعة وهي حامل في شهرها الأخير ليتم ميلاد الطفل في مدينة بيت لحم مهما كلفـه مـن جـهـد ومخاطر، واثقاً أن الأمر يخص الله وهـو الذي سيعوله. لهذا كـان يوسف سريع الحركة للقيام بهذه المخاطرة غير هياب، إذ لم يكن دافعها الاكتتاب بالنسبة لنفسه، ولكن بالأكثر تسجيلاً لميلاد يسوع المخلص في مدينة داود أبيه. وهذا هو سر الرد على الذين يعترضون كيف يأخذ معه العذراء ويجشمها مشقة هذا السفر الخطر وهي مجرد مخطوبة له وليست محسوبة أنها امرأته؟ علماً بأن الملاك كلفه رسمياً بأن يمثل نفسه أباً للطفل عندما أمره أن يأخذ العذراء الحامل وهي مخطوبة امرأة له رسمياً، ذلك بحسب الله، ليتصدى أمام العالم بأنه رجل مريم وأبو الولد!! وهكذا تسجل، وهكذا عاش! وهذا هو سر الرد على ذكر الإنجيل باستمرار أن يوسف كان رجل مريم، وكان بالتالي وحسب أمر الملاك، أباً للمسيح أمام العالم.
بهذا تظهر قصة ميلاد المسيح بأسرارها أنها تحمل كل أسرار حياته وأقواله وأعماله وخاصة اللاهوتية منها، فكل الأسئلة والمآخذ والانتقادات التي يخوض فيها النقاد بالنسبة لحياة المسيح وأعماله تعـود أساساً إلى جهلهم بحقائق الميلاد.
5:2 «ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى».
هنا يكشف القديس لوقا أهمية هذا الاكتتاب القصوى بالنسبة لميلاد المسيح، كون يوسف سيسجل رسمياً أنه رجل مريم، وبالتالي أب للطفل يسوع. وهنا التركيز واقع على تسجيل سنة ميلاد المسيح رسمياً وبالدرجة الأولى. والآن كيف نبلغ إلى هذه السنة؟ فكما سبق وقلنا إنه تأكد للمؤرخين المشتغلين بقصة ميلاد المسيح أنه ولد في أيام حكم هيرودس الكبير: «ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك» (مت 1:2). فإن كان موت هيرودس قد تسجل سنة 4 ق.م، وكان كيرينيوس قد تولى على سورية مرتين، الأولى منها كانت سنة 6-4 ق.م. فبهذا استطاع القديس لوقا أن يحصر تاريخ ميلاد المسيح بدقة إلى أقرب سنة بين 6-4 ق.م. وقد أضيف من الأبحاث والبراهين التي تمت بواسطة علماء الفلك الكبار مثل كبلر وزملائه، أن ظهور النجم العظيم في السماء بملاحظة علماء الفلك الكلدانيين الذين دعوا بالمجوس، أمكن رصد تحركاته الثابتة، والتأكد من ظهوره في نفس هذا التاريخ أي من 6-4 ق.م. فلو رجعنا إلى نبوة بلعام بخصوص ظهـور كوكب يعقوب ـ نجم المسيا ـ نـرى أن حسابات الفلكيين داخلة حتماً في صميم تحقيق النبوة إنجيلياً: «أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريباً. يبرز كوكب من يعقوب ، ويقوم قضيب من إسرائيل…» (عدد 17:24)
6:2 «وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد».
إن القارئ ليكاد تنحبس أنفاسه كيف عبرت هذه العذراء القديسة 90 ميلاً من الناصرة إلى بيت لحم في أرض وعرة وهي في أيامها الأخيرة؟ ولكن من أميز صفات كاتب هذه القصة أي القديس لوقا، بل من أميـز صـفات يوسف، وبالتالي العذراء، وبالتالي الإنجيل، هذه الغلالة من السرية التي يلفها الصمت العميق بالنسبة لهذه الحوادث الجسام المليئة بالأعاجيب، وليس إزاء هذا السرد المهيب إلا أن يتذرع الإنسان أيضاً بالصبر في الجري وراء تحقيق هذه الحوادث، وبالصمت لعله يبلغ السر. فنحن بصدد قصة سماوية أشخاصها قديسون وملائكة وقوات فلكية مسخرة !
7:2 «فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل».
قلبي على هذه الأم الوحيدة، كيف احتملت المخاض وحدها؟ كيف استقبلت الطفل بيديها؟ كيف قمطته وهي منهوكة القوى؟ ماذا شربت وماذا أكلت؟ اشهدن يا نساء العالمين على أم المخلص، كـم عانت؟ وكم تستحق التمجيد؟ عزائي الوحيد أن الرحلة الشاقة ذات الأربعة الأيام والتسعين ميلاً سهلت الوضع بحسب خبرة أصحاب التوليد وأهلتها لمعونة ملائكية، وأخفيت عن الإنجيل ليزداد عطفنا عليها وحبنا لها.
وهكذا استقبل العالم المسيا الموعود رجاء كل الدهور «نور إعلان للأمم، ومجداً لشعبك إسرائيل »(لو 32:2) في مذود للبهائم. ويبدو أن في هذا تعيير شديد لإسرائيل، كون المسيح قد استأمن البهائم على حياته ولم يستأمن بيت يعقوب: «اسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض، لأن الرب يتكلم. ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا علي. الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف، شعبي لا يفهم.» (إش 2:1و3)
وقول القديس لوقا هنا «فولدت ابنها البكر » πρωτότοκον فهذا بحسب الفكر اليهودي يعني فاتح رحم. والتدقيق هنا على إجراءات التطهير التي أوصى بها الناموس الوالدة من جهة التطهير الذي أتمته بحسب الإنجيل. كما أنه يتحتّم إجراء طقوس على الابن البكر لتكريسه الله بحسب الناموس (خر 12:13؛ 19:34). علماً بأن البكـر لـه الميراث، فهو وارث لداود حتماً. فهو، إذن، وبالضرورة، صاحب مملكة داود أبيه كقول الملاك للعذراء: «ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية» (لو 32:1و33). وبالتالي فهو المسيا!! هذا هو القصد الإلهي من قوله: «ابنها البكر» (انظر: 2مل 27:3، 2أي 3:21).
يقول التقليد الكنسي على لسان القديس الشهيد يوستين (150م) عمّا وصله ، من التقليـد الأقدم، إن يوسف ومعه القديسة مريم لما بلغا بيت لحم لم يكن لهما فيها أحد، إذ كانا قد استوطنا الناصرة منذ زمن بعيد. فاتجها إلى الخان (المنزل أو النزل) (وهو اللوكاندة الريفية التي تستقبل المسافرين مع دوابهم). فلما لم يجدا في المنزل مكاناً التجأ إلى المغارة” الملحقة ـ والتي كانت مخصصة للدواب ـ وباتا فيها. وهناك ولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود. ويعود العلامة أوريجانوس (185-254م)، ويكرر نفس القصة كما استلمها هو الآخر من التقليد. فهي حقيقة متداولة في الكنيسة منذ البدء. ويقول العلامة فارر إنه في أيام القديس يوستين كانت هذه المغارة مزاراً باعتبارها مكان ميلاد المسيح. وقد شيدت الملكة هيلانة كنيسة فوق هذا المكان المقدس سنة 330م. وبعدها بقليل قام الإمبراطور جوستينيان الأول[1] (483-563م) وبنى كاتدرائية كبرى على هذا المكان، ويقال إن الكنيسة الحالية . بقاياها أعيد ترميمها. ويؤكد العلامة يواقيم إرميا أن تقليد الكنيسة بخصوص ميلاد المسيح في مغارة بيت لحم مبكر للغاية. كما يقرر هذا العلامة أن الرعاة الذين ظهر لهم الملاك، وهـم الذين كانوا يحرسون القطيع المخصص للذبائح الهيكلية، كانوا أنفسهم أصحاب هذه المغارة.
وعسير علينا أن نعبر على ميلاد المسيح في مذود للبهائم دون أن ينخطف قلبنا، مـا هـذا أيتها السماء؟ أهكذا لم يكن بين بني البشر في الدنيا قاطبة مكان يستقبل جسد المسيح الغض إلا مذود للبهائم!! نعم كان يتحتّم أن يكون هذا!! حتى يتأهل هذا الجسد منذ اللحظة الأولى لدخوله العالم، لكي يسند ظهره في النهاية على خشبة الصليب كآخر مكان، وفي آخر لحظة له في العالم!! ليس من فراغ يقول المسيح: «ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يو 33:16)، ولا كان تجاوزاً منه لما قال: «أنا لست من العالم» (يو 16:17)، وقد عيّر الله الشعب القديم: «أين مكان راحتي» (إش 1:66)؟ وعاد في العهد الجديد يقول: «وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه.» (لو 58:9)
إذن، فليفرح وليعتز كل فقراء الدنيا، فلهم نصير وصديق في السماء عاش ومات فقيراً مثلهم، لم يملك عند دخوله العالم إلا الخرق التي قمطته بها أمه، وأخرى ستروه بها على الصليب، وهو يستودع العالم لينطلق إلى مجده الأسنى، ليعد ملكوته للذين غلبوا العالم: «وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم: إيماننا» (1يو 4:5)، «ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم.» (يو 16:17)
أول بشرى للميلاد تلقاها رعاة ساهرون:
8:2 «وكان في تلك الكورة رعاة مُتبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم».
يقول العلامة إدرزهايم اليهودي المتنصر الذي كتب حياة المسيح بالتفصيل إنهم فئة من الرعاة مختارين بشروط خاصة من جهة الطهارة والتطهير، يحرسون قطعان الغنم المخصصة للذبائح الهيكلية. وهناك نبؤة سجلها ميخا النبي تقول إن من “برج القطيع” الواقع على أكمة جبل صهيون (وهو يرى على طريق بيت لحم) يأتي من يملك ويحكم: «وأنت يا برج القطيع أكمة بنت صهيون إليك يأتي، ويجيء الحكم الأول مُلك بنت أورشليم.» (ميخا 8:4)
والقارئ يلاحظ أن النبوة على المسيح منصبة على مجيئه من قبل “بنت” صهيون تعبيراً عن ميلاده من العذراء.
كذلك فإن أحد كتب التراث اليهودي يقول إن من على برج “مجدال عيدر” أي برج القطيع في بيت لحم سيعلن ميلاد المسيا، وهذا البرج يقع على الطريق بين بيت لحم وأورشليم. وهذا ما تم بالفعل إذ ظهر هناك الملاك الذي كلم الرعاة.
ولكن لا يمكن أن يفوت على القارئ الملهم، العلاقة السرية ذات المغزى والمعنى، أن أول بشارة بميلاد «حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 29:1) يفوز بها “رعاة ذبائح” الهيكل من الحملان! بل ويولد “حمل” الله في مذود؟ إنها تُحسب صرخة من الوحي المقدس في أذن القارئ الموهوب وكأنها إصبع تشير كما أشارت إصبع المعمدان: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» بل ولا يخلو هذا الحبك الإلهي في الرواية ذات الأسرار، لماذا “للرعاة” يستعلن “الحمل”؟
هذه الإشارة أخذتها الكنيسة المرتشـدة بالروح وأسمـت كهنتهـا بـ “الرعـاة”، وكأنهم المؤتمنون على سر الحمل يقدمونه كل يوم على المذابح ليشبعوا الرعية!
9:2 «وإذا ملاك الرب وقف بهم، ومجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً».
الليل ليل شتاء، وظلمة الشتاء ثقيلة، وأي بصيص نور يجذب الأبصار، فما بالك بنور مجد الله بضياء يملأ السماء والأرض على مستوى البرق، وفي لحظة يلفهم النور وكأنهم صاروا في بؤرة الشمس بلا حرارة. فأي خوف يتحتّم أن يعتريهم؟ وهم رعاة شذج. ولكن الذي يسترعي أبصارنا نحن أن يكون هذا ضياء مجد الرب نفسه، وهو نفسه ملقى هادئاً في المذود يلفه قماط!!! وتم القول: «الذي نزل من السماء (إلى الأرض)، ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو 13:3). من يفهم ومن يصدق ومن يسبح؟ أليس هذا المنظر فيه ما يفك أحجية التحشد؟؟ على المستوى العلني والمنظور .
10:2 «فقال لهم الملاك: لا تخافوا. فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب».
“خوف عظيم”، و«فرح عظيم»:
أليس هذا هو الإنجيل أي البشارة المفرحة جداً؟ أول من فسَّره ملاك، وأول من سمعته آذان رعاة! واللغز هنا بديع، فالبشارة للرعاة، والفرح للشعب، وما على الرعاة إلا البلاغ. وكأنه في مخافة عظيمة جداً يتقبل الرعاة البشارة لينقلوها مفرحة لجميع الشعب. وهكذا فأول من سمع البشارة ورأى المولود هم الرعاة، إن في هذا تناسقاً بديعاً.
ولكن نقطة التركيز في هذه الآية أن البشارة بالميلاد فيها فرح عظيم، وكم مرة عيدنا للبشارة ولم نفرح؟ بل وكم مرة قرأنا وسمعنا البشارة ولم نفرح؟ إن في هذا إشارة إلى عطل في السمع والفكر في تقبلنا لأعمال الله وأسراره، لنا آذان لا تسمع! إن الفرح العظيم الذي يكون لجميع الشعب انطلق من الميلاد ليؤسس دعامة في قلب الإنسان لا يمحوها الزمن، ارتفعت عالياً يوم القيامة لتنهي عهد شقاء الإنسان إلى الأبد: «أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب» كل الأيام.
11:2 «أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب».
هذا هو “الفرح العظيم”، يقول الملاك: «أبشركم بفرح عظيم… أنه ولد لكم مخلص» نقول تعليقاً على قول الملاك: “الفرح قد ولد في أرواحنا وليس في جسدنا. والجسد يموت ويبقى الفرح العظيم نحمله معنا إلى السماء، فلا الموت ولا الحزن ولا العالم يقدر أن يلغي فرحنا. فرحنا في روحنا، فهو بمنأى عـن أتعـاب هـذا الـدهر. يشـقى الجسـد ويمرض ويتـألم جـداً وطـويلاً، ولكـن يـبقـى فرحنا غالباً. المسيح قام، والمسيح لن يموت بعد، وهكذا فرحنا لن يموت إلى الأبد”.
هنا دخلت الرواية التاريخ رسمياً، وابتدأ للتو العد التصاعدي للصليب . فليس اعتباطاً أن يقرن الملاك المولود بـ “الخلاص”. فيوم الرب هو يوم الخلاص بكل تأكيد. فإن كان قد ولد يسوع حسب تسمية الملاك ليوسف سابقاً؛ فهو، بآن واحد، مسيا الله القادم بالخلاص على كتفيه: «لأنه يخلص شعبه من خطاياهم.» (مت 21:1)
عيني على الطفل المقمط في المذود كيف ولد ليصلب؟ إذ حمل هذه الألقاب جميعها من فم الملاك: مخلص هو المسيح الرب”.
أما فرحة الرعاة بالحمل المولود، فلأنه سيعفيهم من رعي الغنم لحساب الهيكل ومن سهر الليالي في شتاء بيت لحم القارس، فقد قدم نفسه ـ عوضاً عن جميع خرافهم ـ مرة واحدة لخلاص العالم كله. فليقفل الهيكل أبوابه ويسرح رعاته مع قطعانهم!!
12:2 «وهذه لكم العلامة: تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود».
وكما أوحى ملاك البشارة للعذراء القديسة لزيارة أليصابات كونه أعطاها مثلاً لتتأكد منه على أنه ليس شيء غير ممكن لدى الله، فهو كما يعطي العاقر ولداً يعطي العذراء حملاً؛ هكذا ملاك الرعاة أعطاهم العلامة: طفلاً مقتطاً موضوعاً في مذود وعلى قيد خطوات من مركز سهرهم! فقاموا كما قامت العذراء وأسرعوا، وكان قصد الملاك على المستوى الأعلى أن يروا المسيا رؤية العين ويقين اللمس: «الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة!!» (1يو 1:1)، حتى إذا رأوا ولمسوا وتحققوا، يذيعون خبرتهم هذه التي بالعين واليد: «وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا (طفلاً في مذود» (1يو 2:1). وهكذا صار الرعاة أول الشهود وأول الرسل. ولكن كان الملاك بادئ كل ذي بدء عاطفاً أشد العطف على تلك العذراء الوالدة، فأراد أن يفرح قلبها بأعظم شهادة تجيئها في منتصف الليل من فم الرعاة، كما رأوا في السماء وسمعوا أن الذي في حجرها تسبحه الملائكة، وهو حقاً المسيا والمخلص.
«تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود»:
منظر لفقر الابن الذي بلغ أقصى قراره، معطياً صورة منظورة لسر الإخلاء من أمجاده غير المنظورة. فالذي هو في صورة الله في البهاء والمجد، أخلى ذاته ليظهر مستضعفاً هكذا في صورة عبد!
عجيب وليس عجباً، أن الذي خلقنا على صورته، يعود ويأخذ صورتنا لنفسه، لكي بنفسه يفدي الصورة التي خلقها!
عظيم السموات ارتأى أن يلف بالخرق، لأن الذي هو في حضن الآب اشتهى أن يحتضنه مذود!
مروع للذهن جداً انحدار الابن من سماواته العُلا إلى تراب الأرض وطين المذود. فأدركنا وارتعبنا أن هذا هو المعادل لانحدار الإنسان من البرارة أمام الله إلى حضيض العصيان وطين الخطية .
وما كان المذود إلا توطئة لتمزيق ذات الجسد على خشبة العار، ثم إسناده إلى ظلمة القبر ميتاً. ولكن محبة الآب التي أحدرته إلى عالمنا، لكي بميلاده لنا يلدنا له، وليمحو بعاره عارنا، ويلغي هي بموته موتنا، وببره يبررنا!!
14,13:2 «وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالنّاس المسرة.»
ثلاث تسبيحات على مستوى الثلاثة تقديسات، لأن سر اللاهوت انفتح على عالمنا.
هنا بحسب اللاهوت: إعلان (إبيفانيا) واستعلان إلهي (ثيوفانيا) معاً. أما الإعلان فبيد ملاك هو ملاك الرب الخاص حاملاً إعلاناً من الله للرعاة، وأما الاستعلان فهو استعلان الله نفسه الذي سبق وعبّر عنه القديس لوقا بأن «مجد الرب أضاء حولهم» بهذا نفهم الفرق بين الملاك وجمهور الجند؛ فالملاك مرسل من الله، أما جمهور الجند السمائي فهم خُدام العرش المحيطون بالرب يظهرون لحظة استعلان الرب أو ظهوره، وهنا استعلان في السماء وظهور على الأرض!!
لذلك يُلاحظ هنا أن التسبحة بدأت أولاً بـ “المجد الله”، وهو صراخ الذكصا كإعلان تسبيحي لحضور العظمة في ملء السموات الغلا فوق الصبي! أما “السلام على الأرض” فهو لنزول رب السلام لحظة لمس جسد المولود أرض الشقاء ليملأ أرضنا سلاماً لا ينزع منا إلى الأبد؛ وأمـا فـي النـاس المسرة”، فلأن مصدر السرور والفرح الإلهي أخذ لحماً من لحمنا وتجنس بجنسنا، ولن ينزعنا عنه إلى الأبد. فيا لسعدنا بالذي ولد لنا. وهل يعقل أن يولد لنا ولد وتعطى ابناً هو من السماء وليس من أرضنا، والله أبوه أرسله إلينا ليحملنا إليه؟
كان لابد للملائكة أن تترتم في السموات الغلا وتردد صداها الأرض إلى الأبد. فالقدير صنع بنا عظائم، وأحزان البشرية أشرق عليها سلام وفرح!
إن مـا يقـوم بـه أهـل الغرب، ليلة الكريسماس، بالفرح والتهليـل بـكـل آلات الموسيقى والغناء والرقص في كل شارع وميدان وزقاق وركن ويخرج الجميع عن رزانتهم، هو استجابة سنوية لتهليل السماء. ومنذ القديم وإشعياء يترتم أيضاً بلسان النبوة قبل الميلاد بسبعمائة عام:
+ «ولكن لا يكون ظلام للتي عليها ضيق. كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي، يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم.
الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور. أكثرت الأمة، عظمت لها الفرح. يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد، كالذين يبتهجون عندما يقتسمون غنيمة…
لأنه يولد لنا ولد، ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه: عجيباً، مشيراً، إلها قديراً، أبا أبدياً، رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتهـا ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا.» (إش 9: 1-7)
طوباك يا إشعياء، يا من رأى النور في حلك الظلام، والسلام والفرح والبر والملكوت في حجر المولود في مذود بيت لحم!! وهكذا فإن كانت الملائكة سبحت بأفضل ما عندها، فلم تعدم البشرية نبيا سبح بأعظم منها!!
15:2 «ولما مضت عنهم الملائكة إلى السماء، قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض: لنذهب الآن إلى بيت لحم وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب».
وكما أسرعت مريم لزيارة أليصابات لتحكي لها ما فعل الرب بها، أسرع الرعاة أيضاً إلى مريم يحكون لها ما أعلمهم به الرب وما رأوه وسمعوه. وكما تشددت مريم بأليصابات، تشددت مريم بالرعاة.
ويقول التقليد إن مغارة بيت لحم كانت مغارتهم فهدتهم إليها أرجلهم. كما يقول في موضع آخر أن الذي هداهم إلى مأواهم القديم مصباح كان يشتعل، وضعه أصحاب الخان على باب المغارة، فكان الرعاة أول إرسالية اختارتها السماء كمندوبين فوق العادة من ذات المهنة يمثلون العذارى الساهرات .
16:2 «فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المذود».
يا للمنظر العجيب والبهـي الـذي أغـرم بـه الشعراء والفنانون في كـل عـصـر وكـل مـِصـر. وكـم مئات بل آلاف الصور والتماثيل والكريشات التي ملأت البيوت والقصور والكنائس، وتباهى بها الملوك والرؤساء والأمراء. وكم يلذ للرسامين أن يجعلوا بجوار أذن الطفل المولود رأس بقرة أو حمار كأنه يسر إليه بفرحتهم ويحيي مقدمه إلى دارهم، وقد أصروا جميعاً أن يتنازلوا عن مذودهم الخصوصي لمزيد من راحته، ثم يقدمون له شكواهم إذ طال عليهم زمان شقائهم: «لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله، إذ أخضعت الخليقة للبطل ليس طوعاً (وهي بريئة) بـل مـن أجـل (آدم) الذي أخضعها على الرجاء (ملعونة الأرض بسببك). لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله . فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن…» (رو 19:8-22). وكأنه ليس مصادفة أن يختار المخلّص مكان ولادته بين الحيوانات وينام مرتاحاً في مذودهم، فهي الخليقة التي عانت أكثر ظلماً والتي تعهد باستجابة شكواها.
17:2و18 «فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي. وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة».
نعم لقد رأى الرعاة عياناً بياناً كل ما سمعوا من الملاك، فكانوا شهود إثبات أثلجوا صدر يوسف والعذراء، وباركوا الحمل ليوم الصليب!!
ويبدو أن الرعاة أثاروا حولهم الغرباء الذين اكتظت بهم المدينة، فجاءوا مسرعين معهم وسمعوا ونظروا وتعجبوا. ولكنهم كانوا ذوي عيون لا تبصر وآذان لا تسمع لأن: «سر الرب لخائفيه.» (مز 14:25)
19:2 «وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها».
وكما تحقق كلام الملاك للرعاة، تحقق كلام الرعاة لكل ما سمعته ورأته العذراء وهي تختزن كل هذه التداخلات الإلهية الفائقة في قلبها. ولكن دون أن يدري القديس لوقا خرجت منه هذه الآية لتفصح بلا أي شك أنه أخذها سماعاً . من فم العذراء !!
فكون القديس لوقا ينقل لنا ما قاله الملاك وما قاله الرعاة جيد، ولكن أن ينقل لنا ما بداخل قلب العذراء نفسها فهنا يكون قـد بـاح بسر إنجيله وروايته كلهـا عـن الميلاد!! وهنا لا نعدم عظيماً من عظماء الألمان المتحفظين المتتلمذين على الآباء وهو العالم ثيئودور زاهن T. Zahn (1838- 1933) ليقرر هذا التقرير الآبائي عينه أن القديس لوقا ينقـل مـن فـم العذراء مباشرة!!! وذلك في شرحه لإنجيل القديس لوقا (ليبزج 1913) ص 147. كذلك العالم إيستون B.S. Easton في شرحه لإنجيل القديس لوقا (1926) ص 25، وشورمان Schürmann في شرحه لإنجيـل القـديس لوقا (1969) ص 117، وكذلك العـالم ف. فارر في كتابه: “حياة المسيح” – ترجمة عربية – صفحة 29، حيث يقول:
[على أنه استقاها من شفتي العذراء نفسها، والحقيقة أنه يصعب أن نفطن إلى مورد آخر أخذها عنه، لأن الأمهات لهن المؤرخ الطبيعي لسني الطفولة.]
وهؤلاء وغيرهم اتفقوا أن هذه الآية تكشف عن المنبع الذي استقى منه القديس لوقا قصة الميلاد بأكملها، والحق ينطق بهذا!!
20:2 «ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على ما سمعوة ورأوه كما قيل لهم».
لقـد دخـل الرعاة شهود سماع ورؤيا وتحقيق لميلاد المسيح، فكانوا علامة تاريخية محققة في رواية القديس لوقا، وبذلك أدخلوا ضمناً قصة الميلاد إلى شهادة تاريخية وجغرافية وسماوية معاً لها وزنها.
( و ) تقديم المسيح في الهيكل (21:2-40)
يقص ق. لوقا كيف أن الطفل اختتن حسب عادة اليهود في اليوم الثامن باسم يسوع كما تسمَّى من الملاك قبل أن يحبل به في البطن، وتمت نبوة إشعياء النبي: «الرب من البطن دعاني، من أحشاء أمي ذكر اسمي» (إش 1:49). كما يتلقى يسوع الطفل النبوات الجديدة من فم سمعان الشيخ عند تقديمه إلى الهيكل: «ليقدموه للرب» لأنه البكر فاتح الرحم. كذلك رأته حنة النبية وتكلم كلاهما عن مستقبل أيامه في الآيات (25-35) ثم (36-38).
والآن أكمل رجاء إسرائيل واجباته الهيكلية، وسمع وهو رضيع مستقبل عمله لخلاص الشعوب والأمم وإسرائيل. وهكذا أخذ كل مواصفاته المسيانية واضحة مـن فـم سمعان الشيخ، وهو شيخ من شيوخ السنهدرين، وتقبل أيضاً نبؤة عن أحزان مقبلة عليه ورفض وسيف. ولكن ترك الطفل وحاله لكي يسعد بطفولته ويفرح بصباه على ربي الجليل، يستقبل الشمس في الفجر بدعاء لقنه له أبوه” ويستودعها في المساء مع دعاء لقنته له أمه، يبيت في حضن القدير ويقوم ويلعب مع الصبية. وملأ صياحه البيت والجبل والشارع، فتقدست ربوع فلسطين بطهارته، وهللت الطبيعة بمقدمه. ولكن تركت ذكريات سمعان وحنة وكلماتهما التي نطقاها بإلهام إلهي أثراً عميقاً في قلب أمه، وتفكرت كثيراً ودائماً ماذا سيكون هذا ولم تنس هـذه النبوات بـل أخـذت النبوات تتحقـق يومـاً فـيوماً وتشكل كل الحوادث والحركات، وتركت على قصة حياته سمات الهيبة والوقار. وحتى الآن، فكل الذين ينفعلون بهذه الحوادث ويستجيبون لأحاسيسها يصبح من السهولة عليهم بل من الفرحة أن يتقبلوا كل أعماله فيما بعد.
ولكن لا يفوتنـا مـا تم في ختانة الصبي وما تم في تقديمه للهيكل إيفاء لنذور البكر أمام الله، إنها الوصلة القوية التي ربطت بين العهد القديم والعهد الجديد. فالتدبير الإلهي يسير منشقاً، ومنها أخذ الصبي اندفاعه الإلهي كنذير الرب يمرق كالسهم وسط صعاب لا حد لها، حاملاً بركات الآباء ودعاء الأنبياء ورجـاء كـل الـدهور السالفة، كذخيرة حية تسير خلفه وتدفعه إلى الأمام. فها هو يا إبراهيم نسلك الموعود الذي عليه حلت كل بركاتك، وافرح يا يعقوب إسرائيل فهوذا الكوكب قد أشرق من أحضانك، وأنت يا موسى هوذا نبيك الذي استلم قيادة شعبك من يدك ويهوه يتكلم به ويحكم. وأنت يا ابن يشى هوذا من جذر أبيك خرج الغصن بميا بماء الشمس في إشراقها.
21:2 «ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سُمي يسوع، كما تسمى من الملاك قبل أن حُبل به في البطن».
وهكذا تمت نبؤة إشعياء منذ 700 سنة: «اسمعي لي أيتها الجزائر وأصغوا أيها الأمم من بعيد. الرب من البطن دعاني، من أحشاء أمي ذكر اسمي» (إش 1:49) = «فقال لها الملاك: … ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع» (لو 1: 30و31). هنا الحبك الإلهي وليس حبك ق. لوقا بعد، فبين إشعياء والملاك تسجيل محفوظ حفظته الأيام والسنين 700 سنة ليقول ما قال بمقتضى النبوة وبحسب صوت الله. والاسم يحمل المهمة العظمى التي أعطي أن يحملها: «لأن الذي حبل به فيها هو مـن الـروح القدس، فستلد ابنـاً وتدعو اسمـه يـسـوع لأنـه يـخلـص شـعبـه مـن خطايـاهـم »(مت 1: 20و 21). ولا يزال الاسم يشير إلى من أين أتى قبل أن يأتي إلى بطن أمه: «فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله.» (لو 35:1)
وهكذا تحققت أيضاً نبؤة موسى عن النبي الآتي الذي يحمل اسم الله: «أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي ـ الذي يتكلم به باسمي ـ أنا أطالبه» (تث 18: 18و19). وفي عدد (15) الذي يسبقه يقول : «يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي، له تسمعون» «ها أنا مُرسل ملاكاً أمام وجهك ليحفظك في الطريق وليجيء بك إلى المكان الذي أعددته، احترز منه واسمع لصوته ولا تتمرد عليه لأنه لا يصفح عن ذنوبكم لأن اسمي فيه» (خر 23: 20و21) = أنا هو.
22:2- 24 «ولما تمت أيام تطهيرها، حسب شريعة موسى، صعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب، كما هو مكتوب في ناموس الرب: أن كل ذكر فاتح رحم يُدعى قدوساً للرب. ولكي يُقدموا ذبيحة كما قيل في ناموس الرب، زوج يمام أو فرخي حمام».
أما تطهير الأم القديسة فهذا بناء على وصية سفر اللاويين (لا 6:12): تظل غير طاهرة بسبب الدم 7 أيام، وتبقى في البيت 33 يوماً، وحينئذ تقدم الذبيحة في اليوم الأربعين (وبالبلدي يقولون أن الأم ربعنت أي صارت طاهرة ومهيأة للخروج). والذبيحة تقدمها في المكان المخصص لذلك عند باب نيكانور في الجزء الشرقي من رواق النساء (لا 12: 1-8).
«ليقدموه»: παραστῆσαι
والتقديم هو على مستوى الفعل الذبائحي، فهو مقدم ذبيحة الله لأنه الابن البكر، فهو من خاصة الله ويدعى قدوساً لله، يأخذه لنفسه ليخدمه عوض تقديمه ذبيحة!! لاحظ هنا تقدمة إسحق ذبيحة حسب طلب الله والله فداه بخروف ـ وبسبب ذلك أعطاه الله الوعد بنسل تتبارك فيه كل الأمم. من ذلك اليوم أصبح تقديم البكر الله ليباركه الله ويقدسه لعل بكراً من كل أبكار إسرائيل يكون هو النسل الموعود لإبراهيم. وهذا قد تم هنا بالحرف الواحد، ومن بعد تقديم يسوع البكر إلى الله في الهيكل انقطع نهائياً ناموس تقديم البكر الله!! إذ تم الوعد بتحقيق من فم الملاك: «فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله.» (لو 35:1)
لذلك بنظرة عميقة معي أيها القارئ تدرك مدى الأهمية اللاهوتية التاريخية المقدسة بالنسبة لتقديم المسيح في الهيكل للرب حسب الناموس، الأمر الذي استهزأ به العلماء.
ويلاحظ القارئ أنه بعد أن يقدم البكر إلى الهيكل ويتراءى أمام الله، كان المفروض أن يحجز ليخدم الرب، ولكن الله أعفى الأبكار من خدمته واختار بني لاوي لخدمته كسبط بأكمله. وعوض الحجز للخدمة بالنسبة للبكر اقتصر الناموس أن يدفع لخزانة الهيكل خمسة شواقل، ويمكن دفعها للكاهن في أي مكان (خر 2:13). ولكن عن “يسوع” لم تدفع الفدية خمسة شواقل، فهو لم يفد ولكن تقدس لله .
وكان على القديسة مريم أن تقدم ذبيحة التطهير خروفاً يقدم محرقـة مـع فـرخ حمامة أو يمامة (لا 6:12)، ولكن لأن العذراء القديسة ويوسف يعتبران فقيرين اقتصرا على تقديم زوج يمام أو فرخي حمام (لا 8:12). والجميل في هذه التقدمة أن يكون الحمام أو اليمام زوجاً، فهو تعبير طقسي عن حمل النير، فهي تلغي نير الخطية عن كاهلها بزوج حمام أو يمام يقدم ذبيحة الله.
25:2 «وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه».
تبتدئ الآية (25) بلغة العهد القديم على نمط الفكر السامي حيث يقدم الرجل على الاسم. وصفة البر δίκαιος توضح صلته الوثيقة بالهيكل والعبادة والصلاة والرجاء المبارك، كذلك صفة التقوى εὐλαβής تفيد بحسب الفكر الديني القديم شدة الانتظام في تأدية الواجبات الدينية، وهي قريبة من كلمة …. ولكنها قليلة الاستعمال في العهد الجديد إذ لا تمت للتقوى المسيحية، فليس في المسيحية ناموس يكمل، والتقوى في المسيحية هي شدة الإيمان بالمسيح: «عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد.» (1تي 16:3)
ولكن الدليل على اتصال سمعان الشيخ روحياً بالله في العبادة، يؤكده القول بأن «الروح القدس كان عليه» الأمر الذي تحقق يقيناً عندما ساقه الروح القدس لدخول الهيكل لحظة دخول العذراء حاملة المسيح، وتعرفه على المسيح في الحال وجرأته الحلوة في أخذه الطفل يسوع على ذراعيه. ولكن يسترعينا جداً أنه كان ينتظر تعزية إسرائيل طبعاً في شخص المسيا الذي ترقبوه بدموع! كـم كـان يتأمل في إشعياء ويلتهب قلبه عند قراءة: «عزوا عزوا شعبي يقول إلهكم. طيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل، أن إثمها قد غفي عنه، أنها قد قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها. صـوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب …» (إش 40: 1-3). نعم من أجل سمعان وحنة وكل من كان باراً تقياً ينتظر عزاء إسرائيل كتب إشعياء هذا مساقاً بالروح!!
+ «ترنمي أيتها السموات وابتهجي أيتها الأرض، لتُشد الجبال بالترنم لأن الرب قد عزَّى شعبه وعلى بائسيه يترحم.» (إش 13:49)
كان كل عزاء سمعان أن يرى بعينيه الرب ويموت، طلبها من الرب طلبة فوعده الرب وعداً أن لا يموت قبل أن يرى مسيح الرب! وكان. أما الروح القدس الذي كان عليه فهو روح النبوة الكاشف الآتيات والحاضرات .
26:2 «وكان قد أُوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب».
هكذا تكون التقوى وهكذا يكون الإنسان البار، له شهادة من الروح القدس، ووعد!
وفي التقليد القديم كان يعطي الله وعوده ليراها الموعود قبل أن يرى الموت، تحقيقاً لإيمانه وتشديداً لقومـه!! لذلك كـان سمعان بالنسبة للإنجيل والعهـد الجديد قمة في تحقيق وعـود الله لتثبيت الحق والإيمان بالحق. ويمثل هذا البار الجزء الحي من إسرائيل الذي سهر ساعات ليله الطويل حتى أشرق عليه فجر الله! هذا هو المحسوب حقا ابناً لإبراهيم وحاملاً إيمان إسرائيل، حمل على كتفه كل سنيه الطوال هـم إسرائيل وأنين المظلومين، وأخيراً وضعه على الذي جاء ليحمله حينما حمله على ذراعيه، فذرفت دموع التعزية من عينيه وذهب يعد نفسه للموت .
27:2- 30 «فأتي بالروح إلى الهيكل. وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه، ليصنعا له حسب عادة الناموس، أخذه على ذراعيه وبارك الله وقال: الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك».
لما بلغ سمعان لحظة الإحساس بالروح أن الآتي أتى، كف عن الدموع والتنهد وسحب عصاته وذهب يتوكأ عليها حتى بلغ أعتاب الهيكل. والقول أنه «أتى بالروح » καὶ ἦλθεν ἐν τῷ πνεύματι تفيد حالة دخول في اختطاف حيث يساق الإنسان بالروح، أو يقتاد حيث لا يعلم. وكان هذا من المحتم حتى يعثر على الطفل وسط مئات الأطفال. فقد ساقه المجال الروحي حتى أدخله إلى الرب يسوع، فكان أول إنسان يتعرف على المسيح دون أن يرشده أحد، وكان أول إنسان يرى الخلاص رؤية العين! وأول إنسان يمتد بالخلاص نوراً إلى كل العالم!
«أخذه على ذراعيه»:
وتفيد الذراع المثني ليحمل الإنسان عليه شيئاً بالذراعين معاً!
«وبارك الله»:
وتفيد كلام بركة وتسبيح ومديح: إن سمعان الشيخ هو بحد ذاته أنشودة الميلاد!!
وبعدها نطق سمعان بقوله موزوناً وزناً شعرياً عالياً من أدق الأشعار التي جاءت في قصة الميلاد حسب خبراء الشعر. وقد جاءت تسبحته مكملة لنشيد زكريا وأليصابات والعذراء. وقد اتخذتها الكنيسة في تقليدها وصلواتها وطقوسها في التعبد الشخصي حتى اليوم.
وبقوله: «الآن » يعطي إشارة أن الآن بدأ الخلاص فلتسترح روحي في يد باريها. وهكذا أعدّ نفسه للموت وطلبـه كـانطلاق قلب مضيء محمولاً على النور ينساب في سلام إلى موطنه السماوي بإيمان المسيح والخلاص كـأقوى إيمان. لم يكن لدى سمعان أي دليل على أنه المسيح، ولا على أن الخلاص في يديه، لم يسمع المسيح فهو في المهد، ولا حتى سأل أمه عن شيء مما له، مما يؤكد أن الروح أراه كـل شـيء دون أي علامـة ظـاهرة. وكأنـه لمـا حمـل الطف وع علـى ذراعيـه حمـل الصليب والفداء والخلاص وكل سر المسيح وحياته. وسبق وذاق الحياة الأبدية حتى قبل أن تظهر وتراها وتلمسها العين واليد عند القديس يوحنا. وكأن الإنجيل كله دخل في الرؤيا والإلهام عند سمعان، والروح عرفه كل شيء!
«لأن عيني قد أبصرتا خلاصك»:
وهكذا انكشف سر سلامه الذي انطلق به. فرؤية الخلاص معناها أنه أمسك به، فأفرغت كـل حياته الماضية من كل ما يعطل انطلاقه: «أمسك بالحياة الأبدية التي إليها دعيت.» (1تي 12:6)
31:2و32 «الذي أعددتـه قـدام وجه جميع الشعوب . نور إعلان للأمم، ومجـداً لشعبك إسرائيل».
حينما تواجه سمعان بالروح مع المسيح أي الخلاص وجها لوجه، اعتبر أن هذا هو جوهر الخلاص: رؤيا علنية شخصية حيث البروسوبون هو الوجه وهو الحضرة وهو المواجهة. فقد أدرك سمعان أن خبرته ستكون خبرة كل شعوب الأرض، حيث أعاد التأكيد بقوله: «نور إعلان للأمم» فالخلاص سيكون على مستوى النور يراه كل بشر، لا برؤيا العين ولكن بالاستعلان كما رأه هو. لأنه كيف يكون الطفل الرضيع هو هو الخلاص؟ أليس هذا هو أعلى درجة للاستعلان بالنسبة للمسيح والخلاص الذي أكمل؟
لأن كلمة “إعلان” جاءت باليونانية هكذا: ἀποκάλυψιν التي تعني رؤيا بالروح بغير المنظور ولا معقول! وهذا يتم أمام أعيننا كل يوم، فالمسيح يستعلن الآن لكل الأمم بالروح وينالون منه الخلاص بالإيمان الفائق للعيان، بالروح القدس الذي يلهب قلوبهم وأرواحهم. إن سر سمعان الشيخ هو أن الروح القدس كان عليه وتقبل الوحي منه أنه سيرى (بالروح) الخلاص!! فاقتيد بالروح ورأى وآمن وسبح! وهكذا يرى سمعان أن خبرته بعينها سوف تتلقفهـا كـل الأمـم كـنـور يهدي قلوبهم إلى رؤية الخلاص بالاستعلان!
ويضم إشعياء نور الأمم ومجد إسرائيل معاً هكذا: «والآن قال الرب جابلي من البطن عبداً له لإرجاع يعقوب إليه فينضم إليه إسرائيل فأتمجّد في عيني الرب وإلهي يصير قوتي … قد جعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض» (إش 49: 5و6)، «أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم.» (إش 6:42)
35-33:2 «وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه. وباركهما سمعان، وقال لمريم أمه: ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم. وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف، لتعلن أفكار من قلوب كثيرة».
يعثر العلماء من تعجب يوسف وأمه مما قيل، ظنا منهم أنهما كانا ينبغي أن يكونا أكثر رؤية ومعرفة واستعلان من سمعان. ولكـن فـات عليهم أنهما ولأول مرة سمعا أن المسيح هذا سيكون نوراً للأمم وخلاصاً لجميع الشعوب. هذه النغمة لم تطلق في إسرائيل حتى وإن كانت في الأنبياء، فاليهودي معاد بطبيعته لكل ما هو أممي. كذلك كان تعجبهما شديداً إذ من أين عرف هذا الشيخ بسر الصبي وعلو شأنه على كل شعوب الأرض. الآن نحن نعرف أن الروح القدس كان عليه ولكن لا يوسف ولا مريم القديسة كانا يعرفان هذا.
والمفرح حقاً أنه بدل أن يطلب البركة من أمه العذراء القديسة، نجده يباركها، كل هذا بسبب الروح القدس الذي جعل له انتماء شديداً للمسيح الطفل وأمه ويوسف أيضاً. وكونه يباركهما فلأنه كان مملوءاً بركة، والروح يفيض من شفتيه بكل الحب والعزاء والتمجيد والبركة. وقد خص العذراء القديسة بتنبؤاته الحزينة عن رسالة الصليب التي ستسقط كثيرين في العثرة وتقيم الكثيرين بالمجد: «كما هو مكتوب ها أنا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة وكل من يؤمن به لا يخزى» (رو 33:9). أما هي فسوف يجوز الحزن في قلبها كالسيف، وهي واقفة أمام الصليب تودع ابنها الوحيد الذي تقبلت فيه كل المجد من السماء والملائكة والرؤى. أما يوسف فلأنه مات قبل الصليب فلم يصبه عزاء الحزن .
36:2و37 «وكانت نبية، حنَّة بنت فنوئيل من سبط أشير، وهي متقدمة في أيام كثيرة، قد عاشت مع زوج سبع سنين بعد بكوريتها. وهي أرملة نحو أربع وثمانين سنة، لا تفارق الهيكل، عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهاراً».
«حنة» هي بالعبرية: hannah ، وفنوئيل معناها: وجه الله penuel (1أي 4:4، 25:8). وسبط “أشير ” هو بالعبرية: مer ومعناها: الحظ السعيد”. وهو واحد من الأسباط العشرة المستوطنة للجزء الشمالي. وكان لهذه النبيـة رؤية إلهية لمعرفة الأشياء الخفيـة عـن الناس العاديين، وبهذه الرؤية استطاعت أن تتعرف على الطفل يسوع داخل الهيكل الذي كانت تستوطنه أربعاً وثمانين سنة تصلي صائمة. ولما تعرفت عليه أخذت تعلن لجميع الذين يترجون الخلاص مثلها. ولكن أهم ما يثير انتباهنا إلى هذا الشاهد المبارك كونها متقدمة جداً في سنها 7+84=91 سنة +14 سنة قبل الزواج = 105 سنة (انظـر يهوديـت 23:16)، وتملـك رؤيـة روحيـة عاليـة. كـذلك فـإن قـدرتها علـى الـصـوم المتواتر والصلاة الدائمة هي نموذج يخزي الكثير من المسيحيين، وقدرتها على سهر الليل أمر يفوق العقول لأن إمكانية الدفء والحاجة إلى النور غير متوفرة داخل الهيكل. أما انعزالها عن العالم فهو حقا مثير للعقل، وربما كان هذا كله سبباً في حيازتها على نعمة الله التي فتحت لها المجال للتعرف على المسيح.
38:2 «فهي في تلك الساعة وقفت تسبح الرب، وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أُورشليم».
واضح أن حياتها المديدة في الصلاة والصوم والعبادة كونها نبية جعلتها ذات حساسية مرهفة للزمن وحركات السماء. فلما دخلت العذراء حاملة المسيح أحشت بروحها هذا المجال الشديد الذي تفاعل مع إحساسها، فقامت بسرعة يقودها الروح حتى وقفت أمام الطفل يسوع تمجد وتسبح الله. وتحكي عمن هو هذا المحمول على الذراع وعن الفداء المزمع أن يكون على يديه:
+ «أشيدي ترتمي معاً يا برية oerhma أورشليم لأن الرب قد عزى شعبه فدى أورشليم. »(إش 9:52 حسب الترجمة السبعينية)
«فداء في أورشليم» :
وتعني الخلاص والتحرير على يد المسيح وبالتالي يكون هو المسيا عزاء إسرائيل.
وهكذا لم تعدم أورشليم من امرأة ملهمة نبية تستقبل الخلاص في المهد بعين واعية للرسالة الأزلية.
39:2و40 «ولما أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب، رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة. وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح، ممتلئاً حكمة، وكانت نعمة الله عليه».
هنا عودة العائلة المقدسة إلى الجليل، فالناصرة تهيئ للطفل نمواً هادئاً، بعيداً عن المدينة، حيث دراسة التوراة على يد معلم وحضور المجمع متواتراً وسماع الكلمات والنبوات التي أيقظت فيه وعي النبوة، ثم إلهام الرسالة، وتكميل كل ما سبق وكتب عنه في الأنبياء والكتب. وكان هذا حتمياً ليبدأ الرسالة على وعي من ذاته ومن صلاته بالتوراة والإنسانية التي صار واحداً منها وحاملاً لكل أتعابها وضعفاتها لتبدأ غيرة الرب تصنع فيه مشيئة الآب. وفيما كانت حياته قبل الثانية عشر، كان الصبي يسوع ينمو ويتقـوى بالروح بحسب العلامات التي بدت عليه ورصدتها أمه واستودعتها قلبها، إلى أن حان ميعادها واستلمها ق. لوقا ليذيعها على العالم، لتدخل ضمن رسالة الخلاص في الصميم. فانفتاح الذهن والعمق الروحي على معرفة الله وتقبل روح الحكمة لترافق النمو في القامات الجسدية أمر هام للغاية. لأن بدء عمل اللاهـوت انتظر حتى بلغ المسـيح الثلاثين من عمره، أي حـين أكمـل كل القامات البشرية بكل حكمة ورزانة، لا لمنفعته الخاصة وحسب، ولكن لكي يسلمنا هذه القامات جميعاً مقدسة وبحالة روحية كاملة ونعمة.
( ز ) زيارة المسيح للهيكل لحضور الفصح (2: 41-52)
هنا يودع المسيح مرحلة الطفولة وذكريات الطفولة حينما بلغ الاثني عشر، وهو السن الذي يبلغ فيه الصبي اليهودي تعلم التوراة ويكرس ابناً للتوراة، ليتهيأ للدخول في سن الشباب والرجولة وهـو كـامـل المعرفة بتراث أجداده الروحي وعلاقته بالله. ولكـن هنـا الصبي يسوع ابتدأ يظهر فيه امتياز الحكمة والنعمة في معرفة التوراة مبكراً، وظهر هذا بوضوح لعلماء اليهود في الهيكل لما بدأوا يسألونه ويتقبلون جوابه. كما ظهر فيه حنينه إلى الهيكل بيت الله الذي أدرك بانفتاح وعيه أنه بيت أبيه”. كما بدأت علاقته بالله ينكشف فيها إحساسه أن الله أبوه. وهكذا أظهرت قصة زيارته للهيكل وهو في سن الثانية عشرة نضوج إحساسه بأبوة الله له، وإحساسه بنفسه أنه ابن ا الله، وابتدأ يفرق بشدة بين علاقته «بأبويه »وعلاقته بأبيه السماوي، إذ ابتدأ ينسلخ من الأولى لينضم للثانية «ينبغي أن أكون في ما لأبي.» (لو49:2)
وبالاختصار، فإن قصة يسوع وهو في الهيكل كشفت قدرته الفائقة في التعلم والمعرفة والسلوك التي بدأت تخط خطوطها لتصنع منه معلم المستقبل. ولكن القصة بكل ملابساتها لا توضح نوعاً من التفوق البشري على مستوى الألوهة، لأن كل الانفعالات البشرية واضحة أنها تعمل لاستكمال القامة البشرية فيه وليس للخروج عنها لإعلان ما هو إلهي فيه. وواضح بلا شك أن عوامل الألوهة كانت كامنة فيه ومكبوتة تحت تدبير الله وعمله، عكس كل كتابات الأبوكريفا التي تنسب إليه عمل المعجزات وهـو صبي.
41:2- 43 «وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح. ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد. وبعدما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم، ويوسف وأمه لم يعلما».
كان الفصح أكبر أعياد اليهود الثلاثة التي كان ينبغي لليهود أن يحضروا إلى أورشليم لتكميل طقوسها. أما العيدان الآخران فهما عيد الخمسين وعيد المظال. ولكن كان التشديد على لزوم حضور اليهودي للفصح في أورشليم لأنه عيد تذكاري لحركة الأمة كلها، وهو تذكار خروج شعب إسرائيل من مصر بآيات ومعجزات كثيرة وبقوة ذراع الرب، حيث كان ذبح خروف الفصح بدء حركة الأمة السرية وكانت العلامة الدم على الأبواب.
ولو أن المسيح كان ابن اثنتي عشرة سنة، والتكريس الرسمي للفتى اليهودي يتم في سن 13 سنة، إلا أن التبكير في التعلم مطلوب، وكان سن الاثنى عشر سنًا يبشر بمدى صلاحية الفتي للانخراط في عضوية الأمة.
وعلى أي حال لم تكن هذه هي الزيارة الأولى ولا الأخيرة، ولكنها حدث في حياة المسيح! استطاع ق . لوقا أن يلتقطه من أمه ليلقي به الضوء على كيفية نمو المسيح في الروح بالنسبة لرسالته القادمة.
وكـان حضـور عيد الفصح يستمر سبعة أيام لتكميـل عيـد الفطـير (خر 15:12؛ لا 8:23؛ تث 3:16)، وكان محتماً على الحجاج أن يبقوا في أورشليم يومين على الأقل. ولما أمضى يوسف ومريم المدة الكافية عادا مع الرفقة، وهي مجموعات كبيرة من المعارف لكل بلد، ولم ينتبها أن المسيح تخلف عنهما.
46-44:2 «وإذ ظناه بين الرفقة، ذهبا مسيرة يوم، وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف. ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه. وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل، جالساً في وسط المعلمين، يسمعهم ويسألهم».
كانت المسيرة للعودة من أورشليم في مجموعات ضخمة، كل بلد لها حجيجها وكل مجموعة تمثل كرافان” (أي قافلة). والعادة أن الأولاد يجتمعون معاً في ذات المسيرة. وهكذا بعد أن قطعا من الرحلة يوماً كاملاً أي ما يقدر بعشرين ميلاً، والرحلة كلها تقدر بين 60 – 70 ميلاً، عادا مسرعين إلى أورشليم مرة أخرى. والثلاثة أيام التي استغرقها البحث عن “يسوع” هي يوم للذهاب ويوم للعودة إلى أورشليم ويوم بحثاً عنه. ووجداه وسط المعلمين الذين اعتادوا في أيام الفصح أن يتواجدوا جميعاً في الهيكل لتعليم شعب الشتات الآتي من جميع أنحاء العالم. وكانوا يعملون حلقات حلقات للتعليم والسؤال والجواب، التي هي الطريقة التقليدية في كاتشزم اليهود الذي تناقلته الكنيسة عنهم. وبسهولة وجدوا المسيح جالساً وسط المعلمين يسمع ويسأل.
50-47:2 «وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته. فلما أبصراه اندهشا. وقالت له أمه: يا بني، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين! فقال لهما : لماذا كنتما تطلبانبي؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي؟ فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما».
هنا المسيح يجوز قامة التلمذة فيسلمها لنا ناشطة ذكية قادرة أن تسمع جيداً قبل أن ترد، وقادرة أن تسأل الأسئلة المحيرة للعلماء، فيكشف درايته بالقراءة المتأنية للناموس والأنبياء التي يستخرج منها ما لم يخطر على بال العلماء من لمسات الله الخفية ومقاصده العالية. وهكذا يعطينا الفتى يسوع صورة لما سيكون عليه تعليمه، ويتحقق لنا مسبقاً قدرته على إفحام الكتبة والفريسيين عن مقدرة ودراية.
فقراءته الأولى للأسفار كانت له بشبه مرآة رأى صورته فيها واضحة فتعرف على مضمونها على المستوى التحقيقي المقتدر، فكان يقرأ فيها ويدرس كمن سبق وكتبها بيده. ولكن لطول الزمان بمتت معالمها فأعاد رونقها لنفسه وأعدها لإلقاء دروسه المستقبلية. فكان حينما يعرض بعض صورها التي أعاد جدتها على المعلمين كانوا يندهشون، إذ يجدون في شرحه لفكرته عنها خلوها من الغوامض العويصة وإبرازها بصورة محببة للنفس تخلو من حشو الكتبة وفلسفة الفريسيين العقيمة. وكانوا حينما يسألونه، يحاورهم بسؤال في المقابل فيفهمون أنه غير موافق على سؤالهم، فيتعجبون ولا يعرفون كيف يردون عليه؛ وهكذا.
وفجأة ضبطته أمه منهمكا في محاوراته التي سرقت أياماً من حياته بعيداً عن أمه، فلما سألته كيف يصنع بهما هذا الأمر الذي أربكهما تعجب هو الآخر، وهل يوجد له عمل آخر غير أن يوجد في الهيكل والتوراة اللذين من أجلهما ولدته وهي لا تدري؟ ولما ذكرت كلمة “أبوك تعجب! وهل يوجد له أب غير أبيه السماوي، وهذا نفي علاقته بأبيه بحسب ظن الناس ومداراة العذراء، لأنه بدأ بالروح يحن إلى أبيه السماوي الحقيقي حتى أدرك علاقته السرية به، فخرج فجأة . على ادعاء أمه أن يوسف ذو قرابة به وهو لا يمت له بصلة.
51:2 «ثم نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما. وكانت أمه تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها».
واضح جداً من أنهما لم يفهما الكلام أنه لم يكن كلاماً عادياً، وأن قوله «ينبغي أن أكون فيما لأبي» لم يكن مثل كلام أي يهودي عن علاقته بإله إسرائيل. ولكن لماذا يقول هذا؟ هذا هو الذي فات عليهما، فهو يراجـع قـولهـا لـه أن أبويـه كـانـا يطلبانه معذبين، وهو أولاً ليس له أب إلا الـذي أحس بالروح أنه أبوه السماوي، وثانياً لماذا يطلبانه معذبين؟ كانا ينبغي أن يعرفا أنه بقي في الهيكل ليستمع إلى موسم التعليم السنوي في الفصح، ويبدو أنه سبق أن أشار إلى ذلك لهما. وعلى كل فقد نزل معهما ليكمل قامة الطاعة لهما لأنها وصية أبيه التي سوف يعلم بها. وحتى هنا ففي نزوله للطاعة إشارة إلى نوع من التضحية، إذ كان ينبغي أن يكون طائعاً بالأولى فيما لأبيه.
أما أمه العذراء فكانت تجلس مع نفسها وتعيد في فكرها ما كان يقوله ويعمله وتحفظه جيداً في سرها إلى أن يحين الميعاد لكي يعلم العالم سر المسيح!!
52:2 «وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة، عند الله والنّاس».
وهنا تبدأ نهاية قصة الميلاد بدخول المسيح في قامة الرجولة التي تستغرق من الآن 18 سنة في تقدم دائم على مستوى ما رأيناه وسمعناه في الهيكل: معرفة بالأسفار تضيئها حكمة سماوية ونعمة خاصة من الآب السماوي تقود وترتفع به إلى المستوى اللائق بالمعلم الذي يأخذ من الآب ويعطي للناس بلا مانع، إذ تكون قد استُعلنت الصلة والوحدة بين الابن والآب في الله الواحد!
الميلاد البتولي من العذراء القديسة مريم عند الآباء الأوائل
لقد استلمت الكنيسة المبكرة جداً هذه الحقيقة كسر من أسرار العذراء أولاً ثم الكنيسة، وظل ينتقل بالتسليم الشفاهي منذ أن ولد المسيح حتى استودعته عناية الله في الإنجيل المقدس للقديس متى والقديس لوقا، وبعدها تناقلته أقلام النسّاخ. أما خارج إنجيل ق. متى وق. لوقا فقد سجلته وثيقـة قانون إيمان الرسل وموطنها الأصلي كان في الغرب في جنوب فرنسا، وكانت ولا زالت معروفة “بوثيقة الغال”، والتي جاء فيها نص الميلاد البتولي هكذا مولوداً من الروح القدس ومريم العذراء”، ومنها أخذ قانون الإيمان الروماني المكتوب أصلاً باليونانية مبكراً جداً سنة 200م. وصار متداولاً في الكنيســـة الرومانيــة. ولكـن بـــالرجوع إلى ترتليانوس في أفريقيـا وإيرينيئوس (في أســيا الصغرى ثم الغال Gaul) أرجعوا تاريخ هذا القانون الإيماني إلى منتصف القرن الثاني 150م. وفي تلك الأيام كان هذا القانون مستخدماً بالفعل في الكنيسة الرومانية، والإيمان به كان مقرراً رسمياً في قانون التعميد، وكان قد سرى ليس في كنيسة روما فقط بل في كل أنحاء العالم القديم، بحيث صار الإيمان بالمسيح يقوم أساساً على الميلاد من العذراء والصلب والموت والقيامة ثم الصعود والجلوس عن يمين الله والدينونة الآتية. وهذا كان المختصر المركز للإيمان المسيحي. وهكذا انغرس في وجدان الإنسان المسيحي الإيمان بالميلاد من العذراء والروح القدس بنفس قوة الإيمان بالصليب والقيامة.
وقد شهد لهذا الإيمان بالميلاد البتولي كـل مـن يوستين الشهيد (100-150م) والقديس إغناطيوس (35-107م) أسقف أنطاكية الشهير الملقب بحامل الإله (ثيئوفـوروس). وواضح أنهما اعتمدا تماماً على القانون القديم. وهذا يفرض علينا أن يكون هذا القانون حتماً منذ سنة 100م(14). وقد كتب يوستين الشهيد حوالي سنة 150م يقول: إن الإيمان بالميلاد البتولي له أهمية أساسية في الإيمان بالمسيح، وقد دافع طول حياته عنه ضد اليهود والوثنيين.
ويحقق العالم زاهن أن استخدام قانون الميلاد البتولي له إشارة منذ سنة (70-120م).
ويقول الفيلسوف اليوناني أرستيدس Aristides في دفاعه (الذي اكتشفه العالم رنـدل هاريس) وتاريخه حوالي سنة 140م: إن الإيمان بالميلاد البتولي هو واحد من أسس الإيمان المسيحي.
أما إغناطيوس أسقف أنطاكية الذي استشهد سنة 107م فيذكر الميلاد البتولي في عدة صفحات، وملخص الاعتراف الذي يقوله: “لأن إلهنا يسوع المسيح قد حبل به في أحشاء مريم (القديسة) بحسب التدبير من نسل داود ولكن أيضاً من الروح القدس. وولد واعتمد حتى بآلامه يطهر الماء. وكان قد أخفي عن رئيس هذا العالم عذراوية مريم (القديسة) وحملها للطفل وأيضاً موته. هذه الثلاثة أسرار ينبغي أن ينطق بها عالياً، الأمور التي جرت بعمل الله السري. “
لذلك يعلق العالم المؤرخ هارناك أن القديس إغناطيوس بحد ذاته أنشأ تعليماً كنسياً عن المسيح له مواصفات تاريخيـة محددة، التي تحوي ضمنها حقيقـة الميلاد مـن العـذراء (القديسة). وكـان دفاعه في غاية الأهمية عن بتولية الميلاد ضد جماعة الدوسيتيين الذين كانوا قد علموا بعدم أهمية الميلاد من العذراء، ويكفي أن يقال أنه كان مولوداً من امرأة. وبواسطة القديس إغناطيوس تثبت الميلاد من العذراء بقوة قبل سنة 100م في الكنيسة وفي أفواه المؤمنين.
دفاع عن أهمية الميلاد البتولي في لاهوت الخلاص
حينما يكثر الحديث والنقد لموضوع الميلاد البتولي من أناس عاديين يهون أمره، ولكن أن يبلغ هذا النقاش والنقد إلى مستوى العلماء اللاهوتيين الكبار نعجب أشد العجب! لأن لاهوت الخلاص يقوم أساساً على سر الموت على الصليب وسر القيامة المجيدة. وهنا يأتي مدخلنا على كل من يمس الميلاد البتولي بكلمة أو برأي أو بتشكيك، لأن الله دبر الخلاص مع ابنه يسوع المسيح على أساس أن يقبل الصليب: «فلتكن مشيئتك» (مت 43:26)، وأن يقبل كأس الموت من يد الآب، حاملاً خطايا العالم كله: «الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟» (يو 11:18). ولكن ما معنى ذلك في لاهوت الخلاص؟
لاهوت الخلاص أصلاً يقوم على الفدية، فالخلاص يلزم أن يكون على أساس ذبيحة الفدية، والذبيحة أصلاً لا ينبغي أن يكون فيها أي عيب قانوني وإلا ترفض. من أ أجل هذا دبر الآب ذبيحته للفدية بحيث لا يكون فيها أي عيب أو لوم قانونياً، بمعنى أن لا يكون فيها أي خطية أو آثار العصيان الذي أخذ عليه الإنسان حكم الموت واللعنة، لماذا؟
لكي يستطيع أن يقدم نفسه ذبيحة تحمل خطايا البشرية وحكم اللعنة ويتقبل في جسده الموت وهو حامل خطايا البشر، ويموت موت اللعنة على خشبة العار واللعنة. فلو كان فيه أي خطية يصبح موته ليس فداء لأحد ولكن استحقاقاً عليه بحكم أنه ممسوك بخطية. فإذا مات وكان عليه خطية تستحيل عليه القيامة لأنه مديون للموت ويمسك فيه.
من هنا جاء حتمية أخذه جسداً بشرياً خالياً من أثر الخطية وميراثها، مقطوع الصلة بآدم وليس عن طريق زواج، لأن الزواج كان نتيجة الخطية الأولى بحكم الموت. فالزواج وسيلة لحفظ الحياة البشرية بالرغم من حكم الموت. فالزواج يحمل معيار الخطية ويشهد على حكم الموت الذي أوجده. وهكذا تعيّن في المقاصد الأزلية ميلاد الابن من عذراء قديسة بلا رجل، ويحل محل الرجل الروح القدس نفسه وهو روح الله، ليصير العنصر الإلهي متحداً بالجسد اتحاداً أبدياً بحكم أنه ابن الله الحامل لطبيعة الله الأزلية الأبدية. بهذا أخـذ المسيح من الروح القدس ومن العذراء القديسـة مريم جسداً بشرياً قدوساً بلا عيب، ليس فيه خطية واحدة باعتراف المسيح (يو 46:8)، ولم يوجد في فمه غش. لهذا ولمدة ثلاث سنوات ونصف علم المسيح عن الخلاص والملكوت الذي جاء ليحققه للإنسان عن طريق موته لثلاثة أيام في القبر بعد صلب ومعاناة وآلام، ثم قيامته في اليوم الثالث، وكررها كثيراً حتى رسخت في ذهن التلاميذ وتسجلت في الأناجيل بعد ذلك. ثم تمم هذا الموت محتملاً الآلام على خشبة الصليب كخاطئ بحكم محكمة السنهدرين ومحكمة الرومان، وعريضة الاتهام فيهـا كـل أنـواع الخطايا التي لم يدافع المسيح عن نفسه تجاهها بل وافق بصمته، وهكذا قيل وعن حق إنه «حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة» (1بط 24:2)، «قائلاً: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك (أن يحمل كأس خطايا البشرية ويموت بها على الصليب)» (لو 42:22)، و «الرب وضع عليه إثم جميعنا» (إش 6:53). ومات المسيح بالجسد بمعنى أنه مات وهو حامل البشرية وعليها كل خطاياها، وهكذا تمم لها حكم الموت واللعنة فتبرأت نهائياً من حكم الموت ولعنته، وقام بها من بين الأموات في اليوم الثالث : بشرية جديدة مبرأة من كل الخطايا وممنوحة بر المسيح، وارتفع بها صاعداً إلى أعلى السموات وأجلسها . ا معه عن يمين الآب وأكمل لها المصالحة مع الله، ومنحها بنوته الوحيدة فصارت البشرية في المسيح حائزة على البنوة الله الآب ومحبة الآب للابن: « الآب نفسه يحبكم.» (يو 27:16).
هذا هو الخلاص الذي تم وهذا هو الميلاد البتولي مشروحاً على أساس الخلاص الذي تم. فمن يستطيع أن يقول إن الميلاد البتولي ليس معقولاً ولا هو ضرورة؟
- معروف أن أول عيد ميلاد (كريسماس) احتفل به العالم كان سنة 354م في روما وسنة 379م في القسطنطينية. أما في مصر فكانت وظلت الكنيسة القبطية تعيد أعياد الميلاد والغطاس وعرس قانا الجليل معاً تحت اسم أعياد الظهور الإلهي إلى وقت قريب، أما اختلاف تاريخ الميلاد عندنا إلى 7 يناير بدلاً من 25 ديسمبر عند الغرب، فهو نتيجة تعديل التاريخ الذي يسمى بالغريغوري بفارق 13 يوماً.