تفسير انجيل لوقا أصحاح 2 للقديس كيرلس الكبير
الأصحاح الثاني: 1-7
عظة (1) ولادة المسيح في بيت لحم
ولد المسيح في بيت لحم في الوقت الذي أمر فيه أوغسطس قيصر أن يـتم الاكتتاب (الإحصاء) الأول. ولكن ربما يسأل واحد، ما هي الضرورة التـي جعلت البشير الحكيم جدا أن يذكر هذا الأمر بنوع خاص؟ أجيب: نعم، إنه كان أمرا نافعا كما أنه أمر ضروري أن يحدد الفترة التي ولد فيها المخلص. لأنه قد قيل بصوت رئيس الآباء: “لا يزول رأس من يهوذا، ولا مشترع مـن بـين رجليه حتى يأتي الذي جعل له. وهو انتظار الشعوب” (تك 49: 10 سبعينية).
وذكر هذا الأمر أيضا لكي نعرف أن الإسرائيليين لم يكن لهم في ذلك الوقت ملك من عشيرة داود، وأن حكامهم الذين من أمتهم قد سقطوا. فهـو لـسبب مناسب يذكر أوامر قيصر. فإن اليهود وبقية الأمم كانوا تحت سلطان حكمـه. فهو إذ كان حاكما لهم أمر أن يجرى هذا الإحصاء.
(لو 4:2) ” لكونه من بيت داود وعشيرته “
إن الأناجيل المقدسة بإرجاعها نسب المسيح إلى يوسف، الذي من بيت داود، قد أثبتت من خلال يوسف أن العذراء أيضا كانت من نفس عشيرة داود. ذلـك أن الناموس الإلهي قد أمر أن التزاوج ينبغي أن يكون محصوراً بين أشخاص من نفس العشيرة. ومفسر التعاليم السماوية، الرسول العظيم بولس يعلن الحـق بوضوح، فهو يشهد أن الرب خرج من سبط يهوذا (عب14:7).
إن الطبائع التي اجتمعت إلى هذا الاتحاد الحقيقى هي مع ذلك مختلفة عـن بعضها، ولكن من الاثنين معا (أي من الطبيعتين) هو واحد، أي الله الابن دون أن يضيع تمايز الطبيعتين بسبب الاتحاد. لأنه قد صار اتحاد من الطبيعتـين، ولذلك فنحن نعترف بمسيح واحد، ابن واحد، ونحن بالإشارة إلى فكرة الاتحاد هذه بدون اختلاط، فإننا نعترف بالقديسة العذراء أنها والدة الإله، لأن الله الكلمة أخذ جسدا وصار إنسانا، وبالحبل به في بطنها وجد الهيكل الذي اتخـذه منهـا بنفسه.
فإننا نرى أن طبيعتين ـ بواسطة اتحاد لا انفصال فيه ـ قد اجتمعتا معا فيه بدون اختلاط وبدون انقسام، لأن الجسد هو جسد وليس لاهوتا رغم أنه قد صار جسد الله، وبنفس الطريقة أيضا فإن الكلمة هو إله وليس جسدا رغم أنه بسبب التدبير قد جعل الجسد جسده. ولكن رغم أن الطبائع التي اجتمعت في تكــوين الاتحاد مختلفة إحداها عن الأخرى كما أنها غير متساوية بعـضـها مـع بعض، إلا أن ذلك الذي تكون من الطبيعتين معا هو واحد فقط. ونحن لا نفصل الرب الواحد يسوع المسيح إلى إنسان وحده وإله وحده، بـل نـحـن نؤكـد أن المسيح يسوع هو واحد، وهو نفسه، معترفين بالتمايز بين الطبيعتين بدون أن نخلطهما الواحدة مع الأخرى.
(لو 5:2) ” مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى “.
يقول القديس البشير إن مريم كانت مخطوبة ليوسف، لكي يبين أن الحمـل حدث وهي مخطوبة فقط، وأن ولادة عمانوئيل كانت معجزية، ولم تكن بحسب قوانين الطبيعة. لأن العذراء القديسة لم تحمل من زرع إنسان. والسؤال هـو لماذا حدث هذا؟
المسيح، الذي هو باكورة الجميع، وهو آدم الثاني حسب الكتب، قد ولد من الروح لكي ينقل هذه النعمة (نعمة الولادة الروحية) إلينا نحن أيضا. فنحن أيضا قد أعد لنا أن لا نحمل فيما بعد اسم أبناء البشر بل بالأحرى نولد من الله وذلك بحصولنا على الميلاد الجديد من الروح الذي تم في المسيح نفسه أولاً، لكـي يكون هو “متقدما بين الجميع” (كو15:1) كما يعلن بولس الحكيم جدا. إن فرصة الإحصاء كانت سببا مناسبا جدا لكي تذهب العذراء إلى بيت لحم لكي نرى نبوة أخرى تتحقق. لأنه مكتوب: وأنت يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطا على إسرائيل” (میخـا 5: 2)، ولكن أولئك الذين يجادلون ويقولون، كان هو قد جاء في الجـسـد فتكـون العذراء قد فسدت، وإن لم تكن قد فسدت فإنه يكون قد جاء بطريقة خيالية فقط. هؤلاء نقول لهم إن النبي يعلن “أن الرب إله إسرائيل قد دخل وخرج، والباب يظل مغلقا ” (حـز 44: 2)، وأيضا إن كان الكلمة قد صار جـسـدا بـدون تـزاوج جسدي، إذ أنه حمل به بدون زرع بشر، فإنه إذن ولد دون أن تمس عذراويتها.
(لو 2: 7،6) ” وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المزود “
ما هو معنى بكرها؟ إن معنى البكر هنا ليس أنه الأول بين إخوة عديـدين، بل هو ابنها الأول والوحيد، فإن هذا هو المعنى من بين المعاني التي تفسر بها كلمة “البكر”. لأن الكتاب المقدس أحيانا يسمي الوحيـد بـالأول كمـا هـو مكتوب:” أنا الله، أنا الأول وليس هناك آخر معي” (إش ٦:٤٤ سبعينية). فلكي يتضح أن العذراء لم تلد مجرد إنسان، لذلك أضيفت كلمـة “البكـر”، وحيث أنها ظلت عذراء فلم يكن لها ابن آخر إلا ذلك هو من الله الآب، والذي بخصوصه أعلن أيضا الله الآب بصوت داود “أنا أيضا أجعله بكرا، أعلى من ملوك الأرض” (مز ۲۷:۸۹).
ويقول عنه بولس الكلي الحكمة أيضا: “متى أدخل البكر إلى العالم يقـول، ولتسجد له كل ملائكة الله” (عب 6:1) فكيف إذن دخل إلى العالم؟ لأنه منفصل عن العالم، ليس من جهة المكان بقدر ما هو من جهة الطبيعة. فإنه يختلـف عـن سكان العالم في الطبيعة، ولكن دخل إلى العالم بأن صار إنسانا، وبذلك صـار جزءا من العالم بالتجسد. ورغم أنه هو الابن الوحيد من جهة ألوهيته، إلا أنـه لكونه صار أخا لنا، فقد أصبح له اسم ” البكر”، ولكي يصير هو الباكورة لتبني البشرية، فإنه يمكنه أن يجعلنا أيضا أبناء الله.
لذلك لاحظوا، أنه يدعى البكر من جهة التدبير، لأنه من جهة ألوهيته هـو الابن الوحيد. وأيضا فإنه الابن الوحيد من جهة كونه كلمة الآب الذي ليس لـه إخوة بالطبيعة ولا يوجد أي كائن مشترك معه. لأن ابن الله المساوي للأب، هو واحد ووحيد، ولكنه يصير بكرا بتنازله إلى مستوى المخلوقات.
لذلك حينما يدعى الابن الوحيد، فإنه يدعى هكذا دون أن يكون هناك سـبب آخر لكونه الابن الوحيد إذ هو الإله الوحيد الجنس الـذي فـي حـضن الآب (يو1: 18) ولكن حينما تدعوه الكتب الإلهية ” بالبكر” فإنها تضيف حـالاً علـة السبب الذي من أجله حمل هذا اللقب فتقول الكتب ” البكر بين إخوة كثيـرين” (رو 8: 29)، وأيضا ” البكر من الأموات” (كو 1: 18)، ففي المرة الأولى دعي ” بكرا بين إخوة كثيرين” بسبب أنه صار مثلنا في كل شيء ما عدا الخطية، وفي المرة الثانية دعي ” البكر من الأموات” لأنه هو الأول الذي أقام جسده إلى حالة عدم الفساد.
وأيضا هو كان دائما منذ الأزل الابن الوحيد بالطبيعة، لكونه الوحيد المولود من الآب، إله من إله، وحيد من وحيد، إله أشرق من إله، نور من نور، ولكنه هو “البكر” لأجلنا نحن حتى عندما يدعى بكرا للمخلوقات فإن كل من يشابهه يخلص بوا اسطته. فإن كان هو بالضرورة يصير “البكر” فبالتأكيد لابد أن يكون هناك أولئك الذين يكون هو بكرا لهم. ولكن إن كان ـ كما يقول يونوميوس . إنه يدعى بكر الله المولود الأول بالنسبة لكثيرين، وإنه هو أيضا بكر العذراء، ففي هذه الحالة إذن يلزم أن يصير هو الأول قبل طفل بعده بالنسبة لها. ولكن إن كان يدعى بكر مريم باعتباره الابن الوحيد وليس هناك من يأتون بعده، إذن فهو أيضا بكر الله لا كالأول بين كثيرين، بل هو المولود الواحد الوحيد.
وبالإضافة إلى ذلك إن كان الأول يعترف به أنه عله الثاني، فـإن الله هـو الأول، وحينئذ فالابن هو علة أولئك الذين نالوا لقب الأبناء، لأنهم بواسطته قد حصلوا على هذه التسمية، لذلك وهو علة وجود الأبناء الذين أتوا بعـده فإنـه يدعى البكر بحق، لا لأنه هو أولهم، بل لكونه العلة الأولى لحصوله على لقب التبني. وكما أن الآب يدعى الأول لأنه يقول: “أنا الأول وأنا بعد هذه الأشياء” (إش 41: 4)، وهو بالتأكيد لا يريدنا أن نعتبره أنه مشابه في الطبيعة لأولئك الذين يأتون بعده، هكذا أيضا فرغم أن الابن يدعى بكر الخليقة، أو البكر قبـل كـل خليقة، فهذا ليس معناه أنه واحد من الأشياء المخلوقة، بل كما أن الأب قال ” أنا الأول” لكي يوضح أنه أصل كل الأشياء، فبنفس المعنى يدعى الابن أيضا بكر الخليقة “فإن كل الأشياء خلقت به” (يو3:1). فكخالق وصانع للعالم، هو بداية كل الأشياء المخلوقة وأصلها.
(لو 2: 7) ” وأضجعته في المذود، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل “.
لقد وجد أن الإنسان قد تدنى إلى مستوى الحيوانات، لذلك فإنه وضع مثـل علف في المزود، لكي حينما نخلع حياتنا الحيوانية، نرتفع إلى درجـة العقـل والبصيرة التي تليق بطبيعة الإنسان. وبينما كنا متوحشين في نفوسنا، فإننا الآن باقترابنا من المزود، أي “مائدته الخاصة”، فإنا لا نجد علفا بعد، بل الخبز الذي من السماء الذي هو جسد الحياة.
عظة (2) على ميلاد مخلصنا بالجسد لو (8:2 – 18)
” وكان في تلك الكورة رعاة متبدين يحرسون حراسات الليـل علـى رعيتهم، وإذا ملاك الرب وقف بهم، ومجد الرب أضاء حولهم، فخافوا خوفا عظيما. فقـال لهم الملاك: لا تخافوا! فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: آنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة: تجدون طفلا مقمطا مضجعا في مذود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة. ولما مضت عنهم الملائكة إلى السماء، قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض: لنذهب الآن إلى بيت لحم وننظر هذا الأمر الواقع الـذي أعلمنا به الرب. فجاءوا مسرعين، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعا في المدود. فلمـا راوة أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي. وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهـم من الرعاة “.
أبدأ حديثي إليكم بما هو مكتوب في سفر المزامير: ” هلم نـسبـح الـرب، ونرنم الله مخلصنا ” (مـز 1:95) لأنه هو رأس عيدنا، ولذلك فلنخبـر بأعمالـه العظيمة، ونروي طريقة ذلك التدبير الذي خططه تخطيطـا جميلا، والـذي بواسطته خلص العالم، ووضع نير ملكوته على كل واحد منا. هـذا التدبير يستحق أن يكون موضوع إعجابنا. “يا جميعا الأمم صفقوا بأيديكم”، ويضيف أيضا: “رتلوا بفهم لأن الله ملك على جميع الأمم” (47: 7،1) لأن هذا السر المقدس قد تم بحكمة فائقة جدا بالمسيح، إن كان حقا، وحق هو بالتأكيد، أن الرب رغم أنه هو الله، ظهر لنا. ورغم أنه في صورة الأب وهو ذو تفوق فائق وشامل، فقد أخذ شكل عبد. ولكن رغم هذا فإنه هو إله ورب. فإنه لم يزل كمـا كـان (قبل أن يتجسد).
إن جماعة الأنبياء القديسين قد سبقوا فأخبروا بميلاده بالجـسد، وباتخـاذه شكلنا في الوقت المعين، الآن قد تحقق هذا الرجاء، فإن قوات السماء تـأتي بالأخبار المفرحة عن ظهوره في هذا العالم للرعاة قبل الجميع في بيت لحـم، وبذلك كانوا أول من حصل على معرفة السر. والرمز هنا يشير إلى الحقيقة، لأن المسيح يعلن نفسه للرعاة الروحيين لكي يبشروا به الآخرين، كما حـدث من الرعاة أيضا عندما تعلموا سره من الملائكة القديسين، وأسرعوا ليحملـوا الأخبار المفرحة للآخرين، لذلك فالملائكة هم أول من بشر به وأعلنوا مجـده كإله مولود في الجسد من امرأة بطريقة عجيبة.
ولكن ربما يعترض أحد على هذا، فيقول ” إن الذي ولد الآن كـان طـفـلاً وكان ملفوفا بالأقماط ومضجعا في مذود، فكيف نقول إنـه تـسبحه القـوات العلوية كإله؟ وردا على هذا الاعتراض نقول بحسم: أيها الإنسان عمق الـسر فإن الله صار في شكل منظور مثل شكلنا. رب الكل في شكل عبد، ومع ذلـك فإن مجد الربوبية غير منفصل عنه. افهم أن الابن الوحيد صار جسدا، وأنـه احتمل أن يولد من امرأة من أجلنا، لكي يبطل اللعنة التي حكم بها على المرأة الأولى، فقد قيل لها، “بالوجع تلدين أولادا ” (تك16:3) فإنها كأنها تلد للمـوت. ولذلك ذاقوا أي أولاد المرأة لدغة الموت. ولكن لأن امرأة قـد ولـدت فـي الجسد، عمانوئيل، الذي هو الحياة فإن قوة اللعنة قد أبطلت. ومع إبطال الموت أبطلت أيضا الأوجاع التي تحتملها الأمهات الأرضيات في الولادة.
أتريد أن تتعلم سببا آخر لهذا الأمر؟ تذكر ما كتبه بولس الحكــم جـدا عنه:” لأنه ما كان الناموس عاجزا عنه، لأنه كان ضعيفا بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية دان الخطية في جسده، لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد، بل حـسـب الـروح”
(رو8: 4،3). فما معنى قوله إن الابن أرسل في شبه جسد الخطية؟ هـذا المعنى: أن ناموس الخطية يكمن مختفيا في أعضائنا الجسدية مصاحباً تحرك الشهوات الطبيعية المخجلة، ولكن حينما صار كلمة الله جـسدا، أي إنـسـانا، واتخذ شكلنا، فإن جسده كان مقدسا ونقيا نقاوة كاملة، وهكذا كان حقا في شبه جسدنا، ولكن ليس بنفس مستواه. لأنه كان حرا من ذلك الميل الذي يقودنا إلى ما هو ضد الناموس.
لذلك فحينما ترى الطفل ملفوفا بالأقماط لا تركز فكرك على ميلاده فـي الجسد فقط، بل ارتفع إلى تأمل مجده الإلهي، ارفع عقلك عاليا، اصـعد إلـى السماء، وهكذا سوف تنظره في أعلى تمجيد، وهو صـاحب المجـد الفـائق، سوف تراه: “جالسا على عرش عال ومرتفع” (إش1:6)، سوف تسمع السيرافيم يمجدونه بتسابيح، ويقولون إن السماء والأرض مملوءتان من مجده، نعم بـل حتى على الأرض قد حدث هذا، لأن مجد الله أضاء على الرعاة، وكان هناك جمهور من الجنود السماويين يخبرون بمجد المسيح. فهذا ما سبق أن أخبر به موسی منذ القديم “افرحي معه أيتها السموات، وليسجد لـه كـل أبنـاء الله” (تث 32: 43 سبعينية) لأن أنبياء قديسين كثيرين قد ولدوا على مر الأزمنة، ولكن لم يمجد أي واحد منهم بأصوات الملائكة، لأنهم كانوا بشرا، وكانوا على نفـس القياس مثلنا. كانوا خدام الله الحقيقيين وحاملي كلماته، أما المسيح فلـم يكـن هكذا: لأنه إله ورب، وهو مرسل الأنبياء القديسين. وكما يقول المرئم: ” مـن في السماء يعادل الرب، من يشبه الرب بين أبناء الله” (مز 1:89) لأن لقب البنوة أمـا قد منح لنا كنعمة حلت علينا نحن الذين تحت النير، ونحن بطبيعتنا عبيد، المسيح فهو الابن الحقيقي، أي أنه ابن الله الآب بالطبيعة، حتى حينما صـار جسدا: لأنه استمر على ما كان عليه منذ الأزل، رغم أنه اتخذ ما لم يكن له[1].
والنبي أيضا يؤكد لنا أن ما أقوله صحيح، بقوله: ” ها العذراء تحبل وتلـد لبنا وتدعو اسمه عمانوئيل، زبدا وعسلا يأكل قبل أن يعرف أن يختار الـشـر. هو يفضل الخير: لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يعرف الخير والشر فهـو لا يطيع الشر بل يختار الخير” (إش 7: 14-16 سبعينية) ألـيس واضـحا للجميـع أن الطفل حديث الولادة لا يستطيع بسبب صغره وضعفه، أن يفهم أي شيء، وهو غير كفء بعد لمهمة التمييز بين الخير والشر، لأنه لا يعـرف شـيـا علـى الإطلاق. أما في حالة المسيح مخلصنا فقد أكل الزبد والعسل رغم أنه كان لا يزال طفلاً، ولأنه كان إلها وصار جسدا بطريقة تفوق الفهم فإنه عرف الخير فقط، وكان منزها عن الفساد الذي في البشر، وهذه أيضا صفة للجوهر الفائق، لأن ما هو صالح بالطبيعة، هو خاص به بثبات وبغير تغيير، وهو خاص بسه وحده: “ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله” (لو 18: 19) وكما قـال مخلصنا نفسه.
أتريد أن تعرف فضيلة أخرى لهذا الطفل؟ أتريد أن ترى أنه بالطبيعة إله، ذاك الذي ولد في الجسد من امرأة؟ انظر ما يقوله إشعياء النبي عنه: “فاقتربـت إلى النبية، فحبلت وولدت ابنا. فقال لي الرب ادع اسمه: “أسرع وأسر، واتلـف بسرعة” (إش 8: 4،3). لأنه في نفس توقيت ميلاد المسيح أتلفت قوة الشيطان، لأنه في دمشق كان الشيطان هو موضوع الخدمة الدينية، وكـان لـه هنـاك عابدون، ولكن حينما ولدت العذراء القديسة انكسرت قـوة الطغيـان، إذ أن الوثنيين انجذبوا إلى معرفة الحق وكان باكورتهم وقـادتهم المجـوس الـذين جاءوا من المشرق إلى أورشليم، الذين كان معلمتهم هي السماء وأستاذهم هو النجم.
لذلك لا تنظر إلى المضطجع في المذود على أنه مجرد طفل، بل في فقرنا انظر ذاك الذي هو غني كإله. وفي مستوى بشريتنا انظر ذاك الـذي يـفـوق سكان السماء، ولذلك فإنه يمجد من الملائكة القديسين. وما أرفع تلك التسبحة:
” المجد الله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفـي النـاس المـسرة! ” لأن الملائكة ورؤساء الملائكة والعروش والسيادات، وأعلى منهم السيرافيم، هـم يحفظون رتبهم المعينة، وهم في سلام مـع الله. لأنهـم لا يتعـتون إرادتـه الصالحة أبدا بأي طريقة. بل هم ثابتون وراسخون في البر والقداسة. أما نحن المخلوقات البائسة، فقد وضعنا أنفسنا في موضع الأعداء بالنسبة للرب، لأننـا وضعنا شهواتنا الخاصة ضد مشيئته. ولكن المسيح قد أبطل كل هذا! ” لأنـه هو سلامنا ” (أف 2: 14) لأنه قد وحَّدنا مع الله الآب بواسطة نفسه إذ قد رفع سبب العداوة من الوسط وأعني به الخطية، وهكذا هو يبررنا بالإيمـان، ويجعلنـا قديسين وبلا لوم، والذين كانوا بعيدين يدعوهم قريبين إليه. وإلى جانب ذلـك، فقد خلق الشعبين في إنسان واحد جديد، صانعا سلاما ومصالحا الاثنـيـن فـي جسد واحد مع الآب. لأنه قد سر الله الآب أن يجمع فيه كل الأشياء (أف10:1) في واحد جديد متكامل، وأن يربط الأشياء السفلي مع الأشياء التـي فـوق ويجعل الذين في السماء والذين على الأرض رعية واحدة. لذلك فالمسيح قـد صار لنا سلاما ومسرة، الذي به ومعه الله الآب المجد والكرامة والقـدرة مـع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.
عظة (3) عيد الختان (لو 2: 21-24)
“ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع، كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن، ولما تمت أيام تطهيرها، حسب شريعة موسى، صعدوا بـه إلـى أورشليم ليقدموه للرب، كما هو مكتوب في ناموس الرب: أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوسا للرب. ولكي يقدموا ذبيحة كما قيل في ناموس الرب: زوج يمام أو فرخي حمام “
الجمع الذي اجتمع هنا كثير جدا، والسامعون شغوفون ـــــ فنحن نـری الكنيسة ممتلئة ـ ولكن المُعلم فقير، ومع ذلك فالذي يعطـي الإنـسـان فـمـا ولسانا، سوف ينعم علينا بأفكار صالحة. إذ يقول الرب نفسه في مكـان مـا ” أفغر فاك وأنا أملاه” (مز 81: 10) حيث إنكم جميعا قد اجتمعـتـم معـا باهتمـام بمناسبة هذا العيد المفرح الذي للرب، لذلك فلنحتفل بالعيد بمـشاعر البهجـة وبأنوار ساطعة، ولنشغل أنفسنا في التفكير فيما تحقق في هذا اليـوم بطريقـة إلهية، جامعين لأنفسنا من كل ناحية ما يثبتنا في الإيمان والتقوى.
ولكننا – ـمنذ فترة وجيزة رأينا عمانوئيل مضطجعا كطفـل فـي المـذود وملفوفا بشكل بشري في الأقماط، ولكنه مجد كإله بتسابيح جمهور الملائكة القديسين، لأنهم بشروا الرعاة بميلاده، إذ أن الله الآب قد منح لسكان السماء الامتياز الخاص بأن يكونوا أول من يبشر به. واليوم أيضا نراه مطيعا لقوانين موسى، أو بالأحرى قد رأينا ذاك الذي هو المشرع يخضع لقوانينـه التـي شرعها. والسبب في هذا يعلمنا إياه بولس الحكيم جدًا بقوله: “لما كنا قاصرين كنا مستعبدين تحت أركان العالم، ولكن حين جاء ملء الزمان أرسل الله ابنـه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس ليفتـدي الـذين تحـت النـاموس” (غل 4: 3-5).
لذلك فالمسيح افتدى من لعنة الناموس أولئك الذين بوجودهم تحت الناموس كانوا عاجزين عن تتميم قوانينه. وبأي طريقة افتداهم؟ بتتمـيـم النـاموس أو بعبارة أخرى: إنه لكي يكفر عن ذنب معصية آدم، فقد أظهر نفسه مطيعـا وخاضعا من كل الوجوه الله الآب عوضا عنه، لأنه مكتوب: “كمـا بمعـصية الإنسان الواحد جعل الكثيرين خطاة هكذا أيضا بإطاعـة الواحـد سـيجعل الكثيرون أبرارا” (رو 5: 19). لذلك فقد أحنى عنقه للناموس مشتركا معنـا. لأن هذا ما استلزمته خطة الخلاص. لأنه هكذا يليق أن يكمل كل بـر. . لأنه إذ قد اتخذ صورة عبد، وقد حسب بين أولئك الخاضعين للنيـر بـسبب طبيعتـه البشرية، بل أنه مرة دفع نصف الشاقل للذين يجمعون الجزية، رغم أنه حـر بالطبيعة، وكابن لم يكن مفروضا عليه أن يدفع ضريبة. لذلك حينما تراه يحفظ الناموس، فلا تتعثر، ولا تضع الحر بين العبيد، بل بالحري تأمل فـي عمـق تدبير الخلاص. لذلك فعند وصول اليوم الثامن، الذي جرت العادة أن يتم فيـه الختان في الجسد بحسب أمر الناموس، نجده يسمى باسم يسوع الذي تفسيره يشير إلى خلاص الشعب. لأنه هكذا أراد الله الآب أن يسمي ابنه، حينما يولد بالجسد من امرأة. لأنه عندئذ صار خلاص الشعب بنـوع خـاص، ولـيـس خلاص واحد فقط، بل كثيرين، وبالحري كل الشعب بل والعالم كله. إذن فقـد أخذ اسمه في نفس الوقت الذي خُتن فيه.
ولكن تعالوا ودعونا نفتش ونرى، ما هو اللغز، وما هي الأسـرار التـي يقودنا إليها هذا الحادث. لقد قال بولس المبارك “ليس الختان شيئا، وليـست الغرلة شيئا” (1كو 7: 19). وربما يعترض البعض على هذا قائلين هل أمر إلـه الكل ـ بواسطة موسى الحكيم ـ بشيء لكي يحفظ رغم أنه لا قيمة له، بـل ويصحب الأمر بهذا الشيء عقاب على الذين يخالفون هذا الأمر؟ أقول نعـم لأنه فيما يخص طبيعة ذلك الشيء الذي يتم في الجسد فهو ليس شيئا، ذلك فهو يحمل مثالاً جميلاً للسر، أو بالحري يحتوي علـى المعنـى الخفي لإظهار الحق. لأن المسيح قام من بين الأموات في اليـوم الثالـث وأعطانـا الختان الروحي. لأنه أوصى الرسل القديسين قائلاً: “اذهبوا وتلمذوا جميـع الأمم وعملوهم باسم الآب والابن والروح القدس”. ونحن نؤكـد أن الختـان الروحي يتم بصورة رئيسية في وقت المعمودية المقدسة حينما يجعلنا المسيح مشتركين في الروح القدس. وقد كان يشوع القديم الذي جاء بعد موسى مثـالاً أيضا لهذا، لأنه قاد بني إسرائيل أولاً عبر الأردن، وبعد ذلك مباشرة ختـنهم بسكاكين من صوان. هكذا نحن حينما نعبر الأردن فإن المسيح يختنـا بقـوة الروح القدس، ليس لتطهير الجسد بل بالحري لقطع النجاسة التي في نفوسنا.
لذلك ختن المسيح في اليوم الثامن وأخذ اسمه كما قلت، لأنه حينئذ خلصنا بواسطته وفيه كما هو مكتوب ” وفيه ختنتم ختانا غير مصنوع بید بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح، مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقمتم أيضا معه” (کو 2: 11). لذلك فإن موته كان من أجلنا. وهكذا أيضا كانت قيامته وكـان ختانه. لأنه قد مات حتى أننا نحن الذين متنا معه في موته لأجل الخطيـة، لا نعود نحيا للخطية. ولهذا السبب قيل: “إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضا معه” (2تی 2: 11)، وقد قيل إنه قد مات لأجل الخطية ليس لأنه قد أخطأ، “لأنسـه لـم يفعل خطية ولا وجد في فمه غش” (1بـط 2: 22). بل بسبب خطيتنا. لذلك فكمـا متنا معه حينما مات، هكذا أيضا نقوم معه.
وأيضا حينما كان الابن حاضرا بيننا، فرغم أنه هـو بالطبيعـة الله ورب الكل، فإنه لا يحتقر حالتنا بسبب ذلك، بل يخضع نفسه معنا لنفس النـاموس، رغم أنه كاله كان هو نفسه مشرع الناموس. وقد ختن ـ مثل اليهود ـ فـي سن ثمانية أيام لكي يبرهن على خروجه من نفس أصـلهم. وذلـك لكـي لا ينكروه. لأن المسيح كان هو نسل داود المنتظر، وقدم لهم البرهان على هـذه العلاقة. ولكن إن كان رغم ختانه يقولون عنه وأما هذا الإنسان فلا نعلم مـن أين هو ” (يو 9: 29)، فربما كان يصير لهم بعض العذر في إنكارهم لو لم يكن قد ختن في الجسد وحفظ الناموس.
ولكن بعد ختانه أبطل طقس الختان بمجيء ما كان يرمز له وأعنـي بـه، المعمودية. ولهذا السبب فإننا لم نعد نختتن، لأنه يبدو لي أن الختان قد حقـق ثلاثة أغراض: فأولاً ـ أنه أفرز نسل إبراهيم بنوع مـن العلامـة والخـتم، وميزهم عن بقية الشعوب. وثانيا أنه كان يشير مقتما إلى نعمـة وفاعليـة المعمودية الإلهية، لأنه كما كان في القديم، يحسب المختون ضمن شـعب الله بواسطة ذلك الختم، هكذا أيضا فإن من يعتمد يدرج ضمن عائلة الله بالتبني، إذ قد تصور في نفسه المسيح الختم. وثالثا، أنه رمز للمؤمنين حينما يتأسسون في النعمة. حينما يقطعون ويميتون شغب اللذات الجسدية والشهوات بسكين الإيمان الحاد وبأعمال النسك، وهم لا يقطعون الجـسـد، بـل ينقـون القلـب ويصيرون مختونين بالروح وليس بالحرف، الذي منحه ليس من الناس بـل من فوق كما يشهد بولس الإلهي (رو 2: 29).
وبعد ختانه تنتظر العذراء إلى وقت تطهيرها، وحينما تكتمل الأيام وتصل إلى ملء الأربعين يوما، فإن الله الكلمة الجالس على عرش الآب، يحمل إلـى أورشليم ويأتون به إلى حضرة الآب بطبيعة بشرية مثلنـا وبواسـطـة ظـل الناموس يحسب في عداد الأبكار. لأنه منذ قبل التجسد كان الأبكار مقدّسـين، ومكرسين الله، ويقدمون الله بحسب الناموس. آه! كم هو عظيم وعجيب تـدبير الخلاص! “يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه” (رو 11: 33). فإن ذلك الذي هـو في حضن الآب، الابن المشارك له في عرشه والمساوي له في الأزلية، الذي به خلقت كل الأشياء في الوجود نراه رغم ذلـك يخضع لمقيـاس الطبيعـة البشرية، بل ويقدم كتقدمة لأبيه رغم أنه يكرم ويمجد معه من الجميع. ومـاذا قدم هو؟ إنه كبكر وذكر قدم زوج يمام أو فرخي حمام حسب أمر الناموس. ولكن إلى ماذا يشير اليمام؟ وأيضا إلى ماذا يشير الحمام؟ تعالوا إذن ودعونـا نبحث هذا الأمر، فالواحد منهم هو أكثر طيور الحقل في إصدارها للأصوات، أما الآخر فهو مخلوق هادئ ووديع. هكذا صار مخلص الكـل بالنسبة لنـا مظهرا أكمل وداعة ولطف من نحونا. وأيضا مثل اليمام، فإنه يهدئ العـالم، ويملأ حقله الخاص الذي هو نحن المؤمنين به بنغم صوته الحلو. لأنه مكتوب في نشيد الأنشاد “صوت اليمامة سمع في أرضنا ” (نش 2: 12)، لأن المسيح قـد كلمنا برسالة الإنجيل الإلهية التي هي لخلاص العالم كله.
إذن فقد قدم اليمام أو الحمام حينما قدم للرب. وفي هذا يمكن أن نرى التقاء الحقيقة والرمز معا في نفس الوقت. والمسيح قدم نفسه رائحة طيبة الله، لكـي يقدمنا نحن بواسطة نفسه وفي ذاته الله الأب، وهكذا يلاشي العداوة الناشئة عن عصيان آدم، ويبطل الخطية التي استعبدتنا حه بعا، لأننا نحن الذين كنا نصرخ منذ زمن طويل قائلين: “التفت إلي وارحمني” (مز 25: 16).
عظة (4) سمعان الشيخ (لوقا 25:2-35)
” وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه. وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. فأتى بالروح إلى الهيكل. وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه، ليصنعا له حسب عادة الناموس، أخذه على ذراعيه وبارك الله وقال: «الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك، الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأمم، ومجدا لشعبك إسرائيل». وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه. وباركهما سمعان، وقال لمريم أمه: «ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم. وأنت أيضا يجوز في نفسك سيف، لتعلن أفكار من قلوب كثيرة». “.
يقول إشعياء النبي، ” ما أجمل أقدام المبشرين بالخيرات” (إش 52: 7). وهـل هنـاك شيء أحلى من أن تتعلم أن الله خلص العالم بواسطة ابنه وذلك بأن صار إنسانا مثلنا؟ كما هو مكتوب ” يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والنـاس، الإنـسـان يـسـوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية لأجلنا” (1تي 2: 5 و6).. لأنه من تلقاء نفسه نزل إلى فقرنا لكي يجعلنا أغنياء بحصولنا على ما هو له. انظروه إذن، كإنسان مثلنا وهو يقدم إلى الآب، انظروه وهو يطيع ظلال الناموس ويقدم ذبيحة بحسب ما كانت العادة حينئذ، رغم أن هذه الأمور قد تمت بواسطة والدته حسب الجسد. فهل لم يتعرف عليه أحد بالمرة في أورشليم في ذلك الوقت؟ وهل لـم يعرفه أحد من سكانها؟ كيف يمكن أن يكون هذا؟ فـإن الله الآب قـد سـبق وأعلـن اسطة الأنبياء القديسين أن الابن سيظهر في الوقت المعين ليخلص الـذين هلكـوا ولينير على الذين كانوا في الظلمة. وقد قال بواسطة أحد الأنبياء القديسين “برى يأتي سريعا ورحمتي تعلن وخلاصي يتقد كمصباح” (إش 62: 1). ولكن الرحمة والبر هما المسيح، لأننا به حصلنا على الرحمة والبر، إذ قد غسلنا من شرورنا الدنسة بالإيمان به. وكما يضئ المصباح أمام أولئك الذين يسيرون في الليل والظلمـة هكـذا صـار المسيح لأولئك الذين في الكآبة والظلمة العقلية، غارسا فيهم النور الإلهي. ولأجل هذا السبب أيضا صلى الأنبياء لكي يصيروا شركاء نعمته العظيمة قائلين: “أرنا يا رب رحمتك وأعطنا خلاصك” (مز 85: 7).
حمل المسيح إذن إلى الهيكل وهو بعد طفل رضيع على صـدر أمـه، وسـمعان المبارك إذ كان قد منح نعمة النبوة أخذه على ذراعيه، وبارك الله وهو ممتلئ بأعظم فرح قائلاً: “الآن يا سيدي تطلق عبدك بسلام حسب قولك لأن عينـي قـد أبـصرتا خلاصك الذي أعددته أمام وجه جميع الشعوب، نور إعلان للأمم، ومجـداً لـشعبك إسرائيل”.
لأن سر المسيح قد أعد من قبل تأسيس العالم، ولكنه أظهر في الأزمنة الأخيـرة، وصار نورا لأولئك الذين في الظلمة والضلال بسقوطهم تحت يد إبليس. هؤلاء هـم الذين كانوا يعبدون ” المخلوق بدلا من الخالق” (رو 1: 25)، عابدين التنين مصدر الـشـر والشياطين النجسة التي يقدمون لها الكرامة اللائقة بالله، ومع ذلك فقد دعوا الآن مـن الله الآب ليعرفوا الابن الذي هو النور الحقيقي. وبإشفاق قال عنهم بصوت النبي: “سوف أصنع لهم آيات، وأقبلهم لأني سأفديهم، ويكثرون كما كثروا، وسأزرعهم بين الشعوب. والذين هم بعيدون سيذكرونني” (زك 10: 8 و9 س). فكثيرون هم الـذين كانوا بعيـدين، ولكنهم قد دعوا بواسطة المسيح. وأيضا هم كثيرون كما كانوا من قبل. لأنهم قد قبلوا وافتدوا، إذ قد حصلوا من الله الآب على التبني في عائلته وعلى النعمة التي بالإيمان بيسوع المسيح، وذلك كعلامة للسلام. والتلاميذ الإلهيون قد زرعـوا بـاتـسـاع بـين الشعوب. وماذا كانت النتيجة؟ إن أولئك الذين كانوا بعيدين من الله قد صاروا قريبين. والذين يرسل إليهم بولس الإلهي رسالة قائلاً: “أنتم الذين كنتم قا قبلاً بعيـدين صـرتم قريبين بدم المسيح” (أف 2: 13). وإذ قد جعلوا قريبين فإنهم يجعلون المسيح هو فخرهم ومجدهم. ولأن الله الآب قد قال عنهم أيضا “سأقويهم بالرب إلههم فيفتخرون باسـمه يقول الرب” (زك 10: 12 سبعينية). وهذا أيضا ما يعلنه المرنم المبارك كما لو كان يتحدث إلى المسيح مخلص الجميع فيقول: “يا رب في نـور وجهـك سيسلكون وباسمك سيبتهجون اليوم كله، وبيدك سيرتفعون لأنك فخر قوتهم” (مز 89: 15 ،16). ونجد إرميا النبي يدعو الله قائلا: ” يا رب قوتي وعوني وملجاي في يوم الضيق، إليك تأتي الأمم مـن أطراف الأرض ويقولون، آباؤنا اتخذوا لأنفسهم آلهة كاذبة لا يوجد فيها عون” (إر 16: 19).
لذلك فالمسيح صار نور إعلان للأمم، ولكنه صار أيضا مجدا لإسرائيل. لأنه رغم أن البعض منهم تغطرسوا وعصوا وكانت لهم عقول لا تفهم، إلا أنه كانت هناك بقية قد خلصت وأدخلت إلى المجد بالمسيح، وباكورة هؤلاء البقية هم التلاميـذ الإلهيـون الذين أشرق نور شهرتهم لينير العالم كله.
وهناك معنى آخر لكون المسيح “مجدا لإسرائيل”، وذلك أنه جاء منهم حسب الجسد رغم أنه هو ” الكائن فوق الكل إلها مباركا إلى الأبد أمين” (رو 9: 5).
وسمعان الشيخ بارك العذراء كخادمة للمشورة الإلهية، وأداة للولادة التي لا تخضع لقوانين الطبيعة البشرية. فقد ولدت وهي عذراء وذلك بدون رجل، بل بحلـول قـوة الروح القدس عليها.
وماذا يقول سمعان النبي عن المسيح؟ ” ها إن هذا الطفل قد وضع لسقوط وقيـام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تقاوم”. لأن عمانوئيل قد وضـع مـن الله الآب لأجـل أساسات صهيون. إذ هو “حجر زاوية مختار کریم” (1بط 2: 6)، والذين وثقوا بـه لـم يخزوا. ولكن أولئك الذين لم يؤمنوا ولم يستطيعوا أن يعرفوا السر الخاص به سقطوا وتهشموا. لأن الله الآب قال أيضا في موضع آخر ” ها أنا ذا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة والذي يؤمن به لن يخزى” (إش 28: 16 سبعينية). ولكن “كل مـن يسقط عليه هذا الحجر فإنه يسحقه” (لو 20: 18) ولكن النبي يدعو الإسرائيليين ليكونـوا آمنين بقوله: “قدسوا الرب نفسه وهو يكون خوفكم، وإن وثقتم به يكون هو تقديسكم، ولن تصطدموا به كما بحجر صدمة وصخرة عثـرة” (إش 8: 13 ،14 س). ولكـن لأن إسرائيل لم يقدسوا عمانوئيل الذي هو الرب وهو الله، ولم يريدوا أن يؤمنوا به فـإنهم اصطدموا كما بحجر بسبب عدم الإيمان. وهكذا تهشم إسرائيل وسقط، ولكن كثيـرين من بينهم قاموا ثانية، وأقصد بهم الذين آمنوا به. هؤلاء تحولوا من عبادة ناموسية إلى عبادة روحية، تغيروا من روح العبودية الذي فيهم واغتنوا بذلك الروح الذي يجعـل الإنسان حرا، أي الروح القدس. وقد صاروا شركاء الطبيعة الإلهية وحسبوا أهلاً أن يكونوا أبناء بالتبني، ويحيوا على رجاء الحصول على المدينة العليا. أي أن يكونـوا مواطنين في ملكوت السموات.
أما “العلامة التي تقاوم” فيقصد بها الصليب الثمين الذي يقول عنه بولس الحكيم جداً إنه ” عثرة لليهود وجهالة لليونانيين” (1كو 1: 23). وأيضا يقول عن كلمة الصليب إنها “للهالكين جهالة، أما عندنا نحن المخلصين فهـي قـوة الله” (1کو 1: 18). لـذلك فالعلامة التي تقاوم تبدو جهالة بالنسبة لأولئك الهالكين بينما هي خلاص وحياة للذين يعرفون قوة الصليب.
ويقول سمعان بعد ذلك للعذراء القديسة: ” وأنت أيضا يجوز في نفـسـك سـيف”، ويقصد بالسيف الألم الذي ستعانيه لأجل المسيح حينما تراه مصلوبا، وهي لا تعـرف أنه سيكون أقوى جدا من الموت، ويقوم من القبر. ولا تتعجبوا أن العذراء لا تعـرف هذا، فإننا سنجد أن الرسل القديسين أنفسهم لم يكونوا مؤمنين بهذا في البدايـة، بـل وتوما بعد القيامة لو لم يضع يديه في جنبه، ويتحسس آثار المسامير في يديه لم يكن ليصدق التلاميذ الآخرين حينما أخبروه أن المسيح قد قام وأنه قد أظهر نفسه لهم. ولذلك فإن البشير الحكيم جدا ـ يعلمنا ـ من أجل منفعتنا كل الأمور التي احتملها الابن من أجلنا ونيابة عنا، حينما صار إنسانا وقبل أن يحمل فقرنا، وذلك كي نمجـده كفادينا، وكسيدنا وكمخلصنا، وكإلهنا، الذي له مع الآب والروح القدس المجد والقـوة إلى دهر الدهور آمین
عظة (5) نمو يسوع في القامة والنعمة (لو2: 40-52)
” وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليـه. وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح. ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد. وبعدما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم ويوسف وأمه لم يعلما. وإذ ظناه بين الرفقة ذهبا مسيرة يوم وكانـا يطلبانـه بــين الأقرباء والمعارف. ولما لم يجداة رجعا إلى أورشليم يطلبانه. وبعد ثلاثة أيام وجـداه فـي الهيكل جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم. وكل الذين سمعوه بهتوا مـن فـهـمـه وأجوبته. فلما أبصراة اندهشا. وقالت له أمه: يا بني لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنـا كنا نطلبك معذبين!. فقال لهما : لماذا كنتما تطلباني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في مـا لأبي؟. فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما. ثم نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكـان خاضعاً لهما. وكانت أمه تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها. وأما يسوع فكان يتقدم فـي الحكمـة والقامة والنعمة عند الله والناس “.
أن يُقال إن “الطفل كان ينمو ويتقوى بالروح، ممتلئا حكمة وكانت نعمة الله عليه”، هذا الكلام ينبغي أن يؤخذ على أنه يشير إلى طبيعته البشرية، وأرجو أن تفحصوا باهتمام في عمق التدبير: فالكلمة يحتمل ويقبل أن يولد فـي صـورة بشرية، رغم أنه في طبيعته الإلهية ليس له بداية وليس خاضعا للزمن. والذي هو إله كامل تماما من كل ناحية، يخضع للنمو الجسدي. وغير الجسدي صارت له أطراف تنمو مع نمو بشريته. والذي هو نفسه الحكمة كلها يمتلئ بالحكمـة. وماذا نقول عن هذا؟ ـ فإن الذي كان في صورة الآب ـ قـد صـار مثلنـا، والغنى أخذ صورة الفقر، والعالي أخذ صورة الاتضاع، والذي له الملء يقـال عنه إنه ينال ويأخذ. وهكذا فإن الله الكلمة أخلى نفسه! لأن الأشياء التي كتبـت عنه كإنسان تظهر طريقة إخلائه، لأنه كان أمرا مستحيلاً بالنسبة للكلمة المولود من الله أن يسمح بمثل هذه الأشياء أن تكون في طبيعته الخاصة، ولكن حينمـا صار جسدا أي صار إنسانا مثلنا، فإنه حينئذ ولد حسب الجسد من امرأة. وقيل عنه إنه كان خاضعا للأمور التي تختص بحالة الإنسان، ورغم أن الكلمة لكونه إله كان يستطيع أن يجعل جسده يبرز من البطن في قامة رجل ناضـج مـرة واحدة، إلا أن هذا لو حدث لكان أمرا غريبا جدا وإعجازيا، ولذلك فإنه جعـل جسده يخضع لعادات وقوانين الطبيعة البشرية.
لذلك لا تتعثروا في أنفسكم وتقولون كيف يمكن أن الله ينمو؟ وكيف ينـال حكمة جديدة ذلك الذي يعطي الحكمة للملائكة . والبشر؟ فتأملوا السر العظيم الذي يعطى لنا. لأن البشير الحكيم لم يقدم لنا الكلمة في طبيعتـه المجـردة غيـر الجسدية ولم يقل عنه وهو في هذه الحالة إنه يزداد في القامة والحكمة والنعمة، ولكنه بعد أن أوضح أنه قد ولد في الجسد من امرأة وأخذ شكلنا، فحينئذ ينسب إليه هذه الخصائص البشرية، ويدعوه طفلاً ويقول إنه كان يتقدم في القامة، إذ أن جسده نما قليلاً قليلاً خاضعا للقوانين للجسدية.
وهكذا أيضا قيل عنه إنه كان يتقدم في الحكمة، لا كمن ينال مؤونات جديدة من الحكمة ـ لأن الله معروف بأنه كامل تماما في كل شيء ولا يمكن بالمرة أن يكون ناقصا في أي صفة مناسبة للاهوت ـ بل ازدياده في الحكمة هو بسبب أن الله الكلمة أظهر حكمته بالتدريج بما يناسب مرحلة العمر الذي يبلغها الجسد. إذن فالجسد يتقدم في القامة والنفس تتقدم في الحكمة، لأن الطبيعة الإلهيـة غير قابلة للازدياد لا في القامة ولا في الحكمة إذ أن كلمة الله كامـل تمـامـا. ولذلك فإنه لسبب مناسب ربط بين التقدم في الحكمة ونمو القامة الجسدية، بسبب أن الطبيعة الإلهية أعلنت حكمتها الخاصة بما يتناسب مع قامة النمو الجسدي.
ينبغي أن أكون فيما لأبي: (لو 2: 42) ” ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد بعد أن قال البشير إن يسوع كان يتقدم في الحكمة والنعمة، فإنه يبين أن ما يقوله صحيح. لأنه يقدمه لنا في أورشليم برفقة العذراء القديسة في عيد الفصح، ثم يقول إنه تخلف هناك، وبعد ذلك وجد في الهيكل جالسا وسط المعلمين يسأل ويجيب على الأسئلة التي تخص تلك الأشياء التي تكلم عنها الناموس منذ القديم، وأن الجميع تعجبوا من أسئلته وأجوبته، وهكذا ترونه يتقدم في الحكمة والنعمة ـ وعرف عند كثيرين بسبب هذه الحكمة.
(لو 2: 48) “أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين “
أمه كانت تعرف بالتأكيد أنه ليس ابن يوسف، ولكنها تكلمت هكذا لتتجنـب شكوك اليهود. وعندما قالت أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين أجابها المخلص:
(لو 2: 49 ) “ألم تعلما انه ينبغي أن أكون في ما لأبي؟
هنا يذكر لأول مرة علانية من هو أباه الحقيقي ويعلن عن لاهوته هو نفسه، لأنه حينما قالت: العذراء القديسة: “يا بني لماذا فعلت بنا هكذا” فحينئذ في الحال أظهر نفسه أنه يفوق قامة الأشياء البشرية، وعلمها أنها قد صارت أداة للتدبير بولادته بالجسد، ولكنه بالطبيعة والحقيقة هو إله وابن الآب الذي في السماء. ولذلك يقول “ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في مـا لأبـي”. وهنـا دع أتبـاع فالنتينوس[2] ـ حينما يسمعون أن الهيكل هو هيكل الله وأن المسيح الآن هو فيما له، وهو الذي تنبأ عنه الناموس منذ القديم ورمز له بظلال ومثالات ـ دعهـم يخجلون عندما يقولون إن: لا صانع العالم ولا إله الناموس، ولا إله الهيكل كان هو أب المسيح.