تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 6 للقمص متى المسكين

الأصحاح السادس:

5 – المسيح والسبت (1:6-5)

(مت 12: 1-8) (مر23:2-28)

يبدأ الأصحاح السادس بمصادمة مع الفريسيين بسبب أكل التلاميذ سنابل القمح يوم  السبت أثناء عبورهم المزارع. والقديس لوقا يركز على مصادمات الفريسيين لكسر يوم السبت الذي اعتاد المسيح أ أن يضعه عينة لينبه ذهنهم أنه هو رب السبت، يهوه الذي وضع السبت والذي حوله لعمل الخير والرحمة وليس لطي اليدين والرقاد. وهذا سنجده يتكرر في (10:13-17 و1:14-6) أيضاً.

وهنا في أمر سنابل القمح يتبع ق. لوقا رواية ق. مرقس مع تغيير نحسبه هاماً للغاية يتناسب ومنهج ق. لوقا الإنجيلي. فبينما في إنجيل ق. مرقس كان الاعتراض على المسيح نفسه، نجد في إنجيل ق. لوقا الاعتراض يأتي من الفريسيين للتلاميذ، ولكن المسيح يتصدى ويدافع عنهم كما حدث أيضاً في الأصحاح السالف (30:5و31)، حينما اعترض الكتبة والفريسيون على التلاميذ كيف يأكلون مع عشارين وخطاة، فتصدى لهم المسيح نفسه وأفحمهم بقوله إنه لم يأت ليدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة.

إنها لفتة هامة وخطيرة في منهج ق. لوقا لينبه ذهننا أننا إذا عُيرنا بمسيحنا أو مسيحيتنا، فهو حتماً المتصدي والمجاوب سواء بأفواهنا أو بعمله السري عنا.

وقد يرى القارئ العادي أن هذا التغيير أو الاختلاف بين الروايتين اللتين للقديس مرقس والقديس لوقا يخل بوحدة فكر الإنجيل. والحقيقة أنه ليس تغييراً أو اختلافاً بل هو امتداد لتقليد واحد، فتقليد ق . مرقس الذي يؤكد الآن أهم العلماء والباحثين أنه كان يلازم المسيح ويكتب من فمه، قدم لنا رواية الإنجيل كما سمعها ورآها دون أن يتدخل في شرحها أو التعليق عليها، ولكن يتقدم التقليد على زمان كتابة ق. لوقا لإنجيله وهو لا يقل عن أربعين سنة من زمن كتابة ق . مرقس لإنجيله. ابتدأ التقليد يشرح حوادث الإنجيل على ضوء الواقع. فالكتبة والفريسيون لم يعودوا يهاجمون المسيح مباشرة كما في إنجيل ق. مرقس، بل أصـبحت المهاجمة مباشـرة ضد التلاميذ والرسل والذين استلموا منهم. لذلك حينما تعرض ق. لوقا لحوادث شاول واضطهاده وقتله للمسيحيين كان شاول واثقاً من غياب المسيح الذي يدافع عنهم، وكأنه يعيرهم كما يعير المسيحيون الآن من الذين يغتالونهم ويذبحونهم، وكأنهم يقولون أين مسيحكم الذي تعبدونه؛ ولكن شاول يسمع بأذنيه ويرى بعينيه المسيح من السماء يقول له مدافعاً . أولاده الذين اضطهدهم: «شاول شاول لماذا تضطهدني؟» (أع 4:9). هنا ظهر المسيح أنه موجود حي كما كان ولكن لا يدافع عن ذويه بأن يرفع السيف عنهم بل يحتمل آلامهم معهم، فالمسيح بقوله لماذا تضطهدني يقول بآن واحد لماذا ذبحتني وقتلتني لأن «الذي يرذلكم يرذلني.» (لو 16:10) 

فتقليد ق. لوقا في تحويله رواية ق. مرقس من هجوم الفريسيين المباشر على المسيح ودفاع المسيح عن نفسه، إلى هجوم الفريسيين على التلاميذ ودفاع المسيح عن التلاميذ، هو في الحقيقة نقلة تقليدية من واقع الحال تعبر عن مبدأ لاهوتي جديد تعيشه الكنيسة في ظل دفاع المسيح غير المنظور من السماء بشركته الواقعية السرية غير المنظورة أيضاً في كل آلام المسيحيين واضطهاداتهم وظلمهم وقتلهم، كشريك لا يتحمل نصف الألم بل الألم كله. لذلك، كان ولا يزال الشهداء يفرحون في آلامهم ويتقبلون الموت بتهليل وكأنه إكليل مجد.

لذلك، فنحن نعتبر هذا الاتجاه التقليدي عند ق. لوقا سرا لاهوتياً انفتح علينا من السماء كما على شاول، ليصير قوة جديدة للكنيسة وغنى ومحداً وافتخاراً.

أدرك القديس بولس هذا بالحق فقال: «أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف … ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا!!» (رو 8: 35و37)، وقد تُقرأ: نحن في هذا أعظم من منتصرين”!!

أما هنا في موضوع أكل سنابل القمح التي كان يفركها التلاميذ بين كفوف أيديهم ويأكلونها وهي خضراء ناضجة ذات طعم لذيذ شهي، فلما عيرهم الفريسيون إذ كانوا حتماً يتربصون بهم من بعيد ويلاحظونهم وهم غافلون، تصدى لهم المسيح وأعطى مثل داود والرجال الذين كانوا معه لميا جاعوا كيف دخلوا خيمة الاجتماع وأكلوا خبز الوجوه الطازج، الذي لا يحل أكله إلا للكهنة فقط. فإن كان داود رأى أن يكون له سلطان فوق طقس الناموس، ولم يستطع حفظة الناموس أن يأخذوها عليه كنقيصة كونه مسيحاً للرب، فكم يكون المسيح – «وهنا أعظم من داود» ـ الذي دعاه داود “ربي؟ هذه كلها كان يقصد بها المسيح أن يلتفتوا إليه ويتعرفوا عليه. ولكن لا حياة لمن تنادي!! لهم عيون لا تبصر وآذان لا تسمع!!

ورداً على جماعة اللاهوتيين النقاد الذين يتعرضون ويقولون وما هي العلاقة بين فرك سنابل القمح في يوم السبت، وهو كسر واضح للناموس، وبين أكل داود خبز الوجوه ولم يكن يوم سبت، نقول إن العلاقة جد عميقة وسرية ومبدعة، إذ تقول إفخارستية الديداخي التي كان يصلي بها الرسل: [كما أن هذا الخبز المكسور كان مبعثراً على الجبال (سنابل القمح) وصار واحداً عندما التأمت أجزاؤه (حبوب القمح)، هكذا فلتكن كنيستك مجموعـة مـن أقاصي الأرض للدخول إلى ملكوتك.] (الديداخي 4:9)

 ولم تكن هذه الصورة الإبداعية المدهشة، التي كانت في ذهن التلاميذ في تصور سنابل القمح المبعثرة كيف صارت في أيديهم خبزة واحدة يقدمونها أمام وجه الله كجسد يسوع المكسور عنهم، لم تكن هذه الصورة من فراغ أيها القارئ اللبيب! أفليس هذا التصور عينه هو هو نفسه الذي جمعه المسيح في ذهنهم بين فركهم لحبات القمح داخل السنابل وأكلها في حضرته مع خبز الوجوه الذي ذكره المسيح بالتساوي تماماً تماماً عندما عيرهم الفريسيون بعملهم هذا في يوم سبت؟

ولا يخفى عليك أيها القارئ أن خبز الوجوه أو خبز الحضرة الإلهية هو الاثنا عشر رغيفاً الذي كان يخبزه اللاويون كل يوم سبت، ثم توضع الأرغفة على مذبح خاص ليظل يتراءى أمام وجه الله في خيمة الاجتماع اليوم كله ثم يأكله الكهنة فقط. فكان هذا تجسيداً نبوياً من التوراة لمجيء المسيح الذي سيقدم جسده ليلة عشاء الفصح الأخير ليأكله الاثنا عشر أمام الله وفي حضرته، ليصبح المسيح خبز الحياة عن العالم كله يوم الجمعة على الصليب! 

فالآن انظر أيها القارئ وتعجب كيف ربط المسيح أكل سنابل القمح يوم السبت بواسطة تلاميذه، بأكل داود ورجاله خبز الوجوه، وكأنه تكميل ما بعده تكميل لمنتهى قصد الناموس والطقس من جهة خبز الوجوه جملة وتفصيلاً. وحينما أردف المسيح القول بأن داود (وهو من سبط يهوذا) أكل خبز الوجوه الذي لا يحل أكله إلا للكهنة فقط (سبط لاوي)، كشف القناع عن آخر صورة لانتقال حق أكل خبز الوجوه (خبز السماء الحي) من سبط لاوي لسبط يهوذا حيث يتركز المعنى في المسيح وكل من اتحد به!!

ولم تبق أنشودة سنابل القمح الإفخارستية وقفاً على ديداخي الرسل بل ظلت الكنيسة تنشرها على المذابح، فنسمعها بحذافيرها في قداس القديس سيرابيون القبطي أسقف تمي الأمديد، إذ يقـول في الإفخارستيا المنسوبة له:

[كما أن هذا الخبز الذي كان فيما سبق مبعثراً على الجبال، قد انجمع ليصير واحداً (خبزة واحدة) هكذا اجمع كنيستك المقدسة من كل جنس وكل أمة وكل مدينة وكل قرية وكل بيت واصنع منها كنيستك الواحدة الحية الجامعة. (قداس القديس سيرابيون) 

وامتدت الأنشودة الإلهية الإنجيلية الخالدة ـ لسنابل القمح ـ حتى تسجلت في الدسقولية الفصل 28:36 فيقول:

[أنت يا ملكنا الضابط الكل، يا الله الأبدي
كما افترق هذا القمح واجتمع معاً وصار خبزاً واحداً
هكذا لتجتمع كنيستك من أقصى الأرض في ملكوتك.] (الدسقولية 28:36)

والآن ماذا يقول القارئ المتعلم الآن بعلم الكنيسة والتقليد الرسولي في أمر أولئك اللاهوتيين الغربيين الناقدين وكيف ضلوا هـم وأضلوا كل شباب متعلمي الغرب بإعطائهم تحليلات ميتة وحقائق مشوهة مبتورة وتأكيدات عقلية غير راسخة على حق المسيح والإنجيل؟ وأعتقد أنه قد آن الأوان أن يرد الشرق على كل لاهوتيي الغرب، ليعود بالعقل الغربي الذي خرج عن الإيمان والتقليد الصحيح إلى حق الإنجيل والمسيح واللاهوت الإنجيلي المبني على التقليد والتراث.

1:6 «وفي السبت الثاني بعد الأول اجتاز بين الزروع. وكان تلاميذه يقطفون السنابل ويأكلون وهم يفركونها بأيديهم».

وقد صار شرح كلمة السبت الثاني بعد الأول مشكلة عند العلماء وشراح الكتاب. ولكن استقر الفكر على أن القول يرجع إلى ذكر السبت الأول الذي هو السبت بعد 15 نيسان عيد الفطير، إذ يحسب أنه سبت السبوت أو السبت الأول. وهكذا ستجد سبت الزروع هذا يقع بين 22 نیسان ، 30 منه وهو السبت الثاني بعد الفصح. وفعلاً في هذا الميعاد يكون القمح قد نضجت سنابله ويمكن فركها وأكل حباتها بسهولة.

«يفركونها»: 

كلمة يقول عنها العلماء إنها مأخوذة من أصلها الطبي بمعنى : يحك بشدة.

ولكن الذي هو ممنوع حقتًا في هذه العملية هو حصد القمح، إذ لا يحل حصاد القمح يوم السبت . فاعتبر الفريسيون أن عملية قطف السنابل من أعوادها هي عملية حصاد بالفكر المحذلق. كذلك اعتبروا أن فرك السنابل بين أيديهم عملية مساوية للطهي أو إعداد الطعام للأكل وهو ممنوع بالناموس، حيث توصي كتب الناموس بضرورة إعداد طعام إضافي قبل السبت لاحتمال وصول ضيف قادم من سفر، حتى لا يضطر إلى طهي طعام له في سبت (8:7 Peah).

2:6 «فقال لهم قوم من الفريسيين: لماذا تفعلون ما لا يحل فعله في السبوت؟»

سؤال الفريسيين يوضح أنهم كانوا يترصـدون من بعيد، فحينما اجتازوا الحقل واجهـوهم بعملهـم المخالف للناموس كما يتربص النمر بفريسته. لأن الفريسيين كانوا يعتبرون أنفسهم حفظة على الناموس ولهـم حـق القبض والعقوبة. فهذا السؤال كان يخفي وراءه روح النقمة. والقديس لوقا هنا ينفرد بجعل الانتقاد والمراجعة موجهة للتلاميذ وليس للمسيح، بعكس ما جاء في إنجيل ق. مرقس وهـو التقليد الأقدم كما سبق وشرحنا في بداية الأصحاح (صفحة 250)، إذ أن ق. لوقا يقدم للكنيسة تقليدها فيما بعد القيامة، حيث المسيح فوق في السماء لا يوجه له بل لنا النقد والاضطهاد والقتل، أما المسيح فمن فوق يرى ويجازي.

3:6 «فأجاب يسوع وقال لهم: أما قرأتم ولا هذا الذي فعله داؤد، حين جاع هو والذين كانوا معه».

المسيح هنا يراجع الفريسيين في أخص خصائصهم وهو تاريخ التوراة التي تحسب مصدر أي شرح للناموس. ومراجعة المسيح كأنه يقول لهم: ألم تقرأوا دروسكم وتحفظوا مخصصات أعمالكم؟ لأنه إن كان داود كسر القانون والناموس حين جاع، فقد حل لتلاميذي أن يأكلوا لما جاعوا طالما الطعام الذي في أيديهم حلال.

4:6 «كيف دخل بيت الله وأخذ خبز التقدمة وأكل، وأعطى الذين معه أيضاً، الذي لا يحل أكله إلا للكهنة فقط؟»

+ هذه القصة مذكورة في سفر صموئيل الأول عندما كان داود هارباً من وجه شاول. والقصة جميلة: «فجاء داود إلى نوب (المدينة التي بها خيمة الاجتماع) إلى أخيمالك الكاهن، فاضطرب أخيمالك عند لقاء داود. والآن فماذا يوجد تحت يدك، أعط خمس خبزات في يدي أو الموجود. فأجاب الكاهن داود وقال لا يوجد خبز محلل تحت يدي ولكن يوجد خبز مقدس … فأعطاه الكاهن المقدس لأنه لم يكن هناك خبز إلا خبز الوجوه المرفوع من أمام الرب لكي يوضع خبز سخن في يوم أخذه.» (1صم 1:21-6)

ومن واقع القصة يفهم تماماً أن داود وجد في نفسه – كمسيح الرب – السلطان أن يتجاوز الناموس وقانون الهيكل وقانون المقدس، فأكل دون أن يرتاب من خبز التقدمة أي خبز الوجوه المقدم أمام وجه الرب الذي لا يحل أكله إلا للكهنة فقط. فأكل وأعطى الذين معه. أيضاً. وعلى هذا القياس من الثقة في النفس وعلوها عن مستوى حدود رباطات الناموس جاء الرد من فم المسيح

5:6 «وقال لهم: إن ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً».

وأيضاً” التي جاءت في نهاية الآية تكشف عما كان يضمره المسيح من إعطاء التبرير لنفسه ولتلاميذه الذين كانوا يأكلون القمح أثناء عبورهم حقل الحنطة. فمعنى كلام المسيح: فإن كان داود رأى نفسه أعلى من قانون الهيكل والخبز المقدس، فإن ابن الإنسان، وهنا المسيح يتكلم عن نفسه، هو ليس مثل داود بل هو رب السبت أيضاً، أي سيد الناموس والمقدس والمحلل.

هنا نجد مفارقة احتزال واضحة بين ما جاء في إنجيل ق . مرقس وما جاء في إنجيل ق. لوقا. فالقديس مرقس يقول: «ثم قال لهم السبت إنما جعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت. “إذا” ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً» (مر 2: 27و28). فهنا في تقليد ق. مرقس يعطي مقدمة جيدة ذات معنى سابق على قرار المسيح أن ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً، إذ يقول المسيح على لسان ق. مرقس إن السبت جعل للإنسان لا الإنسان لأجل السبت، بمعنى أن خلقة الإنسان كانت أساساً ثم خلق له الزمن وفي الزمن حدد له يوماً للراحة، ولكي يجعل الله الراحة ملزمة للإنسان جعل السبت مقدساً له ليجبر الإنسان أن يكف عن العمل فيه. فتقديس السبت الله هو أصلاً لأجل راحة الإنسان. فلما جاء الله في الجسد في شخص المسيا ابن الإنسان فبديهياً أن يكون ابن الإنسان هو رب السبت أي سيداً على كل حدود السبت ومتطلباته. وحرف إذا يفيد الحتمية المنطقية، بمعنى أنه إذا كان الله قد خلق السبت لراحة الإنسان وقدسه ليلزم الإنسان بالراحة، تحتم منطقياً أن يكون المسيح (ابن الله – ابن الإنسان) وهو خالق الإنسان والزمن أن يكون هو رب السبت أيضاً. 

والمعنى الواقعي هنا عميق، لأن المسيح بصفته «رب السبت» أي سيده وخالقه، هو الذي حوله من راحـة الجسـد لراحـة الـروح لما وشد الجسـد القـبـر بعـد الجلجثـة يـوم السبت، ثم قـام فـجـر الأحـد ليمنح الروح الجديدة والحياة الأبدية للإنسان، ليصير يوم ا الأحـد هـو يـوم الرب حقا ـ وليس السبت- لتقديس الروح، عوض راحة السبت الذي كان للحسد الترابي.

6 – شفاء صاحب اليد اليابسة يوم السبت (11-6:6)

(مت 9:12-14) (مر1:3-6)

لما انتهى القديس لوقا في بداية الأصحاح السادس (1-5) إلى هذه الحقيقة الإلهية كعقيدة ثابتة أن «ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً» أراد بعد ذلك أن يبرهن على حقيقتها الإلهية بهذه المعجزة التي يقدمها هنا (6:6-11): كيف بكلمة أمير اليد اليابسة أن تعود صحيحة فعادت صحيحة بأمره للتو حينما مدها الرجل المريض، وذلك تحت ملاحظة ونظر الكتبة والفريسيين يوم السبت أيضاً. وهكذا وبهذا الإصرار أن يركز المسيح على الأشفية المعجزية يوم السبت كان المسيح يقصد بها أن يلفت نظر أصحاب الناموس أن هنا من هو أعظم من السبت والناموس، أو بحسب تعبير المسيح نفسه: «رب السبت» ورب السبت يعني بالتالي رب الناموس، وبالأولى يهوه ذاته واضع السبت والناموس. وفي إنجيل ق. مرقس (1:3-6) بدء التقليد، يضعها المسيح هكذا مكشوفة عارية: «هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر: تخليص نفس أو قتل. فسكتوا. فنظر حوله إليهم بغضب حزيناً على غلاظة قلوبهم» لأن في نهاية هذه القصة في إنجيل ق. مرقس انكشفت ضمائرهم الشريرة القاتلة هكذا: «فخرج الفريسيون مع الهيرودسيين وتشاوروا عليه لكي يهلكوه» ! (مر 6:3). فالمسيح بحق ساءلهم بغضب: «هل يحل في السبت تخليص أو قتل؟» لأنهم أضمروا في قلوبهم أنه إن فعل المعجزة وشفى (خلص) فإنهم يقتلونه. وقد عبر ق. مرقس بصراحة وبلغة يونانية واضحة تخليص حياة أو تخليص نفس yucn sisai لأن الشفاء عند ق. مرقس وعند ق. لوقا بالأكثر هو تخليص أو فعل خلاص. وسوف نراها تتكرر في إنجيل ق. لوقا (50:7) في قصة المرأة الخاطئة وفي (48:8) في قصة المرأة نازفة الدم، وفي (لو 19:17) في قصة الأبرص السامري، وفي (لو 42:18) في أعمى أريحا، إذ أوضح ق. لوقا فيهم جميعاً فعل الخلاص المساوي والسائد على فعل الشفاء. وإذ ركز هذا الفعل في السبوت كانت نبؤة مسيحية عن الخلاص الذي سيتم بموت المسيح ودفنه يوم السبت والذي قام منه فجرالأحد مبرهناً حقاً وبالحقيقة أنه رب السبت، رب الراحة الحقيقية بالخلاص الأبدي.

أما في بقية القصة التي جاءت واضحة عند ق. مرقس، التي يذكر فيها بوضوح في (مر 6:3) أنهم تشاوروا ليقتلوه في السبت إن فعل هذا الخير، أي أتتم فعل الشفاء أو الخلاص للنفس! يشرح ق. لوقا تأثير المعجزة على نفوس الفريسيين فيقول: «فامتلأوا حمقاً وصاروا يتكلمون فيما بينهم ماذا يفعلون بيسوع.» (لو 11:6)

والملاحظ في إنجيل ق. لوقا أن المسيح في بداية خدمته كما في (31:4-37) يصنع الأشفية يوم السبت دون أن يكون هناك تربص أو محاولة للانتقاد الشديد، فكانت قوة المعجزة تغطي على كسر السبت. ولكن بتكرار هذا الأمر بدأ الكتبة والفريسيون يتربصون له ليأخذوا عليه خطأ كسر السبت، وجعلوها بعد ذلك إحدى الركائز في اتمامه بتغيير العوائد لتقديمه للصلب. وقد زاد هذا التربص لدرجة أن بعض العلماء يعتقدون أن قصة الرجل ذي اليد اليابسة هي من صنع الكتبة والفريسيين وأنهم أحضروا الرجل ذي اليد اليابسة بتدبير سابق لامتحان المسيح.

6:6 «وفي سبت آخر دخل المجمع وصار يعلم. وكان هناك رجل يده اليمنى يابسة».

«وفي سبت آخر»:

مربوطة بالآية الأولى في الأصحاح (1:6) «في السبت الثاني بعد الأول» وهي محاولة لربط الرواية بالحوادث المتشابهة وخاصة كسر السبت ومنازعة الفريسيين. أما ق. مرقس فهو يعتبر هذه القصة التي وردت هنا مع التي وردت في قصة أكل السنابل أنهما حدثنا في نفس يوم السبت. والذي أضافه ق . لوقا على قصة الرجل ذي اليـد اليابسة أنهـا اليد اليمنى، وأن لا حياة فيها بمعنى أنها عديمة الحركة والعصب لا يعمل فيها أي ضامرة، والتي جعلت صاحبها يحسب فاقد حركة اليد اليمنى، الأمر الذي جعل المسيح يتحنن عليه ويعطيه الشفاء الذي يغير وجه حياته كلها، والتي اعتبرها المسيح حالة خلاص نفس” أي فتح الطريق بين قلبه والله! وهنا نبتدئ نحن أن ننظر إلى معجزات الشفاء التي صنعها المسيح في ذلك الزمان، والتي يصنعها معنا حتى الآن، أنها تتم على مستوى خلاص النفس وليس سعادة الجسد؛ بمعنى أن هي بمثابة فتح قلب الإنسان على الله ليقبل عطية الإيمان بالمسيح لنوال الحياة الأبدية. وهنا أيضاً نود أن ننبه أذهان شعبنا القبطي الذي انـحــرف بتقليــــــده الإنجيلــي الأصيل وذهب معجزة الشفاء يطلـب الشفاء بقلب معلق بأسماء قديسين سواء أحياء أو منتقلين أن هذا يحسب انحرافاً في الإيمان وخسارة في النتيجة لا تعوض، فحتى لو شفي الإنسان الذي يتعلق بأسماء قديسين فهذا يحسب شفاء جسدياً وليس خلاصاً روحياً، يزيد الإنسان إعجاباً وإيماناً بالقديسين وليس إيماناً بقوة المسيح على خلاص النفس. فالقديس مهما علت قدرته لا يمكن أن يزيد عمله عن الشفاعة، ولن تزيد شفاعة قديس عن التوسل، ولكن المسيح هو الذي يعطي الشفاء (بدون شفاعة أو بشفاعة، إذ يتحتم أن نؤمن بأن المسيح هو الشفيع الأعظم أمام الله) على أساس واحد هو خلاص النفس، حيث ينفتح القلب على الله لتمجيد المسيح والالتصاق به.

7:6 «وكان الكتبة والفريسيون يراقبونه هل يشفي في السبت، لكي يجدوا عليه شكاية».

من روح هذه الآية يستشف القارئ أن الكتبة والفريسيين هم الذين أحضروا هذا الإنسان المعوق وأجلسـوه أمام المسيح وجلسوا هـم مـن بعيـد يراقبونه. إنها نصب شباك أتقنهـا أعـداء المسيح حتى الصليب. ولكن شكراً لله، فأعمال الكتبة والفريسيين السلبية الحاقدة تحولت كلها بقوة المسيح إلى أعمال خلاصية وإيمانية وتعليمية ذات قيمة عظيمة جداً. وأصبحت كخطوات وعلامات على طريق الحياة، وعلى أساسها كتب الإنجيل وتمت في النهاية نصرة المسيح وارتفاعه إلى السماء فاتحاً لنا نحن المؤمنين به طريقاً جديداً، بجسده المذبوح والإيمان به، حتى إلى الأقداس. فهم منذ البدء أرادوا قتل المسيح والمسيح أراد خلاص الذين يؤمنون به. والذي حدث هو أنهم نجحوا في النهاية في قتله فعلاً حسب ما أضمروا، وهو نجح في تكميل الخلاص الذي أضمره للذين آمنوا ويؤمنون به.

والعجيب أنه في كتاب تعليم الفريسيين المدعو “يوما Yoma  مصرح عمل الشفاء للمريض إذا كان مدنفاً للموت أو إذا كان هناك عملية ختان أو ولادة. وهذه كلها تفيد أن حياة الإنسان وخلاصه أعلى من السبت وتدعو لكسره. ولكن يبدو أنه حتى على مستوى علمهم الذي كانوا يعلمون به. لم يكونوا على مستوى العدالة والمنطق السليم في الحكم على أعمال أشفية المسيح التي كان يقصد فيها فعلاً حياة وخلاص الإنسان. 

8:6 «أما هو فعلم أفكارهم، وقال للرجل الذي يده يابسة: قم وقف في الوسط. فقام ووقف».

القديس مرقس يزيد على قول ق. لوقا أنه عرف أفكارهم بأنه «نظر حوله إليهم بغضب حزيناً على غلاظة قلوبهم» (مر 5:3). هذا يكشف لنا أن معرفة المسيح بخطايا القلوب ليست على مستوى المعرفة وحسب، بل وتمتد إلى الفعل الذي ظهر هنا أنه غضب وحزن معاً. غضب علينا وحزن في نفسه!!

+ «لأننا قد فنينا بسخطك وبغضبك ارتعبنا، قد جعلت أثامنا أمامك، خفياتنا في ضوء وجهك. لأن كل أيامنا قد انقضت برجزك، أفنينا سنينا كقصة. أيام سنينا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة وأفخرها تعب وبلية، لأنها تقرض سريعاً فنطير.» (مز 90: 7-10) 

الشيء الذي يغيب عن جميعنـا هـو أن المسيح هو هو جالس في السماء يتفحص قلوب محبيه والمؤمنين به، يغضب على حماقات نفوسنا ويحزن على غلاظة قلوبنا.

وفي هذه القصة نجد المسيح يرد عملياً على ما أخفوه من مؤامرة فيأمر الرجل بأن يقف في الوسط. وهكذا يبدأ بأخذ المبادرة بالرد على خبثهم ويقتحم ظنونهم ويكمل عمله الذي جاء من أجله. فخطط الأشرار لا تمنع المسيح من أن يكمل رحمته.

9:6 «ثم قال لهم يسوع: أسألكم شيئاً: هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص نفس أو إهلاكها؟»

والآن يقدم المسيح للغاضبين المترصدين لأخطاء المسيح سؤالاً منطقياً يقوم على بديلين: هل في يوم السبت المقدس يحل عمل الخير أو فعل الشر؟ هذا بديل ويماثله: تخليص نفس أو إهلاكها؟ وباليونانية تأتي : خلاص نفس ” حيث “نفس” هنا هي ترجمة الكلمة الأرامية : nepas (نفس) وتعني الشخص أكثر منها “الحياة” (لا 30:23؛ عد 11:35)، حيث sîzw تعني الخلاص أكثر الشفاء، أي خلاص الإنسان من الموت. ولكن من فم المسيح المخلص فهي على المستوى البعيد تعني الخلاص من موت اللعنة. وهذا يكشف عن صفة السبت التي قصدها الله . من جهة خير الإنسان وخلاصه القائمة في عنصر المحبة. 

ووضع المسيح بالنسبة للرجل ذي اليد اليابسة ليس كوضع الناموس أو الناموسيين ومعهـم الكتبة والفريسيون الذين يقفون أمام صاحب اليد اليابسة وقفة العجز والصمت، إذ ليس لهم اختيار أن يعملوا الخير أو الخلاص بالنسبة لليد اليابسة. أما المسيح فهو قادر أن يعمل الخير والخلاص. أما الناموسيون والكتبـة والفريسيون فـهـم غـيـر قـادرين علـى عـمـل الشـفاء أو الخلاص يـوم السبت، ولكـن قادرين على قتل المسيح أي قتل الخير والخلاص. وعدم القدرة على عمل الخير عموماً يوم السبت معناه ترك المتألم يتألم وهذا هو الشر عين الشر. بل وإزاء الخير والخلاص الذي عمله المسيح ليابس اليد يوم السبت لم يقو الكتبة والفريسيون أن يبقوا صامتين، فكان يمكن أن يحسب لهم الصمت خيراً، ولكنهم تحركوا ليهلكوا يسوع! فأثبتوا أن الناموس على أيديهم لم يحتمل عمل الخير والخلاص والحياة يوم السبت ولكنه قادر فقط على عمل الشر وإهلاك النفس. وهذا كشف لعوار الناموس وكل من يتحيّز له تحيزاً أعمى.

10:6 «ثم نظر حوله إلى جميعهم وقال للرجل: مد يدك. ففعل هكذا. فعادت يده صحيحة كالأخرى»

هنا وبهذا العمل في هذا الموقف كان يتحتّم أن يتهلل كل إنسان على الأرض، ويعطي المجد لله الخالق الذي يعتني بخليقته حينما يفسد منها عضو ليعيد له صحته بأحسن مما كان. فالعمل عمل خلقي خالص ويتحتّم أن ينسب الله وحده! لأنه ليس طبيب ولا قوة في الوجود بقادرة أن تعيد إلى اليد الضامرة التي فقدت كل عناصر الحيوية صحتها إلا الله وحده. هنا كان يتحتم أن يولد الإيمان بالمسبح أنه حقا ابن الله وأنه مسيا الخلاص والحياة، وعصر الأشفية والعجائب وإعادة الإنسان إلى قلب الله. ولكن عوض الإيمان عند الكتبة والفريسيين ولد الحقد وغلظة القلب وشهوة القتل.

11:6 «فامتلأوا حمقاً وصاروا يتكالمون فيما بينهم ماذا يفعلون بيسوع»

أخذ ق. لوقا آية ق. مرقس وأعاد صياغتها بلغته حيث لم يذكر دور الهيرودسيين الذي أعطى لتقليد ق. مرقس الأصالة والقدم للنص، مع أن ق. لوقا لم يغب عنه عداوة هيرودس للمسيح إذ أنه ذكرها في (31:13). ولم يتماد القديس لوقا في المؤامرة التي اتفقوا عليها. ولكن من مجرى الحديث لم يكن في استطاعتهم عمل شيء، وظل المسيح يعمل كما هو.

 

( ج ) تعاليم المسيح لتلاميذه (12:6-49)

بعد ما قدم لنا ق . لوقا صورة عامة عن خدمة المسيح، وأوضح العلاقة المتوترة التي تربطه بمقاوميه من الكتبة والفريسيين، بدأ يقدم عينة من تعاليم المسيح لتلاميذه مبتدئاً بكيفية دعوتهم للرسالة (12:6 16)، وبعدها يصف حال نزوله من الجبل بعد أن أكمل اختيارهم، حيث كان في انتظاره حشد متزاحم من كافة الكور المحيطة يطلبون الشفاء لمرضاهم (17:6-19). ولكن وسط أعمال أشفية المسيح لم يكف ق. لوقا عن ذكر تعاليم المسيح لتلاميذه عن واجبات الرسالة التي دعاهم إليها. 

ويرى العالم إيلليس أن ق. لوقا إنما يحذو في وصفه حذو سفر الخروج لما صعد موسى على الجبل ليتكلم مع الله ويستلم الناموس، ثم نزل ومعه الناموس ليقدمه للشعب كما جاءت في (خر (34,32:19)

ولكن يرى عالم آخر وهو شورمان أن وصف ق. لوقا جاء صورة طبق الأصل من إرسال المسيح لتلاميذه قبيل ارتفاعه، بعد أن علمهم ليكرزوا للكنيسة في العالم كله.

1 – دعوة التلاميذ الاثني عشر (12:6-16)

(مت 10: 1-4) (مر13:3-19)

واضح هنا أن المسيح ألقى عظته على الجبل (20:6_49) مباشرة بعد دعوة تلاميذه وأنه وجهها خاصة لتلاميذه، فهم المقصودون بالمساكين، مع أن جمهور الشعب كله كان حاضراً. ويؤكد هذا ق . لوقا هكذا: «ورفع عينيه إلى تلاميذه وقال: طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله، طوباكم أيها الجياع الآن … الباكون … إذا أبغض وإذا افرزوكم وعيروكم …» أما عند ق. متى فلم يكن الكلام موجهاً للتلاميذ مما أعطى الإيحاء لكل الوعاظ أن يستخدموا العظة على الجبل ليطبقوها على جميع الناس: «ففتح فاه وعلمهم قائلاً: طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات. طوبى للحزاني، لأنهم يتعزّون . …» (مت 2:5)، مع أن ق. متى نفسه بعد قليل بدأ يواجه التلاميذ أنهم هم المقصودون بهذا الكلام هكذا: «أنتم ملح الأرض … أنتم نور العالم … فليضئ نوركم هكذا قدام الناس …» (مت 13:5-16). وما كان يخص التلاميذ حينئذ هو ما يخص الكنيسة كلها الآن.

ولكن ميزة ق. لوقا بصدد تعيين الاثني عشر عن باقي الأناجيل أنه اهتم بوضع حادثة صعود المسيح إلى الجبل وكيف قضى الليـل كلـه في الصلاة قبل البدء في تعيين التلاميذ وإلقاء عظة التكريس على التلاميذ والشعب معاً. وهنا كانت عين ق. لوقا مسلطة على كيفية اختيار الكنيسة للخدام، فهو يمثل التقليد المتأخر عن ق . مرقس وق. متى في كيفية تعيين المسئولين عن الخدمة. وهذا يحسب للقديس لوقا لمحة إبداعية في تقليد الكنيسة فيما بعد القديس مرقس. فإن كانت عين ق. مرقس في تقليده الكتابي الكنسي اللاهوتي مسلطة منذ البدء، منذ أول آية حتى آخر آية على يسوع المسيح ابن الله”؛ فعين ق. لوقا سلطت منذ البدء على قيام الكنيسة وتاريخها وتسليمها التقليد الأول بكل تدقيق ليرفع معرفة الكنيسة والشعب إلى مستوى الدقة التاريخية واللاهوتية والتقليدية معاً.

12:6 «وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي. وقضى الليل كله في الصلاة لله

هذه اللفتة المباركة في قصة اختيار التلاميذ الاثني عشر بقيام المسيح بالصلاة طول الليل على الجبل وحده يمتاز بها إنجيل ق. لوقا، وتنقص عند ق. مرقس وعند ق. متى. أما عادة المسيح في الصلاة على الجبال فنراها واضحة في (لو 28:9 و37:21؛ مر 46:6). وكأن الجبال بارتفاعها وهدوئها قريبة من الله .

وقول ق. لوقا بتشديد أن الرب أمضى الليل كله في الصلاة يعتبر أصل التقليد الكنسي في إقامة طقس سهر الليل في بعض الأيام داخل الكنائس، وطقس السهر عند الرهبان في قلاليهم. وواضح أن طقس سهر الليل يلتزم بطول الليل كله، حيث يحول بنو النور ظلام العالم إلى نور الحياة. هكذا نسمع عن تسبحة نصف الليل في طقس الصلاة. وتسبحة نصف الليل عند الرهبان تبدأ بالقول: “قوموا يا بني النور لنسبح رب القوات”، حيث يقدمون تسبيحهم كذبائح مقدمة على المذبح الســــم ن ثـمـــــار شـــــفاهم المعتــــر كـــــذبائح شــر مقبولـة تـدخل إلى عظمــة الآب السمائي مع رائحة ذبيحة الجلجثة.

وقد أخذت الكنيسة المرتشدة بالروح القدس طقس سهر طول الليل قبل تعيين الاثني عشر كتقليد كنسي في رسامة الأساقفة والبطريرك اقتفاء بتدبير المسيح من أجل كنيسته.

كما التجأت الكنائس والأديرة إلى إقامة صلوات السهر طول الليل في الضيقات والملمات التجاء إلى الله الآب والمسيح، رافعة أمرها لتنال تدخلاً سريعاً من عند الرب. وقد عاينا وشاهدنا ونشهد بقوة هذه الصلوات والاستجابة السريعة والإعجازية التي أكملها المسيح معنا في ظروف متعددة خرجت منها الكنيسة منتصرة .

وإيماننا بأن مسیح الجبل الساهر الليل بطوله لا يزال قائماً هو هو ساهراً على كلمته ليجريها وعمله في وسط السنين يحييه. وقد أوصى الرب بالسهر والصلاة: «اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة» (مت 41:26)، «طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين.» (لو 37:12)

13:6 «ولما كان النّهار دعا تلاميذه، واختار منهم اثني عشر، الذين سماهم أيضاً رسلاً»

واضح أن عدد التلاميذ عموماً كان كبيراً، ربما سبعين أو أكثر، وهؤلاء دعاهم واختار منهم اثني عشر. وبهذا المعنى أيضاً ذكر ق. مرقس كيفية اختيار الأثني عشر الذين أرادهم. ويظن من سياق الكلام أن بقية التلاميذ نزلوا من الجبل وبقي المسيح والاثنا عشر وحدهم. وواضح أن المسيح عيّن الاثني عشر بطريق الاختبار الشخصي وهي طريقة الله منذ البدء (عد 16: 5و7).

وكون المسيح سمى تلاميذه رسلاً، فذلك لتوضيح عملهم بالنسبة للمسيح، بمعنى أنهم سيبقون مع المسيح ثم يرسلهم  للتعليم وإخراج الشياطين. وهذه هي ميزتهم عن بقية التلاميذ. وفي إنجيل ق. لوقا وحده نسمع أن المسيح نفسه سماهم رسلاً. ويعتقد أن لقبهم كرسل ذكر أولاً بعد القيامة، أما تحديد الرسل ليكونوا هم “الاثني عشر” بالتعريف كاصطلاح قائم بذاته فجاءت بعد ذلك.

ويلاحظ أن اللقب المعروف بالعبري Seliha والذي تنطقه الكنيسة القبطية سليح وتدعو به الرسل بالرسل السليحين فلا تعني أكثر من إنسان يرسل”. فهي ليست ذات اعتبار فني إنما تعني أن الرسل هم المعتبرين ممثلين للمسيح الذي أرسلهم بصفة خاصة.

والملاحظ من جهة تلميح ق. لوقا للتقليد الكنسي التاريخي أنه يحدد هنا بدء قيام الكنيسة على أساس الرسل باعتبارهم الاثني عشر ليوضح فيها عملية استمرار خدمة المسيح على الأرض بتعيين الاثني عشر وإرسالهم، حيث إرساليتهم شملت جميع الأمم. وهذه لفتة بديعة من ق. لوقا.

16-14:6 «سمعان الذي سماه أيضاً بطرس وأندراوس أخـاة. يعقوب ويوحنا. فيلبس وبرثولماؤس. متى وتوما. يعقوب بن حلفى وسمعان الذي يدعى الغيور. يهوذا أخا يعقوب، ويهوذا الاسخريوطي الذي صار مسلماً أيضاً».

إنجيل ق. مرقس (16:3-19) إنجيل ق. متى (2:10-4) إنجيل ق. لوقا (14:6-16) سفر الأعمال (13:1)
«وجعل لسمعان اسم بطرس

ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخا يعقوب، وجعـل لهـمـا اسـم بوانرجس أي ابني الرعد. وأنـــــــدروس وفيلبس
وبرثولماوس ومتى وتوما، 
ويعقوب بن حلفي وتداوس وسمعان القانوي،
ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه»

«الأول سمعان الذي يقال له بطرس وأندراوس أخـوه، يعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه
فيلبس وبرثولماوس، تومـا ومتى العشار،
يعقوب بن حلفي ولباوس الملقـب تـداوس، سمعـان القانوي،
ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه» 

«سمعان الذي سماه أيضاً بطـرس وأندراوس أخـاه يعقوب ويوحنا

فيلبس وبرثولماوس، متى وتوما

 يعقوب بن حلفى وسمعان الـذي يدعى الغيور، يهوذا أخـا يعقـوب ويـهـــوذا الإسخريوطي الذي صـار مسلماً أيضاً»

«بطرس
يعقوب ويوحنا
وأندراوس وفيلبـس  وتومـا وبرثولمــاوس

ومتى ويعقـوب بـن   حلفى وسمعان الغيور ويهوذا أخو يعقوب

من جهة ترتيب الأسماء نجد ق. لوقا يختلف عن ق. مرقس بوضع أندراوس ثانياً بعد بطرس، وهذا هو الوضع الطبيعي لأنه أخوه، وهو بذلك يتبع ق. متى. كذلك نجده يحذف تداوس الذي ذكره ق. متى تحت اسم لباوس أيضاً، ويضع أخيراً يهوذا أخا يعقوب الذي لم يذكره لا ق . مرقس ولا ق . متى.

والغريب أن هذه الأسماء تختلف قليلاً عـن التي جاءت في سفر الأعمال (13:1) مع أن واضع الاثنين هو ق. لوقا وذلك من جهة ترتيب الأسماء فقط. ومن الملاحظ أن سمعان يأتي في بداية القائمة في الأربعة مواضع.

ولكن حاول ق. لوقا أن يخفف من أسلوب ق. مرقس في ذكره لاسم بطرس بأن سمعان جعل له اسم بطرس فذكر أن المسيح سماه أيضاً بطرس، وبقي ق. لوقا يسميه سمعان فقط حتى (8:5) حيث ذكره سمعان بطرس، وبعد ذلك صار يعطيه اسم بطرس فقط. ولكن في 31:22 و34:24 عاد يذكره باسم “سمعان”.

وواضح أن الاسم الذي أعطاه المسيح لسمعان “Kepha كيفا” كان تأكيداً لدوره في وسط الاثني عشر كما ذكرها ق. متى: الأول سمعان”. واسم كيفا أوكيفاس أي الصخرة، التي رآها المسيح أنها تصلح أن يضع عليها الكنيسة باعتبارها الإيمان الذي نطقه ق. بطرس: «أنت هو المسيح ابن ا الله الحي.» (مت 16:16)

أما الاسم الثاني أندراوس فهو مرفق باسم أخيه بطرس، ولو أن في سفر الأعمال وفي إنجيل ق . مرقس أيضاً نجد اسم أندراوس يأتي بعد اسمي يعقوب ويوحنا ابني زبدي ليأخذ ترتيبه حسب الأهمية. فبطرس ثم يعقوب ثم يوحنا ثم أندراوس. ولا يعود ق. لوقا إلى ذكره إلا في سفر الأعمال (13:1)، مع أنه ذكر في إنجيل ق. مرقس (3:13) وفي إنجيل ق. يوحنا (41:1و45، 8:6، 22:12).

واسما يعقوب ويوحنا أخيه يعطيهما ق. لوقا بدون العودة إلى نسبهما إلى أبيهما وبدون إعطائهما اسم بوانرجس الذي اختص به إنجيل ق. مرقس فقط. وق. لوقا يذكر يعقوب قبل يوحنا باعتباره الأكبر سناً ويجمعهما مع بطرس كثالوث منتخب من المسيح لمرافقته دائماً: «بطرس ويعقوب ويوحنا»

ولم يعتن ق. لوقا أن يذكر أسماء التلاميذ اثنين اثنين كما في إنجيل ق. متى وسفر الأعمال، بل ذكر كل واحد في الوضع اللائق به.

أما فيلبس وبرثولماوس فيأتيان معاً، وفيلبس يبدو شخصية بارزة كمـا هـو في إنجيل ق. يوحنـا (43:1_48، 7-5:6، 2:12و21، 8:14 إلخ). أما برثولماوس فلا نجد له أي دور في الأناجيل غير أنه يظهر في إنجيل ق. يوحنا في الأصحاح الأول باسم نثنائيل (يو 45:1-51 و2:21)، إذ أن في الأناجيل قد نجد للرسل أكثر من اسم. متى وتوما أخذهما ق. لوقا عن ق. مرقس ولكن لا أحد منهما ذكر في إنجيل ق. لوقا بعد ذلك.

أما اسم تداوس فقد حذفه ق. لوقا، وقدم اسم سمعان، أن ق. مرقس يلقبه القانوي واختصارها في ومع الأراميـة qan’anA، دعـاه ق. لوقـا الغيـور ” ويعـني بـه التصاقه بجماعـة اليهـود الـوطنيين الـذيـن صـاروا في مقدمة الحرب مع روما، وكانت هذه الحالة قد تلاشت أيام المسيح ولكن بقيت كمجرد لقب.

يهوذا أخو يعقوب وقد تحقق الاسم في إنجيل يوحنا «يهوذا ليس الإسخريوطي» (22:14). وقد وضعه ق. لوقا في قائمته عوض تداوس عند ق. مرقس، وحركه ق. لوقا ليأتي مع يهوذا الاسخريوطي . وتداوس عند ق . مرقس Qadda…oj هو باليوناني Qeddotoj وبالأرامية …Tadda ولكن ليس على مستوى المعنى ولكن النطق فقط.

وأخيراً يهوذا الإسخريوطي، وكلمة الإسخريوطي يختلف هجاؤها في المخطوطات، وذلك يرجع إلى عدم معرفة النساخ بمعنى الكلمة، والتقليد يعطيها معنى يهوذا الذي من قريوت Kariot وقد تكـون مختصراً لكلمة Sicorius التي تعني قاتل أو ذباح assassin. وقد تكون مجرد تخليق من كلمة seqar وتعني الغاش أو الفالصو The false one . وهذه المعاني كلها تجتمع لوصف الخائن. ولكن المعنى الأكثر لياقة يفيد عديم الإيمان”. وهنا يأتي من بعيد الظل القاتم للآلام.

القيمة العظمى للاثني عشر في الإيمان المسيحي:

يحتل الاثنا عشر في الإيمان المسيحي وضعاً ذا قيمة لاهوتية عظمى، وهذه القيمة اللاهوتية تبرزها الآية: «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية» (أف 20:2). وهنا يحتل الرسل مركز الأساس للكنيسة والإيمان المسيحي عامة، مرتكزين على المسيح نفسه. فالاثنا عشر محسوبون في التقليد الكنسي “الكنيسة الأولى”. وعلى هذا يشكلون لاهوتياً أول صورة لجسد المسيح الأرض بعد المسيح نفسه. فالمسيح لما عين التلاميذ الاثني عشر رسلاً، امتد المعنى في الحال إلى مفهوم دوام بقاء المسيح على الأرض في الاثني عشر، فخدمة الرسل هي امتداد أصيل ولاهوتي لخدمة المسيح على الأرض. وبهذا نلمح في أسرار العشاء الأخير، المحسوب الفصح الأول المسيحي، نلمح سر عطاء المسيح نفسه للاثني عشر، إذ لمها قسم جسده وأعطى لتلاميذه، وكذا الدم، تقبل الاثنا عشر المسيح نفسه كاملاً مذبوحاً: «فمن يأكلني فهو يحيا بي» (يو 57:6). وبذلك ضمن المسيح بقاءه على الأرض في التلاميذ، ومـن يـد التلاميذ أطعمت الكنيسة المسيح نفسه للمؤمنين به مأكولاً على مدى العصور، وعلى هذا نشأ في سر الإفخارستيا الأعظم أن المسيح يعطي جسده ودمه بيده من خلال الأسقف والكاهن، بمعنى أن كل إفخارستيا هي امتداد للفصح في عشاء الخميس. هذا بالإضافة إلى تسليم الاثني عشر النطق بفم المسيح: «الذي يسمع منكم يسمع مني والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني» (لو 16:10)؛ بل وقد حسب المسيح رسله كشخصه : «الحق الحق أقــــول لـكـم الـذي يقبـل مـن أرســـــله (الرسـل يقبلني، والـذي يقبلني يقبل الذي أرسلني.» (يو 20:13)

وهنا يتحتم علينا أن ندرك القيمة العليا للاثني عشر في الإيمان المسيحي، إذ حسبوا في جملتهم كشخص الرب، حاملين صلاحيات تمثل شخص المسيح: «فقال لهم يسوع أيضاً: سلام لكم. كما أرسلني الآب أرسلكم أنا» (يو 21:20). وهكذا ينكشف بقوة أن إرسالية الرسل هي على مستوى إرسالية الله الآب للمسيح، بمعنى أن الاثني عشر هـم إرسالية المسيح للعالم ولهم مواهب وصلاحيات إرسالية المسيح نفسه حتى غفران الخطايا :
+ «ولما قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت.» (يو 20: 22و23)

وهكذا امتد فعل الخلاص والكرازة به ليغطي كل الأرض بواسطة الاثني عشر ثم الكنيسة على مدى الدهور. والعجيب أن القيمة العظمى للرسل تظل على درجتها العظمى في السماء، إذ يقول المسيح إنهم سيجلسون على اثني . عشر كرسياً يدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر (لو 30:22)، بل ونسمع أنهم يشكلون أساسات أورشليم السمائية. بمعنى أنهم كما هم هنا أساس الكنيسة، فهناك هم أساسها بالدرجة الأولى: «وسور المدينة كان له اثنا عشر أساساً وعليها أسماء رسل الخروف الاثني عشر» (رؤ 14:21). لذلك أصبح من مفاخر إيماننا الآن أن نقتني علاقة حب للرسل وتكوين دالة واتصال بهم لتزداد معرفتنا بسر الإنجيل والمسيح.

2 – تجمع الشعب (17:6-19)

(مت 23:4-25) (مر7:3-12)

 هنا يعود ق. لوقا إلى مبدأ الكلام الذي تجاوزه والذي يأتي في إنجيل ق. مرقس (7:3-12) أي قبل اختيار الاثني عشر، ويصيغ ق. لوقا الكلام باعتباره بدء العظة، موضحاً أنه كان يوجد مع التلاميذ جموع أخرى كثيرة من الشعب لتسمع العظة (1:7). بمعنى أن العظة لم تلق على التلاميذ فقط، مع أن الكلام في إنجيل ق. مرقس يوحي بذلك أي أن المسيح انتهى من كلامه مع الجموع ثم صعد إلى الجبل ودعا الذين أرادهم، وأقام اثني عشر ليكرزوا معه وليرسلهم ليكرزوا (مر 13:3-14).

ويوضح القديس متى باختصار أن المسيح رأى الجموع أولاً، ثم صعد إلى الجبل، ثم تقدم إليه تلاميذه وابتدأ يعلمهم. وهكذا نستخلص من الثلاثة أناجيل اتصال العظة على الجبل بالجموع وبالتلاميذ، ولكن يختص ق. لوقا بالتأكيد على أن المسيح كان في موضع سهل بعد وجوده على الجبل: «ونزل معهم ووقف في موضع سهل هو وجمع من تلاميذه» (17:6). ويزيد عليها ق. لوقا حدوث أشفية لجميع أصناف الأمراض لجميع فئات الشعب الذين تجمهروا. وبعدها بدأ العظة موجهاً إياها نحو تلاميذه.

17:6 «ونزل معهم ووقف في موضع سهل، هو وجمع من تلاميذه، وجمهور كثير من الشعب، من اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيداء، الذين جاءوا ليسمعوه ويشفوا مـن جميع أمراضهم».

واضح أن المسيح نزل من الجبل هو وتلاميذه الجدد الاثنا عشر الذين عينهم رسلاً، إلى حيث كان الشعب قد تجمع وتجمهر من بلاد كثيرة. وواضح أن ق. لوقا يحاول أن يصيغ الكلام على مستوى نزول موسى من الجبل وتقابله مع الشعب (خر 1:32، 7، 15-29:34). والفارق الكبير أن المرضى وحاملي المرضى جاءوا يطلبون الشفاء من طبيب البشرية المقتدر. وقد يكون وصف ق. لوقا للموضع السهل يفيد أنه في سفح الجبل ولا يزال أيضاً عالياً عن مستوى المدن. والمكـان كـان بالقرب من كفرناحوم وقد تجمع معظم تلاميذه . مع جماعات الشعب، ويمكن رؤية ثلاث مجموعات بسهولة: تلاميذه الأخصاء الاثنا عشر وبقية تلاميذه ربما السبعين أو أكثر ومجموعات الشعب من كل المدن، يضاف إليهم المرضى من كل نوع. ويذكر ق. لوقا أن الشعب جاء من كل اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا، ولو أن هذين الموضعين خاصين بالأمم، وقد امتنع ق. مرقس عن ذكرهما وذكر أورشليم.

18:6 «والمعذبون من أرواح نجسة. وكانوا يبرأون».

بينما نجد ق. مرقس يعطي تجمهر هذه الجماهير من المواضع المختلفة إلى كونهم قد سمعوا بما صنعه يسوع، نجد ق. لوقا يقول إنهم: «جاءوا ليسمعوه» وهذه إشارة ذكية ليقدم العظة التي ابتدأها يسوع، مفضلاً التعليم على الأشفية، وهو بهذه اللفتة إنما يحدد أن رأسمال الكنيسة الأكثر أهمية هو في التعليم أكثر منه في السعي للشفاء. الأمر الذي بدأنا بكل أسف نسمع عنه كثيراً في وضعه المعكوس في الكنـــــائس الأخـــرى، خاصـة في الخارج، إذ أصبح التركيز في الوعظ والاجتماعـات على حالات الشفاء أكثر جداً من السمع للكلمة والتعليم. في حين كان هـم المسيح الأول في إجراء المعجزات والأشفية هو لفت النظر لحقيقة الفداء والخلاص الذي جاء ليكملهما عن العالم؛ حتى أن ق . لوقا ـ كما جاء في صفحة 259 أعطى لكلمة الشفاء معنى الخلاص، باعتبار أن الشفاء يخلص من الموت في صورته البدائية الجسدية، ولكن من جهة الروح فشفاء الجسد هدفه الأعظم خلاص الروح. لذلك نسمع كلمة الشفاء متعادلة بوضوح مع اذهب مغفورة لك خطاياك” بالنسبة للإنسان المشلول الذي دلوه من السقف، فحمل سريره وذهب إلى بيته صحيحاً بالجسد مخلصاً بالروح.

لذلك يتحتم على الكنيسة أن تدرك أن عملية شفاء المرضى هي عملية غفران خطايا بالدرجة الأولى، كما نص عليها ق. يعقوب في رسالته: «وصلاة الإيمان تشفي المريض والرب يقيمه، وإن كان قد فعل خطية تغفر له.» (يع 15:5)

فالشفاء والخلاص عند ق. لوقا تعبير واحد باعتبار أن الإنسان أكثر منه جسد. وهذا الأمر روح يظهر أكثر في حالات الذين كانوا معذبين من أرواح نجسة. فالذي يشفى من تسلط الشيطان فهو يبرأ ويخلص بآن واحد.

19:6 «وكل الجمع طلبوا أن يلمسوه، لأن قوة كانت تخرج منه وتشفي الجميع».

كان معروفاً لدى الجميع أن الذي يلمس المسيح أو يلمسه المسيح كان يشفى في الحال. وهنا يعبر ق. لوقا عن هذا السر بأن المسيح كان مصدر قوة فعالة تنتقل بسهولة باللمس تشفي في الحال، ولكن يؤكد ق. لوقا هنا أن بهذه الطريقة شفى الجميع.

وفي الحقيقة يعتبر التعبير الذي عبر به ق. لوقا عن الشفاء بالقوة التي تخرج من المسيح باللمس، يحسب تفسيراً لاهوتياً لعملية الشفاء مبنياً على ما تم مع نازفة الدم: «فقال : يسوع من الذي لمسني قد لمسني واحد لأني علمت أن قوة قد خرجت مني.» (لو 8: 43-48)

وواضح غاية الوضوح أن القوة التي يحملها المسيح هي لاهوته التي إذا تلامست مع. جسد مريض يأخذ كمال صحته في الحال، أو مع جسد مسكون أو ممسوس بالشيطان يخرج صارخاً في الحال. فهي القوة الخالقة والمصححة للخليقة والشافية لها من كل أسقامها.

3 – العظة في السهل (20:6-49)

الجزء الأول من العظة:

( أ ) صنفان من الناس: التطويبات والويلات (20:6-26)

(مت 1:5-12)

تجيء عظة المسيح في إنجيل ق. لوقا مختصراً للعظة على الجبل التي وردت في إنجيل ق. متى (5-7). والمتفق عليه أن الخطوط الأساسية هي واحدة في العظتين، ولكن التي جاءت في إنجيل ق. متى تحمل سمات الإضافات الكثيرة.

 والاختلافات بين نص العظتين – حسب رأي بعض العلماء ـ تعود إلى التغيير في النقل الشفاهي والتغيير في التقليد من إقليم لإقليم، ومن بيئة لبيئة. أما الأساس عامة فهو واحد. والواضح أن ق. متى حظى بمجموعة أكبر من العظات وجمعها معاً. 

ولم يستقر العلماء على تعليل الفوارق ولا استطاعوا أن ينتهوا إلى تحليل ثابت للعظة التي جاءت في إنجيل ق. لوقا، لذلك وجدنا أنه من الأفضل أن نركز اهتمامنا على نص الآية ونشرحها أكثر من الجمع بين الآيات وتقسيم المقاطع. 

20:6 «ورفع عينيه إلى تلاميذه وقال: طوباكم أيها المساكين، لأن لكم ملكوت الله».

بينما نجد المسيح في إنجيل ق. متى يوجه النظر والحديث للجموع، نجد أن النظر والكلام هنا عند ق. لوقا موجه نحو التلاميذ، وسيان فالتلاميذ هم مساكين المساكين فالكل مخاطب .

«طوباكم أيها المساكين»: …Μακάριοι οἱ πτωχοί

“طوباكم” (ماكارييي) تفيد السعادة الخالية من الهموم، وهي تنسب خطأ للأغنياء في نظر الفقراء، وتأتي هنا بمعنى: “يا لسعادة المساكين”. وكلام المسيح ينصب على السعادة الإلهية التي تكون من نصيب المساكين، حيث السعادة الإلهية هي في حقيقتها سعادة الخلاص الذي يكون من نصيب الذين تمسكنوا حقا جوعاً وغرياً واعتازوا ولم يجدوا الكفاف ومدوا أيديهم لقبول الحسنة، راضين، ولكن في المقابل يكونون سعداء حقا فرحين راضين شاكرين، إذ يحشون متأكدين أنهم نالوا النصيب المقابل من الله

‏ ولكن توجد أيضاً كلمة باليونانية أكثر شيوعاً تعني الطوبى وهي Εὐλογητὸς وتعني أيضاً مبارك (68:1)، ومقابلها بالعبري “باراك”، وهي تُستخدم بكثرة وتعني ما يسبغه ا الله على الإنسان من وسعادة وبركة سواء في العطايا الجسدية أو الروحية، ولكنها تستخدم بالأكثر في موضع حرج وهـي مباركة الإنسان الله: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح» (أف 3:1) كنوع من التسبيح والمديح، في حين نادراً جداً ما تستخدم mak£rioj في مباركة الله.

وقد اختلف العلماء في أيهما أصح: ق. متى الذي يقول: “طوبـاهـم أم ق. لوقا الذي يقول : “طوباكم” مخاطباً التلاميذ، ولكن الأغلبية تستحسن ما قاله ق. متى في الثلاث تطويبات الأولى . ولكن يتفق كل من ق. متى وق. لوقا في توجيه الطوبى الأخيرة للتلاميذ (مت 11:5 = لو 22:6). أما الويلات فهي موجهة للمخاطب في كل من ق. متى وق. لوقا.

 «المساكين»: 

والكلمة اليونانية تعني: من هو قد بلغ من الفقر حتى الشحاذة، أي صار معدماً. والكلمة العبرية مشتقة من كلمة AnAh (عناء) أي معاناة الفقر أو الفقر حتى المعاناة. وتُستخدم في المزامير حينما يخاطب بها الإنسان الله بإحساس من هو مسكين معدم فقير، ولكن لا يقف من يتحدث مع الله أنه هكذا فقير ومسكين ومعدم إلا الإنسان التقي. فأصبحت نفس كلمة إنسان مسكين في الأدب العبري تنم عن تقوى وورع باعتباره إنساناً لا يحمل العنف لأحد؛ بل هو فقير ومسكين ومعدم من كل أدوات الجاه والسلطان والعظمة. فهو يدعو إلى الله والله يستجيب لأنه ليس له سوى الله: «أمل يا رب أذنك، استجب لي لأني مسكين وبائس أنا، احفظ نفسي لأني تقي، يا إلهي خلص أنت عبدك المتكل عليك. »(مز 1:86و2)، «من اغتصاب المساكين، من صرخة البائسين الآن أقوم يقول الرب …» (مز5:12)

وهذه الكلمـة لهذه الفئة بالذات “المسكين والمساكين” تدخل في منهج المسيح للخلاص، فللمسكين يأتي الرجـاء مـن قبـل يـهـوه الرب في العهد القديم بواسطة هذا الذي سيمسحه يهوه ليأتي بالأخبار السارة للمساكين: «روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلوب …» (إش 1:61)، «… إلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي.»(إش 2:66)

واضح أن المسكين والمساكين لهم اعتبار في عمل المسيح للخلاص، ولكن ليس على مستوى الاحتكار كفئة تختص بالخلاص، بل كنموذج يقاس عليه اتجاه الله في نجاة الإنسان وخلاصه. والقديس بولس يحوم حول هذا المعنى بنفس القوة والاتجاه: «فانظروا دعوتكم أيها الإخوة، أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء، بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء. واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء. واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود» (1کو 26:1-28). كذلك عرج على هذا المعنى ق. يعقوب أخو الرب: «اسمعوا يا إخوتي الأحباء، أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان، وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه؟»(یع 5:2)

إذن، فمطلع العظة صادق ومتين كأساس بنى عليه المسيح فعلاً الإيمان والكنيسة ككل. فالإنجيل هو البشارة المفرحة لمساكين الأرض ولكن ليس على مستوى فقر المال أو العقل أو الجسد، بل مسكنة الروح وفقر النفس في حضرة الله القوي. والتلاميذ لم يكونوا من فقراء الأرض، بل صيادين من الطبقة الكادحة المتوسطة والغنية أحياناً، فزيدي وولداه كانت لهم سفن وأجراء. ولكن من يقدر أن يقرأ إنجيل ق. يوحنا ولا يقول إن هذا الإنجيلي الفائق في الروح والذي حلق في الأزل والأبد ورأى وكتب تمسكن بالروح وألغى اسم نفسه من كتابه واسم أخيه وأبيه وأمه، واكتفى لنفسه بلقب «من أحبه الرب» فجعل حب المسيح له عوض اسمه وهويته ورأس ماله على الأرض، فاكتسب لنفسه الاضطهاد والنفي. وهكذا بقية التلاميذ نعـرف مسكنتهم عنـدمـا طـاردهم اليهـود وأذلوهم واقتفى أثـرهـم هـؤلاء الحكام والولاة فأعدموهم. وكان المسيح قد سبق وأعلمهم بنصيبهم على الأرض.

والمسكنة بمعنى الفقر الشديد والعوز إلى الله، أي المسكنة والفقر من أجل الله وحبا فيه، هو المؤهل الأكمل لدخول ملكوت الله. ولا يدخل في ذلك معنى الفقر الجسدي المادي وإن كان هذا أيضاً له العوض من الله إن كان على مستوى الشكر والتمسك بالله. فقصة لعازر المسكين ماثلة للعيان، الذي طرح : عنـد بـاب بـيـت الـغـني مضروباً بالقروح، يشتهي أن يشـبـع مـن الفتـات السـاقـط مـن مائدة الغني. هذا يقول المسيح إنه مات وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، فالله يعرف كيف يعوض خليقته إذا أذلت أو فاتها الحظ وذاقت المر والشقاء على يد بني آدم.

ويُلاحظ العالم هـوارد مارشال أن المسيح أعطى الـوعـد بـالملكوت في صورة المضارع  (يكون) بالنسبة للطوبى للمساكين، في حين أن بقية التطويبات جاءت في المستقبل، وهو في الأرامية لازمني، ولذلك أخذ في اليونانية على المستقبل. وهذا يرفع بصيرتنا لندرك أن عطية الملكوت لتلاميذه الاثني عشر جاءت في الحال، وأنهم مارسوا عطية الملكوت في حياتهم بالقدر الذي يؤهلهم للكرازة بالملكوت كشهود عيان. وهذا يرفع من قدر الرسل في وعينا وإيماننا ورجائنا وعلاقتنا وحبنا وتقديسنا لهم، فقـد سـقـونـا كـأس الرب الذي شربوه مـن يـده مرتين (مرة في عشاء الخميس ومرة تحت سيف الجلادين). أقول سقونا من كأس دم المسيح، وهذا سبق تذوق الملكوت كما ذاقوه خلال كلمة الإنجيل، ومن سيرتهم وأسمائهم المرصعة على أساسات أورشليم الجديدة (رؤ 14:21).

ويمتاز إنجيل ق. متى ـ حسب رأي بعض العلماء ـ في موضوع “المساكين” أنه أضاف إلى الكلمة صفتهم “بالروح”، وهي بهذه الإضافة لا تحسب أنها مزيدة بواسطة ق. متى، ولكنه أخذها عن التقليد السائد في أيامه بمعنى أن الكنيسة ناقشت موضوع هؤلاء المساكين كما ناقشناه نحن هنا، وانتهوا إلى حتمية أنهم يلزم أن يكونوا مساكين بالروح، الأمر الذي اختصره ق. لوقا ونسب صفة المساكين للتلاميذ مباشرة. وبهذا تكون قد وقت الشرط الأساسي ليرثوا الملكوت، وهو اتباع الرب بعد أن باعوا وتركوا كل شيء وتمسكنوا لحسابه. ولكن ق. متى بوضعه المساكين في الصيغة العامة بدون تحديد وفي شرط الروح يكون قد أغنى الكنيسة كلها بإمكانية أن يكون كل المؤمنين مساكين بالروح وتلاميذ الرب. ويقول أحد العلماء إنه يبدو أن المسيح وضعها هكذا مرة عامة ومرة خاصة لتلاميذه في موضعين وبهذا يكون قد رجح النص في الإنجيلين. 

21:6 «طوباكم أيها الجياع الآن، لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون».

كون المسيح يجمع مع المساكين الجياع فهو أمر واقعي: «أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك» (إش 7:58)، « إن أنفقت نفسك للجائع وأشبعت النفس الذليلة، يشرق في الظلمة نورك ويكون ظلامك الدامس مثل الظهر، ويقودك الرب على الدوام ويشبع في الجدوب نفسك، وينشط عظامك فتصير كجئة ريا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه.» (إش 58: 10و11)

«الجياع الآن»: πεινῶντες νῦν

واضح في المعنى الأول البسيط أنه جوع الجسد، ولكن على ضوء صوت الأنبياء في العهد القديم يأتي الجوع بالمعنى الروحي أيضاً، حيث يكون هو رغبة عارمة للشبع من الروح والامتلاء من معرفة الرب: « أيها العطاش جميعاً هلموا إلى المياه والذي ليس له فضة تعالوا واشتروا وكلوا، هلموا اشتروا بلا فضة ولا ثمن خمراً ولبنـاً … كـلـوا الطيب ولتتلذذ بالدسم أنفسكم، أميلوا آذانكم هلموا إلي استمعوا فتحيـا أنفسكم.» (إش 55: 1-3)

واضح هنا أن صوت الله ينادي الجياع والعطاش إلى الله والبر والقداسة والحب الإلهي، وهو يدعوهم ليأتوا إليه لأنه سيوزع عليهم مجاناً عطايا ثمينة جداً تشبع روحهم كما من دسم، وتروي نفوسهم كما من لبن وعسل. وهي العطايا التي جاء المسيح ووهبها لنا بالروح القدس من كلمة الحياة والأخبار السارة بالخلاص المجاني والفداء الثمين.

وفي هذه الآية التي جاءت في عظة المسيح: «طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون» رجاء حار حي يبته المسيح في قلوب تلاميذه وقلوبنا، بالنسبة للواقع الزمني الذي نحياه الآن، في جوع روحي عارم نستشعره كلما رفعنا قلوبنا وأعيننا إلى السماء، فنحس أننا في غربة طالت عن وطننا السماوي ولا يسند قلبنا في هذه الغربة إلا فتات لا تشبع ولا تُغني عن جوع. فالمسيح يعزي الجياع إلى الله وإلى النعمة في عظته بأن جوعنا الآن يحسب لنا بالطوبى لأننا نشتهيه شهوة ولا يشبع شهوتنا إلا و وعده الأكيد بالآتي حتماً الذي سيفيض علينا. فمن جاع إلى الله ونعمته هنا فله الطوبى على مستوى من سيشبع هناك حتماً، على وزن قول المسيح: «من يأكلني فهو يحيا بي» (يو 57:6)، بمعنى من يأكلني بالروح هنا بالجسد والدم فسيحيا في ملء شبع المسيح هناك.

«طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون»:

على وزن طوباكم أيها الجياع، فالباكون الآن يبكون لأن عزيزهم غائب، والذي أحبوه ووهبـوا لـه الحياة برمتها هو في سفر: «الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء» (أع 21:3)، وجهه ماثل أمـامـهـم كـل حـين ولكـن كـمـا في ظل أو في مرآة أو في ضباب، كلما اقتربوا إليـه بعـد عنهم، فأصبحت دموعهم هي عزاؤهم لاحتمال حرمان يمارسونه كل يوم وكل ساعة: حبيب وعد بالمجيء وطال الغياب وليس من حبيب آخر يقوى أن يشبع شهوة حبهم، فدموعهم تجري الليل والنهار كنداء صامت تطلب من أحبوه ولا رجاء طالما الزمن قائم وهذا الجسد، فالحبيب وعد برؤيا خارج هذا الزمن وهذا الجسد حيـث تراه الروح رؤيا العـين وتمتلئ منه ، لتـدخل إليــه لتحيـا مـلء فرحه ولتضحك من شدة القربى وشدة الفرح. هذا وعد حبيب لمحبيه وهو ضامن مجيئه كما يضمن الإنسان مجيء الفجر بعد ليل يطول:

+ «لا تغيب بعد شمسك وقمرك لا ينقص لأن الرب يكون لك نوراً أبديا وتكمل أيام نوحك. »(إش 20:60)

+ «لأعزي كـل النائحين، لأجعل لنائحي صهيون لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد وذهـن فـرح عوضاً عـن النـوح ورداء تسبيح عوضاً عـن الـروح اليائسة، فيدعون أشجار البر غرس الـرب للتمجيد.» (إش 2:61و3)

+ «افرحوا مع أورشليم وابتهجوا معها يا جميع محبيها. افرحوا معها فرحاً يا جميع النائحين عليها. »(إش 10:66)

+ «حينئذ تفرح العذراء بالرقص والشبان والشيوخ معاً، وأحول نوحهم إلى طرب وأعزيهم وأفرحهم من حزنهم.» (إر 13:31)

+ «ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم، ويهرب الحزن والتنهد.» (إش 10:35)

+ «بل افرحوا وابتهجوا إلى الأبد في ما أنا خالق لأني هاأنذا خالق أورشليم بهجة وشعبها فرحاً، فأبتهج بأورشليم وأفرح بشعبي ولا يسمع بعد فيها صوت بكاء ولا صوت صراخ.» (إش 65: 18 , 19)

+ «عندما رد الرب سبي صهيون صرنا مثل الحالمين. حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكاً وألسنتنا ترنماً. حينئذ قالوا بين الأمم إن الرب قد عظم العمل مع هؤلاء. عظم الرب العمل معنا وصرنا فرحين. (1:126-3)

+ «لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم، ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية، ويمسح الله كل دمعة من عيونهم.» (رؤ 17:7)

+ «ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت.» (رؤ 4:21)

22:6 «طوباكم إذا أبعضكم الناس، وإذا أفرزوكم وعيَّروكم، وأخرجوا اسمكم كشرير من أجل ابن الإنسان».

هنا يدخل ق. لوقا مباشرة في تطويب التلاميذ إذا وقعوا في الضيق والمعاناة وكل صنوف الآلام. وواضح هنا أنها لائقة أكثر مما سبق لحالة التلاميذ بالذات، مع الوعد بالفرح القادم. وهذه الطوبي هي من واقع رؤيا المسيح المستقبلية بالنسبة للتلاميذ بعد أن يكون هو قد عانى نفس الاضطهاد.

«أبغضكم الناس»: 

وصف لمستوى معاملة المقاومين لأولاد الله: «اسمعوا كلام الرب أيها المرتعدون من كلامه. قال إخوتكم الذين أبغضوكم وطردوكم من أجل اسمي. ليتمجد الرب، فيظهر لفرحكم وأما هم فيخزون »(إش 5:66)، الأمر الذي أشرق على ذهن زكريا والد المعمدان لميا حل عليه روح الرب ورأى مستقبل الخلاص من يد الأعداء: «خلاص من أعدائنا ومن أيدي جميع مبغضينا … أن يعطينا أننا بلا خوف منقذين من أيدي أعدائنا نعبده بقداسة وبر …» (لو 1: 75.74,71)

«أفرزوكم»: 

وتعني العزل بمعنى الإقصاء من شركة الجماعة كنوع من الحرم بعملية اضطهاد منظمة.

«وعيّروكم»: 

وهي التي ذكرها بطرس الرسول بوضوح: «إن عُيرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم. أما من جهتهم فيجدف عليه وأما من جهتكم فيمجد» (1بط 14:4). وهذا التعيير يفهم منه أنه واقع وجهاً لوجه .

«وأخرجوا اسمكم كشرير»: 

وهي عملية إذاعة اسم رديء على الرسل يصيرون بمقتضاه مكروهين ومذلولين بين الناس. وهي صناعة السنهدرين في تلويث سمعة المسيحيين في ذلك الزمان .

وطبعاً كل هذا يدور حول السبب الوحيد الذي يقلق رجال الدين والسنهدرين وهو اسم ابن الإنسان، والكنيسة أخذت تطويب المسيح وسلمته لأولادها الذين يظهرون الأمانة والولاء لابن الإنسان الذي هو ليس بعد على الأرض بل هو في السماء قائم يمارس عمله كما كان على الأرض.

23:6 «إفرحوا في ذلك اليوم وتهللوا، فهوذا أجركم عظيم في السماء. لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء».

«افرحوا في ذلك اليوم»:

«افرحوا»: χάρητε

فرح السلام الذي يملأ القلب والحياة إزاء ما يقدم لكم من عنت واضطهاد وملاحقة وإخراج مـن الجماعة وإعطاء أسماء وصفات رديئة لتهزيئكم.

«في ذلك اليوم»: 

في ذلك اليوم أي حينما يبدأ هذا الاضطهاد والمطاردة وليس في اليوم الأخير.

«وتهللوا»: σκιρτήσατε

 لا تفيد معنى التهليل بمعناه الروحي أي التسبيح الله بالفرح كالتعبير الطقسي، ولكن تفيد الرقص أو بحسب التعبير البلدي “يتنطط من الفرح”، وهو التعبير عن الفرح الفائق عن الحد الذي يجعل الجماعة ترقص معاً رقصة الفرح، ذلك حسب عادة أهل الشام. وقد جاء هذا المعنى في إشعياء هكذا:
+ «فرحاً أفرح بالرب تبتهج نفسي بإلهي …» (إش 10:61)
+ «وكفرح العريس بالعروس …» (إش 5:62)

وقد تم هذا المشهد بالفعل في التلاميذ أنفسهم: «ودعوا الرسل وجلدوهم وأوصـوهـم أن لا يتكلموا باسم يسوع ثم أطلقوهم، وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه (ابن الإنسان).» (أع 41:5)

أما سبب هذا الفرح العظيم والتهليل بالرقص فيذكره ق لوقا بوضوح: «فهوذا أجركم عظيم في السماء» أما هذا الأجر فلم يفصح عنه المسيح، ولكن يبدو أن هذا الأجر سيشعر بها به المتألمون حال ما يتألمون إحساساً واقعياً حقيقياً وكأنه منظور. إذ يستحيل على المتألم والمظلوم والمضطهد والمطرود والمعير باسم المسيح أن يفرح ويتهلل بالرقص إذا لم يستعلن له في لحظات ظلمه وبؤسه هذا الأجر السمائي، حتى أنه بمجرد استعلانه بالرؤيا فقط أو بالانتباه العقلي الداخلي ينشأ هذا الفرح والتهليل العارم. حتى أنه يقال عن ثقة إن الشهيد يدعى شهيداً لأنه حينما يبلغ لحظات الألم الأخير يشاهد الرب نفسه أمامه ماسحاً جروحه وآلامه ومعطيه سلامه، فلأنه يشاهد الرب دعي شهيداً، فهو يشهد ويشاهد معاً. لذلك جاءت كلمة شهيد بالتضعيف أو التكثير مثل فهيم أي كثير الفهم، فهو شهيد أي أكثر من شاهد. يؤيد هذا قول الرب لتلاميذه: «فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلّمون، لأنكم تعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم» (مت 10: 19و20). فإن كان بمجرد أن يسلموا للحكام والولاة يعطيهم الله روحه الخاص ليتكلم فيهم، فماذا يكون وماذا يغطون ساعة شهادة الموت إلا يسوع المسيح نفسه مشدداً وعاضداً ومشجعاً ومعطياً سلاماً وهدوءاً وفرحاً وتهليلاً!! 

«لأن آباءهم هكذا كانوا يفعلون بالأنبياء»:

هنا يرقد في هذه الآية معنيان عظيمان: الأول أن ضريبة الشهادة لله هي الآلام والتعذيب والموت حتماً، سواء كان في العهد القديم أو في العهد الجديد، ولكن النصيب المقابل هو الكرامة والمحد عند الله. أما المعنى الثاني فهو أن التلاميذ المتألمين بسبب شهادتهم للمسيح هم على مستوى الأنبياء العظام في العهد القديم. وبقدر ما عظمت الشهادة عظم الاضطهاد والألم وعظم المحد والفرح بالمقابل. فالصورة الأرضية الزمنية للاضطهاد من أجل المسيح تنشئ واقعاً سماوياً مجيداً تنعكس صورته على المضطهد والمظلوم فتحول آلامه وضيقه إلى فرح وتحليل سمائي. هذا هو وعد المسيح الذي قاله في العظة على الجبل فتحقق على مدى ألفين من السنين بشهادة التاريخ. حتى أن صغار المؤمنين والمؤمنات دوخـوا الملوك والولاة وأقسى الحكام واستهزأوا بعظمتهم الكاذبة وسيوفهم المسلولة. قال الضابط وهو رافع سيفه: «انظر هذا السيف» وهو يلمع في يده لكي يرهب الشهيد، فرد عليه الشهيد: “يا سيدي إنه “بجريدة” (فرع من شجر النخيل) يمكن أن تقتلني!!

24:6 «ولكن ويل لكم أيها الأغنياء، لأنكم قد نلتم عزاءكم».

«ولكن»: πλὴν

هنا يقدم ق. لوقا حرف المضادة لما قبل: «طوبى لكم» فهنا «ولكن» تفيد أن القادم هو العكس.

«ویل»: οὐαὶ

وتفيد حالة الحسرة والخيبة للذين خرجوا من تحت رحمة الله وعنايته بإرادتهم. وهنا المخاطب غائب، لأن المسيح يتكلّم أمام التلاميذ ومن حولهم من ضعاف ومرضى القـوم. والمسيح يخاطب قوماً يظنون أنهم سعداء بغناهم وهم في خطر الحرمان من الله. الأمر الذي تعرضت له القديسة مريم العذراء في نبوتها: «أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين» (لو 53:1). أما لماذا الحسرة على الأغنياء ولماذا صرفهم (بعد الحياة) فارغين؟ يقول المسيح: لأنهم استوفوا أو نالوا جزاءهم، بمعنى أ أن تعب الإنسان وشقاءه في العالم إما لا يجازي عنه في العالم إلا بالحرمان والاضطهاد بسبب اسم المسيح، وإنما يجازي عن تعبه وشقائه في العالم بالمال والغنى والسعادة والراحة والكرامة ويخرج من الدنيا فارغاً.

السؤال الحرج هنا: لماذا يجازى الغني بالحرمان من عطايا الله في السماء؟ الجواب لأن الغنى يوفر للإنسان سعادته على الأرض ولكن ليس مجاناً إنما هو يستخدم طرق العالم ويسترضي الرؤساء بالمال والرشوة والممالأة وعدم ذكر اسم المسيح، ولا مانع من اختلاس حقوق الضرائب وإخفاء أرقام الدخل الصحيحة التي تحسب غشاً وعدم إعطاء قيصر حقه كما أوصى المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله (مر 17:12). ومهما أعطى الغـني مـن مالـه للفقراء والكنائس فلا تحسب عطيـة  خالصة إنما هي جزء من مال اكتسب بدون حق، فهو مال متسخ.

هذا لا يمنع وجود أغنياء حصلوا على أموالهم بالجهد الصادق وبدون رشوة وبلا اختلاس حقـوق ضرائب أو التزامات الدولة الأخرى، هؤلاء هم العظماء في الأرض وفي السماء، وهم كما حسبوا أغنياء في العالم هـم أغنياء في نظر الله وعنده لأن أموالهم كانت أموال الله. أعطوا منها بلا حساب وأفاضـوا على أولاد الله والمحتاجين في كل مكان. ولنـا أمام أعيننـا أمثلـة مـنـهـم رأيناهم وعرفناهم واختبرناهم فوجدناهم رسل رحمة وقديسين في الخفاء.

25:6 «ويل لكم أيها الشباعي، لأنكم ستجوعون. ويل لكم أيها الضاحكون الآن، لأنكم ستحزنون وتبكون».

الويل الثاني للذين يشبعون الآن، والمعنى يجر معه الأغنياء الذين يصرفون أموالهم على الأكل والتنغم بالأطعمة، فهم لا يأكلون أكل الشبع فقط ولكن يفرطون في الشبع فوق المزيد، وإذ يشغلون وقتهم وحياتهم ومالهم في الأكل والتنعم بالأطعمة فقط يضيع منهم حتماً ذكر الله وإشباع الجائعين وتقنين أوقات الصوم. فإعطاء الويل للشباعي يشمل حتماً ما يترتب على الشبع الآن من مهام ومسئوليات تُهمل في الحياة من أجل ملذات الأكل والشبع.

وإشعياء النبي يذكر ذلك ولكن بعد أن ينتهي الشبع ويأتي زمن التعويضات :
+ «لذلك هكذا يقول الرب : هوذا عبيدي يأكلون وأنتم تجوعون، هوذا عبيدي يشربون وأنتم تعطشون، هوذا عبيدي يفرحون وأنتم تحزنون.» (إش 13:65)

أما تفسيرها الروحي بحسب منطق العهد الجديد فهو شبع النعمة وري الروح القدس.

أما الضاحكون الآن فهو ضحك الهزء والسخرية والاستخفاف بأمور الله وأولاد الله وأفكـار الله، وهو ضحك الزهو والكبرياء والاعتماد على المال والجمال والجاه والسلطان والرئاسة والتشفي. فهؤلاء مستقبلهم الذي ينتظرهم هو الحزن والبكاء والعدم والحسرة على عظمة ذوت مع التراب، ومحد وسلطان ورئاسة درسها الزمان وذهبت مع الريح. هؤلاء الذين نالوا الويل هم أولئك المستهزئون الضاحكون لغير ما هو ضحك. ضحكهم ضحك شر وعلى الشر، يسخرون من الحق ورجال الحق، ويستهزئون بالذين تمسكوا بكمالهم المسيحي ولم يرافقوهم في فكر أو عمل، لا يعبأون بآلام الآخرين ولا يشاركون أوجاع الموجوعين. هؤلاء يحسب الله ضحكهم تفريغاً للحياة من مضمونها الرزين، فلا تصبح لهم قيمة عند قياس مصائر الناس وحظوظهم في ملكوته ويُحرمون من مسرات الحق هناك. فلا يجازون إلا بالحسرات والبكاء وصرير الأسنان. فالحياة ليست للضحك الرخيص بل هي امتحان للقلوب والضمائر وفرصة لقياس قامات الناس إزاء الإيمان بالله وتقييم الحق وتقويم الضمائر .

26:6 «ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسناً. لأنه هكذا كان آباؤهم يفعلون بالأنبياء الكذبة».

هذا هو الويل الرابع: وهو من نصيب الناس ذوي الصيت الحسن الذين يلتف حولهم المداحون والممالئون الذين يكيلون لهم ألفاظ التمجيد والتفخيم وألقاب الله كلها تجوز عليهم.

 ويلاحظ هنا قوله «جميع الناس»، فهنا يكشف عن نوعية أصحاب الويل الرابع أنهم رؤساء كبار يدين لهم الناس بالخضوع، كل الناس. فهم يمدحون لأنهم تحت الإرغام وبمقتضى الخضوع اللازم، يمدحون من جميع الذين يمدحونهم صاغرين، ويمجدون علناً ويلعنون سرا. والله يرى أن مديح هؤلاء على مستوى الجميع هو ابتزاز الكرامة واستعباد الرقاب، لأنه لا يمكن أن يمتدح كل الناس بلا استثناء إنساناً إلا إذا كان ذلك تحت الخوف أو التهديد أو الإيذاء. فالحرية تحد من المديح ليبقى للأعمال الجيدة والمعاملة الصالحة، فإذا حدثت محاباة أو سوء استخدام السلطان، فلا ينجو رئيس من النقد والذم إن كانت هناك حرية من حقة، فإذا غابت الحرية ساد الرعب وزاد المديح واختفى النقد البناء. فكأن الله هنا يحد الصيت الحسن والمديح ليكون فقط في محيط العمل الصالح والقدوة الصالحة قولاً وعملاً، ويعطي الفرصة للذم والاحتجاج والنقد البناء إزاء القول أو العمل الفاسد. 

والمسيح هنا يشبه الإنسان، كائناً من كان، الذي يمدحه كل الناس مساقين ومنساقين إما عن جهل أو عن خوف أو عن ممالأة، بمديح بني إسرائيل قديماً للأنبياء الكذبة حيث لعن النبي الكذاب ولعن معه كل من هتف له أو صفق أو كال له المديح. وهكذا بكل بساطة شبه المسيح الإنسان الكبير الذي يمدحه الناس، كل الناس، بلا تفريق بين العمل الخاطئ الذي يأتيه والعمل الحسن، شبهه بالنبي الكاذب الذي فتن به الشعب الساذج الأحمق. «ويل للحكماء في أعين أنفسهم، والفهماء عند ذواتهم» (إش 21:5)، أي أن حكمتهم بشرية وفهمهم فهم ليس من عند الله، الذين أقنعوا الناس أنهم حكماء فيما الله ، وهم ليسوا كذلك، وفهماء فهماً إلهياً وفهمهم ذاتي ترابي، وأقنعوا الناس زوراً أن يمدحوهم وهم ليسوا أهلاً لمديح: «صار في الأرض دهش وقشعريرة. الأنبياء يتنبأون بالكذب والكهنة تحكم على أيديهم، وشعبي هكذا أحب، وماذا تعملون في آخرتها.» (إر 5: 30 و31) 

لذلك كل الذين يمدحون ويهللون للباطل مصيرهم مصير الأنبياء الكذبة وكل المروجين لهم، لأنهم أضـلُوا الشـعـب عـن الحـق والله. والقـول هـنـا ينطبق على الفريسيين. ولكن ق. لوقا عينـه علـى المعلمين الكذبة في الكنيسة. ولهؤلاء يقول يعقوب الرسول: «اكتئبوا ونوحوا وابكوا، ليتحول ضحككم إلى نوح وفرحكم إلى غم» (يع 9:4)، «هلموا الآن أيها الأغنياء ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة. »(یع 1:5)

الجزء الثاني من العظة:

(ب) المحبة والرحمة (27:6-38)

(مت 38:5-48، 2,1:7)

من الملاحظ والمؤكد أنه منذ بدء عظة المسيح على الجبل، كان الشغل الذي يشغل بال المسيح أن يتكلّم عن المحبة التي ينبغي أن تكون عمل التلاميذ الأول. وهذا يتضح من الموضع الذي خصصه للمحبة كقلب للعظة كلها وهو ما جاء في الأصحاح السادس من إنجيل القديس لوقا من الآية (27-31). بدأ المسيح الكلام عن المحبة بداية درامية مذهلة، إذ بدأه بحتمية محبة الذين يضطهدونهم، على أن تقدم المحبة مجاناً وتتبع القاعدة الذهبية أي: «كما تريدون أن يفعل الناس بكـم افعلوا أنتم أيضاً هكذا» (31:6). وبعدها يؤكد المسيح أن مثل هذه المحبة لها الأجر العظيم في السموات ويحتسب هؤلاء المحبّون أنهم أولاد الله. وينبه المسيح أن مثل هذه المحبة التي يضع أصولها وشروطها هي معادلة لمحبة الله لبني الإنسان. وهنا حتم أن لا يدينوا أحداً حتى تصبح محبتهم حقا وفعلاً متساوية بين الجميع، مؤكداً أن المحبة تقدم مجاناً لكي ينال الإنسان ما يقابلها مجاناً بذات القياس «أعطوا تُعطوا» ويا لعجب الرب، فنحن نعطي توافه فانية، وفي المقابل يعطي هو حبا أبوياً خالداً قادراً أن يجدد خلقتنا.

27:6 «لكني أقول لكم أيها السامعون: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم».

هنـا عـودة إلى السامعين الأقربين أي التلاميذ، وهنا تأتي الوصية على مستوى قامة الذي تتلمذ للمسيح وحمل صليبه وسعى وراءه متشبهاً به. وتأتي في إنجيل ق. متى: «وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (مت 44:5)، ردًا على الآية السابقة لها في العهد القديم: «سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك »(مت 43:5). وهذا يكشف مضمون العظـة ككل، فهي منهج العهد الجديد في مقابل الناموس القـديم. وهنـا يظهـر سـلطان المسيح العـالي الـذي يرتفع بسهولة وحـق فـوق الناموس. ولكـن اصطلاح ق. لوقا في توجيه الكلام بالقول: «لكم أيها السامعون»، لا تفيد الواقفين السامعين في لحظة الكلام، بل والغائبين أيضاً وهم في فكر يسوع. ولكن إن كان الكلام موجهاً لتلاميذه فاصطلاح: «أيها السامعون» يفيد في أسلوب المسيح السامعين المطيعين بالعمل، وهو الأقرب إلى المعنى والقصد.

“أحبوا أعداءكم”:

محبة العدو أو المبغض عند المسيح هي محك المسيحية. فالعدو إن عادى أولاد المسيح فطوبى لهم، ولكن عليهم أن يحبوه إن كانوا مسيحيين حقا. وهنا نواجه أكبر علامة تكشف الإنسان المسيحي، وهي محبة الأعداء.

وإذا جمعنا الآيات من إنجيل القديس لوقا التي تنشغل بالمحبة بعد الآية (27)، نجدها:
(32:6) : «وإن أحببتم الذين يحبونكم فأي فضل لكم»
(35:6) : «بل أحبوا أعداءكم …» :
(5:7)«لأنه يحب أمتنا وهو بنى لنا المجمع» بخصوص قائد المائة الذي شفي المسيح عبداً له.
(42:7) : «وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما جميعاً. فقل: أيهما يكون أكثر حبا له» (47:7) : «من أجل ذلك أقول لك: قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً …» (27:10) : «فأجاب وقال: تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك»
(13:16) : «لا يقدر خادم أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو …»

فإذا فحصـنـا أنـواع هذه المحبات كلهـا لا نجدها تمت إلى العاطفة، بل إلى الإرادة الفاعلة والرغبـة الصادقة لعمل ما هو صالح وحق نحو الله والآخرين.

لذلك وعلى هذا القياس، يطلب المسيح أن نحول إحساس العداوة الذي نشعر به من نحو الذين يبدون العداء والنفور والاضطهاد لنا إلى المحبة، حيث وإن صعب أن تكون محبة العاطفة، يتحتّم أن تكون محبة الإرادة، بمعنى تسخير إرادة المحبة لأداء فعل المحبة. بمعنى، إن تعذر علي أن أقبله فعليّ أ أن أمدحه وأرسل له هدية، التي هي أفعال المحبة الإرادية، لا عن رياء بل عن طاعة للوصية؛ وأجامله في ظروفه الصعبة، فتصبح أعمالي تنم عن محبة وليس عداوة، ولا يهم إن هو بادل أعمال المحبة بالعداوة أيضاً، فأستمر أنا في أعمال المحبة لأني لا أطلب أجراً أو نتيجة أرضية من أ أعمال محبتي، ولكن رضا الله وحسب. ولكـن بـدوام ضبط إرادتي لمحبة الأعداء، تظهر فضائل هذه الوصية، فأنتقل إلى المحبة القلبية الصادقة، لأني لا أحسب حساب العواقب أو ردود الفعل.

فالمطلوب أن تبقى المحبة أقوى من العداوة وأقوى من تهديد الموت، لأن مصدر وغاية المحبة هو الله ، والله يتحتّم أن يبقى أقوى من الموت، لأنه معطي الحياة.

وإذا فحصنا وصية المسيح لنا أن يحب الإنسان المسيحي عدوه، نجد أن الوصية في وضعها البشري هي على مستوى الاستحالة؛ فالطبيعة البشرية هي على كل حال طبيعة حيوانية تعمل على أساس الفعل ورد الفعل، فالعداء يقابله عداء بصورة حتمية. فإذا أردنا أن نحول العداء إلى محبة، فهنا يلزم بل ويتحتّم أن نغير الطبيعة ذاتها، فعلى هذا الأساس قال المسيح وصيته. فالمسيح يطلب أن تبادل العداء بالمحبة على أساس أننا نلنا طبيعة جديدة ليست على مستوى البشر، فهي طبيعة روحانية خالدة التي أخذها المسيح بالقيامة من بين ، الأموات، على أنها لن تعود تخضع للموت أو العداوة المؤدية للموت مرة أخرى، فهي طبيعة حية بالله محبة خالدة. بمعنى أن قوة تحويل العداوة التلقائية الطبيعية إلى محبة هي قوة روحية مستمدة من الطبيعة الجديدة التي قام بها المسيح ووهبها لنا، وهي طبيعة سماوية خالدة تستمد صفاتها وقوامها من الله والمسيح، وهي غالبة للموت!

إذن، حينما يطلب المسيح منا أن نحب أعداءنا، فهو يأمرنا على أساس أنه قد سبق ووهب لنا قدراته المجانية من صميم طبيعته هو، لذلك صارت وصية محبـة الأعـداء طبيعته هو، هي المحك الأعظم لكشف حقيقة مسيحيتنا وصدق إيماننا وتحقيق معموديتنا وممارسة تناولنا وانفتاح ذهننا للإنجيل؛ بل وكشف عن مستوى محبتنا للمسيح والآب، ومحبة الآب والمسيح لنا التي انسكبت في قلوبنا. 

وبالتالي فإن محبتنا للأعداء تكشف في الحال عن حقيقة انسكاب محبة الله في قلوبنا بالمسيح يسوع. وهكذا تصبح . هذه الوصية: “محبة الأعداء” أقوى محك عملي للتعبير عن الإيمان المسيحي، وشهادة مقروءة لحالة محبة قائمة بيننا وبين المسيح والله.

وهذا يكشف عن سر عطاء الله الأجر العظيم في السماء، ثم الحصول على التبني الله الذي سيورده ق. لوقا في الآية (35): «بل أحبوا أعداءكم، وأحسنوا وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئاً، فيكون أجركم عظيماً وتكونوا بني العلي، فإنه منعم على غير الشاكرين والأشرار»

لأن محبة الأعداء لا يقوى عليها إلا الله بصفاته المنزهة عن العداوة. إذن، فمحبـة الأعـداء تدخلنا حتماً في محبة الله كمستحقين لها، وهذا يدخلنا في سر البنوة له.

وبنظرة واحدة فاحصة، نجد أن الإنسان المسيحي وإن كان ليس بأعماله قط ينال الخلاص أو الفداء أو التبـي لله، لكنه يحسـب “ابنـاً للعلـي” (35:6) بعمـل واحـد عـجيـب – بحسب وصيـة المسيح ـ أن يحب عدوه بإرادة كاملة واعية متحملة كل الخسارات الباهظة، فإن الرب وعد وعداً صادقاً بأن من يتمم هذه الوصية يكون ابنا له وينال أجراً سماوياً عظيماً. بمعنى  أن محبة العدو هي العمل الوحيد الذي يأتيه الإنسان بإرادته ليرث مواعيد الله ومحبته وبنوته، بل هي العمل الأساسي لنشر ملكوت الله على الأرض.

28:6 «باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم».

«بارکوا»: εὐλογεῖτε

وتعني أن يصلي الإنسان إلى الله ليحدر البركة من الله على لاعنه. أما ما هي البركة في تدبير الله؟  فيمكن إعطاء صورة لها في العهد القديم:
+ «وتأتي عليك هذه البركات وتدركك إذا سمعت لصوت الرب إلهك: مباركاً تكون في المدينة ومباركاً تكون في الحقل، ومباركة تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك وثمرة بهائمك نتاج بقرك وإناث غنمك. مباركة تكون سلتك ومعجنك. مباركاً تكون في دخولك ومباركاً تكون في خروجك. يجعل الرب أعداءك القائمين عليك منهزمين أمامك، في طريق واحدة يخرجون إليك وفي سبع طرق يهربون أمامك. يأمر لك الرب بالبركة في خزائنك وفي كل ما تمتد إليه يدك. ويباركك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك. يقيمك الرب لنفسه شعباً مقدساً كما حلف لك إذا حفظت وصايا الرب إلهك وسلكت في طرقه …،
يفتح لك الرب كنزه الصالح السماء ليعطي مطر أرضك في حينه وليبارك كل عمل يدك …. ويجعلك الرب رأساً لا ذنباً وتكون في الارتفاع فقط ولا تكون في الانحطاط، إذا سمعت لوصايا الرب إلهك التي أنا أوصيك بها اليوم لتحفظ وتعمل.» (تث 28: 2-10و12و13)

هذه هي صورة البركة التي ينبغي أن تملأ ذهننا حينما نطلبها من أجل الذين يلعنوننا، وهي ليست  كثيرة بالنسبة للبركة الروحية التي ننالها نحن من جراء طلبها للآخرين.

«لاعنيكم»: καταρωμένους

الكلمة هنا مأخوذة عن الأصل العبري الذي يفيد الحرمان.

«صلوا لأجل»:

وتأتي هنا بمعنى الشفاعة، حتى لا تأتي على المسيئين أية لعنة من الله أو ضرر. وهكذا نلغي أثر الإساءة.

«يسيئون إليكم»: ἐπηρεαζόντων ὑμᾶς.

+ وتأتي في اليونانية بمعنى يشتم”، وقد استخدمها ق. بطرس هكذا: «ولكـم ضمير صالح، لكي يكون الذين يشتمون سيرتكم الصالحة في المسيح يخزون، فيما يفترون عليكم كفاعلي شر.» (1بط 16:3)

ونحن لو تمعنا الآية الأساسية «أحبوا أعداءكم» والأصول الإلهية التي تعتمد عليها، باعتبار أن محبة الأعداء هي من عمل الإنسان الجديد الروحاني ذي الطبيعة الجديدة المستمدة من روح الله والمسيح، أصبح واضحاً كيف ومن أين يستطيع الإنسان المسيحي أن يبارك الذي يلعنه ويتشفع من أجل الذي يسيء إليه ويشتمه. لأن محبة العدو تهب طاقة روحية متسعة تغطي كل أنواع أعمال الاضطهاد والظلم والإساءة، وبالتالي تحييدها بمعنى إلغاء أثرها.

29:6 «من ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضاً، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضاً».

لم يذكر القديس لوقا هنا ما جاء في إنجيل ق. متى: «من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين »(مت 41:5)، نظراً لأن هذه الوصية تتعلق بالدولة الغاصبة الرومانية التي تمارس أعمال السخرة، لذلك لم يذكرها باعتبارها لا تخص كثيراً قراءه من سائر الأمم.

«ضربك»: 

وهي لطمة الكف أو بقبضة اليد، وهي تصيب الخد. والقديس متى يذكر الضربة التي على الخد الأيمن وهي الأكثر إساءة وإثارة، بينما أسقط القديس لوقا هذا الاتجاه اليهودي لأنه ليس سارياً في الأمم.

وهنا في الحال ينتبه الذهن نحو الذي احتمله المسيح كما جاء في إشعياء: «بذلت ظهري للضاربين وحدي للناتفين، وجهي لم أستر عن العار والبصق.» (إش 6:50)

+ «والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه، وغطوه وكانوا يضربون وجهه.» (لو 63:22و64)

+ «ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفاً، قائلاً: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟»(22:18)

والعدو دائماً يبدأ بلطم الوجه لإظهار الاحتقار والحقد والتحدي. فإذا اعترض الإنسان، يبدأ العدو في إساءة أكبر.

«فاعرض»: 

وهو وضع الخد في استعداد للطمة الثانية، وهذا أشد وأعظم مهانة يقبلها الإنسان على نفسه أكثر وأخطر من المهانة التي يقصدها المعتدي!! والقديس متى يذكرها مخففة نوعاً ما: «فحول له الآخر أيضاً» (مت 39:5). وهنا لا يجد المعتدي الشجاعة لكي يستمر في الاعتداء بسبب قبولنا للطم الخد في هدوء وعدم تحد، بل في رضا كمن يسلم الأمر إلى الله في وداعة.

بعدها يصف ق. لوقا إنساناً مغتصباً أو سارقاً حاول أن يأخذ بالقوة رداءك الخارجي، العباية مثلاً أو البالطو أو ما فوق الملابس . «فلا تمنعه» أي قدم له الملابس الداخلية أيضاً من تحت البالطو، الجاكتة مثلاً، أو ما تحت العباية أي الجلابية . والقديس متى يضعها في صورة خناقة أو مخاصمة للنهب: «من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك …» (مت 40:5)

واضح من هذه الآية أن غرض المسيح في تعريض الخد الآخر هو إظهار نية الإنسان المسيحي أنه يريد أن لا يدخل في المقاومة التي تنتهي بشرور كثيرة، وأنه مستعد للإهانة وليس مستعداً للعراك والخصومة. وتعريضه خده الآخر للضرب هو محاولة شجاعة وجريئة مدفوعة الثمن لجذب الخصم إلى السلام والكف عن الشر، وهذا أقوى ما في هذه الآية، بل وفيها سر السلام للإنسان المسيحي.

والملاحظ في هذه الآيات المتوالية أنها تبدأ بالحركة الداخلية من محبة، والبركة على اللاعنين والصلاة من أجل المسيئين، ولكنها تطورت إلى الحركة الخارجية عند مد اليد بالضرب والإهانة، أو الاغتصاب والقسر والسرقة؛ ولكن في كلا الحالين، إن داخلياً أو خارجياً، يطلب منا أن نكون هادئين محتملين إيجابيين ولا نكون سلبيين. وكل ذلك اعتماداً على أننا أخذنا طبيعة روحية جديدة لا ينبغي أن تنفعل ضد الشر؛ بل هي دائماً منفعلة بالخير والصلاح والحب في أقصى الظروف السلبية. 

لذلك بالرغم من صعوبة هذه الآيات في التنفيذ ظاهرياً، ولكن على مستوى العمل والفعل يجد الإنسان قوة داخلية كنعمة ليست من طبيعته تعطيه الحكمة والاتزان والصبر والاحتمال، بل والحب والصلاة والبذل. بمعنى أن المسيح أعطى هذه الوصايا على أساس أنه سيكون هو نفسه مسئولاً عن تکميلها بإعطاء الإنسان الطبيعة الروحية الجديدة، مع تدفق النعمة وعمل الروح القدس. ونكرر ما قاله المسيح مبرهناً على منهجه الذي وضعه هكذا:
+ «ومتی قدموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون أو بما تقولون، لأن 
الروح القدس يعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه.» (لو 11:12و12)

هكذا أخذ الله على عاتقه أن يدافع عن أولاده في الحرج والضيقة والمواقف الصعبة والمآزق العنيفة، والسبب في هذا التدخل مـن جهـة الله هو أن المسيح جرد الإنسان المسيحي من استخدام الوسائل والأسلحة والقدرات الجسدية والطبيعية، عالماً أن هـذه كلهـا أسلحة ووسائل يستخدمها الشيطان في الشر وهلاك الناس. وعوض ما للجسد والطبيعة أعطى المسيح في داخل الإنسان النعمة والمواهب الروحية ليتقي الشر ويتجنّب كل المواقف التي تأتي منها الشرور المهلكة والخسارة للنفس. والآية التي وضعها الله من مبدأ تعامله مع الإنسان هي القائدة لكل تفكير الإنسان أن: «الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون» (خر 14:14)، وكل من جرب هذه الحقائق فاز بوعد الله وذاق صدقه.

لذلك نحن نوعي القارئ أن هذه الوصايا صعبة وهي مستحيلة التنفيذ إذا حاولنا تنفيذها بقدراتنا الطبيعية، والمسيح كان يعلم ذلك وهو يقولها، ولكنها هي نفسها الوصايا التي تفرق بين مـن هـو مسيحي حائز على التجديد وعمل النعمة والروح القدس، وبين الإنسان الطبيعي وغير المسيحي. من أجل ذلك يتحتم عند تنفيذها الاعتماد الكلي على المسيح والروح القدس، والإيمان بوعـد المسيح العامل فينا والعامل معنا والمرافق لنا مدى الحياة.

30:6 «وكل من سألك فأعطه، ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه».

الجزء الأول من الوصية يبدو هادئاً، فالسائل معروف أنه المحتاج. والمحتاج له حق العطاء الفوري مهما كان، كما يقول المثل العامي: (الحسنة تجوز على راكبي الخيل). لهذا تجيء الوصية بالصورة العمومية : كل παντὶ

ولكن الجزء الثاني من الوصية يبدو مثيراً، فهو يعطي الانطباع أن الآخذ يستخدم القوة أو فرض الإتاوة أو الاغتصاب بدون وجه حق. والمسيح هنا يعطي النصيحة كأنما نحن نعامل طالب الحسنة أو المساعدة، فلا تعامله أو نحاسبه على أسلوبه الخشن أو العدائي، بل نفترض فيه الحاجة أو العـوز؛ فنعطيه، أو نتركه يسلب ما يريد ولا نعـود نطالبه نحن ـ لو كان لنا الحق بالمطالبة، أو القدرة على المحاكمة، أو استخدام القوة لاستعادة المغتصب منا، أو نحسبه ديناً عليه أن يرده؛ بل على العكس نعتبره تماماً كأنه فقد، أو كأنه أخذ منا ما يحتاجه هو فلا نطالبه.

هنا أراد المسيح أن يضع الإنسان المسيحي في موضع صاحب الكنز المفتوح للمحتاج والمغتصب على السواء بدون تفريق، معتبراً أن ما بداخل الكنز يستطيع هو أن يملأه كلما فرغ، فلا حق لنا أن نمنع من يريد أن يأخذ، لأن المال الذي يغتصبه هو أصلاً ليس ملكاً لنا، ولكن نحن وكلاء وحسب. وهذا نسمعه يتم حرفيا أيام الرسل: «وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحـد ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركاً.» (أع 32:4)

نفهم من هذا أن صورة المسيحي الأصلية هي أن ليس له شيء، بل هو من الله يأخذ ويعطي. فإن قال المسيح: «من أخذ الذي لك فلا تطالبه» فهو إنما يحكم الله الذي يتحكم في ماله وليس مالك، وما عليك إلا أن تطيع وحينئذ ستعرف أن ماله لا يفرغ. وهو يعطي الوصية على أساس قدراته وليس على أساس قدراتنا، وبمقتضى سخائه وليس بحسب شخنا ـ وبيني وبينك أيها القارئ العزيز إن كان هو قد جعل ملكوته نهباً يغتصب «ملكوت السموات يغصب، والغاصبون يختطفونه» (مت 12:11)؛ فليس كثيراً أن يجعلنا نحن نذوق ونمارس كيف تُغتصب أموالنا برضانا، لكي نرتفع إلى مستوى اغتصاب ملكوته بسهولة. ويبدو أن بين الاثنين علاقة سرية. 

 

31:6 «وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضاً بهم هكذا».

وهنا يحط المسيح على المبدأ الإنساني الراقي الذي يحسب الوصية الذهبية لكافة البشرية بكل أجناسها وألوانها. أما ق. متى فأخرهـا جـداً ليضعها في الأصحاح (12:7) كـختـام نهائي للجـزء الأساسي من العظة. ولكن عجل بها ق. لوقا لتأتي في هذا الموضع الحساس من ا العظة.

«كما»: 

وهذا الحرف يأتي بالعربية كأصله العبري تماماً، فبالعبرية يقال kama. وإن كان ق. متى يضعها فيما يفيد العطاء: «فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم، لأن هذا هو الناموس والأنباء» (مت 12:7). وقالها المسيح في إنجيل ق. متى تعليقاً على القول: «فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكـم بالحري أبوكم الذي في السموات، يهب خيرات للذين يسألونه» (مت 11:7)، ولكن ق. لوقا يضعها على مستوى السلوك أو التصرف.

وتعتبر هذه الوصية إيجابية للغاية حتى بالنسبة للذين يتعدون علينا ويأخذون مالنا فنبقى نود لهم الخير كما نشتهي أن يعاملنا الناس بالخير. بمعنى أن هذه الوصية تتخطى سلبيات الناس ضدنا، إذ نبقى إيجابيين نحـوهـم بالرغم مـن سـالبيتهم. وباختصار أرادنا المسيح أن نكون إيجابيين دائماً بالرغم من سلبيات الناس. وهذه هي الصورة المصغرة لعمل الله الذي يشرق شمسه على الأبرار والأشرار، ويغدق الخير على الجميع دون تفريق. وهكذا يدخلنا الله بهذه الوصية تحت دائرة خيريته المطلقة، الأمر الذي يعدنا منذ الآن لنحيا في بركاته الأبدية. 

32:6 «وإن أحببتم الذين يحبونكم، فأي فضل لكم؟ فإن الخطاة أيضاً يحبون الذين يحبونهم».

 هنا يعود ق. لوقا ليكمل ما قاله في الآية (27): «أحبوا أعداءكم . حيث يوضح هنا ويفسر معنى وعظمة هذه الوصية الرائدة والخالدة: «أحبوا أعداءكم» موضحاً أنها لا تمت إلى مستوى الخطاة بصلة، بمعنى أنها عمل محبوس ومخصص للمفديين الذين فازوا بغفران خطاياهم وقبلوا ناموس الروح في الإنسان الجديد المولود من الروح القدس وكلمة الله.

وهكذا يكشف المسيح عن هوية محبي الأعداء، إذ أوضح أنها للذين نالوا نعمة مغفرة خطاياهم وقبلوا عطية الله إذ صاروا أولاده، الذين وهبوا أعمال أبيهم السماوي. فصفة المحبة وحدودها عند الخطاة غير المفديين، أي الذين لم يقبلوا الميلاد الجديد، لا تخرج . عن محبة الذين يحبونهم وهي تلقائية حيوانية للطبيعة القديمة؛ أما استطاعة الإنسان أن يحب عدوه فهي مستمدة من روح الله، وتحتس له فضيلة وبرا مكتسباً من بر المسيح، وتكشف في الحال عن عمل النعمة.

ويلاحظ القارئ أن في حالة الخطاة الذين يحبون من يحبونهم بالمثل لا يعتبر ذلك عيباً ولا خطأ، ولكن محبة الأعداء تكشف عن قوة وسر المسيح فينا وتشهد لعمل الله في قلوبنا. فالمسيح هنا يخاطب تلاميذه أن يكشفوا عن نعمة الله فيهم بأن يحبوا أعداءهم، فهذه تُحسب شهادة علنية للتغيير العظيم الذي نالوه بالإيمان بالمسيح وبالتالي شهادة تمجد الله والمسيح.

وقد ألمح إليها ق. بطرس، ولكن في معنى احتمال الظلم بصبر وشكر: «لأن هذا فضل، إن كان أحد من أجل ضمير (مسيحي) نحو الله، يحتمل أحزاناً متألماً بالظلم. لأنه أي محد هو إن كنتم تلطمون (حينما تكونون) مخطئين فتصبرون؟ بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون، فهذا فضل عند الله.» (1بط 2: 19و20)

نفهم من هذا أن الإنسان المسيحي يمجد الله والمسيح إن هو أحب عدوه فعلاً وبالعمل، كذلك وبحسب ق. بطرس إن ظلم واحتمل بصبر وشكر فهذه شهادة علنية تمجد الله والمسيح. وهكذا يصبح سلوك الإنسان المسيحي في الوضع الإيجابي بمحبة الأعداء وفي الوضع السلبي بتحمل الظلم بالشكر، هو سلوك على مستوى الشهادة لتمجيد الله والمسيح. هذه هي الأخلاق للإنسان المسيحي. 

33:6 «وإذا أحسنتم إلى الذين يحسنون إليكم، فأي فضل لكـم؟ فإن الخطاة أيضاً يفعلون هگذا».

 

هذه الآية تأتي على نمط الآية السابقة، بمعنى أن المسيحي له منهج أعلى بكثير من منهج الخطاة، أي الأشخاص الطبيعيين الذين يعيشون بالفطرة، أي بطبيعتهم البشرية البدائية.

«أحسنتم»: 

 وتأتي باليونانية عملتم عملاً صالحاً أو طيباً، ولكنها تأتي في إنجيل ق. متى: «وإن سلمتم على إخوتكم فقط» (مت 47:5)، حيث سلمتم ، وهذه تُفهم على أنها سلام القبلة الأخوية. ولكن ق. لوقا حولها إلى العمل الصالح، لأنه يتعذر بالفعل سلام القبلة للأعداء أو الخصوم وهي عادة يهودية (شرقية عموماً). علماً بأن كلمة «أحسنوا إلى مبغضيكم» في الآية (27) جاءت بمعنى العمل الحسن، لذلك تُرجمت إلى العربية بكلمة “أحسنوا”، فهي تعني العمل الطيب أو الجيد أو الحسن، وليس حسنة الصدقة. 

ولكن فكر المسيح هنا يظهر بوضوح عند ق. متى (20:5)، إذ يقول: «إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات» فهم المسيح الأول بالنسبة للمؤمنين به أن يضمن لهم دخولهم ملكوت الله، وهنا في (مت 20:5) يكشف جيداً أن برّ الإنسان المسيحي لابد أن يتفوق على بر الناموس الذي يتمسك به الكتبة والفريسيون، حيث الناموس يخاطب الطبيعة البشرية في وضعها الحيواني البدائي: «تحب قريبك وتبغض عدوك» (مت 43:5). أما ناموس المسيحي، فهو ناموس روحي يرتقي بأعمال الجسد لتصير أعمالاً روحية مشابهة لأعمال الله، وبالتالي مستمدة منه، حيث يصبح الإنسان العدو أكثر احتياجاً إلى محبة الإنسان وإظهار الأعمال الحسنة والطيبة له، لأن منهج المسيح هو المحبة الباذلة التي جعلت الصليب لها عنواناً ومصدراً ومصبا. فحمل صليب المسيح يحوي حتماً وبالضرورة البذل الكامل دون فحص حبا للجميع بلا تفريق، حيث يصبح حب الأعداء أقوى أفعال الصليب: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.» (لو 34:23)

لذلك ليتذكر الإنسان المسيحي دائماً أنه مطالب بأعمال تدخله ملكوت الله، وليس من بين أعمال الإنسان قاطبة عمل واحد يمكن أن يدخله ملكوت الله مثـل محبـة الأعـداء وتقديم الأعمال الصالحة والحسنة لهم بلا تمييز بين حبيب وعدو، فهنا يقول الكتاب: «فيكون أجركم عظيماً وتكونوا بني العلي . فإنه منعم على غير الشاكرين والأشرار.» (لو 35:6)

34:6 «وإن أقرضتم الذين ترجون أن تستردوا منهم، فأي فضل لكم؟ فإن الخطاة أيضاً يقرضون الخطاة لكي يستردوا منهم المثل».

هذه الوصية لا نجد لها المقابل في إنجيل ق. متى، وتكاد تكون منقطعة الصلة بباقي الوصايا.

«أقرضتم»:

هي عملية إعطاء السلفة بفائدة أو بدون فائدة، ولكن يبدو من روح الآية أنه إقراض بدون فائدة، حيث يترجي الناس عودة القرض كما هو. كما يمكن أن يكون معنى هذه الآية أن الذي يقرض ينتظر من الذي أقرضه أن يرد المثل أو خدمات أخرى موازية، كما كان متبعاً عند اليهود، إذ لا يحل أخذ الربا.

وفي الحقيقة رأينا في عصور المسيحية الزاهرة أن الأغنياء كانوا يقرضون المحتاجين ولا يطلبون إرجاع القرض إلا إذا تيسر حال المقترض، أو ربما لا يستردونها بنوع من المساعدة المستورة.

وها هي هيئات مسيحية وكنائس لا حصر لها بدأت تقدم على مستوى العالم قروضاً ميسرة أو حتى مساعدات لا ترد، وحذت الحكومات الغنيـة حـذو الكنائس والهيئات المسيحية وأصبحت تساعد الجماعات وربما الدول، وذلك كله نتيجة تأصل روح المسيحية والإنجيل في الشعوب الراقية الغنية .

ولا يزال حتى الآن أن بعض الكنائس الغنيـة تقـوم في العالم كله وفي مصر أيضاً ـ إنما في حدود ضيقة للغاية ـ بمساعدة المحتاجين بإقراض قروض لا ترد إلا إذا شاء المقترضون ردها.

35:6 «بل أحبوا أعداءكم، وأحسنوا وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئاً، فيكون أجركم عظيماً وتكونوا بني العلي، فإنه منعم على غير الشاكرين والأشرار». 

وهنا يبرز ق. لوقا فكر المسيح في الآيات السالفة في وصية واحدة إيجابية كختام، وفي النصف الأخير من الآية يكشف ق. لوقا عن الجزء المنتظر لكل الذين يحفظون وصايا المسيح ويتممونها. وبنظرة فاحصة نجد أنه بقدر صعوبة الأوامر الثلاثة: أحبوا أعداءكم، وأحسنوا، وأقرضوا، يجيء الجزاء عظيماً.

ولكن يا للفرق بين صعوبة ما نلاقيه في تتميم هذه الأوامر الثلاثة وعظم الجزاء من الله في السموات، لأنه بقوله: «وتكونوا بني العلي» معناه أن الله سيغمرنا بمحبته الأبوية الخاصة جداً التي تضعنا في الحال في موضع الأبناء. ولكن لا يخفى عنّا سر هذا اللغز، إذ أننا حينما نحب أعداءنا وتحسن إلى مبغضينا ونقرض من يقصدنا دون أن نرجو منه رد القرض، نكون في الحقيقة عاملين عمل الله نفسه مع البشر.

وهكذا يفسر المسيح نفسه اللغز بقوله: «فإنه منعم على غير الشاكرين والأشرار» وهذا يعني أ أن المسيح بإعطائه هذه الوصايا بالرغم من صعوبتها إلا أنها محاولة جادة من جهته تحوي تصميماً أن يؤازرنا في تكميلها بروحه القدوس ونعمته، لكي تظهر في العالم صورة الله نفسه، كيف يتعامل مع الناس؟ الأمر الذي لم يستطع أن يخفيه المسيح كثيراً، إذ في الآية الآتية بعد ذلك يقول: «فكونوا  رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم»

واضح، إذن، أن المسيح جاء ليعطي للعالم صورة كاملة للآب في شخصه، وأعطى تعاليم ووصايا لكي كل من يتممها يصير صورة أيضاً للآب. لذلك فالمسيحية بجملتها هي استعلان الآب السمائي للعالم في شخص ابنه، وفي الذين يؤمنون به، الذين يعطون بحياتهم وسلوكهم صورة للآب السمائي، من فراغ ولا من قدرات بشرية؛ بل لأن الآب صيرهم بالفعل أبناء له في شخص يسوع المسيح.

36:6 «فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم».

«فكونوا رحماء»:

 فعل أمر من كلمتين في اليونانية والعربية أيضاً، ولكن جاءت في إنجيل ق. متى: «فكونوا أنتم كاملين »(مت 48:5)، والقديس يعقوب يصف الله: «لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف »(يع 11:5). وهكذا ينبغي أن تكون لنا صورة الله في تعامله مع الناس. وداود كم تغنى برحمة | الله : الرب رحيم ورؤوف طويل الروح وكثير الرحمة» (مز 8:103). ويبدو أن ق. يعقوب ينقل لنا ما حفظه من مزامير داود. 

وكل تعاليم العهد القديم تشدد على أن الرب يظهر رحمته على شعبه ليتعلم شعبه الرحمة. وعلى مستوى رحمة الله لشعبه ينبغي أن يكون مقياس الرحمة عنـد الشعب، والمسيح يؤكد ذلك في مثـل السامري الصالح: «فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريباً للذي وقع بين اللصوص؟ فقال: الذي صنع معه الرحمـة (وهو المسيح نفسه في المثل). فقال له يسوع: اذهـب أنـت أيضـاً واصنع هكذا» (لو 36:10و37). والعذراء القديسة أنشدت في نشيدها النبوي تمجد رحمة الرب التي تدوم إلى جيل الأجيال لمتّقيه: «ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يثقونه.» (لو 50:1)

وليلاحظ القارئ ربط صفة الله الآب بصفة الله الرحيم”. فالأبوة منبع الرحمة: «فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم (الأبوة) عطايا جيدة (الرحمة). فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه» (لو 13:11)؛ حيث عطية الروح القدس تحسب أعظم مراحم الرب. لأن الروح القدس هو ضمين الإنسان لبنوة الله ودخول الملكوت: «فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم (الأكل والشرب). وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه. بل اطلبوا ملكوت الله، وهـذه كلهـا تـزاد لكـم (لو 12: 30و31)، «لا تخف أيهـا القطيع الصغير، لأن أبـاكـم قد سُرّ أن يعطيكم الملكوت» (لو 32:12): قمة مراحم الأبوة.

وإزاء هذه المراحم الأبوية، فالمسيح يطالبنا أن نكون نحن أيضاً، كأبناء، على نفس المستوى من الرحمة بعضنا لبعض، لإثبات بنوتنا واستعلان الآب الرحيم الذي نعيش تحت رحمته. وإن كان ق. متى بدل صفة “الرحيم ” أعطى كلمة téleioj أي كامل”، فذلك ليصور الله أنه غير ناقص في أي صفة، غير متجزئ أو منقسم، بمعنى كلي الصفة، كلي الحب وكلي الرحمة وكلي الأبوة. فهو في حبه وخيريته ورحمته كلي مطلق، لا حد ولا نهاية لصفاته الأبوية.

وهكذا، فالمسيح يشجعنا أن نكون مثله، فتكون محبتنا غير متجزئة، ورحمتنا على الآخرين متسعة بلا تقسيم تستطيع أن تدخل الجميع وبينهم الأعداء في المحبة والرحمة التي نستمدها من الآب.

وكلمة “كامل” تأتي بالأرامية بمعنى: التام tamim أو ساليم salem. ويعتقد العلماء أن ق. لوقا في هذه الآية أكثر وضوحاً مما جاء في إنجيل ق. متى.

37:6 «ولا تدينوا فلا تدانوا. لا تقضوا على أحد فلا يقضى عليكم. إغفروا يغفر لكم».
(لو 37:6-38) = (مت 1:7و2).

المسيح هنا يعطي أمرين سلبيين: لا تدينوا، لا تقضوا.

«لا تدينوا»:

وهي تأتي باليونانية بمعنى: “تحكم أو تتهم اتهاماً”، والمعنى الباطني أن الشخص أخفق أن يظهر أو يعلن الرحمة نحو من أخطأ إليه. والمسيح هنا يهاجم غياب الرحمة التي سبق التأكيد عليها في الآية السابقة مباشرة، بمعنى أن الآيتين مربوطتين معاً بمعنى واحد. وهذا في نظر المسيح يعني أن الشخص تخطى أصـول الـفـهـم الروحي. ولكـن المسيح هنا لا يدعو إلى الانحلال والفوضى وتسيب الأشخاص المخالفين للعرف والتقليد والأصول المسلمة، ولكنه يضبط مشاعر وإرادة الإنسان المسيحي حينما يخطئ إليه إنسان آخر حتى لا يقضي بنفسه أو ينتقم أو يترك الرحمة الواجبة، وإنما يسلّم القضاء لمن له القضاء، والدينونة لمن له الدينونة، وحينئذ تظهر العدالة ويتم التحقيق الدقيق وتسود الحكمة والمعرفة والفهم بقضاء الله الصحيح.

والمسيح يؤكد وقوع القضاء والدينونة على الشخص الذي يقضي ويدين بنفسه لنفسه، حتى لا يقضي إنسان بقضـاء فـكـره أو يدين بحسب رؤية عينيه. فالمطلوب هو تدخل الله وعنصر الرحمة والعدالة، فلا يظلم إنسان أو يهان بدون حق إلهي.

وهكذا يمتنع نهائياً تعظم أو سيادة الإنسان أو تصلب الرأي على قاعدة فاسدة نفسية أو التعامي عـن حـق المتهم عند الله. وهكذا يضمن المسيح في هذه الوصية عدم الخروج عـن حـدود الرحمة في التعامل، لأن الجزاء بالمرصاد في الدينونة الأخيرة.

أما الجزء الثاني من الوصية فهي عملية توسيع للوصية الأولى، فالدينونة في الجزء الأول من الوصية صارت هنا قضاء، بمعنى الانتقال من مجرد الاتهام الشخصي إلى القطع بقضاء العقوبة.

أما الجزء الثالث من الوصية بحكم التدرج من الأول إلى الثاني فهو يحتم المغفرة. فإن كان ليس من حقنا كمسيحيين أن ندين أو نقضي على الإنسان إذا أخطأ إلينا؛ إذن، فيلزم المغفرة له، حيث إذا بلغناها بقناعة شخصية فإننا تعامل بالمثل عند الله فيما تخطئ نحن فيه إلى الله. وهذه النتيجة توفر للجزء الأول والثاني من الوصية الأحقية، لأنه إن كان علينا في النهاية أن نغفر للإنسان خطأه نحونا على أساس أن مغفرتنـا لـه ستنشئ مغفرة لنا نحن بالتالي مـن جهـة الله؛ حق، إذن، علينا أن لا ندين أو نقضي، وإلا فإننا سندان بالمثل وأكثر، وسيقضى علينا، وستمتنع مغفرة خطايانا. 

وطبعاً المقصود مـن عـدم الدينونة أو عدم القضاء أو مغفرة الخطأ، أن هذا كله محصور في دائرة الأخطاء التي يتورط فيها إنسان ضدنا، سواء بقصد أو بدون قصد مهما كان فيها من مهانة أو خسارة. فهذه يراها المسيح أنها لا تستحق الدينونة ولا القضاء، بل بالحري المغفرة العاجلة. والمسيح لا يستهين بمشاعر من أخطئ إليه ولا يستهين بالغدر الواقع علينا، ولكن عين المسيح على المحبة والرحمة التي تحتمل كل شيء وتصبر على كل شيء حتى نشابه الآب الذي يعاملنا بأكثر من هذا ويغفر لنا كثيراً جداً. والمسيح في النهاية عينه على المغفرة الكلية التي ستكلفه هو آلاماً وأحزاناً وصلباً وتمزيقاً لجسده وموتاً ثمناً لخطايانا الثقيلة جداً. 

إذن، فمن حق المسيح أن يوجه نظرنا بالأقل جدا أن لا ندين ولا نقضي على أحد، بل نسرع في الغفران الذي سنكتسبه من وراء طاعتنا لوصاياه وإيماننا بشخصه. علماً بأن المسيح، ولو أنه أعطي الدينونة، إلا أنه قال: «أما أنا فلست أدين أحداً» (يو 15:8)، وارتضى أن يقضى عليه ويتحمل الصلب والموت لننال نحن البراءة، بل وبره الشخصي مع الغفران والمصالحة مع الله وقبول البنوة والحياة الأبدية.

38:6 «أعطوا تعطوا، كيلاً جيداً ملبداً مهزوزاً فايضاً يعطون في أحضانكم. لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يكال لكم».

آية بعيدة عن الوصايا السابقة الخاصة بالدينونة والغفران، إذ يركز هنا على العطاء السخي، والعطاء السخي يسترد عطاءً الله. وقد وصفها بولس الرسول باستفاضة: «هذا وإن من يزرع بالشح فبالشح أيضاً يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضاً يحصد. كل واحد كما ينوي بقلبه، ليس عن حزن أو اضطرار. لأن المعطي المسرور يحبه الله. والله قادر أن يزيدكم كل نعمة، لكي تكونوا ولكم كل اكتفاء كل حين في كل شيء، تزدادون في كل عمل صالح.» (2کو 9: 6-9)

بهذا يؤكد المسيح للإنسان المسيحي أن الذي يوزع عن سخاء بلا أنانية سوف يلقى من الله نفس السخاء.

وفي الحقيقة، لكي نستمد من هذه الآية قوة وقناعة لانفتاح قلوبنا وضمائرنا وبيوتنا ومخازننا، ينبغي أن نقرأ هذه الآية من الآخر وهي: “تعطوا كيلاً جيداً ملبداً مهزوزاً فائضاً يعطون في أحضانكم”!! وهذا مقابل: “أعطـوا”. فهنا عطاؤنا لم يذكره الله أن يكون سخياً أو فائضـاً بـل “كيلا” وحسب، ولكن في المقابل نتلقى في أحضاننا كيلاً جيداً ملبداً مهزوزاً فائضاً.

والوصف هنا إبداعي! فهو صورة طبق الأصل من إنسان يشتري قمحاً من السوق فيعطي الإنسان الشاري صاحب كومة القمح ثمن كيلة القمح ولكن بزيادة قليلاً، فإذا كانت بثمانين قرشاً أعطاه جنيهاً، فما من صاحب القمح إلا ويملأ الكيلة قمحاً ثم يعزمها بأن يضع فوق الكيلة كمية زائدة (ملبدة)، ثم يهزها هزة معينة فينكبس القمح في الكيلة فتنقص الكيلة، فيعود ويضيف قمحاً آخر حتى يفيض القمح من الكيلة (فائضاً)، فيفتح الشاري حجره ويستقبل الكيلة الفائضة في حضنه فرحاً.

هنا الشاري هو أنت أيها القارئ حينما تسخو بعطائك على المساكين، وصاحب القمح هو الله الذي عوض ما أعطيت أنت، عطاء جيداً ملبداً مهزوزاً فائضاً من النعمة والروح القدس. هنا الوصف والمنظر له سمة أهل الشرق. هذا الوصف جاء في إنجيل ق. مرقس بمنتهى الاختصار: «بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم ويزاد لكم أيها السامعون.» (مر 24:4)

ومحور الجدة في هذه الآيات يدور حول مكافأة الله للذين يتعاملون بالسخاء مع الناس في العطاء، فإن عطاء الله لهـم هـو بأزيد كثيراً جداً بحسب وصف ق. لوقا: «جيداً ملبداً مهزوزاً فائضاً». وهذا يحسب إصراراً من المسيح لكي يشجع أولاده على السخاء في العطاء دون حساب، إغراء منه لكي يسخو هو عليهم فوق العقل بالعطايا السماوية.

الجزء الثالث من العظة :

( ج ) تهذيب النفس الداخلية (39:6-49)

(42-39:6) -14:15.24:10.

ويهتم فيه المسيح بالحياة الداخلية للتلاميذ ليبلغ بالنفس الحالة التي أعطاها الطوبى، التي ألغيت فيها الذات وصارت المحبة فعالة واستحقت المستقبل السعيد عند الله .

والمسيح يبدأ هنا بتصوير النفس القائمة بذاتها معتمدة على إمكانياتها بالعمى، وبالأكثر حينما تنبري لتعليم غيرها وهي على عماها، فالحفرة أو الهاوية مقر الاثنين، وهي تحتاج لمن يعلمها أولاً، وقبل أن تبلغ تمام تعليمها ليس لها أن تدين غيرها (39-42). والذين استطاعوا أن يقبلوا التعليم الصحيح يثمرون ثمراً جيداً، والذين يرفضون التعليم ثمرهم رديء (43-45). فالذي يسمع للمسيح ويقبـل تعليمه يبدأ يعمل به ويكون عمله قوياً متيناً كإنسان بني على صخر، والذي لم يستمع للمسيح ولم يحفظ تعليمه فهو يبني على رمل، ولكن الأردأ هو من يسمع التعليم ولا يعمل به ثم يعمل من نفسه فهو يبني بلا أساس فتأتي السيول وتحرفه وينتهي إلى الخراب .

وكلام المسيح عموماً يلمح إلى التعليم على أيدي معلمين كذبة لهم صورة التعليم ولكن قلوبهم لم تتغير وتتجدد «أعمى يقود أعمى» كما فهمها ق. بولس: «لأني أعلم هذا أنه بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعية، ومنكم أنتم سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم. لذلك اسهروا متذكرين أني ثلاث سنين ليلاً ونهاراً لم أفتر عن أن أنذر بدموع كل واحد »(أع 20: 29-31). لذلك يلمح المسيح أن ينتبهوا ولا يتبعوا تعـالـيـم غـير تعليمه: «من ثمارهم تعرفونهم ـ ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات .» (مت 7: 20و21) 

وهذه قدمها ق. لوقا في (44:6): «لأن كل شجرة تعرف من ثمارها، فإنهم لا يجتنون من الشوك تيناً ولا يقطفون من العليق عنباً. الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح» وهذا كله ينصب على تمييز المعلمين من سلوكهم وأخلاقهم.

39:6 «وضرب لهم مثلاً: هل يقدر أعمى أن يقود أعمى؟ أما يسقط الإثنان في حفرة؟»

يلاحظ القارئ أن الكلام في بدء هذه الآية مقطوع عن سابقه، فيبدو أنه مجموع من مكان آخر ومضاف إلى العظة. ولكن بعد الآية (39) نسمع عن القذى والخشبة في العين. فهذا يعطي الانطباع لماذا قال المسيح: «أعمى يقود أعمى» إذ يبدو أن المسيح يصور المعلم الذي يقود تلميذاً وهو في عينه خشبة لذلك لا يرى نفسه، والمسيح وصفه في المثل بالأعمى” الذي يحاول أن ينير بصيرة الآخرين وهو فاقد البصيرة .

مع العلم بأن المسيح في موضع آخر قد وصف الكتبة والفريسيين بالعميان الذي يقودون عميان والحفرة تنتظرهم (مت 14:15)؛ حيث العمى هو الجهل بالله ومشيئته. وهو هنا يكشف هذا العوار حتى لا يقع فيه التلاميذ، وبالتالي يمتد تعليم المسيح إلى الكنيسة في كل العصور. فالمعلم في الكنيسة إن كان هو غير قادر أن يصلح عيوبه وعيوبه مكشوفة للشعب، صح فيه القول: أخرج الخشبة التي في عينك قبل أن تخرج القذي من عيون الناس.

40:6 «ليس التلميذ أفضل من معلمه، بل كل من صار كاملاً يكون مثل مُعلمه».

صعوبة بالغة وقع فيها العلماء في تفسير هذه الآية في هذا الموضع. ووضعوا لها حلولاً كثيرة : ربما يريد أن يقول إنه يوجد معلم واحد كامل فإذا توافق معه التلاميذ أصبحوا معلّمين؟ أو أنه لا يمكن للتلميذ أن يعرف إن كان معلمه أعمى فإذا كان المعلم هكذا فالتلميذ لن يكون أفضل منه؟ أو أن التلاميذ لا ينبغي أن يتصرفوا غير ما تعلموا من معلمهم ولا يزيدوا عليه شيئاً؟ أو أن التلميذ مهما تعلم فلن يتفوق على معلمه وإنما هو سيردد ما سمعه؟ أو أن التلاميذ ينبغي أن يحترسوا من المعلمين الناقصين الكذبة الذين يحاولون أن يزيدوا على تعاليم المسيح؟ 

ولكن واضح أن المسيح يضع نفسه موضع المعلم الكامل ليكون الحد الرسمي للتعليم في الكنيسة، ولا مزايدة عليه من جهة المعرفة أو التخريج. فيتحتّم أن تؤخذ أقوال المسيح على المستوى الأعلى والثابت التي لا يمكن قبول أي خروج عنها. ويكفي لأي تلميذ يريد أن يتعلم أن يتبع المسيح في تعليمه. ثم يفتح المسيح محـال التـعـلـيـم بـالروح لكـي يبلغ تعليم التلاميذ والكنيسة إلى الكمال المسيحي باعتبار أن ، مستوى المسيح نفسه في التعليم في الإنجيل تحدد بالروح القدس أن يكون على مستوى الكنيسة تماماً، أي على قدر النعمة وقدر انفتاح قلب وذهن المؤمنين للنعمة وليس أعلى من مستوى المؤمنين. فالإنجيل بهذا الاعتبـار هـو كـتـاب الكمال المسيحي المطلوب أن يبلغـه كـل مـؤمن بالمسيح. وبذلك لا يمكن أن تقبل الكنيسة أي ادعاء أن وصايا المسيح وتعاليمه هي فوق مستوى المؤمنين .

وبهذا الخصوص علم المسيح: «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم» (مت 19:11). كما علم أيضاً: «فكونوا أنتم ؟ كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل» (مت 48:5). فمن جهة الاتضاع والوداعة فالروح القدس كفيل بذلك، ومن جهة الكمال فالروح القدس أيضاً هو كفيل بذلك. فالطبيعة الجديدة التي وهبها لنا المسيح بالقيامة من الأموات قادرة بالروح الذي فيها أن تماثل المسيح في اتضاعه وتماثل الآب في كماله، لأن الطبيعة الجديدة أعطيت لنا لنكون بما شركاء المسيح والآب في ملكوته والحياة الأبدية.

41:6 «لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟»

تسير على نهج الآية السابقة: لا تدينوا ولا تقضوا على أحد، لأن من يدين الآخرين على خطأ سيدان على ذات الخطأ، والخطأ حتماً مشترك. فالإنسان هو الإنسان. أما هنا فيجعلها المسيح أكثر وضوحاً وصفاء، إذ قبل أن تعلم وتكشف أخطاء الناس ابدأ بنفسك. وهنا تأتي “لماذا” في الأول للتوبيخ الشديد، فهي أقوى من كيف، فكيف للاستنكار أما لماذا فللتعيير والتوبيخ من أمر واقع.

«القذي»:  κάρφος «الخشبة»: δοκὸν 

الأولى تعني سُريقة صغيرة من شظايا الخشب، ولكن الثانية تأتي باليونانية بمعنى لوح” للتهويل. فالأولى صحيحة يمكن فعلاً أن تدخل العين خلسة، أما لوح الخشب فهو للتهويل، لا يدخل ولكـن للتصوير فقط حيث الاستحالة، وذلك لتضخيم خطأ الناقد ووضعه في موضع الهزأة والسخرية أو التحذي. والتعليم هنا للمسيح امتداد أو تخريج من الأعمى الذي يريد أن يقود ذا العين المطروفة. فالأول لا يرى تماماً أما الثاني فبالكاد يرى الأشباح، وهذا يكشف بجاحة المعلم الفاقد البصيرة حينما يحاول أن يعلم ضعاف البصيرة، أو الناقد الذي ينقد أعمال الناس البسيطة في انحرافها أو خطئها وهو مثقل بأخطاء يجرها وراءه. والقصـد العـام مـن هـذه الآية تنظيـف حـقـل الكنيسة التعليمي من الجهلة ومدعي المعرفة ومن النقد التافه غير البناء على أيدي أدعياء الرؤية وبعد النظر. 

42:6 «أو كيف تقدر أن تقول لأخيك: يا أخي دعني أخرج القذى الذي في عينك، وأنت لا تنظر الخشبة التي في عينك. يا مرائي! أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيداً أن تخرج القذى الذي في عين أخيك».

هنا الكلام بدأ يأخذ شكل نقد الآخرين ومحاسبتهم على الأخطاء، ذلك على مستوى الزملاء أو ربما التدخل في شئون الآخرين بدون لياقة أو كفاءة. والمسيح هنا يقصد تهذيب الجماعة المسيحية لكي لا يأخذ المعلم أو الموجه أو الأب أو الرئيس مسئولية التعليم أو التوجيه أو الرعاية أو تدبير الأمور إلا بعد أن يكون قد بلغ مستوى التهذيب النفسي والخلقي الكامل. والمسيح يقول ذلك وعينه على الكتبة والفريسيين فإنهم هم المعتبرون مرائين عند المسيح، ولكن الكلام موجه للتلاميذ والرؤساء المحيطين به. أي أن المسيح يطلب أن يتنقى الوسط المسيحي أو الكنيسة من المراآة ومحاولة تصيد أخطاء الناس ومحاسبة الناس على الهفوات والتشدد في مسك الأخطاء، والمعلمون أنفسهم مثقلون بالخطايا، مما يضعف روح التقوى وينفر الشعب من التعليم والمعلمين. فالمسيح يطلب أن لا يقرب التعليم إلا الذين طهروا أنفسهم أولاً من العثرات والعيوب .

43:6 «لأنه ما من شجرة جيدة تثمر ثمراً رديا، ولا شجرة ردية تثمر ثمراً جيداً. لأن كل شجرة تعرف من ثمرها. فإنهم لا يجتنون من الشؤك تيناً، ولا يقطفون من العليق عنباً».

في هذه الآية يتحول المعنى من حالة الصحة الجيدة وحالة الصحة الرديئة لنفس الصنف من الشجر إلى النوع، إذ يوجد أنواع أشجار ذات ثمار تؤكل، جيدة، وأشجار لا تخرج ثماراً بل شوكاً.

وانحصر المثل بين الشوك والعليق وهما نوعان من النباتات الفاقدة لأي قيمة، بل وجودهما يبشر بخراب الحقل كله. فالشوك لابد أن يقلع ويحرق والعليق كذلك. فانحصار المثل في هذين النباتين الرديئين جداً يوضح أن الناس الأشرار لا يرجى منهم ثمر على الإطلاق، بل ولا يرجى فيهم إصلاح ولا تهذيب ولا تعليم، فالشوك مهما أعطيته من المخصبات والأدوية النباتية لن يتغير عن صفته الشائكة الشريرة.

ولكن لهذا المثل معنى آخر أكثر قوة وإيجابية: وهو أن الإنسان بقدر النعمة ومستوى الروح والإنجيل يقدر أن يثمر في الآخرين نعمة وذات المستوى من الإنجيل، ومن المستحيل أن يستطيع أن يرفع الآخرين إلى مستوى أعلى من مستواه. فالتينة تثمر تيناً ولا تعطي تفاحاً. فيستحيل على الإنسان أن يوصل إلى الآخرين إلا ذات الثمر الذي نما فيه ونضج. والثمر هنا يشير إلى قدرة التأثير التي يستطيع أن يقدمها، فإذا كانت أخلاقه جيدة فسيجعل المحيط الذي يخدم فيه جيداً.

وبقول المسيح إن الإنسان الصالح يخرج الصالحات من قلبه الصالح، والفم ينطق بما في القلب، هنا دعوة ضمنية هامة جداً، هي محاولة تجديد القلب والحياة وملئه بصلاح الإنجيل وقوة النعمة لتجديد الطبيعة ذاتها التي تثمر حينئذ ثمراً مخالفاً لطبيعتها القديمة الأولى. ونحن كـم رأينا أشراراً تغيروا وصاروا قديسين وقديسات ووعاظاً جدّدوا ألوف وملايين الناس. فتغيير الطبيعة لتغيير الثمر وارد في الإنسان جداً.

45:6 «الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح، والإنسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر. فإنه من فضلة القلب يتكلم فمه».

هنا استقر المسيح على الغاية المطلوبة: وهو التفريق بين الأعمال الصالحة والأعمال الشريرة، ومن أين ينبع كل منها؟ فالشجرة الجيدة المنزرعة في تربة جيدة ونالت من الكرام الصالح العناية اللائقة بها من غذاء وماء ومخصبات وأدوية للعلاج ومواد أخرى لتنمية الصفات الجيدة هذه تثمر ثمراً جيداً. هكذا الإنسان بلغ صلاحه بالفلاحة في الكتاب المقدس واستقى من نبع الروح القدس ومسحته النعمة بأدواتها للشفاء المقدس، وتهذب بحمل الصليب وشارك الرب آلامه، فصحت نفسه واستنار قلبه وتقـدس ضميره، وهكذا تهيأ القلب لكي يخرج أعمال الصلاح كنبع لا يجف ماؤه. أما الإنسان الذي اختار أن يعيش بين عشراء السوء ومارس أعمال الظلمة فانعمى قلبه وفقد البصيرة؛ فأصبحت الحياة الروحية عنده مستغربة غير مستساغة، وانقطع عن الكنيسة وقاطع أصدقاء النور ومحبي المسيح، فسار في طريق السوء وعب من وحل الخطية حتى انسدت ينابيع الحياة، فما عاد قادراً أن يعمل إلا أعمال الشر وهو لا يدري إذ يصير ألعوبة في يد الشيطان.

ومن كلام الإنسان ندرك المخبئات في القلوب، فأولاد الله لا يكف فمهم عن تمجيد صاحب المجد، والأشرار يتنذرون بألفاظ السوء ولا يكفون عن المزاح والاستهتار بقيم الحياة.

والمسيح هنا يضع أمام تلاميذه والكنيسة إلى مدى الأجيال طريق الصلاح وطريق الشرور، والقلب كنز الصالحات أو كنز الشرور، والفم يكشف عما في الصدور .

46:6 «ولماذا تدعونني: يا رب يا رب، وأنتم لا تفعلون ما أقوله؟»

وهنا نأتي إلى الجزء الأخير من العظة (46_49) وهو دعوة للسامعين أن يطيعوا أوامر المسيح ولا يكتفوا بالسماع فقط. وهذه الوصية التقطها ق. يعقوب أخو الرب وسجلها في رسالته: «ولكن كونوا عاملين بالكلمـة، لا سامعين فقـط خـادعين نفوسكم. لأنه إن كـان أحـد سـامعاً للكلمـة وليس عاملاً، فذاك يشبه رجلاً ناظراً وجه خلقته في مرآة، فإنه نظر ذاته ومضى، وللوقت نسي ما هو 1: 24-22). فسماع الكلمة لأنها أوامر إلهية يحسب طاعة حقيقية قادرة أن تقف بحد ذاتها كمعين للإنسان في حياته وخاصة في شدائده. وهنا في هذه الآية يحذر الرب من أن ندعوه ربا ولا نطيع أوامره، فهذا يحسب إنكاراً لربوبيته، لأن في دعوة الرب بالرب” اعترافاً بربوبيته، ثم عدم العمل بأوامره يحسب رجعة أو حنثاً بالاعتراف. وهذه الحالة أصعب وأخطر من أن نسمع الكلمة ولا نعمل بها.

ويلاحظ هنا أن المسيح يكرر يا رب يا رب لكي يؤكد حالة اعتراف به على مستوى تأكيد المجد والكرامة. وربي في الأرامية تنطق mari التي أخذتها اللغة العربية في كافة الترجمات ككلمة تكريم لأي قديس (مار جرجس). وقد أوردها ق. متى هكذا: «ليس كـل مـن يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات» (مت 21:7). بمعنى الإيمان والاعتراف معاً بالمسيح ربا، أو دعاء له بالمجيء الذي تنتظره الكنيسة بفارغ الصبر.

ويلاحظ أن قبول أو طاعة التعليم دون الاعتراف بربوبية المسيح لا قيمة له. واعتراض العلماء على أن المسيح لا يليق به أن يدعو نفسه ربا مردود عليه بشدة، لأن كل أعماله التي كان يعملها هي لتأكيد ليس ربوبيته فقط بل ولاهوته. فهو لا يمكن أن يطالبنا بطاعته دون أن يكشف لنا عن ربوبيته ولاهوته. والتلاميذ لم يكونوا يدعونه رابي كمجرد معلم بل ربا بمعنى الآتي من ا الله: «أنت هو المسيح ابن الله الحي ، »(مت 16:16). ونطقها باليونانية kurie يعبر عن ما هو أعلى من سيد. ويلاحظ أن ما ورد في إنجيل ق. متى في قوله يا رب يا رب يتبعه ما يؤكد علاقته بالله: «يفعل إرادة أبي الذي في السموات»

47:6و48 «كل من يأتي إلي ويسمع كلامي ويعمل به أريكم من يشبه: يشبه إنساناً بنى بيتاً، وحفر وعمق ووضع الأساس على الصخر. فلما حدث سيل صدم النّهر ذلك البيت، فلم يقدر أن يزعزعة، لأنه كان مؤسساً على الصخر».

«كل من يأتي إلي»: 

كانت خدمة المسيح قائمة على دعوة الناس إليه، وهي لا تزال قائمة، فالمسيح حتى هذه الساعة يدعو الناس إليه: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (مت 28:11)، وكل من يلتجيء إليه بالصلاة يكون قد قبل الدعوة، كذلك كل من التجأ إلى الإنجيل.

«ويسمع كلامي ويعمل به»: 

نحن هنا بصدد فن بناء النفس في الحياة المسيحية، حيث يقوم البناء على أساس تعليم المسيح أي الإنجيل والعمل به أي تطبيـق كـلام المسيح أي وصاياه أول بأول. فكـل يـوم يقرأ الإنسان المسيحي الإنجيل ويستوعب وصايا الرب استيعاباً فكرياً وقلبياً بانتباه ووعي حيث الوعي هو انفتاح الذهن لتقبل الحقائق الإلهية. وانطباع الحقائق الإلهية على القلب يرفع من قوة الإدراك فتصبح الحقيقة الإلهية من مذخرات النفس التي تضيئها وتقودها. فتبتدئ النفس تعمل بهذه الحقائق وكأنها أصبحت مرشد ومعلم. ومن هذا ينتج انطباق المعرفة التي أصبحت مذخرة في النفس من القراءة وترديد الآيات على العمل أول بأول وهذا هو بناء النفس يوماً بيوم والنتيجة التي يراها الإنسان في نفسه ويراها الآخرون فيه هي تجديد النفس والفكر لتزداد المعرفة تأصلاً من واقع الخبرة العملية وبعد مدة يظهر البناء الجديد واضحاً أمام الآخرين ويزكيه شدة الالتصاق بالإنجيل والمسيح

هذا هو الذي سمع وحفر وعمق ووضع الأساس راسخاً فينا على أساس الإنجيل والمسيح. ومن . شأن بناء النفس القائم على المعرفة والعمل كخبرة حية من الإنجيل بمؤازرة المسيح أنه لا يهتز أمام التجارب والضيقات التي يسوقها الشيطان والعالم.

وكلمة السر هنا في بناء النفس على أساس الإنجيل والمسيح هي: “حفر وعمق كناية عن السهر والاهتمام والمثابرة على فهم واستيعاب الإنجيل بلا كلل، ثم تطبيق الوصايا والتمسك بكلمة الإنجيل بالعمل في الحياة يومياً بلا كلل.

49:6 «وأما الذي يسمع ولا يعمل، فيشبه إنساناً بنى بيته على الأرض من دون أساس، فصدمه النّهر فسقط حالاً، وكان خراب ذلك البيت عظيماً».

أخطر ما في هذا الجزء المقابل للمثل هو غياب الأساس وهو الإيمان. فالكلام قبل أحسـن قبـول وفهم أحسن فهم، ولكن لم يهتم السامع أو القارئ أو الباحث أن يعمل علاقة بين ما سمع أو قرأ أو ما انتهى إليه من البحث مع الإيمان، فيصبح الكلام وكأنه ليس على رمل فقط كما دونه ق. متى في إنجيله، ولا على سطح الأرض كما دونه ق. لوقا، بل في الحقيقة يكون وكأن الكلام في الهواء أو مجرد الفكر الذي يصور الكلام في الذهن، وسرعان ما ينسى وكأنه سقط سقوطاً عظيماً. لأن الذي لم يبن الكلام على أساس الإيمان يصبح عديم النفع في مواجهة صعاب الحياة والضيقات ومقاومات الشيطان والأعداء، فلا يصمد أمام الهزات العنيفة وينتهي الكلام إلى لا شيء وتكون الخسارة عظيمة حقا.

وأمامنا الآن بحسب شقي هذا المثل عمليتان كبيرتان للغاية حتى نصل بسماع الإنجيل أو قراءته إلى حالة من الرسوخ والثبات:

العملية الأولى: تظهر في الشق الأول من المثل في إنجيل ق. لوقا وهي تتوقف كما قلنا في كيفية السمع أو القراءة ومعنى الحفر والتعميق للكلام ذاته.

العملية الثانية: وهي تظهر في الاثنين وقوامها العمل بما انتفعنا من الإنجيل في الحياة اليومية، أي تطبيق كلام المسيح عملياً في مواجهة الضيقات والتشكيك.

وواضح أن الذي انتفع من كلام المسيح بأن حفر وعمق ووضع الأساس هو الذي سيقوى على مواجهة كل الصعاب.

وبهذا يكون المسيح قد جعل كلامه هو القوة والبناء الثابت الذي يستطيع أن نواجه به كل صعاب الحياة. فمن ذا يغلب العالم إلا من بنى على الإيمان من أقوال المسيح ما يصلح لكل ضيقة وكل مقاومة:
+ «من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن (بكلام المسيح) أن يسوع هو ابن الله.» (1يو 5:5)

زر الذهاب إلى الأعلى