تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 9 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح التاسع

عظة (47) إرسال الاثني عشر 9: 1-15

(لو9: 1-5) ” ودعا تلاميذه الاثني عشر، وأعطاهم قوة وسلطانا على جميـع الـشياطين وشفاء أمراض، وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى. وقال لهم: لا تحملوا شيئا للطريق: لا عصا ولا مزودا ولا خبزاً ولا فضة، ولا يكون للواحد ثوبان. وأي بيت دخلتموه فهناك أقيموا، ومن هناك اخرجوا. وكل من لا يقبلكم فاخرجوا من تلك المدينة، وانفـضوا الغبار أيضا عن أرجلكم شهادة عليهم “.

إنه قول صادق، أن ثمر الأعمال الصالحة مشرف، لأن أولئك الذين يريدون أن يحيوا حياة نقية وغير مدنسة علي قدر ما هو ممكن للناس، هؤلاء يـزينهم المسيح بمواهبه، ويمنحهم مكافأة مجزية وافرة، لأجل كل أعمال تقواهم، يجعلهم شركاء مجده، لأنه من المستحيل أن يكذب ذاك الذي يقول: “حي أنـا، يقـول الرب، فإني أكرم الذين يكرمونني” (1صم 2: 30 سبعينية).

وكبرهان بسيط وواضح علي هذا فإني استشهد بصحبة الرسل القديسين، المجيدة والنبيلة، انظروا كيف أنهم ممتازون جدا ومتوجون بما هو أكثر مـن المجد البشري، أي بهذه العطية الجديدة التي منحها لهم المسيح. لأن الإنجيـل يقول ” إنه أعطاهم قوة وسلطانا علي جميع الشياطين وشفاء أمراض”. وأرجو أن تلاحظوا أيضا، أن كلمة الله المتجسد يفوق مستوي البـشرية، وهـو يـشع بأمجاد اللاهوت، لأنه أمر يفوق حدود الطبيعة البشرية، أن يعطي سلطاناً علي الأرواح النجسة لكل من يريد، كما أنه يعطيهم القدرة أيضا أن يـشفوا مـن الأمراض أولئك المصابين بها، لأن الله، ينعم علي من يريد بقوات مـن هـذا النوع، لأن الأمر يتوقف علي قراره هو وحده ـ أن يتمكن أي أشخاص بحسب مسرة الله الصالحة ـ أن يعملوا معجزات إلهية، وأن يكونوا خداما للنعمة التي تُعطى من فوق، وأما أن يعطوا للآخرين، نفس الهبة التي من فوق التي وهبت لهم، فهذا أمر مستحيل تماما. لأن جلال ومجد الطبيعـة الفائقـة لا يوجـدان جوهريا في أي كائن من الكائنات، سوي في تلك الطبيعة نفسها، وفيهـا هـي وحدها. لذلك فسواء كان ملاك أو رئيس ملائكة أو من العروش والسيادات، أو السيرافيم، التي هي أعلي في الكرامة، فينبغي أن نفهم هذا بحكمة، أنهـم فـي الواقع يملكون سلطانا متفوقا بواسطة القدرات المعطاة لهم من فـوق ممـا لا تستطيع اللغة أن تصفه ولا الطبيعة أن تمنحه، ولكن العقل يمنع كلية الافتراض أنهم يستطيعون أن يمنحوا هذه القدرات لآخرين. أما المسيح فهو يمـنـح هـذه . القدرات لكونه الله، وذلك من ملئه الخاص، لأنه هو نفسه رب المجـد ورب القوات.

إذن، فالنعمة الممنوحة للرسل القديسين هي جديرة بكل إعجاب، ولكن سخاء المعطي يعلو علي كل مديح وإعجاب، لأنه يعطيهم كما قلت، مجده الخـاص فالإنسان ينال سلطانا علي الأرواح الشريرة ويخفض الكبرياء، الذي كان عاليا جدا ومتعجرفا، أي كبرياء الشيطان، يخفضه حتى العدم، يخفضه حتى العـدم، ويجعل شره عديم الفاعلية، وبواسطة قوة الروح القدس وفاعليته يحرقـه كمـا بنار، ويجعله يخرج مع أنات وبكاء من أولئك الذين كان متسلطا عليهم. ومـع ذلك ففي القديم قال الشيطان: ” إني سأمسك كل العالم في يدي كعش وساجمعه كبيض مهجور، وليس هناك أحد يهرب مني أو يتكلم ضدي” (إش 10: 14 سبعينية). لقد فقد (الشيطان) الحق، إذن، وسقط من رجائه، رغم أنه كان متكبرا ومتهورا ومتبجحا علي ضعف الجنس البشري، لأن رب القوات أقام ضده خدام الكرازة الإلهية. وهذا قد سبق التنبؤ به حقا بواسطة أحد الأنبياء القديسين حينما تكلم عن الشيطان والمعلمين القديسين: “ألا يقوم بغتة مقارضوك ويستيقظ مزعزعـوك تكون غنيمة لهم” (حب 2: 7)، فكأنهم يمزقون الشيطان بـالهجوم علـي مجـده ويجعلون الذين سبق فاقتناهم، غنيمة، ويأتون بهم إلى المسيح بواسطة الإيمـان به، لأنهم هكذا قد هجموا علي الشيطان نفسه. لذلك فكم هي عظيمة تلك القـوة التي أعطيت للرسل القديسين بقرار المسيح مخلصنا جميعا وإرادته لأنه أعطـاهم قوة وسلطانا علي الأرواح النجسة “.

وبعد ذلك، تبحث أيضا، من أين هبطت هذه النعمة الرائعة جدا والممتـازة جدا، علي جنس البشر. إن كلمة الله الوحيد، قد توج الطبيعـة البـشرية بهـذا الشرف العظيم بواسطة تجسده، متخذا شكلنا، وهكذا بدون أن يفقد أي شيء من أمجاد جلاله ـ إذ أنه عمل أعمالا تليق بالله، رغم أنه كما قلت، قد صار مثلنا من لحم ودم ـ قد سحق قوة الشيطان بكلمته الكلية القدرة. وبانتهاره لـلأرواح الشريرة، فإن سكان الأرض أيضا صاروا قادرين علي أن ينتهروهم.

وأما كون ما أقوله صحيحا فهذا ما سأسعى لكي أجعله أكيدا، لأنه، كما قلت، فإن المخلص كان ينتهر الأرواح النجسة، ولكن الفريسيين إذ فتحـوا أفـواههم عليه ليسخروا من مجده كان عندهم من الوقاحة أن يقولوا: ” هـذا لا يخـرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين” (مت 12: 24). ولكن المخلـص وبخهـم لأنهم تكلموا هذا كأناس ميالين إلى السخرية ويتخذون موقفا معاديا منه وهـم عديمي الفهم تماما، لذلك قال لهم: “إن كنت ببعلزبول أخرج الشياطين فأبناؤكم بمن يخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم” (مـت 12: 27)، لأن التلاميذ المباركين، الذين كانوا أبناء اليهود حسب الجسد، كانوا سبب رعب للشيطان وملائكته، لأن التلاميذ حطموا قوة الشيطان باسم يسوع المسيح الناصري. وأضاف ربنا قائلا: ” ولكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبـل علـيكم ملكـوت الله” (مت 12: 28). لأنه، إذ هو ابن الآب الوحيد، وهو الكلمة، فقد كان ولا يزال كلي القدرة، وليس هناك شيء غير مستطاع لديه. ولكـن، إذ قد انتهـر الأرواح الشريرة حينما صار إنسانا فإن الطبيعة البشرية صارت ظافرة فيـه، ومكللـة بمجد إلهي، لأنها صارت قادرة علي انتهار الأرواح الشريرة بقـوة. لـذلك، فبطرد المسيح للشياطين، قد أقبل علينا ملكوت الله، لأنه يمكننـا أن نؤكـد أن القدرة علي سحق الشيطان رغم مقاومته هي کمال الجلال الإلهي.

لذلك، قد مجد المسيح تلاميذه بإعطائهم سلطانا وقوة علي الأرواح الشريرة وعلي الأمراض. فهل كرمهم هكذا بدون سبب، وهل جعلهم مشهورين بـدون سبب مقنع؟ ولكن كيف يمكن أن يكون هذا صحيحا؟ لأنه كان من الضروري، ومن الضروري جدا، وقد أقيموا علانية خداما للبشارة المقدسة، أن يكون لهـم القدرة علي عمل المعجزات، وبواسطة ما يعملونه، يقنعون الناس أنهم خدام الله، ووسطاء لكل الذين تحت السماء، داعين إياهم جميعا إلى المصالحة والتبريـر بالإيمان، وموضحين طريق الخلاص والحياة التـي بواسطته. لأن الأتقيـاء والأذكياء يحتاجون عموما إلى التفكير فقط لكي يجعلهم يدركون الحـق، أمـا أولئك الذين انحرفوا بدون ضابط إلى العصيان، فهم غير مستعدين أن يقبلـوا الكلام الصحيح من ذلك الذي يسعى أن يربحهم لأجل منفعتهم الحقيقية، مثـل هؤلاء يحتاجون للمعجزات وعمل الآيات، ورغم ذلك فنادرا ما يصلون إلـى اقتناع شامل.

لأننا كثيرا ما نجد أن كرازة الرسل قد ازدهرت بهذه الطريقـة، فبطـرس ويوحنا مثلاً، أنقذا الرجل الأعرج الذي كان يجلس عند باب الهيكل الجميل، من مرضه، فدخل الهيكل معهما وقدم شهادة للعمل العظيم الذي حدث معه. وتكلما بكل جرأة عن المسيح مخلصنا جميعا رغم أنهما رأيا أن رؤساء مجمع اليهود كانوا لا يزالون مشحونين بعداوة مرة ضد المخلص، لأنهما قالا: “أيها الرجال الإسرائيليون، ما بالكم تتعجبون من هذا، ولماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي ؟ إن إله إبراهيم، وإله سحق، وإله يعقوب، إله آبائنا، مجد فتاه يسوع، الذي أسلمتموه أنتم وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس وهو حـاكم بإطلاقه، ولكن أنتم أنكرتم القدوس البار، وطلبتم أن يوهب لكم رجـل قـاتـل. ورئيس الحياة قتلتموه، الذي أقامه الله من الأموات ونـحـن شـهود لـذلك. وبالإيمان باسمه شدد اسمه هذا الذي تنظرونه وتعرفونـه، والإيمـان الـذي بواسطته أعطاه هذه الصحة أمام جميعكم” (أع 3: 12-16). ولكن رغم أن كثيرين من اليهود شعروا بمرارة من مثل هذا الحديث الرفيع، ألا أنهم كبحوا غضبهم رغما عن إرادتهم إذ أنهم خجلوا من عظمة المعجزة.

وهناك نقطة أخرى لا ينبغي أن ننساها، وهـي أن المسيح إذ وشـح أولاً الرسل القديسين بقوات عظيمة هكذا، فإنه يدعوهم بعد ذلك أن ينطلقوا بسرعة، ويبدأوا عملهم في إعلان سره إلى سكان الأرض كلها. لأنـه كـمـا أن القـواد المقتدرين بعد أن يزودوا جنودهم الشجعان بأسلحة الحرب، يرسـلونهم ضـد كتائب العدو، هكذا أيضا يفعل المسيح مخلصنا وربنا جميعا، يرسـل معلمـي أسراره القديسين، موشحين بالنعمة التي يمنحهم إياها، ومجهزين كلية بالسلاح الروحاني، ضد الشيطان وملائكته، لكي يكونوا غير مغلوبين ومقاتلين أشـداء. لأنهم كانوا علي وشك أن يدخلوا في معركة مع أولئك الذين سيطروا علـي سكان الأرض في الزمن القديم. أي أن يحاربوا ضد القوات الشريرة المضادة، الذين كانوا قد قسموا فيما بينهم كل من هم تحت السماء، وجعلوا البشر الذين قد خلقوا على صورة الله، يتعبدون لهم. هـذه الأرواح الشريرة، بـدأ التلاميـذ الإلهيون، حينئذ يسببون لها غيظا بدعوتهم أولئك الذين كانوا في الضلال إلـى معرفة الحق، وبإنارتهم لأولئك الذين كانوا في الظلمة. وجعلوا أولئـك الـذين يتعبدون لهم في القديم، أتباعا مخلصين للسعي في طريق القديسين.

ولأجل هذا السبب فقد كان مناسبا جدا أن يوصيهم ألا يحملـوا معهـم أي شيء، وهو يريد بذلك أن يكونوا أحرار من كل هم عالمي، وبذلك يعفيهم مـن الأتعاب التي تجلبها الأمور العالمية، حتى أنهم بذلك لا يلقون بالا حتى لخبزهم الضروري والذي لا غنى عنه. ولكنه من الواضح أن الذي يأمرهم أن يمتنعوا عن مثل هذه الأشياء، فإنه بذلك يقطع كلية كل محبة للمـال وشـهوة الـربح والاقتناء. لأنه يقول، إن مجدهم، أي أكاليلهم، هو ألا يمتلكـوا شيئا. وهـو يصرفهم عن الأشياء التي هي ضرورية لاستعمالهم إذ أنه أمرهم ألا يحملـوا شيئا بالمرة: “لا عصا، ولا مزودا، ولا خبز ًا، ولا فضة، ولا يكـون للواحـد ثوبان”. لذلك، فكما قلت، لاحظوا، إنه يصرف أنظارهم عن الارتباكات الباطلة، وعن القلق من جهة الجسد، ويوصيهم ألا يكون لهم أي اهتمام من جهة الطعام، وكأنه يكرر عليهم تلك العبارة التي في المزمور: “ألق علي الرب همك فهـو يعولك ” (مز55: 22). لأنه حق أيضا هو ما قاله المسيح: “لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” (مت 6: 24). وأيضا: “لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا ” (مت 6: 21).

 لذلك فلكي يعيشوا حياة لائقة وبسيطة، وأن يكونوا أحرارا من كل قلق باطل لا لزوم له، ولكي يكرسوا أنفسهم كلية لواجب الكرازة بسر الملكوت، ويجاهدوا بلا توقف في نشر أخبار الخلاص للناس في كل مكان، فإنه يوصيهم ألا يعطوا اهتماما بل يكونوا بلا هم من جهة اللباس والطعام. وتكلم المخلص عـن هـذا الغرض ذاته في موضع حينما قال: “لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقـدة” (لو 12: 35). وهو يعني بقوله “أحقاؤكم ممنطقة ؟ استعداد العقـل لكـل عمـل صالح، وبقوله “سرجكم موقدة”، أن يكون قلبهم مملوءا بالنور الإلهي. وبنفس الطريقة يأمر ناموس موسي بوضوح أولئك الذين أكلوا من خـروف الفصح قائلاً: ” وهكذا تأكلونه، أحقاؤكم مشدودة وعصيكم في أيديكم، وأحـذيتكم فـي أرجلكم” (خر 12: 11). لذلك لاحظوا، أن أولئك الذين يسكن فيهم المسيح الحمـل الحقيقي يجب أن يكونوا مثل أناس متمنطقين لرحلة، لأنهم يجب أن “يحـذوا أرجلهم باستعداد إنجيل السلام”، كما كتب لنا بولس المبـارك (أف 6: 15)، وأن يتوشحوا بما هو لائق بالمحاربين. لأنه ليس مناسبا لأولئـك الـذين يحملـون الرسالة الإلهية ـ إن أرادوا أن ينجحوا في عملهم ـ أن يظلوا غير متحركين، بل ينبغي أن يتحركوا دائما إلى الأمام، ويركضوا ليس نحو أمر غيـر يقيني، بل ليربحوا رجاء مجيدا. لأنه حتى أولئك الذين سقطوا مرة تحت يد العدو، فإن كانوا بإيمان يجاهدون لأجل المسيح مخلصنا جميعا فسوف يرثون إكليلاً لا يفنى.

ولكن يمكنني أن أتخيل واحد يقول، يا رب، أنت قد أوصيت خدامك ألا يحملوا أي زاد من أي نوع مما هو ضروري للطعام واللباس، فمن أيـن إذن يحصلون علي ما هو ضروري وما لا غني عنه لاستعمالهم؟ هذا ما يشير إليه الرب، فـي الحال قائلاً: “وأي بيت دخلتموه، فهناك أقيموا، ومن هناك اخرجوا”. وهو بـذلك يقول، إن الثمر الذي ستحصلون عليه من الذين تعلمونهم، سيكون كافيا، لأن أولئك الذين يحصلون منكم علي الروحيات، وينالون الزرع الإلهي في نفوسـهم، سيعتنون باحتياجاتكم الجسدية. وهذا أمر لا يستطيع أحد أن يلوم عليه، لأن بولس الحكيم أيضا كتب في الرسالة: ” إن كنا قد زرعنا لكم الروحيـات، أفعظـيـم إن حصدنا منكم الجسديات؟ هكذا أيضا أمر الرب، أن الذين ينادون بالإنجيـل مـن الإنجيل يعيشون” (1کو 9: 11، 14). ويبين بوضوح أن هذه الحقيقة نفسها يشير إليها موسى إذ يقول: ” مكتوب في ناموس موسى لا تكم ثورا دارسا ” (تـث 25: 4). وهو يبين أيضا ما هو قصد الناموس بقوله: “العل الله تهمه الثيران؟ أم يقول، مطلقا من أجلنا، لأنه ينبغي للحراث أن يحرث على رجاء وللدارس علـى الرجـاء أن يكون شريكا في رجائه؟” (1کو 9: 9 ، 10). لذلك فأن يحصل المعلمون علـي هـذه الأشياء التافهة وسهلة المنال من أولئك الذين يتعلمون منهم ليس أمرا ضاراً مـن أي ناحية.

ولكن المسيح أمرهم أن يقيموا في بيت واحد ومنه يخرجون، لأنه من الصواب أن أولئك الذين قبلوهم في بيتهم مرة، لا ينبغي أن تسلب منهم الهبة أو العطيـة. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى لكي لا يضع الرسل القديسون أنفسهم أي عائق في طريق غيرتهم واجتهادهم في الكرازة برسالة الله، بأن يـدعوا أنفـسهم يحملون بالقوة إلى بيوت عديدة بواسطة أولئك الذين يهدفون لا أن يتعلموا مـنهم درسا ضروريا، بل أن يعدوا أمامهم مائدة فاخرة، متجاوزين مـا هـو مـعتـدل  وضروري.

ونتعلم من كلمات مخلصنا أن إكرام القديسين له مكافأته، لأنه قال لهم: ” مـن يقبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني” (مت 10: 40). لأنه يأخذ لنفسه ـ عن قصد – الإكرامات المقدمة للقديسين، ويجعلها خاصة به، لكي يكون لهم أمان من كل جهة. فهل هناك ما هو أفضل أو ما يمكن أن يقارن بالكرامة والمحبة الواجبة نحو الله؟ ولكن هذا يتحقق بإعطاء الإكرام للقديسين، وإن كان ذلك الذي يقبلهم هو مغبوط حقا، وله رجاء مجيد، فكيف لا يجب أن يكون العكـس أيـضـا صـحيحا بصورة كلية ومطلقة، لأنه ينبغي أن يكون مملوءا من التعاسة التامة، ذلك الذي لا يبالي بواجب إكرام القديسين. لهذا السبب قال الرب: ” حينما تخرجون من ذلـك البيت، انفضوا الغبار عن أرجلكم شهادة عليهم” (انظر مت 10: 14 ، لو 9: 5).

وبعد ذلك ينبغي أن نري ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أنهم ينبغي أن يرفـضوا أن ينالوا أي شيء بالمرة من أولئك الذين لا يقبلونهم، ولا يحفظون الوصايا التي يسلمونها لهم ولا يطيعوا الرسالة المقدسة، ولا يقبلوا الإيمان. لأنـه أمـر بعيـد الاحتمال أن أولئك الذين يحتقرون رب البيت يكونون كرماء مـع خدامـه، وأن أولئك الذين ـ بعدم التقوى ـ يتجاهلون الدعوة السماوية يطلبـون بركـة مـن كارزيها بأن يقدموا لهم أشياء لا قيمة لها، ومثل هذه الأشياء يستطيع التلاميذ أن يحصلوا عليها بدون تعب من الذين يرعونهم. لأنه مكتوب “زيـت الـخـاطئ لا يدهن رأسي” (مز 141: 5 سبعينية)، وإلى جانب ذلك ينبغي أن يشعروا أنهم مدينين بالحب، فقط لأولئك الذين يحبون المسيح ويمجدونه ويتجنبون كل الآخرين الـذين هم علي خلاف ذلك. لأنه مكتوب ” ألم أبغض مبغضيك، يا رب، وأمقت أعداءك. بغضا تاما أبغضتهم. صاروا لي أعداء” (مز 139: 21 ، 22). هكذا يكون حب الجنود الأرضيين لملكهم: لأنه ليس ممكنا لهم أن يحبوا الغرباء بينما يقدمون الاهتمـام الواجب لمصالح ملكهم. ونحن نتعلم هذا أيضا، مما قاله المسيح: “من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرق” (مت 12: 30).

لذلك فكل ما أوصي به المسيح رسله القديسين كان مناسبا بالضبط لنفعهم وفائدتهم، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والربوبية مع الروح القدس، إلى دهر الدهور آمين.

عظة (48) معجزة إشباع الجموع 9: 12-17

(لو 9: 12- 17) “فابتدأ النهار يميل. فتقدم الاثنا عشر وقالوا له: اصرف الجمع ليذهبوا إلى القرى والضياع حوالينا فيبيتوا ويجدوا طعاما، لأنا ههنا في موضع خلاء. فقال لهـم أعطوهم انتم تأكلوا، فقالوا: ليس عندنا أكثر من خمسة أرغفة وسمكتين، إلا أن نذهب ونبتاع طعاما لهذا الشعب كله، لأنهم كانوا نحو خمسة آلاف رجـل فـقـال لتلاميذه: اتكئوهم فرقا خمسين خمسين. ففعلوا هكذا، واتكأوا الجميع، فأخـذ الأرغفة الخمسة والسمكتين، ورفع نظره نحو السماء وباركهن، ثم كسر وأعطى التلاميذ ليقدموا للجمـع فاكلوا وشبعوا جميعا . ثم رفع ما فضل عنهم من الكسر اثنتا عشرة قفة”.

إن اليهود، في رأيي، ليس لهم ولا حجة واحدة يمكن أن تنفعهم أمام منبـر الله ليبرروا بها عدم طاعتم، لأن مقاومتهم لا تبدو معقولة. ولماذا الأمر هكذا؟ لأن ناموس موسى يمكن أن يقودهم ـ بواسطة الظلال والرموز ـ إلى سـر المسيح. لأن الناموس ـ أو بالحري الأشياء التي يحتويها ـ كـان رمزيا، وكان سر المسيح مصورا فيه بواسطة المثال والظل كما في رسم. وقد سبق الأنبياء المباركون أيضا فتنبأوا أنه في الوقت المعين ينبغي أن يـأتي واحـد ليفدي كل الذين تحت السماء، بل أعلنوا عن مكان ميلاده بالجـسد، والآيـات التي سيعملها. ولكن اليهود كانوا معاندين جدا، وكان عقلهم متشبثا بما يتفـق فقط مع تحيزاتهم حتى أنهم لم يقبلوا كلمات التعليم ولم ينقـادوا للطاعـة ولا بواسطة المعجزات الرائعة والمجيدة جدا. 

هكذا إذن كان سلوكهم، ولكن دعونا نحن الذين قد اعترفنا بحقيقة ظهوره، أن نقدم له تسبيحنا لأجل أعماله الإلهية مثلما هو مسجل في الفقرة التي أمامنا، لأننا نتعلم من هذه الفقرة أن مخلصنا كان يخرج من وقت إلـى آخـر إلـى أورشليم والمدن والبلدان الأخرى، وكانت الجموع تتبعه، فكان البعض مـنـهم يطلبون التحرر من طغيان الشياطين، أو الشفاء من المرض، ولكن البعض الآخر كانوا يرغبون أن ينالوا منه التعليم، وكانوا يلازمونـه علـي الـدوام بإخلاص عظيم وبجدية، لكي يتعرفوا تماما على تعاليمه المقدسة. وحينما بـدأ النهار يميل، كما يقول البشير، وكان المساء قد أقبل أعطى التلاميـذ اهتمامـا بالجموع واقتربوا من المخلص يسألونه من أجلهم. لأنهم قالوا: “اصـرف الجموع ليذهبوا إلى القرى والحقول حوالينا فيبيتوا ويجدوا طعاما، لأننا هنـا في موضع خلاء”.

ولكن دعونا نبحث بعناية عن معني عبارة “اصرف الجموع” لأننا ســري بواسطتها الإيمان العجيب الذي للرسل القديسين، وأيضا سنرى القوة الفائقـة للطبيعة والمدهشة التي للمسيح مخلصنا، فقد كانوا يتبعونه طـالبين منـه أن ينقذهم من الأرواح الشريرة التي تعذبهم، بينما آخرون كانوا يطلبون الشفاء من أمراض متنوعة. لذلك حيث إن التلاميذ عرفوا أنه بمجرد رضا مـشيئته يستطيع أن يتمم لأولئك المرضى ما كانوا يطلبونه، لذلك قالوا له ” اصرفهم”، وهم لا يتكلمون هكذا كما لو كانوا منزعجين من الجموع أو كانوا يعتبرون أن الوقت قد مضى، بل إذ كانوا مأخوذين بالمحبة نحو الجموع، بـدأوا يهتمـون بالشعب كما لو كانوا يمارسون مقدما وظيفتهم الرعوية، لكي نتخذ منهم قـدوة لأنفسنا. لأن الاقتراب (من الرب) والتوسل إليه نيابة عن الشعب، هـو فـعـل لائق بالقديسين، وهو واجب الآباء الروحيين، ودليل علي قلب له اهتمام لـيـس بالموضوعات الشخصية وحدها، بل يعتـبر مصالح الآخرين هي مصلحته الشخصية، وهذا مثل واضح جدا علي هذه المحبة الفائقة. وإن كان يسمح لنـا أن نمتد بتفكيرنا فوق مستوى الأمور البشرية، فإننا نقول: لأجل منفعة الـذين يناسبهم هذا، إننا حينما نواصل الصلاة بحرارة، مع المسيح، سواء كنا نسأله الشفاء من أمراض أرواحنا، أو أن يخلصنا من أي أمراض أخـرى، أو كنـا نرغب أن نحصل على أي شيء لأجل فائدتنا، فليس هناك أدنى شك أنه حينما نسأل في الصلاة أي شيء صالح لنا، فإن القوات العقلية، وكذلك أولئك الرجال القديسين الذين لهم دالة أمامه، يتضرعون لأجلنا.

ولكن لاحظوا اللطف غير المحدود لذلك الذي يتوسلون إليه، فهو لا يهـب فقط كل ما يسألون منه أن يمنحه لأولئك الذين تبعوه، بل أيضا يضيف خيرات من يده اليمنى السخية، منعشا بكل طريقة أولئك الذين يحبونـه، ويرعـاهم ويغذيهم بالشجاعة الروحية. هذا ما يمكن أن نراه مما نقرأ الآن، لأن التلاميذ القديسين طلبوا من المسيح أن يصرف أولئك الذين كانوا يتبعونه ليتفرقوا بقدر ما هو مستطاع، ولكنه أمرهم أن يزودوهم بالطعام. ولكن هـذا الأمـر كـان مستحيلاً في نظر التلاميذ، لأنه لم يكن معهم أي شيء سوي خمـس خبـزات وسمكتين، وهذا ما اعترفوا به له حينما اقتربوا منه. لذلك، فلكي يوضح عظمة المعجزة، ويجعلها تظهر بكل طريقة أنه هو الله بطبيعته الخاصة، فقـد أكثـر هذه الكمية الصغيرة أضعافا مضاعفة، ونظر إلى فوق إلى السماء ليطلب بركة من فوق قاصدا بهذا أيضا ما هو لخيرنا. لأنه هو نفسه الذي يملأ كل الأشياء، إذ هو نفسه البركة التي تأتي من فوق، من الأب، ولكي نتعلم نحن أننا حينمـا نبدأ في الأكل ونكسر الخبز، فمن واجبنا أن نقدمه إلى الله، واضعين إياه علي أيدينا الممدودة ونستنزل عليه بركة من فوق، ولذلك فقد صار هو سابقا لنـا، ومثالاً، وقدوة في هذا الأمر.

ولكن ماذا كانت نتيجة المعجزة؟ إنها كانت إشباع جمع كبير وذلك بحسب ما أضافه واحد آخر من البشيرين القديسين إلى رواية المعجزة. والمعجزة لا تنتهي هنا، إذ أنه جمعت أيضا ” اثنتا عشر قفة من الكسر”، وما هـو الـذي نستنتجه من هذا؟ إنه تأكيد واضح أن كرم الضيافة ينال مكافأة جزيلة من الله فالتلاميذ قدموا خمس خبزات، ولكن بعد أن تم إشباع جمع كبير هكـذا، فقـد جمع لكل واحد منهم قفة مملوءة من الكسر. لذلك، فلا يجب أن يكون هنـاك شيء يعوق أولئك الذين يريدون أن يستضيفوا الغرباء، مهما كان هنـاك مـا يمكن أن يثلم إرادة واستعداد الناس لذلك، ولا يقول أحد “إني لا أملك الوسيلة المناسبة، وما أستطيع أن أفعله هو تافه تماما لا يكفي كثيرين”. يـا أحبــائي استضيفوا الغرباء، وتغلبوا على عدم الاستعداد الذي لا يربح أي مكافـأة لأن المخلص سيضاعف القليل الذي لكم مرات أكثر من أي توقع ورغـم أنـك لا تعطي إلا القليل، فسوف تنال الكثير “لأن من يزرع بالبركـات، فالبركـات أيضا يحصد” (2کو 9: 6) حسب كلمات بولس المبارك.

 حسب لذلك، فإن إشباع الجموع في البرية هو جدير بكل أعجاب، ولكنـه نـافع بطريقة أخرى. لأننا يمكن أن نري بوضوح أن هذه المعجزات الجديدة تتوافق مع تلك المعجزات التي في العهد القديم، وأنها أعمال ذات القوة الواحدة التـ للشخص المقتدر الذي صنع المعجزات في العهد القديم. فقـد “أمطـر علـي الإسرائيليين منا في البرية وأعطاهم خبزا من السماء، أكـل الإنـسـان خبـز الملائكة ” كلمات التسبيح في المزامير (مز 77: 24، 25 س). ولكن يا للعجـب! فإنه في البرية أيضا أشبع بسخاء ووفرة أولئك المحتاجين إلى الطعام، أتـى بـه كأنه من السماء. لأن إكثاره للقليل مرات مضاعفة، وإطعامه جمع كثير كهـذا بالقليل الذي هو كالعدم، إنما يشبه تلك المعجزة السابقة (إعطاء المن). وأوجه حديثي مرة أخري إلى حشد اليهود قائلا: ” إنكم كنتم في حاجـة إلـى المـاء الطبيعي، حينما كنتم تسيرون في تلك البرية الشاسعة، وأعطاكم الله رغبـتكم بما يفوق كل التوقعات، وذلك من مكان لم تكونوا تتطلعون إليه”. لأنـه كـمـا يقول المرنم: ” هو شق الصخرة في البرية، وأعطاهم شرابا كأنه لجج عظيمة، وأخرج مياها من الصخر، وجعل المياه تفيض كالأنهـار” (مز 77: 15 و 16 س). فأخبرني إذن: هل سبحت صانع المعجزة حينما شربت؟ هل تحـرك لـسانك بالشكر؟ أو هل دفعك ما قد حدث للاعتراف بقوة الله التي لا ينطق بها؟ الأمر ليس كذلك، لأنك تتذمر علي الله قائلاً: ” هل يقدر الله أن يرتـب مـائـدة فـي البرية؟ إنه ضرب الصخرة فتفجرت المياه، وفاضت الأودية، فهـل يـستطيع أيضا أن يعطي خبزا أو يهيئ مائدة لشعبه؟” (مـز 77: 19 و20 س). أنت لم تندهش لرؤية الصخر الصواني يصير ينبوعا لأنهار غزيرة، والينابيع تخرج بطريقة عجيبة من داخل الأحجار، والوديان تجري بقوة سريعة، ولكنك تنسب الضعف للقادر علي كل شيء. ومع ذلك فكيف لا يكون واجبا عليك بالحري أن تلاحظ وتدرك أنه هو رب القوات ؟ فكيف يكون غير قادر علي أن يهيئ مائدة، وهو الذي جعل الصخر الصواني ينبوعا ونهرا يفيضان علي ذلك الجمع؟

ولكن حيث إنك قد أدخلت نفسك إلى هذه الحماقة العظيمة التي تتصور أنه ليس هناك شيئا مستطاعا عند الله، وتقول بثرثرة فارغة إنـه لا يستطيع أن يرتب مائدة لشعبه في البرية، فأجب علي السؤال الذي نوجهه إليك الآن، هـل تقبل الإيمان الآن حينما تري المسيح قد رتب مائدة في البرية، وقد أشبع بوفرة وسخاء جمعا لا يحصي بالطعام، حتى تم جمع اثني عشر قفة مـن الكـسر المتبقية بعد أن شبعوا؟ أم هل لا تزال ترفض أن تؤمن، وتطلب أية أخـرى؟ لذلك، فمتى تصير مؤمنا؟ متى ستكف عن الاعتراض علي قوة المسيح التي لا ينطق بها ؟ متى ستضع بابا ومزلاجا للسانك ومتى تخلص لسانك مـن لـغـة التجديف، وتغيره إلى استعمال أفضل بأن تسبحه لكي يمكنك أن تصير شريكا في البركات التي يمنحها؟ لأن مراحمه تستعلن لأولئك الذين يحبونـه وهـو يخلصهم من كل مرض. هو يغذيهم أيضا بالطعام الروحاني، الذي بواسطته يستطيع كل واحد أن يصل إلى الشجاعة في كل شيء جدير بالمديح.

أما عديمي الإيمان والمزدرين به فهو لا يمنحهم مثل هـذه الهبـات، بـل بالحري يجلب عليهم تلك الدينونة التي يستحقونها عدلاً لأنه قال لهم بواسـطة أحد أنبيائه القديسين: ” هوذا الذين يخدمونني يأكلون وأنتم تجوعـون. هـوذا الذين يخدمونني يشربون وأنتم تعطشون. هوذا الذين يخدمونني يفرحون فـي سعادة وأنتم تبكون من حزن القلب وتولولون مـن انـكـسـار الـروح” (بش65: ١١٣ ١٤س)، ومكتوب أيضا ” الرب لا يقتل نفس الصديق بالجوع، ولكنـه يبيـد حياة الشرير ” (أم 10: 3 س).

لأن جماعات المؤمنين، لهم في الكتب المقدسة، مرعـى مـمـلـوء بـأنواع مختلفة من النباتات والزهور، تلك الكتب هي مرشـدهم الحكيم، وإذ يمثلـى المؤمنون بالفرح الروحاني بسبب التعاليم المجيدة والإرشادات التي تحتويهـا هذه الكتب، لذلك فهم يأتون كثيرا إلى المجالس للملكية المقدسة التي توفرهـا لهم هذه الكتب المقدسة، وهذا هو ما سبق الأنبياء به منذ زمن بعيـد بكلمـات إشعياء: ” ويكون علي كل جبل عال وعلي كل أكمة مرتفعة سواق ومجـاري في ذلك اليوم” (إش 30: 25). وأيضا ” ويكون في ذلك اليوم أن الجبـال تقطـر حلاوة، والتلال تفيض لبنا ” (يؤ 3: 18). لأنه من عادة للكتب الإلهيـة أن تـشبه بالجبال والتلال، أولئك الذين أقيموا علي الآخرين، أولئك الذين عملهـم أن يعلموا الآخرين إذ أنهم مرتفعون جدا، وذلك الارتفاع لقصد به سمو أفكـارهم المنشغلة بالأمور السماوية، وابتعادهم عن الأمور الأرضية، بينمـا الميـاه والحلاوة واللبن تشير إلى التعاليم التي تفيض منهم كما تفيض للميـاه مـن الينابيع ويقول الكتاب: ” ويكون حينئذ، في ذلـك الوقـت أن مياهـا متدفقـة وعصيرا ولبنا تجرى من كل جبل عال، ومن كل أكمة مرتفعة”، وهـذه هـي التعزيات الروحية التي للمعلمين القديسين، التي يقدمونها للشعب الذي يتولون مسئولية رعايته. إن الجماعات اليهودية محرومة من هذه التعزيات، لأنهم لـم يقبلوا المسيح، رب الجبال والتلال، ومعطي التعزيات الروحانية، وهو الـذي يقدم نفسه كخبز الحياة لأولئك الذين يؤمنون به، لأنه هـو الـذي نـزل مـن السماء، وأعطي الحياة للعالم، الذي به، ومعه، الله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمین.

عظة (49) مسيح الله 9: 18-22

(لو 9: 18-22) ” وفيما هو يصلي على انفراد كان التلاميذ معه. فسألهم قائلا: من تقـول الجموع أني أنا؟ فأجابوا وقالوا: يوحنا المعمدان. وآخرون: إيليا. وآخرون: إن نبيـاً مـن القدماء قام. فقال لهم: وأنتم، من تقولون أني أنا؟ فأجاب بطرس وقال: مسيح الله!. فانتهرهم وأوضى أن لا يقولوا ذلك لأحد، قائلا: إنه ينبغي أن ابن الإنسان يتألم كثيرا، ويرفض مـن الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويقتل، وفي اليوم الثالث يقوم “.

 حسنا أن ننادي على أولئك الذين يريدون أن يفتشوا الكتب المقدسة قائلين لهم: “قوموا، واستيقظوا”، لأنه من المستحيل أن ندرك معنـى سـر المـسيح بالضبط إن كنا نستعمل لهذا الغرض عقلاً فاسدا، وذهنا ـ كما لو كـان ـ غارقا في النوم. فالأمر يحتاج بالحري إلى عقل يقظ، وبصيرة ثاقبـة، لأن الموضوع يصعب فهمه إلى أقصى درجة، وهذا ما يتضح الآن حينما وصـل حديثنا إلى شرح هذا المقطع الذي أمامنا. لأنه ماذا يقول البشير؟:

” وفيما هو يصلى على انفراد، كان التلاميذ معه فسألهم قائلاً، مـن تقـول الجموع إني أنا؟”. والآن فإن أول شيء يجب أن نبحث عنه هو: ما الذي جعل ربنا يسوع المسيح يوجه هذا السؤال أو الاستفسار إلى الرسل القديسين. فـلا كلمة من كلماته ولا عمل من أعماله تكون في وقت غير ملائم أو بدون سبب مناسب، بل بالحري هو يعمل كل الأشياء بحكمة وفي حينها. لذلك، فمـاذا نقول، وأي شرح مناسب نجده لأعماله الحاضرة؟ لقد أطعم جمعا كبيرا مـن خمسة آلاف رجل في البرية، وكيف أطعمهم؟ بخمس خبزات! وكـسر معهـا سمكتين إلى أجزاء صغيرة! وهذه تكاثرت جدا من لا شيء حتى إنهم رفعـوا اثنتي عشر قفة من الكسر المتبقية. لذلك، فالتلاميذ المباركون والجموع أيـضـا دهشوا ورأوا بواسطة المعجزة التي أجريت إنه حقا هو الله وابن الله. وفيمـا بعد، حينما انصرف من الجموع، وكان هو علـى انفراد، وكان منشغلاً بالصلاة، وفي هذا أيضا يجعل نفسه مثالاً لنا، أو بالحري يعلم التلاميذ كيـف يؤدون بكفاءة واجب وظيفتهم كمعلمين، لأني اعتقد، أن هذا هو واجب أولئـك الذين يقامون لرعاية الشعب، والذين نصيبهم أن يرشدوا قطعان المسيح، أن يشغلوا أنفسهم على الدوام بعملهم الضروري، وبحرية يمارسون تلك الأمـور التي يسر بها الله جدا، أي سلوك القداسة والفضيلة الذي ينال إعجابا عظيما، وهو بالتأكيد ينفع الشعب الذي تحت إشرافهم. لأنهم ينبغي إمـا أن ينشغلوا بنشاط في تلك الواجبات التي لمجد الله، أو أنهم في خلوتهم يحـضرون لهـم بركة، ويستنزلون عليهم قوة من الأعالي، وواحدة من هـذه الأخيـرة وهـى الممتازة جدا فوق الكل في الصلاة. والتي عرفها بولس الإلهي فقال: “صـلوا بلا انقطاع ” (1تس 5: 17).

وكما قلت حينئذ، فإن رب ومخلص الكل، جعل نفسه مثالاً للتلاميـذ فـي سيرة القداسة، بصلاته على انفراد مصطحبا إياهم وحدهم فقط معـه. ولكـن عمله هذا ربما يسبب ارتباكا للتلاميذ ويولد فيهم أفكارا خطـرة. لأنهـم رأوه يصلى بطريقة بشرية، وهو الذي نظروه بالأمس يعمل معجزات تليق بـالله. لذلك فلا يكون بلا سبب لو أنهم قالوا فيما بينهم: آه، إنه سلوك غريب! مـاذا ينبغي أن نعتبره؟ إلها أم إنسانا؟ فإن قلنا إنسان، ومثل واحد منا، أي مثل أحد الأنبياء القديسين، فإننا نرى من معجزاته الفائقة الوصف، التي يعملهـا، أنـه يعلو على حدود الطبيعة البشرية علوا كبيرا، لأنه يعمـل عجائـب بطريقـة متنوعة كإله، وإن قلنا هو الله، فبالتأكيد كونه يصلي فهذا لا يناسب من هو الله بالطبيعة، لأن من هو الذي يستطيع الله أن يسأل منه ما يريد أن يناله؟ وما هو الذي يمكن أن يكون الله في حاجة إليه؟

لذلك، فلكي يطرد مثل هذه الأفكار المربكة، ولكي يهدئ إيمانهم، الـذي ـ كما لو كانت ـ تتقاذفه العاصفة، فإنه يسألهم هذا السؤال، ليس كمن يجهل كليا ما كان يشاع عنه عموما، سواء من أولئك الذين لا ينتمون إلـى مجمـع اليهود، أو من الإسرائيليين أنفسهم، بل كان هدفه بالحري أن ينقذهم من طريقة التفكير العامة، ويزرع فيهم إيمانا صحيحا. لذلك سألهم، ” من تقول الجمـوع إني أنا؟ “.

ها أنت ترى مهارة السؤال. هو لم يقل مباشرة، “من تقول إني أنا؟” ولكنـه يشير أولاً إلى ما أشاعه أولئك الذين من هم من خـارج، وبعـد أن يـدحض رأيهم، ويوضح أنه غير سليم، عندئذ يعود بهم إلى الرأي الحقيقي. وهذا مـا حدث أيضا، لأنه حينما قال التلاميذ: ” البعض يقول إنك يوحنـا المعمـدان، وآخرون إيليا، وآخرون إن نبيا من القدماء قد قام، فقال لهم وأنـتـم مـن تقولون إني أنا ” آه ! كم هي مملوءة معنى تلك الـ “أنتم”!. فهو يفصلهم عـن كل الآخرين، لكي يتحاشوا آراءهم، لكي لا يفكروا عنه فكرة غير جديرة به، ولا يضمروا أفكارا مشوشة متذبذبة، أو يتخيلوا أن يوحنا (المعمدان) أو أحـد الأنبياء قد قام، لذلك يقول، “وأنتم” الذين تم اختياركم، “وأنتم” الذين ـ بقراري – قد دعيتم إلى الرسولية، “أنتم” شهود معجزاتي، من تقولون إني أنا؟ “

أولاً: انطلق بطرس أيضا، قبل الباقين، وجعل نفـسـه النـاطق بلسان الجماعة كلها، وسكب تعبير المحبة الله، ونطق باعتراف صحيح وبـلا عيـب للإيمان قائلاً: “مسيح الله”. التلميذ هنا معصوم، وهو شـارح للـسـر بـذكاء وشمول، لأنه لم يقل مجرد إن (يسوع) هو مسيح، بل بالحري “مـسيح الله”، لأنه يوجد كثيرون قد لقبوا بلقب “مسیح”، بسبب أنهم قد مسحوا من الله بطرق متنوعة. لأن البعض قد مسحوا ملوكا، والبعض أنبياء، بينما آخرون قد نـالوا الخلاص من ذلك “المسيح” الذي هو مخلص الجميع، بل نحن أنفسنا نحـصل على لقب المسيح، لأننا قد مسحنا بالروح القدس، لأنه مكتـوب فـي كـلمـات المرتل، عن أولئك القدماء، أي قبل مجيء المسيح: “لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي” (مز105: 15). أما كلمات حبقوق فتشير إلينـا: ” خرجـت لخلاص شعبك، لتخلص مسحائك ” (حب 13:3 سبعينية). لذلك فالمسحاء كثيـرون، وقد دعوا هكذا من حقيقة [إنهم قد مسحوا]، أما الذي هو مسيح الله الآب فهو واحد، وواحد فقط، ليس كأننا نحن حقا مسحاء ولسنا مسحاء الله، بل ننتمـي إلى شخص آخر، ولكن بسبب أنه هو، هو وحده له ذلك الذي في السماء أبـا له. لذلك، حيث إن بطرس الحكيم جدا، باعترافه بالإيمان ـ بصواب وبـدون خطأ ـ قال: “مسيح الله”. فواضح بتمييزه إياه عن أولئك الذين يطلق عليهم اللقب عموما، فإنه ينسبه إلى الله، باعتباره مسيحه الوحيد. لأنه رغم كونـه بالطبيعة الله وأشرق بطريقة لا ينطق بها من الله الآب ككلمته الوحيد، إلا أنـه صار جسدا بحسب الكتاب. لذلك، فبطرس المبارك، اعترف بالإيمان به، وكما قلت سابقا، عبر بكلماته عن كل جماعة الرسل القديسين، وقام بدور النـاطق بلسانهم جميعا، باعتباره أكثر دقة من الباقين.

 وينبغي أن نلاحظ هذا أيضا: إنه في رواية متى نجد التلميـذ المبـارك قال: ” أنت هو المسيح ابن الله الحي” (مت 16:16)، ولكن الحكيم لوقا، إذ يلخص المعنى، فهو يتفق معه في الأفكار، ولكنه يستعمل كلمات أقل، ويخبرنا أنه قال “مسيح الله”. وبالإضافة إلى ذلك، فلا يوجد ذكر هنا لما قاله له المخلص، أمـا في متى أيضا فإننا نجد إنه قال بوضوح: “طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأن لحما ودما لم يعلن لك، لكن أبي الذي في السموات ” (مت 16: 17). لذلك فالتلميذ تعلم حقا من الله، وهو لم يجيء لنا بهذا الاعتراف بالإيمان من مجرد أفكـاره الخاصة، بل بسبب أن النور الإلهي أشرق على ذهنه، وقاده الآب إلى معرفة صحيحة لسر المسيح. لذلك، فماذا يقول أولئك المبتدعون المخطئون، عن هذا، أولئك الذين يحرفون بلا لياقة السر العظيم والموقر جدا، سر تجـسـد الابـن الوحيد، ويسقطون من الطريق المستقيم، سائرين في سبيل الاعوجـاج؟ لأن بطرس الحكيم اعترف بمسيح واحد، بينما هم يقسمون ذلك الواحد إلى اثنين، مضادين لتعاليم الحق. وهو يجيب” ويقول: ” ولكن التلميذ اعتـرف بمـسيـح واحد، وهكذا نحن أيضا نؤكد أنه يوجد مسيح واحد ونعني بـه الابـن، أي الكلمة الذي من الآب ” وبماذا نجيب عن هذا إذا؟ نقول، أليس واضحا لكـل واحد، أن المسيح لا يسأل الرسل عن ماذا يقول الناس عن كلمة الله أنه هـو؟ بل من هو ابن الإنسان؟ وإنه هو الذي اعترف به بطرس أنـه “م “مسيح الله”. دعهم أيضا يشرحون هذا لنا، كيف يكون اعتراف بطرس جديرا بالإعجاب إن كان لا يحتوى على أي شيء عميق وخفي، وكما لو كان، غير ظاهر لعامـة الناس؟ لأن ما الذي أعلنه له الله الآب بالحقيقة؟ هل أعلن له أن ابن الإنـسـان هو إنسان؟ هل هذا هو السر المعلن من الله؟ هل لأجل هـذا صـار موضـع إعجاب، ويحسب أهلاً لمثل هذه الكرامات الفائقة؟ لأنه هكذا خاطبه (الـرب)، “طوبى لك يا سمعان بن يونا”.

ومع ذلك فالسبب الذي لأجله نال هذا التطويب هو سبب عادل تماما، وذلك ومع لأنه آمن أن ذلك الذي رآه كواحد منا، أي على شـبهنا، هـو ابـن الله الآب، الكلمة، أي ذلك المولود من جوهره، والذي تجسد وصار إنـسـانا. أرجـو أن تروا هنا، عمق الأفكار، وأهمية الإقرار (بالإيمان)، والسر العـالي الخطيـر، لأن الذي كان هناك في شبه البشر، وكجزء من الخليقة، هو الله الذي يفوق كل المخلوقات ويتجاوزها! وهو الذي يسكن في المكان العالي الرفيع، نـزل مـن مجده ليكون في فقر مثلنا! والذي هو، كإله هو رب الكل، وملك الكل صار في شكل عبد، وفي درجة عبد! هذا هو الإيمان الذي يكلله المخلص، وهو يمد يده اليمني السخية للذين لهم هذا الفكر. لأنه حينما مدح بطرس، وقال إنه تعلم من الله كمن قد حصل على إعلان من فوق، من الله الآب، فإنه جعله أكثر يقينـا وأكثر تثبتا بغزارة، في الإيمان الذي قد اعترف به، وذلـك بقولـه: “وأنـا أقول، لك أنت صخرة، وعلى هذه الصخرة سـأبني كنيـستي… وأعطيـك مفاتيح ملكوت السموات. كل ما تربطه على الأرض يكون مربوطـا فـي السموات. وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا فـي السموات ” (مـت 16: 18 ،19 ). لاحظوا كيف يجعل نفسه رب السموات ورب الأرض فـي نفـس الوقت، لأنه يعد بأمور تفوق طبيعتنا، وتعلو على قياس البشرية، نعم، بل تعلو أيضا فوق قياس الرتبة الملائكية، وتلك الطبيعة وحدها هي التي يليق بهـا أن تعطى، والتي مجدها وسيادتها تتفوق على الكل. لأنه، أولاً، يقول إن الكنيسة هي خاصة به، ومع ذلك فإن الكتب المقدسة تنـسبها بـالحري بوضوح الله، وحده، إذ تقول إنها “كنيسة الله” (1تـي15:7) إنها تقول إن المسيح أحـضرها لنفسه بلا دنس ولا عيب.. بل بالحري مقدسة وبلا لوم (انظر أف 5: 27). لذلك، فلكونه الله، يقول إنها له، وفضلاً عن ذلك يعد أن يؤسسها، ويعطيها أن تكون غير متزعزعة إذ أنه هو نفسه رب القوات.

وبعد ذلك يقول إنه يعطيه مفاتيح السماء. من هـو ذلـك ك الـذي يفيض بالكلمات اللائقة بالله؟ هل هو ملاك؟ أو من أية قوات عقليـة، سواء كانـت رئاسات أم عروش، أم ربوبيات؟ أو أولئك السيرافيم المقدسين، لـيـس كـذلك بالمرة، بل كما قلت سابقا، مثل هذه اللغة إنما تخص الله الضابط الكل وحـده، الذي له السيادة على الأرض وعلى السماء. إذا فليكف هؤلاء المبتدعين عـن تقسيم الله الواحد، فيقولون إن كلمة الله الآب هو ابن واحد، وإن الذي من نسل داود هو ابن آخر. لأن بطرس ذكر مسيحا واحدا، الذي هو الابن الوحيد الذي تجسد وصار إنسانا، ولأجل هذا الاعتراف حسب أهلاً لهذه الكرامات غيـر العادية.

 ومن جهة أخرى، حينما اعترف التلميذ بإيمانه فإنه انتهرهم وأوصـاهم ألا يقولوا ذلك لأي إنسان، إذ يقول: “لأن ابن الإنسان سوف يتألم كثيرا، ويرفض، ويقتل، وفي اليوم الثالث يقوم”، ومع ذلك كيف لا يكون واجبا علـى التلاميذ، بالحري أن يبشروا في كل مكان؟ إذ أنه هذا هو العمل نفسه الذي كلف به أولئك الذين دعاهم إلى الرسولية. ولكن كما يقول الكتاب المقدس: “لكل شيء وقـت” (جا 3: 1) فقد كانت هناك أمور لم تتم بعد، والتي ينبغي أن تكون ضمن محتويات کرازتهم به، مثل الصليب، والآلام، والموت بالجسد، والقيامة من الأمـوات، تلك الآية العظيمة والمجيدة حقا التي بها تتم الشهادة له أن عمانوئيل هـو الله حقا، وهو بالطبيعة ابن الله الآب. لأنه أبطل الموت تماما، ولاشـى الهـلاك، وأباد الجحيم، وهزم طغيان العدو، وأزال خطية العالم، وفتح الأبـواب التـي فوق للساكنين على الأرض، ووحد الأرض بالسماء، هذه الأشياء برهنت على أنه ـ كما قلت ـ هو الله بالحقيقة. لذلك أوصاهم الله أن يحفظوا السر بصمت ملائم، إلى أن تصل خطة التدبير الكاملة إلى خاتمة مناسبة. لأنه حينما قام من بين الأموات أعطاهم وصية أن السر ينبغي أن يعلـن لـكـل سـكان الأرض، واضعين أمام كل إنسان التبرير بالإيمان والقوة التي للمعمودية المقدسة. لأنـه قال: “تفع لي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميـع الأمم، وعملوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر” (مت 28: 18 -20). لأن المسيح معنا وهو فينا بالروح القدس، ويسكن في نفوسنا جميعا، الذي بـه ومعه الله الآب التسبيح والسيادة والكرامة مع الروح القدس، إلى دهر الـدهور آمین.

عظة (50) إتباع المسيح 9: 23-26

(لو 23:9-26): ” وقال للجميع: إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم، ويتبعني. فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلـي فـهـذا يخلصها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله، وأهلك نفسه أو خسرها؟ لأن مـن استحى بي وبكلامي، فبهذا يستحي ابن الإنسان متى جاء بمجده ومجـد الآب والملائكة القديسين “

إن قادة الجيوش الاقوياء يستحثون جنودهم المدربين على أعمـال الـشجاعة، ليس فقط بأن يعدوهم بكرامات النصر، بل بأن يخبروهم بحقيقة أن التألم يجلـب لهم المجد، ويكسبم كل مديح، لأنه من المستحيل على أولئك الذين يريدون أن يربحوا الشهرة في المعركة أن لا يتحملوا الجروح أحيانا مـن أعـدائهم، ولكـن تألمهم ليس بلا مكافأة. ونحن نرى ربنا يسوع المسيح يستخدم الأفكار نفسها تقريبا في الحديث الذي كانت مناسبته كالآتي:
فقبل هذا الكلام مباشرة كان قد أظهر للتلاميذ أنه ينبغي له أن يحتمل مغامرات اليهود الشريرة، وأنهم سيهزأون به، ويتفلون في وجهه، ويقتلونه، وفـي اليـوم الثالث يقوم ثانية. لذلك فلكي يمنعهم من أن يتخيلوا أنه من أجـل حيـاة العـالم، سيحتمل هو نفسه استهزاء أولئك القتلة وأعمالهم الوحشية الأخرى التي أصـابوه بها، بينما يتاح لهم أن يعيشوا بهدوء، وأن يتحاشوا التألم لأجل تقواهم ـ دون أن يكون عليهم لوم في ذلك، وأن يتحاشوا أن يحتملوا الموت نفسه في الجسد إن أتى عليهم، وأنهم لن يلحقهم أي عار إن فعلوا ذلك، فلكي يمنعهم من هذا التخيل فهـو يشهد بالضرورة أن أولئك الذين سيحسبون أهلا للمجد الذي يعطيه هو، ينبغي أن يصلوا إليه بأعمال شجاعة مناسبة، قائلاً: ” من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني”.

وهنا أيضا، ينبغي أن ندهش من محبة المسيح مخلصنا جميعا نحو العالم، لأنه لم يقبل فقط أن يتألم وأن يحتمل عارا عظيما، ويضع نفسه حتى إلـى الـصليب والموت لأجلنا، لكنه يرفع تابعيه المختارين أيضا إلى نفس هذه الرغبة الممتازة، أولئك الذين كانوا سيصيرون معلمين للناس في كل مكان، ويشغلون وضع القـادة لشعوبهم الذين يوكلون إلى عنايتهم. لأن أولئك الذين يقامون على خدمة عظيمـة يجب أن يكونوا بالفعل شجعانا وباسلين تماما، متسلحين بعقـل غيـر متزعـزع وشجاعة غير مغلوبة، وذلك لكي لا يخافوا الصعوبات، وحتى إن أتاهم المـوت فإنهم يسخرون من رعبه، ويلاشون كل خوف. وذلك الذي يتصرف هكذا، فإنـه ينكر نفسه، إذ أنه يتخلى عن حياته الزمنية ويحسب اهتماماتها غير مستحقة لأي اعتبار، وذلك بقدر اختياره لأن يتألم لأجل الغبطة والمحبة التي في المسيح.

 هكذا يتبع الإنسان المسيح، لأن صحبة الرسل القديسين كما لو كانـت تـضـع أمامنا، اسطة قيثارة المرنم، صارخا إلى المسيح مخلص الجميع: ” من أجلـك نمات كل يوم، قد حسبنا مثل غنم للذبح” (مـز 3: 22). فهم في هـذا أيـضـا مثـل عمانوئيل، ” الذي من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب، مستهينا بالخزي” (عب 12: 2).

لذلك فإن أولئك الذين كانوا سيصيرون معلمين لكل الذين تحت الشمس، كانوا مرتفعين فوق الجبن وفوق حب العالم الدنيء، واضعين أمامهم كواجب عليهم أن يتألموا لأجل محبة المسيح. وهو نفسه علمنا ما هي ميزة رسله الذين يحبونه، إذ قال لبطرس المبارك: “يا سمعان بن يونا، أتحبني؟ ارع خرافـي، ارع غنمـي (يو 21: 15) ” هو الراعي الصالح بذل نفسه عن الخراف” (يو 10: 11) فهو لـم يـكـن أجيرا، بل بالحري أولئك الذين خلصوا هم خاصته، وقد رأى الذئب مقـبلاً، فلـم يحاول أن يهرب، فهو لم يحتقر القطيع، بل بالعكس سلم نفسه ليمزقه الذئب لكـي يحررنا ويخلصنا لأننا “بجراحاته شفينا، وهو مجروح لأجل معاصينا ” (إش 53: 5). لذلك، فأولئك الذين يتبعونه، ويرغبون بإخلاص أن يكونوا مثله والـذين يقـامون على قطعانه الناطقة. فينبغي أن يجتازوا أتعابًا مماثلة. لأن وحوشا شرسة كثيرة تحيط بهم! وحوشنا عنيفة حقودة؛ وهم يذبحون بقسوة؛ ويسرعون بالنفوس إلى هو الهلاك. لأن الأكثر علما ومهارة بين الوثئيين يملكون فصاحة عظيمة. ويزينون تعليمهم الزائف بلغة جذابة. وهكذا يخدعون بعض البسطاء ويجعلونهم راغبين في المشاركة في مرضهم. وييتعدون عن الله الذي هو فوق الكل ليعبدوا آلهة بدلا منه وهم ليسوا بالحقيقة آلهة. هولاء أثروا اضطهادات لا تحتمل على الرسل القديسين. وكانوا يعرضونهم للأخطار مرة بعد أخرى. لان بولس المبارك يتذكر الآلام التي لصابته في أيقونية واسترة؛ وفى لمس ودمشق. فإنه مرة يقول: “في دمشق والي الحارث الملك كان يحرس مدينة الدمشقيين يريد أن يمسكني. فتدليت من طاقة في زنبيل من السور ونجوت من يديه” (2كو 11: 32 ، 33)‏ وفى مرة أخرى اسكندر الحداد أظهر لى شروراً كثيرة” (2تى 4: 14)۔‏ فبماذا يشهد هذا الكارز الكبير. هذا البطل الشجاع الباسل. الذي ازدرى باعظم الأخطار في كل مكان؟ إنه يقول: “لى الحياة هي المسيح والموت هو ربح” (في 1: 21).‏ وايضا “مع المسيح صلبت. فلست أحيا أنا بعد بل المسيح يحيا في فما أحياه الأن فى الجسد أحياه فى ايمان. ايمان ابن الله الذي أحبني واسلم نفسه لأجلي” (غل 2: 20).

ولكن عنف اليهود كان ينفجر كثيرا ضد الرسل الآخرين ايضاً حيث اضطهدوهم؛ واستدعوهم أمام مجامعهم وجلدوهم بقسوة. وأمروهم أن يصمتوا ويكفوا عن كرازتهم المقدسة. قائلين لهم: “اما أوصيناكم وصية أن لا تعلموا بهذا الاسم؟ أي اسم السيح. مخلصنا جميعا وها أنتم قد ملأتم أورشليم بتعليمكم” (أع 5: 28). ولكن بعد أن احتمل التلاميذ اتهامهم العنيف؛ بسبب محبتهم الراسخة للمسيح. فإنهم خرجوا “فرحين لأنهم حسبوا مستاهين أن يهانوا من اجل اسمه”(أع 5: 41). ولكن لو أنهم كانوا جبناء وأذلاء؛ ويخافون من التهديدات. ويرتعبون من خوف الموت. فكيف كانوا يثبتون؟ أو كيف كانوا يقدمون أولئك الذين دعوا بواسطتهم. كثمار لله؟ لن بولس الحكيم أيضا الذي لم تستطع أي صعوبة أن تغلبه، حينما كان في طريقه إلى أورشليم، وجاء النبي أغابوس وأخذ منطقته، ربط رجلي نفسه، وقال: ” الرجل الذي له هذه المنطقة هكـذا سـيربطه اليهـود فـي أورشليم”، فأجاب بولس ” ماذا تفعلون تبكون وتكسرون قلبي لأني مستعد ليس أن أربط فقط بل أن أموت أيضا في أورشليم لأجل اسـم الـرب يسوع المسيح” (أع 21: 11 ، 13).

لذلك كم هو رائع، أن يوصيهم أن يتغلبوا برجولة على كـل اضطهاد، وأن يجتازوا التجارب بجسارة، مؤكدا لهم بيقين أنهم إذ يكونون غيورين هكذا لأجله، فإنهم يصيرون أصدقاء، ويشتركون في مجده. لذلك فإن كان إنسان ما مستعدا أن يحتمل مخاوف الموت ويزدري بها، فهل لو ضيع نفسه ورحل، أفلا يبقى له شيء مذخرا له، لأنه فيما هو يضيع حياته، فإنه يجدها بنوع خاص، بينما لو وجد حياته فإنه يجلب الهلاك لنفسه. لذلك، فأي خوف يمكن أن يشعر به القديسون، إن كـان ما كان يبدو قبلاً أنه صعب، يتضح أنه مفرح لهم بـالحري أن يتحملـوه، بينمـا الحياة العزيزة على الناس، لكونها خالية من الألم، فإنها تنحدر بهم إلـى الهـلاك وإلى فخ الجحيم، كما يقول الكتاب.

ولكنه يوضح لنا، أن التفوق في محبة المسيح هو أفضل جدا بما لا يقاس فوق أبهة العالم ولذته، وذلك بقوله: “لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وأهلك نفسه أو خسرها؟” لأنه حين ينظر الإنسان بشكل رئيسي إلى لذة ومكسب اللحظة الحاضرة، وبسبب هذا يتحاشى الألم راغبا أن يحيا في متعة، فإنه حتى إن كان له غنى وممتلكات وفيرة، فماذا ينتفع بها حينما يكون قد خسر نفسه؟ ” الكنوز لا تنفع الأشرار ” (أم 10: 2 س).

فإن ” هيئة هذا العالم تزول” (1كو 7: 31)، “ومثل ظلال تزول كل تلك اللـذات” (حكمـة9:5س)، والثروات تهرب من الذين يملكونها، “أما البـر فينجي من الموت” (أم 10: 2).

وأكثر من ذلك، فلكي يضع أمامنا بوضوح المكافأة لاستعدادنا للتعب والألـم، يقول: “لأن من استحي بي وبكلامي، فبهذا يستحي ابن الإنسان متى جاء بمجـده ومجد أبيه وملائكته القديسين”، إنه يحقق بهذه الكلمات، كثيـر ممـا هـو نـافع وضروري معا. لأنه، أولاً، يبين أن أولئك الذين لا يستحون به وبكلامـه يـلـزم تماما وبالضرورة أن ينالوا المكافأة التي يستحقونها، وأي شيء يمكن أن يعطينـا فرحا مثل هذا؟ لأنه إن كان هناك بعض الناس الذين يشعر أمامهم الديان بالتوقير باعتبارهم مستحقين بسبب طاعتهم، لمكافأة وكرامات وإكليـل بـسبب محبـتهم وولائهم له، والكرامات التي ربحوها بشجاعتهم، فكيف لا نقول نحـن إن الـذين وصلوا إلى مثل هذه البركات الممتازة، سيعيشون بالتأكيد من الآن فـي تمجيـد وتكريم بلا نهاية.

ولكنه بعد ذلك، يولد فيهم الخوف أيضا، وذلك بقوله إنه سينزل من السماء، ليس في اتضاعه ومذلته السابقة، مثلنا، ولكن في مجد أبيه، أي في مجد إلـهـي فائق، والملائكة القديسون يحيطون به.

إذا، فكم هو بائس جدا ومدمر أن يكون الإنسان مدانا بالجبن والتراخي حينمـا ينزل الديان من الأعالي، والرتب الملائكية واقفة بجانبه، ولكن كم هـو عظـيـم ومبارك التذوق المسبق للغبطة النهائية، أي أن يستطيع الإنسان أن يبتهج بالأعمال التي تمت فعلاً، وينتظر المكافأة عن الأتعاب الماضية. لأن مثل هـؤلاء سـوف يمدحون، إذ يقول لهم المسيح بنفسه: “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم” (مت 25: 34).

ليتنا نحسب نحن أيضا أهلاً لهذه المكافآت بالنعمة ومحبة البشر التي للمسيح مخلصنا جميعا، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلـى دهر الدهور. آمین.

عظة (51) التجلي 9: 27-36

(لو 27:9-36) ” حقا أقول لكم: إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتـى يـروا ملكوت الله. وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام، أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب وصعد إلى جبل ليصلي. وفيما هو يصلي صارت هيئة وجهه متغيرة، ولباسه مبيضا لامعا. وإذا رجلان يتكلمان معة، وهما موسى وإيليا، اللذان ظهرا بمجد، وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله في أورشليم. وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم. فلما استيقظوا رأوا مجـده والرجلين الواقفين معه. وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع: يامعلم، جيد أن تكون ههنا. فلنصنع ثلاث مظال: لك واحدة، ولموسى واحدة، ولإيليا واحدة. وهو لا يعلم ما يقـول. وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة فظلتهم. فخافوا عندما دخلوا في السحابة. وصار صوت من السحابة قائلا: هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا. ولما كان الصوت وجد يسوع وحده، وأما هم فسكتوا ولم يخبروا أحدا في تلك الأيام بشيء مما أبصروه “.

إن أولئك الماهرون في المصارعة يفرحون حينما يصفق لهم المـشاهدون، وهـم يرتفعون إلى مستوى عال ومجيد من الشجاعة بواسطة رجاء الحصول علـى إكليـل النصر. وهكذا أيضا أولئك الذين يرغبون أن يحسبوا أهلاً للمواهب الإلهية، والـذين يعطشون إلى أن يصيروا شركاء الرجاء المعد للقديسين، فإنهم يدخلون المعارك لأجل التقوى في المسيح، ويسلكون حياة زكية، ولا يركنون إلى الكسل في عدم الشكر، ولا يغرقون في جبن وضيع، بل بالحري، يقاومون برجولة كل تجربة، ولا يخافون مـن عنف الاضطهادات، إذ هم يحسبونه ربحا أن يتألموا من أجله، لأنهـم يتـذكرون أن بولس المبارك يكتب هكذا: “آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا ” (رو 8: 18).

لذلك، لاحظوا كم هي جميلة جدا الطريقة التي يستعملها أيضا ربنا يسوع المسيح لمنفعة وبنيان جماعة الرسل. لأنه قال لهم: ” إن أراد أحد أن يأتي ورائـي، فلينك نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني، لأن من يخلص نفسه يهلكها، ومن يضيع نفسه من أجلى يجدها”. الوصية هي حقا لأجل خلاص القديسين ولأجل كرامتهم معا، وهي تؤدي إلى أعلى مجد، وهي طريق الفرح الكامل، لأن اختيار التألم لأجل المسيح، ليس واجبا لا شكر فيه، بل بالعكس يجعلنا مشاركين في الحياة الأبدية وفي المجد المعـد. ولكن لأن التلاميذ لم يكونوا قد حصلوا بعد على القوة من الأعالي، فربما يكون مـن المحتمل، أنهم هم أيضا سقطوا في ضعفات بشرية، وحينما فكروا في أنفسهم في قول كهذا، ربما سألوا أنفسهم: ” كيف ينكر الإنسان نفسه؟ أو كيف يجد نفسه بنفسه ثانية إذ يكون قد ضيعها؟ و أي مكافأة يعوض بها أولئك الذين يتألمون هكـذا؟ أو مـا هـي الهبات التي سيصيرون شركاء فيها؟ لذلك فلكي ينقذهم، من مثل هذه الأفكار الجبانة، ولكي يصوغهم ـ كما لو كان ـ في قالب الرجولة، بأن يولد فيهم رغبة في المجـد العتيد أن يمنح لهم، لذلك يقول: “أقول لكم، إن من القيام ههنا، قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله”. هل هو يقصد أن حياتهم ستمتد جدا حتى تصل إلى ذلك الوقت الذي سيأتي فيه من السماء في نهاية العالم، ليمنح القديسين الملكـوت المعـد لـهـم؟ وحتى هذا كان ممكنا عنده، لأنه كلى القدرة، وليس هناك شيء غير ممكن أو صعب بالنسبة لإرادته الكلية القوة. ولكنه يقصد بملكوت الله: رؤية المجد الذي سيظهر به عند ظهوره لسكان الأرض، لأنه سيأتي بمجد الله الآب وليس في الحالة المتواضـعة التي تمثل حالتنا، لذلك، كيف جعل أولئك الذين قد نالوا الموعد مشاهدين لأمر عجيب كهذا؟

إنه يصعد إلى الجبل أخذا معه ثلاثة تلاميذ مختارين، ويتغير إلى مثل هذا اللمعان الفائق والبهاء الإلهي، حتى أن ثيابه كانت تتألق بأشعة من نار، وبدت تـضـئ مـثـل البرق. وأكثر من ذلك، وقف موسى وإيليا إلى جوار يسوع، وتكلم أحدهما مع الآخر عن خروجه، الذي كان عتيدا أن يكمله في أورشليم، والذي يقصد به سر التدبير في الجسد، وآلامه الثمينة على الصليب.

لأنه حق أيضا أن شريعة موسى وكلمة الأنبياء القديسين، أشـارت مسبقا لـسر المسيح: فالأول منهما بواسطة أمثلة وظلال، راسما إياه ـ كما لو كان ـ في صورة، بينما الآخر بطرق متنوعة معلنة قبل موعدها، وكلاهما يفيد أنه في الوقت المناسـب سيظهر في صورتنا، ولأجل خلاصنا وحياتنا كلنا، يرضى أن يعاني المـوت علـى الخشبة. لذلك، فوقوف موسى وإيليا أمامه، وكلاهما الواحد مع الآخر، كان نوعا من الإشارة الرمزية تظهر بصورة رائعة، ربنا يسوع المسيح، وله الشريعة والأنبيـاء كحارسين لجسده، باعتباره رب الشريعة والأنبياء، وكما أعلن عنـه مـسبقا فيهمـا بواسطة تلك الأمور التي سبق أن بشرا بها باتفاق متبادل. لأن كلمات الأنبياء ليـست مختلفة مع تعاليم الشريعة. وهذا هو ما أتخيل أن موسى الكهنوتي العظيم وإيليا العظيم في الأنبياء كانا يتكلمان عنه أحدهما مع الآخر.

ولكن التلاميذ المباركين ينامون فترة قصيرة، بينما استمر المسيح طـويـلا فـي الصلاة ـ لأنه مارس هذه الواجبات البشرية باعتبارها خاصة بالتدبير ـ وبعد ذلـك عند استيقاظهم صاروا مشاهدين لتغيرات باهرة ومجيدة جدا، إذ ظن (بطرس) حينئذ أن زمن ملكوت الله قد أتى الآن فعلا فاقترح إقامة مساكن على الجبل، وقال إنه مـن اللائق أن يوجد هناك ثلاث مظال: واحدة للمسيح، والمظلتان الأخريتان للشخـصين الآخرين موسى وإيليا، ولكنه كما يقول الكتاب: ” وهو لا يعلم ما يقول”. لأنه لم يكـن هو وقت نهاية العالم، ولا الوقت الذي فيه يمتلك القديسون الرجاء الموعود لهم بـه، لأنه كما يقول بولس: ” سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة الذي له، أي صورة جسد مجد المسيح” (في 3: 22). ولذلك، إذ أن التدبير كان لا يزال في بدايته، ولم يكن قد تحقق بعد، فكيف يكون مناسبا للمسيح أن يتخلى عن محبته للعالم، ويتحـول عن غرض التألم لأجله؟ لأنه فدى كل من تحت السماء، باحتماله الموت في الجـسـد وبإبادته الموت بالقيامة من الموت، معا. لذلك فبطرس لم يكن يعلم ما يقول”.

ولكن إلى جانب منظر مجد المسيح العجيب والذي يفوق الوصف، حـدث شـيء آخر، نافع وضروري لتثبيت إيمانهم به، وليس نافعا للتلاميذ فقط بل حتى لنـا نـحـن أيضا، لأن صوتا أعطي من السحابة من فوق من الله الآب، قائلاً: ” هذا هو ابنـي الحبيب له اسمعوا. وحينما كان الصوت، وجد يسوع وحده” كما يقول الكتاب. فمـاذا يقول المجادل والعاصي إذن أمام هذه الأمور؟ ها هو موسى هناك، فهل يـأمر الآب الرسل القديسين أن يسمعوا له؟ لو كانت إرادته هي أنهم ينبغي أن يتبعـوا وصـايا موسى، لكان قد قال، كما أظن، أطيعوا موسى، احفظوا الناموس. ولكن ليس هذا هو ما قاله الله الآب هنا، بل في حضور موسى والأنبياء، فإنه يأمرهم بالحري أن يسمعوا للمسيح.

ولكن لا يقلب أحد الحق ويقول إن الآب طلب منهم أن يسمعوا لموسى ولـيـس للمسيح مخلصنا جميعا، فإن البشير ذكر بوضوح قوله: ” وحينما كان الصوت، وجـد يسوع وحده” لذلك حينما أمر الله الآب من السحابة التي ظللتهم، الرسل القديسين قائلاً: “له اسمعوا” كان موسى بعيدا جدا، وإيليا أيضا لم يعد قريبا، ولكن كان هناك المسيح وحده لذلك فإياه وحده أمرهم الآب أن يطيعوا.

لأنه هو أيضا غاية الناموس والأنبياء: ولهذا السبب صرخ بصوت عالي لجمـوع اليهود: “لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقون كلامي، لأنـه هـو كـتـب عنـي (يو 5: 46). ولكن لأنهم استمروا إلى النهاية يحتقرون الوصية المعطاة بواسطة موسـى الحكيم جدا، وبرفضهم كلمة الأنبياء القديسين، فقد استبعدوا بعدل وحرموا مـن تـلـك البركات التي وعد بها لآبائهم، لأن “الطاعة أفضل من الذبائح، والاستماع أفضل من شحم الكباش” (1صم 15: 22).

وهكذا قد منحت كل هذه البركات بالضرورة لكثيرين من اليهود كما منحـت لنـا نحن أيضا الذين قد قبلنا الإعلان الإلهي، بواسطة المسيح نفسه كهبة منه لنا، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور آمين.

عظة(52) الثقة بالمسيح 9: 37-43

(لو 37:9-43) ” وفي اليوم التالي إذ نزلوا من الجبل، استقبله جمع كثير. وإذا رجل مـن الجمع صرخ قائلا: يا معلم، أطلب إليك. انظر إلى ابني، فإنه وحيد لي، وهـا روح يأخذه فيصرخ بغتة، فيصرعه مزبدا، وبالجهد يفارقة مرضضا إياه. وطلبت من تلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا. فأجاب يسوع وقال: أيها الجيل غير المؤمن والملتوي إلى متى أكون معكـم وأحتملكم؟ قدم ابنك إلى هنا!. وبينما هو آت مرقة الشيطان وصرعة، فانتهر يسوع الروح النجس، وشفى الصبي وسلمة إلى أبيه. فبهت الجميع من عظمة الله” .

 كل الكتاب هو موحی به من الله ونافع، ولكن بنوع خاص الأناجيل المقدسة، لأن ذلك الذي ـ في القديم ـ تكلم بالناموس للإسرائيليين بواسطة خدمة الملائكة، قد تكلم بشخصه إلينا، حينما أخذ شكلنا وظهر على الأرض وتجول بين النـاس. لأن بـولس الحكيم جدا يكتب: ” الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه ” (عب 1: 1). ويقول هو نفسه في موضع آخر بواسطة أحـد أنبيائه القديسين “أنا هو المتكلم قريب مثل البرق على الجبال، مثل قـدمي ال ي المبشر بالسلام، المبشر بالخيرات” (إش 52: 6 سبعينية). لأنه ها هو يحررنا من طغيـان العـدو، لكيما نتبعه بنقاوة. وإذ قد أبطل ” ولاة العالم على ظلمة الدهر” (أف 6: 12)، أي الأرواح الشريرة، فإنه يقدمنا محفوظين بلا أذى إلى الله الآب.

لأننا قد حصلنا بواسطته على الخلاص من سلطان الأرواح النجسة كما يتضح من هذا الفصل، لأننا سمعنا في القراءة أن رجلاً جرى نحوه من وسط الجمـع وأخبـره بمرض ابنه غير المحتمل، وقال الرجل إن روحا شريرا كان يمـزق ابنـه بقـسوة ويصرعه بتشنجات عنيفة، ولكن طريقة حديثه لم تكن خالية من اللوم، لأنه اشتكى ضد صحبة الرسل القديسين قائلاً إنهم لم يستطيعوا أن ينتهروا الشيطان، بينما كان من المناسب أكثر أن يكرم يسوع وهو يسأل مساعدته ويطلب نعمته. لأن الرب يمنحنـا سؤالنا حينما نكرمه ونثق فيه أنه هو بالحقيقة رب القوات، ولا يستطيع أحد أن يقاوم مشيئته، بل بالحري، فإن كل واحد قابـل للحصول على أية قوة إنما يحصل منه على إمكانية وجوده كلية. لأنه كما أنه هو نفسه النور الحقيقي، فإنه يشرق بنـوره علـى أولئك الذين لهم قابلية أن يستنيروا. وبنفس الطريقة كما أنه هو نفسه الحكمة والفهـم الكامل، فهو الذي يمنح الحكمة لأولئك الذين يقبلونها. وهكذا أيضا فكما أنه هو القوة، فهو يمنح القوة لأولئك الذين لهم قابلية لنوالها. لذلك فحينما نحتقر مجده بعدم إيماننـا، ونزدري بعظمته الفائقة، فإننا لا نستطيع أن ننال منه شيئا، لأننا ينبغـي ” أن نطلـب بایمان غیر مرتابين البتة”، كما يقول تلميذه (انظر يع6:1).

ويمكننا أن ندرك أن هذا القول صحيح مما يحدث بيننـا. لأن الـذين يقدمون الالتماسات لأولئك الذين يترأسون الأعمال على الأرض ويحكمون العروش العظيمة، يوجهون طلباتهم بعبارات تكريم مناسبة، ويعترفون بسلطانهم الشامل وبعظمـتهم، ويفتتحون خطابهم الذي يقدمونه هكذا: ” إلى سادة الأرض، والبحـر، وكـل شـعب وجنس وسط البشر”، وبعد ذلك يضيفون موجزا لما يطلبونه. لذلك، فوالد الصبي الذي به الروح الشرير، كان خشنا وغير لطيف، لأنه لم يطلب ببساطة شفاء الولد، ويتوج الشافي بالمديح والشكر، بل بالعكس، تكلم باحتقار عن التلاميذ، ويعيب على النعمـة المعطاة لهم إذ يقول: ” وطلبت من تلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا”. ومع ذلك فإنـه بسبب نقص إيمانه فإن النعمة لم تعمل. لا يدرك هو أنه هو نفسه كان السبب في عدم إنقاذ الولد من مرضه الخطير؟

لذلك، ينبغي أن يكون لنا إيمان حينما نقترب من المسيح، ومن أي واحد قد حصل منه على نعمة الشفاء، وهو يعلمنا هذا بنفسه بأن يطلب إيمانا من أولئك الذين يقتربون منه راغبين أن يحسبوا مستحقين لأي عطية من عطاياه. فمثلاً، مات لعازر في بيـت عنيا، ووعد المسيح أن يقيمه، وحينما شكت إحدى أختيه في هذا، ولم تكن تتوقـع أن تحدث المعجزة، قال المسيح: “أنا هو القيامة الحياة، من آمن بي ولو مات فسيحيا ” (يو 11: 25). ونجد حادثا مشابها في موضع آخر، لأن يايرس رئيس مجمـع اليهـود، حينما كانت ابنته تلفظ أنفاسها الأخيرة، وقد أمسكت في شباك الموت، توسـل إلـى يسوع أن ينقذ الصبية مما حدث لها، وبناء على ذلك وعد المسيح أن يفعل ذلك عنـد وصوله إلى بيت السائل. ولكن بينما كان في الطريق، جاء رجل من أقربـاء رئـيس المجمع قائلا، ” قد ماتت ابنتك، لا تتعب المعلم” (لو49:8). فماذا كان جواب المسيح؟ ” آمن فقط، وهي ستحيا ” (لو50:8).

لذلك، كان من الواجب على والد الصبي أن يلقي باللوم على عدم إيمانه، بدلاً من أن يلقيه على الرسل القديسين. لهذا السبب قال المسيح بحق، “أيها الجيل غير المؤمن والملتوي، إلى متى أكون معكم واحتملكم؟” لذلك، فهو بحق يدعو ذلك الرجـل نفـسـه وأولئك الذين على شاكلته “جيل غير مؤمن”. لأنه مرض رديء، وكل من يمسك به، فهو يكون ملتويا، ولا معرفة عنده لكي يسلك باستقامة. لذلك فالكتب المقدسة تقول عن مثـل هؤلاء الأشخاص: “إن طرقهم معوجة وهم ملتوون في سبلهم” (أم 2: 15). وقد هرب داود الإلهي من هذا المرض، ولكي ينفعنا أيضا، فهو يعلن لنا هدفه من هذا الهروب قائلا: “لم يلصق بي قلب معوج” (مز 4:101)، أي أن ذلك الإنسان لا يستطيع أن يسلك باستقامة.

وإلى مثل هؤلاء صرخ المعمدان المبارك، كسابق للمخلص قائلاً: “أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة” لذلك فالرجل كان، على وجه العموم، غيـر مـؤمن، وملتوي، ورافضا للطرق المستقيمة، ويضل عن الصواب، وينحـرف عـن الـسـبل الصحيحة. والمسيح لا يتنازل ليتعامل مع هؤلاء الذين سقطوا إلى هـذا الـشر، وإذا تكلمنا بطريقة بشرية، فإنه يتعب ويسأم منهم وهذا هو ما قاله: ” إلى متى أكون معكم واحتملكم؟” لأن ذلك الذي يقول، إن أولئك الذين نـالوا القـوة بمشيئة المسيح أن يخرجوا الأرواح الشريرة، ليس لهم قوة أن يطردوا هذه الأرواح، فهو يعيـب علـى النعمة نفسها بالحري لا على الذين نالوا النعمة. لذلك فقد كان تجديفا رديئا، لأنـه إن كانت النعمة بلا قوة، فلا يكون العيب أو اللوم عليهم هم الذين نالوها، بـل بـالحري يكون على النعمة نفسها. لأن أي واحد يريد أن يدرك يمكنه أن يرى أن النعمة التـي عملت فيهم كانت نعمة المسيح. فمثلاً، الرجل المقعد الذي كان علـى بـاب الهيكـل الجميل قد قام وصار صحيحا، ولكن بطرس نسب المعجزة للمسيح قائلاً لليهـود: ” لأن الذي صلبتموه أنتم الذي أقامه الله من الأموات، بذاك وقف هذا الإنسان أمامكم صحيحا، وبواسطته أعطاه هذه الصحة” (أع10:4، 16:3). وفي موضع آخر فإن بطـرس المبـارك أعلن لأحد الذين شفاهم قائلاً: ” يا اپنياس يشفيك يسوع المسيح” (اع34:9). لذلك، فواضـح من كل ناحية أن الرجل وجه اللوم إلى قوة المسيح، بقوله عن الرسل القديسين،”لم يستطيعوا أن يخرجوه”.

وأكثر من ذلك، فإن المسيح يغضب حينما يساء إلى المبـشرين القديسين الـذين اؤتمنوا على كلمة إنجيله، واختارهم ليعلموها لكل الذين تحت السماء، إذ يشهد لهـم بنعمته، أنهم تلاميذه وأنهم أناروا بنور معرفة الله الحقيقية على أولئك الذين اقتنعـوا بتعاليمهم وبالمعجزات العجيبة التي أجروها في كل مكان. لأن المعجزة تقـود إلـى الإيمان. لذلك، فلو أن والد الصبي مضى خائب الأمل وقد منعت عنه العطية السخية، لكان مستحقا لذلك، ولكن لكي لا يتصور أحد أن المسيح أيضا كان غيـر قـادر أن يصنع المعجزة، لذلك فقد انتهر الروح النجس، وهكذا أنقذ الصبي من هذا المـرض وسلمه لأبيه. لأنه قبل ذلك لم يكن ملكا لأبيه بل كان ملكا للروح الذي يتسلط عليـه أما الآن ـ إذ قد أنقذ من يده القاسية، فقد أصبح مرة أخرى ملكا لأبيه، كهبـة مـن المسيح، الذي أعطى أيضا للرسل القديسين أن يصنعوا معجزات إلهيـة، وينتهـروا الأرواح النجسة بقدرة لا تقاوم، ويسحقون الشيطان.

ويقول البشير، إن الجموع بهتوا من عظمـة الله. إذن، فحينمـا يـصنع المسيح معجزات، فإن الله هو الذي يتمجد، الله فقط والله وحـده. لأنـه هـو الله بالطبيعـة وعظمته لا تقارن، وعلوه لا منافس له وهو يشع بمجد الربوبية الكاملة التي الله الآب. لذلك يليق به أن نمجده بتسابيح، ولنقل له: “أيها الرب إله القوات من مثلك؟ أنت قوي أيها الرب، وحقك من حولك ” (مز 88: 8 سبعينية). لأن كل شيء مستطاع لديـه، وسـهل عليه أن يتممه، وليس شيء عسير عليه أو عاليا عنه، الذي به ومعه، الله الآب التسبيح والملك، مع الروح القدس، إلى دهر الدهور أمين.

عظة(53) سر المسيح 9: 43-45

(لو 43:9-45) ” وإذ كان الجميع يتعجبون من كل ما فعل يسوع، قال لتلاميذه: ضعوا أنتم هذا الكلام في آذانكم: إن ابن الإنسان سوف يسلم إلى أيدي الناس. وأما هـم فـلـم يفهموا هذا القول، وكان مخفى عنهم لكي لا يفهموه، وخافوا أن يسألوه عن هذا القول”

عميق وعظيم هو بالحقيقة سر التقوى، بحسب تعبير بولس الحكــم (1تى 3: 16)، ولكن الله الآب يعلنه لمن يستحقون نواله. لأن المخلص نفسه أيضا حينما كان يكلـم اليهود قال: “لا تتذمروا فيما بينكم، لا يقدر أحد أن يأتي إلى، إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني” (يو43:6). فحينما حسب بطرس المبارك أهلاً لنعمة مجيدة هكذا وعجيبـة، إذ كان في نواحي قيصرية فيلبس، فإنه صنع اعترافا بالإيمان به صحيحا وبـلا عـيـب قائلاً: “أنت هو المسيح ابن الله الحي” وماذا كانت المكافأة التي حسب مستحقا لهـا؟ المكافأة هي أن يسمع المسيح يقول: ” طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحما ودما لـم يعلن لك لكن أبى الذي في السموات” (مت 16: 16 ، 17)، ثم بعد ذلك نال كرامات فائقـة، لأن المسيح ائتمنه على مفاتيح ملكوت السموات، وصار اعترافه بالإيمان هو الأساس الراسخ للكنيسة. إذ قال له: “أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها “.

لذلك، فلكي يعرف أولئك الذين سيعلمون العالم كله سره بالضبط، فإنه يشرحه لهم مسبقا بطريقة نافعة، وبوضوح، قائلاً: ” ضعوا أنتم هذا الكلام في قلوبكم”، إن ابـن الإنسان سوف يسلم إلى أيدي الناس”. وأظن أن السبب الذي جعل المسيح يتكلم هكذا، هو موضوع نافع كما أنه يستحق التفكير.

فقد أخذ بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد إلى الجبل وتجلى أمامهم، وأضاء وجهـه كالشمس، وأراهم مجده الذي سيرتفع به فوق العالم في الوقت المناسب. لأنه سيأتي ليس في حقارة مثل حقارتنا، ولا في وضاعة حالة الإنسان، بل في جلال اللاهـوت وعظمته، وفي مجد فائق، وأيضا حينما نزل من الجبل، فإنه أنقذ إنسانا مـن الـروح الشرير العنيف، ومع ذلك فقد كان مزمعا بالتأكيد أن يحمل آلامه الخلاصية لأجلنـا، ويحتمل خبث اليهود، وكما يقول خادم أسراره: “يذوق بنعمة الله الموت لأجـل كـل إنسان” (عب 2: 9). ولكن حينما حدث هذا، ليس هناك ما سيمنع الافتراض أن تلاميذه سينزعجون، وربما يقولون في أفكارهم الخفية: ” الذي له كل هذا المجد، الذي أقام الموتى بقوته الإلهية، الذي انتهر البحر والرياح، الذي سحق الشيطان بكلمة، كيـف يقبض عليه الآن كسجين، ويمسك به في فخاخ القتلة؟ فهل كنا مخطئين حينئذ فـي تفكيرنا عنه أنه هو الله؟

وهل سقطنا من المعرفة الحقيقية عنه؟ لأن كون أولئك الذين لم يعرفوا “السر”، أن ربنا يسوع المسيح سوف يحتمل الصليب والموت، سيجدون فرصة للتعثر، هذا أمـر سهل أن ندركه، حتى مما قاله له بطرس المبارك. لأنه رغم أنه لم يكن قد شاهد آلامه بعد، ولكنه سمع فقط مسبقا أن هذه الآلام ستحدث له، فإنه قاطعه، قائلاً: ” حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا” (مت 16: 22).

لذلك، فلكي يعرفوا ما سوف يحدث بالتأكيد، فهو ـ كأنه ـ يدعوهم أن يحتفظـوا بالسر في عقلهم. لأنه يقول: “ضعوا أنتم هذا في قلوبكم”. وكلمة “أنتم” تميـز بيـنهم وبين كل الآخرين. لأنه أراد في الحقيقة أنهم هم أنفسهم ينبغي أن يتعلموا فقـط عـن آلامه المقبلة، ولكن من الأفضل جدا، أن يقتنعوا في نفس الوقت بأنه سيقوم من القبر بقوة إلهية وأنه سيبيد الموت، وهكذا يتحاشى تعرضهم للعثرة. لذلك، فهو يقول، حينما يأتي الوقت الذي ينبغي أن أتألم فيه، فلا تسألوا، كيف أن واحدا له كل هـذا المجـد، والذي صنع كل هذه الآيات، قد سقط كواحد منا، على حين غرة، في أيدي أعدائـه، ولكن بالعكس، تأكدوا، حينما تتأملون في التدبير، أنني لا أنقاد بإجبار من الناس، بـل أمضى إلى الآلام بإرادتي. لأن ما الذي يعوق ذلك الذي يعرف مسبقا ما سوف يحدث ويعلنه بوضوح، أن يرفض أن يتألم إذا أراد ذلك؟ ولكن أنا أخضع للآلام، لكي أفدى كل الذين تحت السماء. لأن هذا هو ما يعلمه لنا بوضوح في موضع آخـر، قائلاً: “ليس أحد يأخذ حياتي منى، بل أضعها أنا بإرادتي. لي سلطان أن أضعها، ولـى سلطان أن أخذها أيضا ” (يو 10: 18).

 ولكنه يقول: “أما هم فلم يفهموا هذا القول وكان مخفى عنهم لكي لا يفهموه” والآن من الطبيعي أن يتعجب أي واحد، حينما يتأمل نفسه، كيف أن التلاميذ لم يعرفـوا سر المسيح، فرغم أنهم ينتمون إلى جماعات اليهود، إلا أنهم لم يكونـوا كـسـالي أو مزدرين، بل على العكس جادين جدا ومجتهدين. فرغم أنهم يعتبرون عمالاً يدويين، إذ كانت مهنتهم الصيد في البحيرة، إلا أنهم ـ كما قلت ـ كانوا متعلمين وعقلاء، ولـم يكونوا يجهلون كتب موسى، لأنه لهذا السبب قد اختارهم المسيح، فكيف كـانوا إذن يجهلون سر المسيح، حينما كان قد أشير لهم عنه كظل في مواضع مختلفة بواسطة الناموس، وسبق التنبؤ به بطريقة جميلة في رموزه كما في رسم، ولكي أوضـح مـا أقصد بمثال، فإنهم لم يستطيعوا أن يهربوا من عبودية مصر، ولا أن يفلتوا من اليـد التي اضطهدتهم، إلا عندما ذبحوا حملاً حسب ناموس موسى، وحينما أكلـوا لحمسه فإنهم مسحوا العتاب العليا بدمه، وهكذا انتصروا على المهلـك. فـالرموز تـتمخض بالحق، وعملهم هذا، كان كما قلت، تنبؤا، بواسطة ما تم فـي ظـلال، عـن الفاعليـة الخلاصية لموت المسيح وعن إبطال الهلاك بواسطة دمه، وهو الذي يطرد أيضا الطاغية القاسي، الشيطان، وينقذ من سيطرة الأرواح النجسة، أولئك الذين كانوا قـد اسـتعبدوا، والذين، مثل الإسرائيليين الذين سخروا في عمل الطوب والبناء، قـد صـاروا ضـحـايا الاهتمامات الأرضية والشهوات الجسدية الدنسة، وارتباكات هذا العالم غير النافعة.

إن سر الآلام يمكن أن يرى في أمر آخر، فإنه حسب ناموس موسى، كان يقـدم تيسان، لا يختلفان في شيء أحدهما عن الآخر، بل هما متماثلان في الحجم والشكل. واحد من هذين التيسين كان يسمى ” للرب”، فإنه يقدم ذبيحة، والآخر “المرسل بعيدا”.

وحينما تخرج القرعة على التيس الذي يسمى: “للرب”، فإنه يقدم ذبيحة بينما الآخـر كان يرسل بعيدا عن الذبح، ولذلك كان يسمى “المرسل بعيدا”. ومن هو المشار إليـه بهذا؟ إنه “الكلمة”، الذي رغم أنه الله، فقد صار مثلنا، وأخذ شكلنا نحن الخطاة فيمـا يختص بطبيعة الجسد. ولكن كان الموت هو ما نستحقه نحن، إذ أننـا بالخطيـة قـد سقطنا تحت اللعنة الإلهية، ولكن حينما حمل مخلص الكل نفسه العبء، فإنه نقل الدين الذي كان علينا إلى نفسه، ووضع حياته لأجلنا، لكي نطلق نحن بعيدا عـن المـوت والهلاك.

لذلك فالسر سبق أن أعلن بشكل غامض لليهود بواسطة ما أشير به كالظـل فـي الناموس، لو أنهم كانوا فقط عارفين الكتب المقدسة. ولكن، كما كتب بولس المبارك ” إن العمى قد حصل جزئيا لإسرائيل” (رو 11: 25)، ” وحتى اليوم حين يقـرأ موسـى، البرقع موضوع على قلبهم، وهو لا ينكشف، لأنه يبطل في المسيح” (2كو 3: 14-15).

فهم في الواقع يفتخرون بالناموس، ولكن هدفه مخفى تماما عنهم، إذ أن هدفـه أن يقودنا إلى سر المسيح. ولكن مخلصنا يوضح أنهم بلا فهم إذ يقول: ” فتشوا الكتب، لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي، ولا تريدون أن تأتوا إلـي لتكون لكم حياة” (يو39:5و40). لأن الكتب الموحى بها تقود الإنسان الذي له فهـم إلـى معرفة دقيقة لتعاليم الحق، ولكنها لا تنفع عديمي الحكمة والجهال والمهملـين. ليس لأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا هذا، بل بسبب أن ضعف ذهنهم يجعلهم غيـر قـادرين على استقبال النور الذي تعطيه الكتب المقدسة. لأنه كما أن نور شعاع الشمس غيـر نافع لأولئك المحرومين من البصر، ليس لأنه لا يستطيع أن يضئ، بـل بـسبب أن عيونهم غير قادرة على رؤية النور واستقباله. هكذا الكتب المقدسة، فرغم أنها موحى بها من الله، فهي لا تنفع الجهال والأغبياء شيئا.

لذلك فواجبنا، هو أن نقترب إلى الله ونقول: “افتح عيني لكي أبصر عجائب مـن ناموسك” (مز 118: 18 السبعينية)، وهكذا فسوف يعلن لنا المسيح سره، الذي به ومعـه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة (54) من هو أعظم 9: 46-49

(لو 46:9-49) ” وداخلهم فكر من عسى أن يكون أعظم فيهم؟ فعلم يسوع فكر قلبهم، وأخذ ولداً وأقامه عنده، وقال لهم: من قبل هذا الولد باسمي يقبلني، ومن قبلني يقبل الذي أرسلني، لأن الأصغر فيكم جميعا هو يكون عظيما “.

أنتم الذين تغارون للحذق الروحي، وتعطشون لمعرفة التعاليم المقدسة، تنالون مرة أخرى الأمور التي تحبونها. والذي يقودكم إلى الغنيمة المربحة ليس معلما أرضـيًا، ولا واحد مثلنا نحن الذين نرشدكم، بل هو كلمة الله، الذي نزل من فـوق، أي مـن السماء، وهو النور الحقيقي للسموات والأرض، لأن كـل الخليقـة العاقلـة تـستنير بواسطته، إذ هو واهب كل حكمة وفهم، ونحن ننال منه كل معرفة الفضيلة، والقـدرة الكاملة على ممارسة الأعمال الصالحة كما يليق بالقديسين. لأنه، كما يقول الكتاب: “نحن متعلمون من الله” (يو45:6، إش 54: 13 س) والمقطع الموضوع أمامنا يشهد أيضا لما قد قلته. إذ يقول: ” داخلهم ـ أي بين الرسل القديسين ـ من هو أعظم فيهم”.

والآن فالذي يظن أن يسوع كان مجرد إنسان، دعوه يعرف أنه على خطـا وأنـه ضل بعيدا عن الحق. مثل هذا فليعرف، أنه رغم أن كلمة الله صار جسدا، إلا أنه لـم يكن ممكنا بالنسبة إليه أن يكف عن أن يكون ما كان عليه، وأنه استمر إلها كما كان. فأن يكون قادرا أن يفحص القلوب والكلى، ويعرف أسرارها، هذه هي صـفة الإلـه العلي وحده، وليست صفة أي كائن غيره مهما كان. ولكن ها هو المسيح يفحص أفكار الرسل القديسين، ويثبت عين اللاهوت على مشاعرهم الخفيـة. إذن فهو الله لكونه مكلل بالكرامات المجيدة جدا والإلهية.

ولكن دعونا الآن نبحث هذا السؤال، هل كان التلاميذ قد أصيبوا معا بهذا المرض؟ وهل هذا الفكر دخل فيهم جميعا مرة واحدة؟ في رأيي، إنه أمر لا يصدق بـالمرة أن نفترض أنهم جميعا صاروا فريسة مشتركة لنفس المرض في نفس اللحظة، ولكـن، كما أتصور، حينما صار أحدهم فريسة للمرض، فإن الإنجيلي الحكيم لكي لا يصوب اتهاما لواحد بعينه بين زملاءه التلاميذ، لذلك يعبر بشكل غير محدد قائلاً: ” وداخلهم فكر من هو أعظم فيهم” وبهذا يتاح لنا أن نرى كيف أن الشيطان ماكر في شره. لأن هذه الحية هي متلونة جدا ومملوءة بكل حيلة للأذى، متآمرا بطرق متنوعة ضد أولئك الذين يثبتون أشواقهم نحو حياة مكرمة، والـذين يسعون باجتهـاد وراء الفضائل الممتازة. وإن كان يستطيع بواسطة اللذات الجسدية أن يسيطر على عقل أي واحـد، فإنه يصنع هجومه بوحشية، ويجعل مهماز الشهوانية حادا، وبوقاحة هجماتـه، يـذل حتى العقل الثابت إلى حقارة الشهوات الوضيعة. أما الذي يكون شجاعا ويهرب مـن هذه الفخاخ، فحينئذ يستعمل معه حيل أخرى ويختـرع إغـراءات ليجربـه بأفكـار مريضة، لأنه يزرع نوعا أو آخر من البذار التي لا ترضى الله: وأولئك الذين فـيهم شيئا نبيلاً، ويمدحون لحياتهم الممتازة، يثير فيهم شهوة المجد الباطل، محركا إياهم قليلاً نحو عجرفة بغيضة. لأنه كما أن أولئك الذين يتهيئون بالزي الحربي لمحاربـة الغزاة، يستعملون ضدهم حيلاً كثيرة، إما بلوي الأقواس التي تطلق السهام، أو بقذف الحجارة من القلاع، أو بأن يهجموا عليهم برجولة بسيوف مسلولة، هكـذا الـشيطان يستعمل كل حيلة في محاربة القديسين بواسطة خطايا متنوعة.

لذلك، فإن ألم وشهوة المجد الباطل قد هجم على واحد من الرسل القديسين، لأن مجرد المجادلة في من هو أعظم بينهم، هو علامة على شخص طموح، متلهـف أن يكون رئيسا للباقين. ولكن الذي يعرف أن يخلص، أي المسيح، لم ينم، فقد رأي هـذا الفكر في عقل التلميذ ـ يطلع، بحسب كلمات الكتاب، مثل نبات مر (انظر عب 12: 15)، لقد رأى الزوان، عمل الزارع الشرير، وقبل أن ينمو عاليا، قبـل أن يصير قويا ويمتلك القلب، فإنه ينتزع الشر من جذوره. لقد رأي سهم البربري (أي الشيطان) الذي قد وجد مدخلاً، وقبل أن يسود ويخترق العقل، فإنه أعطى الدواء. لأن الشهوات حينما تكون في بدايتها، وكما لو كانت في طفولتها، ولم يكتمل نموها بعد ولا صارت لها جذور راسخة، يكون من السهل التغلب عليها. ولكن حينما تكون قد زادت ونمت، وصارت قوية، فمن الصعب خلعها أو اقتلاعها. لهذا السبب قال الحكيم: “إن صعدت عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك، لأن الهدوء يشفى خطايا كثيرة” (جا4:10). 

بأي طريقة إذن، يبتر طبيب النفوس مرض المجد الباطل؟ كيف يخلص التلميذ المحبوب من أن يكون فريسة للعدو، ومن أمر ممقوت مـن الله والإنـسـان؟ يقـول الكتاب: “أخذ ولدا وأقامه عنده” وجعل هذا الحديث وسيلة لمنفعة الرسـل القديسين أنفسهم، ولمنفعتنا نحن خلفائهم، لأن هذا المرض كقاعدة عامة ـ يؤذي كل أولئك الذين هم في وضع أعلى من غيرهم من الناس من أي ناحية. 

ولكن الولد الذي قد أخذه، لأي شيء جعله مثالاً ورسما؟ لقد كان مثالاً لحياة بريئة غير طامعة، لأن عقل الطفل خال من الخداع، وقلبه مخلص وأفكاره بسيطة، وهو لا يطمع في الدرجات، ولا يعرف معنى أن يكون إنسان أعلى من آخر في المركز، وهو ليس عنده عدم ترحيب بأن يحسب أقل من غيره، وهو لا يضع نفسه فوق أي شخص آخر مهما كان. وحتى إن كان من عائلة شريفة فإنه لا يتشاجر بسبب الكرامة حتى مع عبد، حتى لو كان والداه غنيين، فهو لا يعرف أي فرق بينه وبين الأطفال الفقراء، بل على العكس فهو يحب أن يكون معهم، ويتحدث ويضحك معهم بلا أي تمييـز. وفي قلبه وعقله توجد صراحة كبيرة ناشئة من البساطة والبراءة، والمخلص نفسه قال مرة للرسل القديسين، أو بالحري لكل الذين يحبونه: ” الحق أقول لكم، إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن تقدروا أن تدخلوا ملكوت الله”. (مت 18: 3).

وفي مرة أخرى، حينما أحضرت النساء أطفالهن إليه، ومـنعهم التلاميذ، قـال: “دعوا الأولاد يأتوا إلي ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات” (لو١٦:١٨). وأيضا بولس الحكيم جدا يريد أن أولئك الذين يؤمنون بالمسيح ينبغي أن يكونوا رجالاً ناضجين في الفهم، ” ولكن أطفالاً في الشر” (انظر ١كو ٢٠:١٤)، وأحد الرسل القديسين الآخرين قال: “كأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي عديم الغش لكي تنموا بـه للخلاص، إن كنتم قد نقتم أن الرب صالح” (1بط 2: 2).

وكما سبق أن قلت، فإن المسيح أحضر الولد كنموذج للبساطة والبراءة، ” وأقامـه عنده”، مبينا بذلك ـ كما في رسم توضيحي ـ أنه يقبل الذين مثل هذا الولد ويحبهم، ويحسبهم مستحقين أن يقفوا إلى جواره، لكونهم يفكرون مثله ويتوقـون الـسـيـر فـي خطواته. لأنه قال: “تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29). وإن كـان الذي هو فوق الكل، والمكلل بتلك الأمجاد الفائقة، متواضع القلب، فكيـف لا تنطبـق على أمثالنا تهمة الجنون المطبق، إن كنا لا نتصرف باتضاع نحو الفقراء، ونعرف ما هي طبيعتنا، بل نحب أن ننتفخ بأنفسنا فوق مقياسنا! 

ويقول بعد ذلك: ” من قبل هذا الولد باسمي يقبلني، ومن قبلني يقبل الذي أرسلني”. حيث إن مكافأة أولئك الذين يكرمون القديسين هي نفس المكافأة الواحدة، سواء كـان الذي يكرمونه من رتبة متواضعة أو من مركز عالي وكرامة كبيرة – لأنهم يقبلـون المسيح، وبواسطته وفيه يقبلون الآب ـ فكيف لا يكون أمرا شديد الحماقة مـنهم أن يتشاجروا فيما بينهم، ويسعون للترأس، ويكونون غير راغبين أن يحسبوا أقـل مـن الآخرين، في حين أنهم سيقبلون من الآخرين على أساس متساوي!

ولكنه يجعل معنى هذا الإعلان أكثر وضوحا بقوله: “لأن الأصغر فيكم جميعا هو يكون أعظم”. وكيف يكون المعتبر أصغر هو الأعظم؟ هل المقارنة من جهة الفضيلة؟ ولكن كيف يكون هذا؟ أي بأية طريقة يكون الأصغر هو الأعظم؟ إنه ربما يدعو الذي يسر بالأمور المتواضعة، بالأصغر، ، وهو الذي ـ بسبب تواضعه ــ لا يفكر تفكيـرا عاليا عن نفسه. مثل هذا يرضى المسيح، لأنه مكتوب: ” الذي يرفـع نـفـسـه سـوف يوضع، والذي يضع نفسه سوف يرفع” (لو 14: 11). والمسيح نفسه يقـول فـي أحـد المواضع: “طوبي للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات” (مت 5: 3). لـذلك فـإن زينة النفس التي تتقدس هي الفكر المسكين المتواضع، أما الرغبة في النظر إلى النفس نظرة عالية، والنزاع مع الإخوة بسبب الكرامة والمركز، والشجار معهم بحماقة، فهذا في المقابل هو عار عظيم. مثل هذا السلوك يفرق الأصدقاء، ويجعـل ذوي الميـول المتشابهة أعداء. هذا السلوك يتغلب على قانون الطبيعة، ويقلب المحبة الفطرية التـي نكنها لإخوتنا. إنه يقسم المحبين أحيانا، ويجعل حتى المولودين من رحم واحد، أعداء بعضهم لبعض. إنه يحارب بركات السلام ويقاومها. إنه بؤس عظيم ومرض اخترعه شر الشيطان. لأنه أي شيء هناك أكثر خداعا من المجد الباطل؟ إنه يتلاشـي مثـل الدخان، مثل سحابة يزول، ومثل منظر الحلم يتحول إلى لا شيء، وبالكـاد يـساوى العشب في احتماله، ويذبل كالحشائش، لأنه مكتوب: “كل جسد كعشب، وكـل مجـد إنسان كزهر عشب” (1بط 1: 24). لذلك فهو ضعف وهو محتقر في وسطنا، ويحسب من أعظم الشرور. لأن من الذي لا يعتبر الإنسان المحب للمجد الباطل، والمنتفخ بكبرياء فارغة مزعجا؟ من الذي لا ينظر باحتقار، ويعطى اسم “المتفاخر” لذلك الذي يرفض أن يكون على قدم المساواة مع الآخرين، ويقحم نفسه في المقدمة كمـن يـدعي أنـه يحسب رئيسا لهم؟ إذن، فليكن مرض محبة المجد الباطل بعيدا عن أولئك الذين يحبون المسيح، ولنعتبر رفقاءنا بالحري أفضل من أنفسنا، ولنكن تواقين أن نـزين أنفسنا بتواضع العقل ـ الذي يسر الله جدا. لأننا إذ نكون هكذا بسطاء الفكـر، كمـا يليـق بالقديسين، فإننا سنكون مع المسيح، الذي يكرم البساطة، الذي بـه ومعـه، الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور آمين.

عظة (55) ” من ليس علينا فهو معنا ” 9: 49-50

(لو9: 49-50) ” فأجاب يوحنا وقال: يا معلم، رأينا واحدا يخـرج الشياطين باسمك فمنعناه، لأنه ليس يتبع معنا. فقال له يسوع: لا تمنعوه، لأن من ليس علينا فهو معنا “.

بولس يطلب منا أن “نمتحن كل شيء” ويقول: “كونوا حكماء” (1تس 5: 21) ولكن المعرفة المضبوطة والمدققة لكل أمر بذاته، لا يمكننا أن نحصل عليها من أي مصدر آخر سوى من الكتب الموحى بها من الله. لأن داود، كما لو كان يخاطـب المسيح مخلص الكل، في المزامير، يعلن: “سراج لرجلي شريعتك ونور لسبيلي” (مز 118: 105 س) وسليمان أيضا يكتب: “الوصية مصباح والشريعة نور” (أم 6: 23). لأنه كما أن هذا النور المحسوس الذي في هذا العالم، حينما يسقط على عيوننا الجسدية يطـرد الظلمة، هكذا أيضا شريعة الله، حينما تدخل إلى ذهن الإنسان وقلبه فإنها تنيره كليـة ولا تدعه يتعثر بعثرات الجهل، ولا أن تمسكه الخطية بشرورها.

وأقول هذا من إعجابي بالمهارة التي تظهر في الـدروس المأخوذة مـن الإنجيـل الموضوع أمامنا الآن، والمعنى الذي تريدون بلا شك أن تعرفوه، وأنا أراكم قد اجتمعتم هنا بسبب محبتكم للتعاليم المقدسة، وقد كونتم هذا الاجتماع الحاضر باشتياق كثير. لذلك، فما الذي يقوله التلاميذ الحكماء، أو ما الذي يرغبون أن يتعلموه من ذلك الذي يمنحهم كل حكمة، ويعلن لهم فهم كل عمل صالح؟ ” يا معلم، رأينا واحدا يخرج الشياطين باسـمك فمنعناه” فهل لدغة الحسد أزعجت التلاميذ ؟ هل هم يحسدون أولئك الذين أنعم عليهم؟ هل هم أدخلوا داخل نفوسهم شهوة رديئة جدا ومكروهة جدا من الله؟ فهم يقولون: ” رأينا واحد يخرج الشياطين باسمك فمنعناه”. أخبرني، هل أنت تمنع واحدا يزعج الشيطان باسم المسيح، ويسحق الأرواح الشريرة؟ كيف لا يكون من واجبك أن تفكر أنه ليس هو فاعل هذه العجائب، بل إن النعمة التي فيه صنعت المعجزة بقوة المسيح؟ لـذلك كيف تمنع الذي بالمسيح يربح النصرة؟ يقول: “نعم لأنه ليس يتبع معنا” أه، يا للكـلام الأعمى! لأنه ماذا إن لم يكن معدودا بين الرسل القديسين، ذلك الـذي كلـل بنعمـة المسيح، ومع ذلك فهو مزين بالسلطات الرسولية بالتساوي معكم، فهناك أنواع كثيرة من مواهب المسيح، كما يعلم بولس المبارك، قائلا: “فإنه لواحد يعطى كلام حكمـة ولآخر كلام علم، ولآخر ايمان، والآخر مواهب شفاء” (1كو 12: 8 و9).

إذن، فما هو معنى هذه العبارة: ” ليس يسير معنا”، أو ما هي قوة هـذا التعبيـر؟ انظروا إذن، فإني سأخبركم بأفضل ما أستطيع. فقد أعطى المخلص للرسل القديسين سلطانا على الأرواح النجسة، ليخرجوها، وليشفوا كل مرض وكل ضعف في الشعب (مت 10: 1)، وهكذا فعلوا، ولم تكن النعمة المعطاة لهم غير فعالة. لأنهم رجعوا فرحين قائلين: “يا رب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك” (لو 10: 17). لذلك، فهم قد تخيلوا، أنه لم يمنح الإذن لأي شخص آخر غيرهم وحدهم، أن يتوضح بالسلطان الذي منحـه لهم. ولهذا السبب فإنهم يقتربون، ويريدون أن يتعلموا، إن كان آخرون أيضا ربمـا يمارسونه، حتى إن لم يكونوا قد اختيروا للرسولية، ولا حتى لوظيفة معلم.

ونجد شيئا مثل ذلك أيضا في الكتب المقدسة القديمة. لأن الله قال مـرة لموسى “معلم المقدسات” (Hierophant) ” اختر أنت سبعين رجلا من شيوخ إسرائيل…، وأنا أخذ من الروح الذي عليك واعطي لهم” (عد 11: 16 و 17)، وحينما اجتمع أولئك الذين اختيروا، عند الخيمة ـ فيما عدا اثنين فقط قد بقيا في المحلة ـ وحـل روح النبـوة عليهم، فليس فقط الذين اجتمعوا في الخيمة المقدسة تنبأوا، بل أولئك أيضا الذين بقوا في المحلة، فيقول إن: ” يشوع خادم موسى قال: الداد وميداد يقلبان في المحلة، يا سیدی موسی اردعهما. فقال موسى ليشوع هل تغار أنت لي؟ يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء، إذ جعل الرب روحه عليهم” (عد 11: 27 -29)، والمسيح هو الذي جعـل موسى “معلم المقدسات” (Hierophant) يتكلم هكذا في ذلك الوقت، بالروح القدس، وهو هنا الآن أيضا بشخصه يقول للرسل القديسين ” لا تمنعوه” أي الذي يسحق الشيطان باسمه، ” لأنه ليس عليكم، لأن من ليس عليكم فهو معكم”، لأن كل الذين يريدون أن يعملوا لمجد المسيح، هم معنا نحن الذين نحبه، وهم مكللون بنعمتـه، وهـذا قـانون بالنسبة للكنائس مستمر حتى هذا اليوم. لأننا نكرم فقط أولئك الذين يرفعـون أيـادي مقدسة، وبطهارة وبلا عيب ولا لوم، وينتهرون الأرواح النجسة باسم المسيح وينقذون الجموع من أمراض متنوعة لأننا نعلم أن المسيح هو الذي يعمل فيهم.

ومع ذلك، ينبغي أن نفحص مثل هذه الأمور بعناية، فإن هناك أشخاص، هم فـي الحقيقة لم يحسبوا مستحقين لنعمة المسيح، ولكنهم جعلوا من سـمعة أنهـم قديسين ومكرمين، فرصة للربح. ويمكننا أن نقول عن هؤلاء إنهم مـراؤون جـسورون ولا يخجلون، الذين يقتنصون الكرامات لأنفسهم، رغم أن الله لم يدعهم إليها، وهم يمدحون أنفسهم ويقلدون الأعمال الجسورة للأنبياء الكذبة في القديم، الذين قال الله عنهم: ” أنا لم أرسل الأنبياء، بل هم جروا، أنا لم أتكلم اليهم، بل هم تنبأوا ” (إر 23: 21 س). وهكذا أيضا يمكن أن يقول عن هؤلاء: أنا لم أقدسهم، ولكنهم ينسبون الموهبة لأنفسهم كذبا، فهم لم يحسبوا مستحقين لنعمتي، ولكنهم بخبث يقتنصون تلك الأمور التـي أمنحهـا لأولئك الذين هم وحدهم مستحقين لنوالها. فهؤلاء، إذ يصنعون مظهرا للصوم يمشون بحزن وعيونهم ساقطة إلى أسفل، بينما هم مملوئون خـداغا ودنـاءة، وكثيـرا مـا يفتخرون بأنهم لا يعلمون أظافرهم وهم مغرمون بنوع خاص بـأن تكـون وجـوهم شاحبة، ورغم أن أحدا لم يجبرهم، فإنهم يحتملون مثل ذلك للبـوس الـذي يحتملـه المسجونون، فيعلقون أطواقا على رقابهم، وأحيانا يضعون قيودا في أيديهم وأقدامهم. مثل هؤلاء الأشخاص، قد أوصانا المخلص أن نتجنبهم، قائلاً: “احترزوا من الأنبياء الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة” (مت 7: 15).

ومع ذلك، ربما يعترض أحد على ذلك، ويقول: ” ولكن، يا رب مـن هـو الـذي ومع يعرف قلب الإنسان؟ من هو الذي يرى ما هو خفي في داخلنا، إلا أنت وحدك، أنـت الذي خلقت قلوبنا بنفسك، والذي تمتحن القلوب والكلي؟” نعم يقول: ” مـن ثـمـارهم تعرفونهم” (مت 7: 20)، وليس بالمظاهر، ليس بالشكل الخارجي، بل بالثمار. لأنه ما هو هدف ريائهم؟ واضح تماما أنهم يسعون إلى محبة الربح. لأنهم يحدقون في أيدي الذين يزورونهم، فإن رأوها فارغة يحزنون حزنا عظيما ويلدغهم الانزعاج، لأن التقـوى عندهم تجارة. فإن كنت تحب الغنى، وتطمع في الربح القبيح، وقد أعطيت مكانا فـي قلبك لتلك الشهوة الدنيئة جدا ـ أي محبة المال ـ فاخلع عنك جلد الحمـلان، لمـاذا تتعب نفسك باطلاً، بالتظاهر بحياة متقشفة غير عالمية؟ تخلى عن هذه القسوة الزائدة في الحياة، وبدلاً من ذلك اطلب أن تكون شخصا مكتفيا بالقليل. اطلب هذا مـن الله، انظـر بـره: “ألـق علـى الـرب همـك، فهـو يعولـك” (مز 54: 22 س). بل هناك بعض الناس الذين يستعملون ـ من وقت إلى آخر ـ تعازيم وغمغمـات معينة كريهة، وبخبث يعملون تبخيرات معينة ويوصون باستعمال التمـائم. ويقـول واحد من الذين اشتركوا في هذه الممارسات بدون تفكير ” ولكـنـهم فـي تـعـزيمـهم يستعملون اسم رب الصباؤوت”. فهل نبرئهم إذن من اللوم، لأنهـم يطلقـون علـى شیطان خبیث نجس تعبير يليق بالله وحده، ويسون الشيطان الشرير رب الصباؤوت، طالبين منه ـ كمكافأة على التجديف ــ معونة في الأمور التي يسألونه إياها؟ ليس أنه يساعدهم حقيقة، إذ هو بلا قوة، بل بالحري هو يحدر أولئك الذين يدعونه إلى هـوة الهلاك، لأن الرب لا يتكلم بغير الحق حيث يقول إن الشيطان لا يخـرج شيطانا. لذلك فمن الضروري لخلاصنا، كما أنه أمر مرضي الله، أن نهرب بعيدا من كـل أمر مثل هذا، ولكن حينما ترى واحدا قد تربى ونشأ في الكنيسة، وهو طاهر، وبسيط وبدون رياء، وطريقة حياته جديرة بالاقتداء، وهو معروف مـن كثيـرين كصديق للرهبان القديسين، ويهرب من ملاهي المدينة، وهو مغرم بالمناطق الصحراوية، ولا يحب الربح، ولا الانشقاقات، والى جوار كل هذا له إيمان صحيح، وبواسـطة فعـل الروح القدس يصير مكرما بواحطة نعمة المسيح”، ليكون قادرا أن يعمل تلك الأمور التي هي بواسطة المسيح، إلى مثل هذا اقترب بثقة: فهو سيصلى لأجلـك بنقـاوة، ونعمته ستساعدك، لأن المخلص ورب الكل يستجيب لتوسلات الذين يسألونه، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والملك مع الروح القدس، إلى دهر الدهور آمين.

عظة (56) انتهار روح الانتقام

(لو9: 51-56) ” وحين تمت الأيام لارتفاعه ثبت وجهه لينطلق إلى أورشليم، وأرسل أمام وجهه رسلا، فذهبوا ودخلوا قرية للسامريين حتى يعدوا له. فلم يقبلوه لأن وجهه كان متجها نحو أورشليم. فلما رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا، قالا: يارب، أتريد أن تقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم، كما فعل إيليا أيضا؟ فالتفت وانتهرهما وقال: لستما تعلمان مـن أي روح أنتما! لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص. فمضوا إلـى قـريـة أخرى”.

أولئك الذين وهب لهم بوفرة غني كثير، ويفتخـرون بثرواتهم الـوافرة، يجمعون أشخاصا مناسبين لولائمهم، ويضعون أمامهم مائدة مجهـزة بسخاء وبواسطة أنواع مختلفة من الأطباق والتوابل يمتعونهم بلـذة تفـوق مجـرد الإشباع من الجوع. ولكن لا فائدة تنشأ من هذا، بل بـالحري ضـرر كبيـر للأكلين، لأن ما يزيد عن الكفاية بعد إشباع نداءات الجوع هو دائما مؤذى.

أما أولئك الذين يملكون الغني السماوي، ويعرفون التعاليم المقدسـة، وقـد استناروا بالنور الإلهي، فإنهم يغذون أنفسهم بالاستمتاع بالأحاديـث المنيـرة، لكي يصيروا مثمرين نحو الله، كما أنهم يصيرون ماهرين في الطريق إلى كل فضيلة، وجادين في تكميل تلك الأمور التي بواسطتها يصل الإنسان إلى نهاية سعيدة. ولذلك فالكلمة المقدسة تدعونا إلى هذه المائدة العقلية والمقدسة، لأنهـا تقول: “كلوا واشربوا، واسكروا يا أصدقائي” (نـش 5: 1). ولكن أصدقاء مـن؟ واضح أنهم أصدقاء الله: وجدير بالملاحظة أننا سنسكر بهذه الأمور، وأننـا لا يمكننا أبدا أن نشبع بما هو لأجل بنياننا. دعونا نرى إذن، أي نوع من المنفعة يقدمه أمامنا، درس الإنجيل في هذه الفرصة.

لأنه يقول: ” حين تمت الأيام لارتفاعه، ثبت وجهه لينطلق إلى أورشليم”. وهذا يعني أنه بما أنه قد جاء الآن الوقت الذي يحمل لنـا آلامـه المخلصة ويصعد بعده إلى السماء ويقيم مع الله الآب، فإنه قرر أن يذهب إلى أورشليم. لأني أظن أن هذا هو معنى ” ثبت وجهه”. لذلك فهو يرسل رسلاً ليعدوا مسكنا له ولرفاقه. وحينما جاءوا إلى قرية للسامريين، لم يقبلوهم. وهذا جعل التلاميذ المباركين ساخطين، ليس لأجلهم هم أساسا، بل بالأكثر بسبب أنهم لم يكرموه المخلص الكل. وماذا بعد ذلك؟ أنهم دمدموا بشدة، ولأن جلالـه وقوته لم تكن غير معروفة لديهم، قالوا: ” يا رب أتريد أن تنــزل نـار مـن السماء فتفنيهم؟” ولكن المسيح انتهرهم لأنهم تكلموا هكذا. وفي هذه الكلمات الأخيرة يكمن مغزى الدرس، ولذلك دعونا نفحص المقطع كله بدقـة. لأنـه وهو ورب مكتوب “اعصر اللبن، وهو يصير زبدا” (أم 30: 33).

إذن سيكون أمرا غير صحيح أن يؤكد أحد أن مخلصنا لم يعرف ما كـان على وشك أن يحدث، فلأنه يعرف كل الأشياء، فقد عرف طبعا، أن السامريين لن يقبلوا رسله. لا يمكن أن يكون هناك شك في ذلك. إذن فلماذا أمـرهم أن يسبقوه؟ السبب في هذا أن عادته كانت أن يفيد الرسل القديسين بكـل طريقـة ممكنة: ولأجل هذا الهدف فقد كان أحيانا يعمل علـى أن يضعهم موضـع الاختبار. كما حدث مثلاً، حينما كان في السفينة مرة على بحيرة طبرية مع التلاميذ، فأثناء ذلك نام عن قصد: وهبت ريح عاتية على البحـارة، وبدأت عاصفة قوية غير عادية تثور، وكانت السفينة في خطر، وانزعج البحارة جدا. لأنه سمح عن قصد للريح وغضب العاصفة أن تثور ضد السفينة، لكي يمتحن إيمان التلاميذ ولكي تظهر عظمة قدرته. وهذه أيضا كانت النتيجة، لأنهم فـي قلة إيمانهم قالوا: “يا سيد نجنا، فإننا نهلك”. فقام في الحال وأظـهـر أنـه رب العناصر، لأنه انتهر البحر والرياح، فصار هدوء عظيم. وهكذا أيضا في هذه المناسبة، فإنه كان يعرف أن أولئك الذين ذهبوا أمامه لكي يعلنوا عن إقامتـه بينهم، لن يقبلهم السامريون، ولكنه سمح لهم أن يذهبوا لكي يكون هذا أيضا وسيلة لفائدة الرسل القديسين.

فما هو إذن الغرض من هذا الحادث؟ لقد كان صاعدا إلى أورشليم، إذ أن وقت آلامه كان يقترب. كان على وشك أن يحتمل احتقار اليهود، وكان علـى وشك أن يتعرض للإعدام على يد الكتبة والفريسيين، وأن يحتمل تلك الأشياء التي أصابوه بها حينما تقدموا لكي يكملوا كل عنف وكل تهور شرير. لـذلك، فلكي لا ينزعجوا حينما يرونه متألما، إذ يفهمون أنه يريـدهم هـم أيـضا أن يكونوا صابرين، وألا يتذمروا كثيرا، حتى لو عاملهم الناس بازدراء، فهـو، كما لو كان قد جعل الاحتقار الذي تعرضوا له من السامريين، تدريبا تمهيـديا في هذا المجال. فالسامريون لم يقبلوا الرسل. وكان مـن واجـب التلاميذ، باقتفائهم آثار خطوات سيدهم، أن يحتملوا ذلك بصبر كما يليق بقديسين، وألا يقولوا عنهم أي شيء بغضب ولكنهم لم يكونوا بعد مستعدين لهذا، ولكـن إذ تملكهم سخط شديد، فإنهم كانوا يريدون أن يطلبوا نزول نـارا مـن الـسماء عليهم. ولكن المسيح انتهرهم لأنهم تكلموا هكذا.

فأرجو أن تنظروا هنا، ما أعظم الفرق بيننا وبين الله، لأن المسافة لا يمكن قياسها. فهو بطيء الغضب وطويل الأناة، ولطفه ومحبته لجـنس البـشر لا تضاهي، أما نحن أبناء الأرض فنسرع إلى الغضب، فينفذ صبرنا سريعا، ونرفض بسخط أن يديننا الآخرون حينما نرتكب أي فعل خاطئ، بينما نحسن نسرع إلى انتقاد الآخرين. لذلك فان الله رب الكل يؤكد قائلا: “لأن أفكـاري ليست أفكارهم، ولا طرقكم طرقي، لأنه كما علت السموات عن الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم” (إش 55: 8، 9) هكذا، هـو إذن، الذي هو رب الكل، أما نحن، كما قلت، فإذ نغتاظ بسهولة، وننقاد بسرعة إلى الغضب، فإننا نقدم على انتقام فظيع لا يحتمل ضد أولئك الذين قد تسببوا لنـا في إزعاج تافه، ورغم أننا قد أمرنا أن نعيش بحسب الإنجيل، إلا أننا نعجـز عن السلوك الذي أمر به الناموس. لأن الناموس في الواقع يقول: ” عين بعين وسن بسن ويد بيد” (خر 21: 24)، وأمر أن العقوبة المساوية تكفي، أمـا نـحـن، فكما قلت، رغم أننا ربما نكون قد عانينا فقط من خطأ تافـه، إلا أننـا نــتقم بقسوة، غير متذكرين المسيح، الذي قال: “ليس التلميذ أفضل من معلمه، ولا العبد أفضل من سيده” (مت 10: 24)، الذي أيضا ” إذ شتم لم يكن يشتم عوضـا وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضى بعـدل” (1بـط 2: 32). وأيـوب الصابر كثيرا هو أيضا موضع إعجاب بحق بسيره في هذا الطريق، إذ كـتـب عنه، أي إنسان كأيوب يشرب الهزء كالماء؟” ( أي 34-7).

لذلك، فقد انتهر الرب التلاميذ لأجل منفعتهم، كابحا جماح غضبهم بلطف، ولم يسمح لهم أن يتذمروا بشدة ضد أولئك الذين أخطأوا، بل حثهم بالحري أن يكونوا طويلي الأناة، وأن يحتفظوا بقلب غير متحرك بواسطة أي شيء مـن هذا القبيل.

وهذا أفادهم أيضا بطريقة أخرى. فهم كانوا سيصيرون معلمي العالم كلـه، ويتجولون في المدن والقرى مبشرين بأخبار الخلاص السارة في كل مكـان. ولذلك، فإنهم أثناء سعيهم  لتتميم إرساليتهم، بالضرورة يلتقون مصادفة مع أناس أشرار، يرفضون الأخبار الإلهية، وكما لو كانوا، لا يقبلون يسوع ليسكن معهم. لذلك، فلو أن المسيح مدحهم لرغبتهم أن تنزل نار علـى الـسـامريين ويأتي عليهم مثل هذا العذاب المؤلم ليصيبهم، لكانوا قد تصرفوا بطريقـة مشابهة في مناسبات أخرى كثيرة، وحينما يحدث أن يتجاهل الناس الرسـالة المقدسة فإنهم ينطقون بالدينونة عليهم، ويطلبون أن تنزل نـار عـلـيـهم مـن السماء. وماذا تكون النتيجة عندئذ من مثل هذا السلوك؟ إن المتألمين يصيرون كثيرون جدا بلا عدد، ولا يعود التلاميذ يكونون أطباء فيما بعد، بل بـالحري معذبين، ويصيرون غير محتملين من الناس في كل مكـان. لـذلك، فلأجـل خيرهم الخاص، انتهرهم الرب، حينما ثاروا أكثر من الحـد بـسبب احتقـار السامريين، وذلك لكي يتعلموا، أنهم كمعلمين للأخبار الإلهية، ينبغي بـالحري أن يكونوا مملوئين من طول الأناة واللطف، ولا يكونوا منتقمين ولا يستسلموا للغضب، ولا يهاجموا بقسوة أولئك الذين يسيئون إليهم.

ويعلمنا القديس بولس أن خدام رسالة الله كانوا طويلي الأناة، إذ يقول: “فإني أرى أن الله أبرزنا نحن الرسل آخرين كأننا محكوم علينا بالموت، لأننا صـرنا منظرا للعالم للملائكة والناس… نشتم فنبارك، يفترى علينـا فـنعظ، صـرنا كأقذار العالم ووسخ كل شيء إلى الآن” (1كو 4: 9 -12). وكتـب أيضا إلـى آخرين، أو بالحري إلى كل الذين لم يكونوا بعد قد قبلوا المسيح في داخلهم بل كما لو كانوا، لا يزالون مصابين بكبرياء السامريين، “نطلب عـن المـسيح، تصالحوا مع الله” (2کو 5: 20).

لذلك، عظيم هو نفع دروس الإنجيل لأولئك الذين هم كاملون فـي العقـل بحق. وليتنا نحن أيضا، إذ نتخذ هذه الدروس لأنفسنا، ننفع نفوسنا، مسبحين المسيح مخلص الكل دائما إلى الأبد، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والربوبية مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.

عظة (57) أين يسكن المسيح ؟

(لو9: 57 ، 58) ” وفيما هم سائرون في الطريق قال له واحد: يا سيد، أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه “.

إن اشتهاء المواهب النازلة من فوق من الله هو في الواقع أمر يستحق أن نسعى إليه، وهذا يجعلنا نربح كل خير. ولكن رغم أن رب الكل هو معطـي سخي وكريم، إلا أنه لا يعطي كل الناس هكذا ببساطة دون تمييز، بل يعطـي بالحري لمن هم مستحقين لسخائه، لأنه كمـا أن أولئـك المتوشحين بمجـد الملوكية يمنحون كرامتهم، ووظائف الدولة المتنوعة لـيس لأنـاس أجـلاف وجهال، الذين ليس عندهم شيئا جديرا بالإعجاب، بل بالحري يكرمون أولئـك الذين يملكون نبلاً وراثيا، وقد أثبتوا بالاختبار أنهم جديرون بـالقبول، ومـن المتوقع أن يكونوا ناجحين في تأدية واجباتهم. هكذا الله أيضا، الذي يعرف كل الأشياء فانه لا يمنح نصيبا في عطاياه للنفوس المهملة التي تسعى للـذة، بـل للذين هم في حالة مناسبة لنوال هذه العطايا. إذن فأي واحد يريد أن يحـسب مستحقا لهذه الكرامات العظيمة، وأن يكون مقبولاً من الله، فدعـه أولا ينقـى نفسه من أدناس الشر، وخطية عدم المبالاة، لأنه هكذا يصير قادرا على نوال هذه العطايا، ولكن إن لم يكن هذا اتجاه تفكيره فدعه يرحل بعيدا.

وهذا هو المعنى الذي تعلمنا إياه آيات الإنجيل التي وضعت أمامنـا الآن، لأن إنسانا ما اقترب من المسيح مخلصنا جميعا وقال له: ” يا سيد أتبعك أينما تمضى”. ولكنه رفض هذا الإنسان وقال له “للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما هو فليس له أن يسند رأسه”. ومع ذلك فربما يسأل أحدهم ويقول: (إن ذلك الذي وعد أن يتبعه قد وصل إلى اشتهاء ما هو مكـرم، وصالح، ونافع، لأن أي شيء يمكن مقارنته بالوجود مع المسيح واتباعه ؟ أو كيـف لا تساعد هذه الشهوة على خلاصه ؟ فلماذا إذن يرفض المخلص مـن يرغـب باشتياق أن يتبعه باستمرار؟ لأن المرء يمكن أن يتعلم من كلماتـه الخاصـة (أي المسيح)، أن اتباعه يؤدى إلى كل بركة، لأنه قال ” من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة” (يو 8: 12). فما هو الأمر غير اللائق فـي أن يعد بأن يتبعه، لكي يربح نور الحياة؟)

إذن فما هي إجابتنا على هذا؟ إجابتنا أن هذا لم يكن هو هدفه. كيف يمكـن أن يكون له هذا الهدف؟ لأنه من السهل على أي واحد يفحص هـذه الأمـور بدقة أن يرى، أو: أن طريقة اقترابه من المسيح كانـت مملوءة بجهالـة عظيمة، ثانيا: إنها كانت مملوءة باجتراء زائد جدا. لأن رغبته لم تكن مجـرد أن يتبع المسيح كما فعل كثيرون آخرون من الجمع اليهودي، بل بـالحري أن يقحم نفسه على الكرامات الرسولية. هذا هو إذن الإتباع الـذي كـان يـسعى لأجله، إذ أنه دعا نفسه، بينما بولس المبارك يكتب ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هرون أيضا ” (عب 5: 4). لأن هرون لم يدخل إلى الكهنوت من نفسه، بل بالعكس فقد كان مدعوا من الله، وهكذا نجـد أن كـل واحد من الرسل القديسين لم يرفع نفسه إلى الرسولية، بل بالحري نال الكرامة من المسيح، لأنه قال، ” هلم ورائي فأجعلكما تصيران صيادي النـاس” (مـر 1: 17) وأما هذا الإنسان ـ كما قلت ـ فإنه بجسارة يتخذ لنفسه مواهب كريمـة بهذا المقدار، ورغم أن أحدا لم يدعه، فإنه يقحم نفسه إلى ما هو فوق رتبتـه. والآن، لو أن أي واحد اقترب من ملك أرضي وقال: ” سوف أرفع نفسي إلى هذه الكرامة أو تلك، حتى ولو لم تمنحني إياها، أيا كانت هذه الكرامة” فإن هذا يكون عملاً خطيرا، بل قد يؤدي به إلى أن يفقد حتى حياتـه نـفـسها. ومـن يستطيع أن يشك أن هذه هي النتيجة بالتأكيد؟ لأننا في كـل أمـر، يجـب أن ننتظر قرار ذلك الذي يملك السلطة المهيمنة. فكيف إذن يكون مناسـبـا لهـذا الإنسان أن يعين نفسه بين التلاميذ، ويتوج نفسه بالسلطات الرسولية بدون أن يكون مدعوا إليها بالمرة من المسيح؟

وهناك سبب آخر جعل المسيح يرفضه بصواب، ويحسبه غيـر مـستحق لكرامة بارزة مثل هذه. لأن اتباع المسيح بحماس شديد هو بلا شك أمر نـافع للخلاص، ولكن من يرغب أن يحسب مستحقا لمجد عظيم مثل هذا، ينبغي أن يحمل صليبه ـ وما معنى أن يحمل الصليب؟ معناه أن يموت بالنسبة إلـى العالم، بأن يتنكر لارتباكاته الفارغة، ويتخلى برجولة عن الحيـاة الجـسمانية المحبة للذة، فإنه مكتوب: لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم، لأن كل ما في العالم هو شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيـشة” (1يو2: 15). وأيضا “الستم تعلمون أن محبة العالم هي عداوة الله ؟ لذلك فمن أراد أن يكون محبا للعالم فقد صار عدوا الله” (يع 4: 4). لذلك فالإنسان الذي اختار أن يكـون مع المسيح يحب ما هو جدير بالإعجاب وما هو نافع للخلاص، ولكنه يجـب أن ينصت لكلماتنا: ابتعد بنفسك عن الشهوات الجسدية، تطـهـر مـن أدنـاس الشر، تنق من البقع الناتجة عن الحب الدنيء للذة، لأن هذه تجعلك بعيدا، ولا تسمح لك أن تكون مع المسيح. انزع عنك ما يفصلك، حطم العداوة، أنقـض الحاجز المتوسط، فإنك حينئذ تكون مع المسيح. أما إن كـان الحـاجز الـذي يبعدك عن الشركة معه لم يهدم بعد، فبأي طريقة تستطيع أن تتبعه؟

وهو يوضح أن هذا هو الحال مع الإنسان الذي أمامنـا، بـالتوبيخ غيـر المباشر الذي أعطاه له، لا لكي يؤنبه، بل بالحري لأجل إصلاحه، لكي ينمـو إلى الأفضل من تلقاء ذاته، ويصير مجتهدا في اتباع طريق الفـضيلة. لـذلك يقول: “للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له أيـن پسند رأسه”. والمعنى البسيط والقريب لهذا المقطع هو كالآتي: إن الوحـوش والطيور لها جحور ومساكن، أما أنا فليس عندي شيء لأقدمه من هذه الأشياء

عظة (58) دع الموتي يدفنون موتاهم 9: 59، 60

(لو9: 59، 60) ” وقال لآخر: اتبعني. فقال: يا سيد، ائذن لي أن أمضي أولا وأدفن أبـي. فقال له يسوع: دع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله

المسيح هو لنا أصل ومعلم كل فضيلة، لأننا “نحن متعلمون من الله” كمـا يـعلـن إشعياء النبي (إش 54: 13 س). وأيضا يشهد الحكيم بولس قائلا ” الله بعدما كـلـم الأبـاء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في أبنـه ” (عـب 1: 1 ، 2). فبماذا كلّمنا خلال ابنه، فمن الواضح أن رسالة الإنجيل ترشدنا بنجاح إلـى كـل أنواع الفضائل، وبها نتقدم في الطريق الممدوح والرائع، طريق الحياة الأفضل، لكي باقتفائنا خطواته، نربح كنز مواهبه. والدرس الموضوع أمامنا الآن يعلمنا بوضـوح الطريق التي بها نتبعه ونحسب مستحقين لهذه الأمجاد الفائقة الكاملة التي منحت أولاً للرسل لأن الإنجيل يخبرنا أنه: “قال لآخر اتبعني” (لو 9: 59).

فأول نقطة يجب أن نلاحظها الآن هي هذه: أننا في الفقرة السابقة تعلمنا أن واحدا اقترب منه وقال له: ” يا معلم أتبعك أينما تمضى”. لكن المسيح رفـضه، لأنـه أولاً: يدعو نفسه ويقحمها في الأمجاد التي يهبها الله لمن يستحقها، فالمسيح يتوج المشهود لهم بكل الخصائص الممتازة والحاذقين في ممارسة الأعمال الصالحة، ويـدرجون ضمن جماعة المعلمين القديسين. وإذ لم يكن له هذا الميل، فقد وبخـه المـسيح، لأن عقله كان مسكنا للأرواح الشريرة، ومملوءا بكل نجاسة. فالمخلص لمـس حـالتـه بطريقة غير مباشرة فقال له: “للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكـار، وأمـا ابـن الإنسان فليس له أين يسند راسه”.

ففي اجتماعنا الأخير ناقشنا الطريقة التي بها فهمنا هذا بصورة كافية. وأمـا الآن فالذي أمامنا لم يدع نفسه بنفسه، وليس هو متقدما بوقاحة ليقوم بأعمال ممدوحة، بـل على العكس، فهو شخص دعاه المسيح إلى الرسولية كمن هو لائق لها، لأنه قد نـال الكرامة بواسطة القرار الإلهي، إذ هو بلا شك مقدس، ومكرم، وقادر أن يشكل نفسه ليطابق قصد رسالة الإنجيل. ولكنه لم يكن يعرف بعد بوضوح بأي طريق يجب عليه أن يسلك في هذا الأمر العظيم، فربما كان له أب قد أحنته السنون، وقد ظن في نفسه أنه بتصرفه هذا يرضي الله جدا بإظهاره العطف والحب المناسب من نحو والده. فلقد عرف بالطبع من كتب الناموس أن إله الكل قد أعطى وصية بهذا قائلا: “أكرم أباك وأمك ليكون لك خير ولكي تطول أيامك على الأرض” (خر 20: 12 س). لذلك حينما دعي لهذه الخدمة المقدسة ولمهمة الكرازة برسالة الإنجيل ـ كما يتضح من أمر المسيح له أن يتبعه – فقد أعياه فهمه البشري، وطلب مهلة ليجد الوقت الكافي كي يرعى والده في شيخوخته، لأنه يقول: ” ائذن لي أن أمضي أولا وأدفن أبي”. فما نقوله عنه، ليس أنه طلب إذنا ليدفن أباه، لكونه قد مات فعلاً، ولم يدفن بعد لأن المسيح لـم يكـن ليمنع ذلك ـ وإنما استخدم كلمة ” أدفن ” بدلاً من “أن أرعاه في شيخوخته حتى دفنه”. فماذا كانت إجابة المخلص إذن؟ “دع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله”. فليس هناك من شك أن ثمة أقرباء ومعـارف أخـرين لأبيـه، ولكـن اعتبرهم أمواتا، لأنهم لم يكونوا قد آمنوا بالمسيح بعد، ولم يستطيعوا أن يقبلوا الميلاد الجديد للحياة غير الفانية بواسطة المعمودية المقدسة. فالمسيح يقول: “دعهم يدفنون موتاهم” لأن لهم في داخلهم عقل ميت، ولم يحيوا بعد مع هؤلاء الذين لهم الحياة التي في المسيح. فمن هنا إذن نتعلم أن مخافة الله يجب أن تسبق الاحترام والحب الواجبين للوالدين، لأن ناموس موسى أيضا بينما يأمرنا أولاً أن “تحب الرب إلهك مـن كـل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل قلبك” (تث 6: 5)، يضع بعدها في المرتبة الثانية تكريم  الوالدين قائلا: “أكرم أباك وأمك”.

والآن هيا لنفحص الأمر ونبحث لماذا نعتبر التكريم والحب الواجبين للوالدين شيئا لا ينبغي إهماله، بل على العكس يجب أن يراعى باهتمام، وحينئذ ربما يقول و واحـد: إن هذا يرجع إلى أننا ننال وجودنا بواسطتهم، ولكن إله الكل هو الذي أوجدنا حينمـا كنا غير موجودين على الإطلاق. فالله هو خالق وصانع الكل، وهو الأصل والجوهر الأساسي لكل الأشياء. لأن وجود أي شيء إنما هو عطيته. فالأب والأم إذن كانا هما الوسيلة التي بواسطتها أتى نسلهما إلى العالم. أليس علينا إذن أن نحب الموجد الأول أكثر من الثاني أو التابع؟ أليس الله هو معطينا النعم الثمينة التي تستوجب منا الإكرام الأعظم له؟ فمساعينا إذن لإرضاء والدينا يجب أن تخضع لحبنـا الله، والواجبـات الإلهية. وقد علمنا المخلص نفسه هذا عندما قال: ” من أحب أبا وأما أكثر مني فـلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني” (مت 10: 37).

وهو لا يقول إنهم يدانون لأنهم ببساطة أحبوا، ولكن لأنهم أحبوهم “أكثر منـي”. فهو إذن يسمح للأبناء والبنات أن يحبوا آبائهم لكن ليس أكثر من حـبـهـم لـه لـذلك عندما يلزم أن تفعل أي شيء يتعلق بمجد الله، فلا تدع أي عقبة تقف في الطريق، دع حماسك يكن بغير تعطل، اجعل جهودك الغيورة مشتعلة وغير قابلة للكبت. لذلك هيا حالاً ودع عنك الاهتمام بأبيك وأمك وأولادك، واجعل قوة العاطفة الطبيعية نحـوهم تتوقف واجعل الغلبة لحب المسيح.

هكذا عاش إبراهيم المثلث الطوبى، لذلك فقد تبرر ودعي ” خليل الله “، وحسب أهلاً للكرامات الفائقة، فأي شيء يساوى كونه خليل الله؟ وماذا يستطيع العالم أن يقدم ما يمكن مقارنته بنعمة مجيدة وبديعة جدا؟ فقد كان له وحيد محبوب، أعطاه الله لـه بعد تأخير طويل وذلك في شيخوخته، ووضع فيه إبراهيم كل رجائه من جهة النسل، إذ قيل له: “لأنه بإسحق يدعى لك نسل” (تك 21: 12). لكن كما يقول الكتاب المقدس إن الله امتحن إبراهيم قائلاً: ” خذ ابنك حبيبك الذي تحبه إسحق واذهـب الـى الأرض المرتفعة واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك” (تك 22: 2 س). هل كان الله يمتحن إبراهيم، وكأنه لم يكن يعلم مسبقا ما سيحدث. وينتظر النتيجة؟ ولكن كيف يمكن أن يكون هذا صحيحا؟ لأن الله يعرف كل الأشياء قبل أن تحـدث، فلمـاذا إذن امتحن إبراهيم؟ وذلك لكي يمكننا بهذا الأمر أن نعلم أن الله جعله غير مستعد لهـذا العمل لينال البطريرك تقديرا جديرا بالإعجاب، لكونه لم يفضل أي شيء علـى إرادة ربه. فلم يقل له الله ببساطة خذ إسحق بل قال ” ابنك وحيدك الذي تحبه”، فهذا يقـوي حركة العاطفة الطبيعية تجاه ابنه. آه ! يا له من اهتياج عنيف لأفكار مرة ثارت فـي نفس الشيخ، فقوة العاطفة الفطرية الطبيعية تدعوه أن يحنو على ابنه. لقـد تمنـى أن يكون أبا، إذ شكي عقمه الله عندما وعده الله أن يهبه كل الأرض التي أخبره بها، “فقـال أبرام أيها السيد الرب ماذا تعطيني وأنا ماض عقيما” (تك 15: 2) ـ فقانون العاطفة الطبيعية إذن يحثه أن ينقذ الصبي، بينما قوة حبه الله تدعوه للطاعة المتأهبة. فقد كـان أشـبه بالشجرة التي يحركها عنف الرياح للأمام وللخلف، أو كسفينة في بحر تتمايل وتترنح بضربات الأمواج… لكن ثمة فكرة واحدة صحيحة وقوية تمسك بها إبراهيم بشدة، ” لأنه أمن أن الله قادر على الإقامة من الأموات” (عب 11: 19) حتى لو ذبـح الـصبي وراح ضحية النيران كمحرقة مرضية الله.

فإبراهيم إذن قد تعلم الكثير من هذه التجربة، فقد تعلم أولا: أن الطاعة المستعدة تؤدي إلى كل بركة، وهي الطريق المؤدي إلى التبرير، وعربون صـداقة مع الله، وثانيا: أن الله قادر على الإقامة من الأموات. وأكثر من ذلك فقد تعلم مـا هـو أهـم وأكثر استحقاقا للتقدير، أعني سر المسيح: إنه لأجل خلاص وحياة العالم فـالله الآب سيقدم ابنه الوحيد ذبيحة، الذي هو المحبوب بالطبيعة، أي المسيح. والمبارك بولس يؤكد لنا ذلك بقوله عن الله ” الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين” (رو 8: 32).

فإبراهيم البطريرك تعلم إذن مدى عظم عدم اشفاقه على ابنه الوحيد الذي يحبـه، لذلك فقد تبرر لأنه لم يفضل أي شيء آخر على الأشياء التي ترضي الله. فالمسيح يطلب منا أن نكون كذلك لكي نحب ونقدر كل ما يتعلق بمجده أكثر جدا من روابـط قرابتنا الجسدية، ومرة أخرى لننظر إلى الأمر في ضوء آخر، فمن الصواب أن قـوة حبنا الله يجب أن تفوق حتى حبنا لمن ولدونا بالجسد. لقد أعطانا الله نفسه كأب لأنـه قال: “ولا تدعوا لكم أبا على الأرض. لأن أباكم واحد، الذي فـي الـسموات. وأنـتم جميعا إخوة ” (مـت 23: 8 و9). وعنه يقول يوحنا الحكيم: “إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله” (يو 1: 11، 12). لذلك هل كان على هؤلاء الذين يعترفون به أنه الأب رب السماء والأرض، الذي يعلو كل المخلوقات، الذي يقف حوله الشاروبيم المقتـرون، والـذي يـفـوق كـل العـروش والربوبيات، والرئاسات، والقوات، أقول هل كان من الضروري أن يسقط هؤلاء في هذا الحمق العظيم بألا يجعلوه فوق كل قرابة طبيعية؟ فهل يمكن أن نكـون مـذنبين عندما نهمل التكريم الواجب لوالدينا والأولاد والإخوة، لكننا نتحرر من الذنب إذا لـم نقدم الإكرام الواجب لرب الكل؟ فلنسمع ما يقوله الله لنا بوضوح ” الابن يكـرم أبـاه والعبد يكرم سيده. فان كنت أنا أبا فأين كرامتي وإن كنت سيدا فأين هيبتي، قال رب الجنود” (ملا 1: 16).

لذلك فالمسيح، جعل المدعو للرسولية على دراية بالسلوك الرسـولي والرجولـة الروحية التي تتطلبها الدعوة إذ يقول “دع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهـب وناد بملكوت الله”. فخدام الرسالة الإلهية يجب أن يكونوا كذلك. فلنلتصق إذن بتعاليمه الحكيمة في كل شيء متقدمين نحو المسيح الذي بواسطته ومعـه الله الآب التسبيح والربوبية مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

عظة (59) إتباع المسيح بلا تردد لو9: 61، 62

(لو9: 61، 62) ” وقال آخر أيضا: أتبعك يا سيد، ولكن ائذن لي أولا أن أودع الذين في بيتي. فقال له يسوع: ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكـوت

إننا نقول عن الغيرة في مساعينا الفاضلة، إنها تستحق كل مدح، لكن أولئك الذين قد وصلوا إلى هذه الحالة الذهنية يجب أن يكونوا أقوياء فـي تـصميمهم، وليسوا ضعيفي العزم في صبرهم نحو الهدف الموضوع أمامهم. بل بالحري يجب أن يكون لهم ذهن غير متذبذب ولا ينثني، لأنهم بذلك سوف يبلغون الهدف، ويفوزون بالنصر، ويضفرون حول رؤوسهم إكليل المنتصر. ومخلص الكل يشجعنا على هذا الإخلاص للهدف بوصفه خاصية تستحق الاقتناء، إذ يقول ” ومن منكم وهو يريد أن ببنى برجا لا يجلس أولا ويحسب النفقة هل عنده ما يكفي لتكميله، لئلا يضع الأساس ولا يقـدر أن يكمل، فيبدأ جميع الناظرين يهزأون به قائلين هذا الإنسان لم يقدر أن يكمل” (لو 14: 28 ـ30). فمن يتصرف هكذا لا يصبح إلا موضوعا للسخرية، لأن كل مسعى مكـرم وفاضل له خاتمة لائقة يجب أن تعقبه. وناموس موسى كي يعلم هذا الحق، أمر أولئك الذين كانوا يبنون بيتا أن يقيموا فوقه حائطا للسطح (انظر تـث 22: 8)، لأن من هو ليس كاملاً في الصلاح لا يخلو من اللوم. فكما كان البيت الذي ليس له حـوائط سـطح، يوصم بالعار، هكذا فالفقرة التي قرئت علينا من الإنجيل الآن تعلمنا درسـا مـشـابها، لأن واحدا اقترب قائلاً: “أتبعك يا سيد ولكن ائذن لي أولا أن أودع الذين في بيتـي”. فالوعد الذي تعهد به، إذن، يستحق التمثل به، وهو مملوء بكل مدح، ولكـن حقيقـة رغبته في توديع الذين في بيته توضح أنه منقسم على نفسه، وأيضا أنه لم يدخل بعـد الطريق بذهن غير مقيد، فانظر كيف أنه مثل مهر متحفز للسباق، هناك ما يعوقه كأن به لجام، هكذا فإن تيار الأمور العالمية، ورغبته في الاهتمام بمشاغل هذا العالم تعوقه بالمثل، لأن ليس هناك أحد يمنعه من الإسراع إلى الهـدف المشتهي إذا أراد وفقـا لميول عقله الحرة. ولكن الرغبة نفسها في استشارة أقاربه وجعلهم مستشارين له وهم لا يضمرون مشاعر مشابهة له، ولا يشاركونه مطلقا في قراره، فتلك الرغبة تكشف وبصورة كافية أنه ضعيف ومتردد للوصول للهدف، والفوز بالنصر ونـوال إكليـل المنتصر، وليس له الاستعداد الكامل بعد ليتصرف وفقا لرغبته في اتباع المسيح.

ولكن المسيح، وكأنه يستعمل توبيخات رقيقة، أصلحه، وعلمه أن يكون له غيـرة أكثر تصميما قائلاً: “ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الـوراء يصلح لملكوت الله”. وتماما مثل الفلاح الذي قد بدأ في حرث أرضه بـالمحراث، إذا تعـب وترك عمله بعد إنجاز نصفه، فلن يرى حقله مملوء بسنابل القمح، ولا أرضه التـي يدرسها مليئة بالحزم، وسيعاني بالطبع من الخسارة التي هي نتيجة طبيعية للتكاسـل، وغياب المحصول، وما يتبعه من فقر، وأيضا يجلب على نفسه سخرية أولئك الـذين ينظرونه. لذلك فمن يرغب في الالتصاق بالمسيح، دون أن يودع العالم، ويهجر كـل حب للجسد، وينكر حتى أقربائه الأرضيين (إذ بفعله هذا يبلغ الشجاعة المصممة فـي كل المساعي الممدوحة)، فهو لا يصلح لملكوت الله. فمن لا يستطيع الوصول إلى هذا القرار، لأن عقله مقيد بالتكاسل: فليس بمقبول لدى المسيح، ولا هو لائق لـصحبته، وبالضرورة لا يصرح له أن يكون معه.

فعن هؤلاء تكلم المسيح عندما صاغ ذلك المثل في الأناجيل، لأنه قال: “إنـسـان غني صنع عرسا لابنه، أرسل عبيده ليدعوا المدعوين، قائلاً ثيراني ومـسمناتـي قـد ذبحت وكل شيء معد” (مـت 22: 2). لكنهم كما يخبرنا الإنجيل لم يأتوا، لكن واحدا قال لقد اشتريت حقلاً ولا أستطيع الذهاب. وقال ثان لقد اشتريت زوج بقر، وآخـر لقـد تزوجت بامرأة فاعذرني. فأنت ترى أنهم جميعا دعوا، وبينما كان في استطاعتهم أن يشاركوا في الحفل اعتذروا، وصاروا مستعبدين وبلا قيد لهـذه الأمـور الأرضـية الوقتية، التي سرعان ما تضمحل، و التي لابد أن نتخلى عن ملكيتها سريعا. ولكـن كان بالتأكيد من واجبهم أن يدركوا أن الزوجة والأراضي والممتلكات الأخرى ما هي إلا لذات زائلة، قصيرة الوقت، وتضمحل كالظلال، وهي كأنها مرارة ممزوجة بشهد. ولكن أن يكونوا أعضاء في كنيسة الله، تلك التي هربوا منهـا بغبـاء، وبطريقـة لا أعرفها، فهذا كان سيسبب لهم فرحا أبديا غير متغير. فأي شخص يتبع المسيح، دعه يكن ثابتا تماما، هادفا فقط إلى تلك الغاية، ولا يكن منقسما، ولا يستولى عليه الجهـل أو الكسل، دعه يكن متحررا من كل شهوة جسدانية، ولا يفضل أي شيء على حبـه له، فإذا لم يكن له مثل هذا الميل، أو ليس له هذا الإتجاه في إرادته، فحتى إذا اقترب، فسوف لا يقبل.

وناموس موسى قد علمنا أيضا شيئا من هذا القبيل بطريقة رمزية غير مباشـرة، فإن بني إسرائيل حينما كانت تطرأ عليهم طوارئ، كانوا يخرجون ليحاربوا أعدائهم، وقبل أن يشتبكوا في القتال، كان المنادي ينادي فيهم قائلاً: ” الرجل الذي خطب امرأة ولم يأخذها، فليرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيأخذها رجل آخر. والرجل الذي قد بني بيتا جديدا ولم يدشنه، فليرجع إلى بيته لئلا يموت في الحرب فيدشنه رجل آخـر. فأي رجل خائف وضعيف القلب، ليرجع لئلا تذوب قلوب إخوته من الخوف مثل قلبـه ” (تث 20: 7 و8) فأنت ترى أن الرجل الذي يحب العالم أو الثروة والمملوء بالاعتـذارات، ليس في مكانه، ولكننا سنجد أن الرسل القديسين مختلفين تماما عن أمثال هؤلاء.

فعندما سمعوا المسيح يقول: ” هلم ورائي، تصيران صيادي الناس، فللوقت تركـا السفينة وأباهم وتبعاه” (مر 1: 17). وأيضا الحكيم بولس يكتب ” ولكن لما سـر الله أن يعلن ابنه في، للوقت لم أستشر لحما ودما” (غـل 1: 15). فأنت ترى أن العقل الـشجاع والهدف القلبي الشجاع غير خاضع لرباطات الكسل، لكن يفوق كل جبن وكل شـهوة جسدية، فهكذا ينبغي أن يكون أولئك الذين يتبعون المسيح، لا ينظرون إلى الوراء، لا يرجعون ولا يحولون وجوهم عن تلك الفضيلة الرجولية التي تليق بالقديسين ويعفون أنفسهم من واجب الجهد، غير محبين للأمور الوقتية، فهم ليسوا ذوى رأيين، ولكـنهم يسرعون للأمام بالغيرة الكاملة إلى ما يرضى المسيح جدا، الذي به ومعـه الله الآب التسبيح والسيادة والكرامة مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى