تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 9 للاب متى المسكين

الأصحاح التاسع:

( ز ) المسيح والاثنا عشر (50-1:9)

بصفة عامة كانت الأصحاحات السالفة تعنى بأعمال المسيح للشعب. وقد علمهم وعمل المعجزات لكي يتعرفوا عليه بمقتضى ما سبق وقاله الأنبياء، ومن واقع مشاهدتهم لأعماله وشخصه الفائق. وكان التلاميذ في كل هذا يسيرون معه ليستوعبوا ما قاله وما عمله، لأن الدور قد وقع عليهم في النهاية. ولكـن ومـن هـذا الأصحاح يبدأ المسيح يركز على العلاقات القائمة والتي لابد أن تقوم بينهم وبينه، وخاصة عندما كان يوجه الكلام والتعليم لهم.

ولكن لحزن المسيح ولحزننا أنهم في معظم الأحيان لم يكونوا على مستوى من يتتلمذ بالحق ويحمل مسئولية البشارة بما رأى وسمع. وبسبب شدة التأكيد والتركيز على نفسه، فهموا أخيراً أنه “الرب” حتى في اعتبار الله نفسه بالقيامة من الأموات: «فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً.» (أع 36:2)

هذا ما وصل إليه إيمان التلاميذ أخيراً إذ تذكروا كل ما قال وعمل.

ووصيته وينتقي ق. لوقا بعض الحوادث والأقوال مما ذكره ق. مرقس بقصد التركيز على استعلان المسيح لتلاميذه. ويبدأ الأصحاح بإرسالية المسيح لتلاميذه ويتبعها معجزة إشباع الجموع (1:9-17) ويليها اعتراف ق. بطرس بمن هو المسيح (18:9-20)، الذي عول عليه ق. مرقس في إنجيله ليكون بداية الدخول في إنجيل الآلام. ويتخذ ق. لوقا نفس الهدف بتدوين تنبؤ المسيح عن آلامه لتلاميذه أن يسيروا في نفس طريق الآلام (21:9-27). كما يشمل هذا الفصل حادثة التجلي (28:9-36) كجزء هام وخطير من خطة استعلان المسيح لنفسه بالنسبة لتلاميذه. ويركز ق. لوقا بعد ذلك على استعلان المسيح كصاحب قوة واقتدار بالنسبة لإخراج الشياطين في (37:9-45). ولكن من الوجه الا. يفـت علـى ق. لوقـا تقـديـم الصـورة المتضـعة للمسيح التي تتناس مع تجسـده وموته بجوار ارتفاع قوته وسلطانه كابن الله، وبعدها يعد طريق الآلام الذي سوف يعبره المسيح خطوة خطوة، نداء لتلاميذه أن يعدوا أنفسهم لذات المصير سواء في الخدمة بآلامها أو الموت في النهاية. مع ملاحظتنا ومن في شرح هذا الأصحاح تدرك أن ق. لوقا لا يقدم مجرد تعليم الكنيسة أو تقليدها، ولكن يدور الأصحاح كله حول اكتشاف شخصية المسيح في سموها وفي اتضاعها بما يتناسب مع لقبه كابن الله وكابن الإنسان بأن!

1 – إرسالية الاثني عشر (1:9-6)

(مت 5:10-15)
(مر7:6-13)

ابتدأ المسيح في هذا الأصحاح يضع أسس وشروط الإرسالية. أولاً يذهبون دون الاعتماد على المال، أي لا يحملون أموالاً ليصرفوا منها؛ بل يعيشون على ما يعيش عليه الذين يكرزون لهم. وهذه لفتة من أهم اللفتات التي تقوم عظمة الخدمة، فعوض المال سيكون الاتكال بالإيمان على الله الذي يجري الأمور ويسهل كل الطرق . كذلك كون المرسل يأكل ويشرب ويجلس ويبيت عند الذين يخدمهم، علاقة أخوية وروحية فائقة التأثير على المخدومين، إذ يكونون أقرب لنفسية الخادم، كما أنها تفتح مجال المحبة والود وتكون مع الخادم صلات قوية تدوم ربما طول العمر ويسمع الأولاد والبنات قصص المرسل عـن المسيح وعن الإيمان وعن الله، فتنفتح آذانهم ويتسع وعيهم ويشبون حافظين هذه الذكريات فذلك ينشئ ويسلمونها لمن بعدهم.

والمسيح يؤكد ضرورة عدم التنقل كثيراً بل يكون لهم بيت يكون مركزاً لخدمتهم، وهذا توكيد لعمل صلة وثيقة بالجماعة المحيطة التي ستكون فيما بعد أساساً للكنيسة في كل حي.

وجعل المسيح الدرس الأهم كموضوع للخدمة هو الكرازة بملكوت الله، بمعنى الأخبار السارة بالحياة الأبدية، لإعطاء الشعب القدرة على النقلة الأساسية من الاندماج الشديد في هذا العالم وتركيز كل الحياة والجهد والمال لتحصيل حياة أرضية فانية إلى الانتماء لحياة روحية مبدأها هنا مع الله والمسيح تمهيداً للحياة الدائمة في السماء. وهذه أخطر نقلة يواجهها المؤمن المسيحي وينبغي أن ينجح فيها: أن ينقل عواطفه وأفكاره وحنينه من بيته وأسرته وأبيه وأمه وإخوته ورفاق الصبوة أو أصدقاء الشباب أو زمالـــة الرجولــة إلى مـا هـو أثبـت، أي المسيح والحيـاة مـع الله تمهيـداً لفـك ربـط الإنسان من عالم فان إلى عالم الحياة الدائمة الله. لأن حنين النفس البشرية إلى الأمومة وإلى حضن مع الأب وملعب الصبوة وزمرة الأصدقاء ولهو الشباب والرجولة، حرم الملايين من الانتباه إلى أن هذا عالم فان، وكل ما حصلوه سيذهب مع الزمن ولن يعود أو يكون له عائد. فمهارة الكارز تتركز في كيفية ربط النفس البشرية بالله والمسيح كحضن دافئ يعوض الإنسان عن ملايين الملذات والتعزيات الأرضية؛ وكشف الرؤية عن ملكوت الله الذي ينتظرنا ليكون لنا وطناً أبدياً، وهناك نكون فيه علاقاتنا الدائمة مع المسيح والقديسين، يكاد يكون العزاء الوحيد الذي يغنينا عن ملاهي وملاذ هذا العمر، إضافة إلى ارتفاعنا فوق هموم وأتعاب ومضايقات وأحزان هذا العالم الكاذب .

لذلك، فتركيز المسيح على الكرازة بملكوت الله يصبح الملاذ الأعظم لنفسية الإنسان الذي يغنيه عن مباهج الدنيا الكاذبة وعواطف الأسرة والوطن من ناحية، ومن الناحية الأخرى والأهـم يجعله يحتقر أتعاب هذا الزمن وهموم السعي في أكل اللقمة والأحزان التي تتربص بالإنسان في كل عمل وكل خطوة. فإزاء الارتباط بالله وحب المسيح وشهوة الاتصال به والحياة معه، يجد أعظم تعويض عن حياة كاذبة كل سعادتها وهمية وكل رجائها خائب بالنهاية.

لذلك، فالكرازة بملكوت الله والآب والمسيح هي أعظم قوة قادرة على تقليص الإنسان من براثن هذا العالم وإعطائه قوة التحدي والغلبة لكل مغرياته الوهمية.

1:9 «ودعا تلاميذه الإثني عشر، وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء أمراض».

كان المسيح يكرز بقوة وسلطان فكان هذا أمراً تعجب له الذين سمعوا، لأنهم لم يروا أو يسمعوا عند الكتبة والفريسيين مثل هذه القوة ولا هذا السلطان، فظهرت شخصية المسيح أنه يدعو لأعظم مما يدعو إليه هؤلاء الكتبة والفريسيون. وكم مرة بهتوا من تعليمه بسبب هذا السلطان. وظهر بوضوح أنه أكثر من رسول أو نبي أو إنسان. ولكن هنا نرى المسيح يسلم القوة ذاتها والسلطان أيضاً لتلاميذه الاثني عشر ليكرزوا بما كرز به المسيح!! فالآن نحن أمام مصدر القوة والسلطان! وفرق هائل بين إنسان يعمل بقوة وسلطان، وشخص يعطي القوة والسلطان. هنا هذا الشخص هو بلا جدال مصدر السلطان ومركزه ومنبع الوجود الفعال.

وهذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها أن إنساناً يأمر بسلطان الله الشياطين فتنصاع وتخرج صارخة. 

2:9 «وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى».

هنا لا يذكر ق. لوقا من رواية ق. متى وق. مرقس أنهم كانوا اثنين اثنين، كما لا يذكر القـول: «أنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت 7:10). وواضح أن رؤية ق. لوقا هنا أكثر وضوحاً لأن الواقع الزمني أيام ق. لوقا كان يخالف هذا القرب. ولكن من هذا الاختزال، وبالأكثر حذف القـول الذي في إنجيل ق. مرقس أنهم كانوا يدهنون المرضى بزيت فيشفوا (مر 13:6)، يتضح أن ق. مرقس كان أكثر تمشكاً بتقليد الكنيسة العملي، وعدم ذكر ق. لوقا لهذه العملية التقليدية تمسك به غير الأرثوذكس مع أنها لا تزيد عن رؤية مناسبة للأمم. ونقرأ في رسالة ق. يعقوب الذي كان ألصق إيماناً بعوايد اليهود أنه أشار إليها كجزء هام في الصلاة على المرضى (يع 14:5). والمعروف قطعاً أن المسيح هو نفسه الذي أوصى بهذا. وربما كان السبب لإسقاط الدهن بالزيت في شفاء المرضى أنه لم يكن له الأهمية الكافية أن الصلاة، مجرد الصلاة، كانت تأتي بالشفاء. ولما ضعفت قوة الصلاة الفعالة رجعت الكنيسة للدهن بالزيت بتمشك شديد وهو الحاصل حتى اليوم. أما حذف دهن المرضى بالزيت كطقس صلاة للشفاء فقد توقف هذا الطقس عدة عصور من الكنيسة الكاثوليكية ربما لملاحظة أنه لم يجد نفعاً للمرضى، فألجأته لنهاية حياة الفرد ليدهن بالزيت باعتباره المسحة الأخيرة قبل الموت، ثم عادت مؤخراً إلى ممارسته باعتباره سر مسحة المرضى.

ومعلوم أن طقس مسحة الزيت في العهد القديم كان معترفاً به وتمارساً، وواضح من قول الإنجيل في (مر 13:6) أن دهن الزيت يعمل على شفاء المريض وأن الرب جعل في الزيت فرصة لتوصيل شفاء للمريض، مما جعل الكنيسة تعتبر أن في دهن الزيت للمريض إنما يعمل الروح القدس بالسر، إذ لابد بسبب قول المسيح ذلك أنه أصبح دهناً إلهياً على اسم الرب يسوع صاحب الأمر بالدهن بالزيت. وقد حدث بالفعل شفاء من الصلاة والدهن بالزيت دائماً وفي كل العصور. ولا يؤخذ عدم استخدام المسيح نفسه للزيت حجة لعدم أهمية الزيت لأن الرب لم يكن في حاجة لوساطة للسر المقدس. ونحن نعتبر أن الدهن بالزيت باسم الرب يسوع وساطة إلهية سرية فعالة باسم المسيح.

3:9 «وقال لهم: لا تحملوا شيئاً للطريق، لا عصاً ولا مزوداً ولا خبزاً ولا فضة، ولا يكون للواحد ثوبان».

هنا يعطي المسيح انتباهة هامة جداً أن الكرازة بالمسيح لا تحمل هماً من أي نوع، لا من أكل أو لبس أو حاجة لشراء شيء، إذ الكرازة باسم المسيح يتكفل المسيح بكل همومها ومتطلباتها. فكلمة اذهبوا للكرازة لا تحمل معها كلمة أخرى، وذلك يرفع من الاعتماد على المسيح بإيمان وثيق ويحس الكارز أنه مجرد تابع للمسيح وليس صاحب خطة.

«لا عصا»: 

ولو أن ق. مرقس يوردها وحدها للطريق: «لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصاً فقط» (مر 8:6)، إلا أن ق. لوقا يلغيها. ويبدو أن ق. مرقس قصد بها الاستناد عليها في المشي فقط، ولكن ق. لوقا رفضها باعتبارها كسلاح للدفاع عن النفس.

«ولا مزوداً»:

بمعنى المخلة أو الجراب الذي يحمل فيه الإنسان أدواته في السفر وأهمها الخبز، ولغي بعدها حتى الخبز ليكون الله هو المتكفل بإطعام الكارز.

«ولا فضة»: 

وهي من أصلها جاءت كلمة “أرجيرون” أي الفضة بمعنى العملات الفضية. وتجيء في إنجيل ق. نحاساً. فهذه عملة رخيصة وتلك عملة غالية، فلا غال ولا رخيص مرخص حمله أثناء النداء بكلمة الله، لأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بما يخرج من فم الله، وبما أنه هو المنادي بالخارج من فم الله استحال معه حمل أي عملة. مرقس

«ثوبان»:

ومعناها القميص الذي يقي الإنسان من حر وبرد. وهنا فرض المسيح على الكارز أن لا يهتم بتغيير الطقس وحاجة الإنسان لإراحة الجسد فهذا أيضاً سيتكفل به الله.

هذه الخبرة الفريدة من نوعها: أن يخرج الكارز ليكرز وهو لا يحمل هم الحياة اليومية من كل نوع، يقع موقع خروج الشعب من مصر الخيرات إلى البرية القاحلة، فالله تكفل في الحال بكل أعـواز الإنسان القصيرة والدائمة: «ثيابك لم تبل عليك ورجلك لم تتورّم هذه الأربعين سنة» (تث 4:8)، «فقد سرت بك أربعين سنة في البرية لم تب ” ل ثيابكم عليكم ونعلك لم تبل على رجلك.» (تث 5:29)

كما لا يغيب عن بالنا ونحن من زمرة الذين خرجوا من الدنيا وليس معهم أو عليهم شيئ من أشياء الدنيا – فالمسيح جعل هذه الشروط تفصل بين من له إيمان بوصية الله ومن ليس له من أول خطوة على الطريق. ولا يستهين القارئ أن يأخذ الإنسان خبرة ناجحة من استيفاء الوصية وهو واضع رجله على أول الطريق لأنها ستكون خبرة ملازمة لحياته .

 وقد رأيت واختبرت من نفذوا هذه الوصية بمنتهى الإتقان فكانت حياتهم ناجحة معطرة بأريج المسيح، ومن له أذن تسمع فليسمع.

+ خلع ثياب المملكة .. وشرف العالم رماه
وشرف العالم رماه … وشرف العالم رماه!!

4:9 «وأي بيت دخلتموه فهناك أقيموا، ومن هناك اخرجوا».

واضح أن الوصية الأولى في عدم حمل أي مساعدة للطريق: لا ملابس ولا أكل ولا شرب أو حتى العصا تُلزم الكارز بالإلتجاء ضرورة للمكوث في المنزل الذي يكرز له، بمعنى أن خادم الإنجيل من الإنجيل يأكل، فحينئذ سيتحقق الكارز أن الله يعتني به على طول مدى مسيرته وخدمته. وهذا الشعور والإحساس ينعكس حتماً على كلمة الله إذ يعطي الله قوة غير عادية لإقناع السامعين، بل هيبة ووقاراً شديداً من نحو الكارز، إذ يشعرون من الكلام أنه ينطق بفم الله والمسيح. لذلك ليت القارئ والدارس يدرك الحكمة العظمى من الوصية الخاصة بالتجرد الكامل من كل معونة للكارز ليختبر عمل الله بنفسه، ثم من هذا الاختبار تنبع قوة كرازته. كذلك لا يمكن أن تفوتنا قيمة اقتناع أصحاب البيت أن الكارز لم يحمل لنفسه أي ما يدثر به أو يأكله فيزداد إحساسهم بواجبهم المادي، لا لكي ينتهز هذه الفرصة ليطلب لنفسه شيئاً بل تزداد أواصر المحبة والود بين الكارز وأهل البيت. وفي هذا نقرأ في الديداخي: وصية تقول بضرورة إيواء الكارز (رسول أو نبي) يومين إذا زادهما الكارز يعتبر أنه نبي كاذب، وإذا طلب لنفسه مالاً أو زاداً يعتبر كاذباً، وإذا أمر بإقامة مائدة إن هو أكل منها يعتبر كاذباً. وهكذا كان التقليد الكنسي يشدد للغاية على نزاهة الكارز وسلوكه حتى يوعي الشعب مـن خـدام الكلمة الكاذبين. يحكى ـ والعهدة على التاريخ المسجل بالأسماء ـ أن أحد الأباطرة استودع أسقفاً بالقسطنطينية أحد أسراه ثم عاد يسأله عن الوديعة، وبعد التحقيق وجد أنه أخذ رشوة ذهبية كبيرة ففك أسر الشخص، فما كان من الوالي إلا أن حصل على كمية الذهب التي بحوزته وأمر فسيح الذهب، ثم أمر بأن يمسك الأسقف ويصب الذهب المنصهر في فمه!! قصة حزينة. فما أسهل سرقة أموال الله، هكذا يتهيأ للذين أصابهم شهوة المال والعمى الروحي. ولكن في لحظة الموت يواجه الإنسان بعاره عياناً وفي السماء يدفع الثمن مرارة وعلقماً.

وفي إنجيل ق. متى يقول المسيح في هذا الموضع أمراً هاماً للغاية وهو التدقيق الشديد في اختيار المنزل الذي يبدأ فيه الكارز ليكرز: «وأية مدينة أو قرية دخلتموها فافحصوا من فيها مستحق وأقيموا هناك حتى تخرجوا …» (مت 11:10). ونحن نعرف تماماً أن بداية حركة الكنيسة بدأت من داخل بيوت مختـارة صارت مركزاً للخدمـة كبيت فيلبس وبيـت ليديا بائعـة الأرجوان، ونفـس العلية في صهيون كانت أول كاثدرا في التاريخ المسيحي.

والفارق في هذا القول كما ورد عند ق. مرقس: «فأقيموا فيه (في ذلك البيت) حتى تخرجـوا مـن هناك» (مر 10:6)، يقصد به إلى أن يخرجوا من الكورة أو المدينة، أي يكون ذلك البيت مقر كرازة. ولكن هنا في إنجيل ق. لوقا يقصد أن الكرازة تكون موضعية في كل بيت يكرز فيه. وليلاحظ القارئ هنا أنه لم تكن قد أقيمت الكنائس بعد، فكانت الخدمة تكمل في البيوت (أع 40:16 و46:2).

5:9 «وكل من لا يقبلكم فاخرجوا من تلك المدينة، وانفضوا الغبار أيضاً عن أرجلكم شهادة عليهم».

الكلام هنا تداخل في بعضه، لأن الخروج يكون من البيت وليس من المدينة كلها، وهذا حدث للمسيح نفسه إذ لم يقبله أهله في الناصرة فخرج من المدينة كلها ولم يستطع أن يعمل آيات هناك بسبب عدم إيمانهم. هكذا يعطي المسيح تلاميذه كيف يشهدون على البيت أو المدينة التي رفضتهم. أما نفض الغبار من أرجل التلاميذ بسبب رفضهم ورفض كرامتهم باسم المسيح فهو بمثابة إعلان أو شهادة لتبريء الذمة، كما يغسل القاضي يديه براءة من دم المحرم، بمعنى تحميل المذنب وزر ذنبه وبراءة ضمير القاضي كما فعل بيلاطس. ولكن المعنى به مرارة، فهو حلول لعنة على هذا البيت وهذه المدينة كما لعن الله آدم ولعنت الأرض بسببه. ولكن هذا في حالة واحدة إن كان الكارز قديساً مرسلاً من الله ويستلم تصرفه هذا من الله. وعلى عكس ذلك يحمل هو اللعنة إن كان مغرضاً ولا يفعل ذلك دفاعاً . عن الإيمان بالمسيح. تماماً على وزن: «وحين تدخلون البيت سلموا عليه (شالوم إليكم) فإن كان البيت مستحقاً فليأت سلامكم عليه (سلام الله) ولكن إن لم يكن مستحقاً فليرجع سلامكم إليكم.» (مت 10: 14,13)

علماً بأن قانونية تكوين كنيسة لا يقوم على البناء والتجميل بالرخام والذهب بل باجتماع اثنين أو ثلاثة باسم المسيح في حرارة الروح. هنا تقوم الكاثدرا الحقيقية حيث أسقفها هو هو الرب يسوع نفسه. مما يدعونا لجعل ثقل المناداة ببناء الكنائس ليس هو المعبّر عن الحاجة إلى العبادة، إذ أن الحاجة إلى أن يجتمع اثنان أو ثلاثة باسم المسيح. واحد وهي

6:9 «فلما خرجوا كانوا يجتازون في كل قرية يبشرون ويشفون في كل موضع».

هنا وفي هذه الآية الأولى والعظمى بل والخالدة، بدأ تاريخ الكنيسة وبدأ الـروح القدس قيادته للتلاميذ للخدمة الجهـاريـة والكرازة باسم يسوع المسيح. وكان التلاميذ بروح واحدة، ليس بينهم كاثوليكي ولا أرثوذكسي ولا بروتستنتي، بل بالروح الواحدة بدأت شرارة الخدمة على الأرض. ويهمنا جداً قول ق. لوقا هنا: «يبشرون ويشفون في كل موضع» هنا التحمت البشارة بمعجزات الشفاء، ثم وفي كل موضع بلا استثناء. هنا روح العمومية لائقة جداً بروح المسيح واسمه.

ولكن الآن لم يعد اسم الكنيسة واحداً للمسيح الحي بل انقسمت الكنيسة على نفسها ألواناً وأسماء من الصعب حصرها في أعداد. وطبعاً وبالتالي انقسم المسيح، واسم المسيح صار وقفاً على هذا وخاصاً بذلك. ولم يعد مسيحاً واحداً لعالم واحد! لماذا؟ لأن عظماء الكنائس ورؤساءها في القرون الأولى ذوي الألقاب العظيمة والفخمة والتيجان المرصعة بحصاوي الزمرد والماس رأوا ذلك وتمسكوا برأيهم، لم يستشيروا لحماً ولا دماً بل أخرجوا المشورة مـن قلـوب غليظة ورقاب قاسية لا تشفق على الرعية التي تبددت وتعادت وتحاربت لحفظ ألقاب السادة العظام أصحاب التيجان. وبدأ الشيطان نشاطه وصنع له مراكز خدمة ممتازة وخداماً ممتازين في كل مدينة وقرية وفي كل موضع بلا استثناء، واختلط المحال بالمستحيل، اختلط الظلام بالنور حتى عم الضباب الدنيا.
+ «يا حارس ما من الليل (ماذا بقي من الليل)؟
يا حارس ما من الليل (ماذا بقي من الليل)؟
قال الحارس: أتى صباح وأيضاً ليل!!» (إش 11:21)

2 – سؤال هيرودس عن المسيح (9-7:9)

(مت 1:14-2)
(مر14:6-16)

ملأ ق. لوقا الفراغ بين إرسالية التلاميذ ثم عودتهم بقصة هيرودس الملك الذي كان يسأل عن المسيح وإجابات الشعب المتعددة عن ذلك، والمعلومة التي تناقلتها الناس عن هيرودس من هو يسوع الذي كان يسمع عنه كثيراً. وقد حول ق. لوقا هذا السؤال إلى المسيح نفسه كيف كان يعلم تلاميذه حقيقة من هو، وهـو الجزء الواقع بين (18:9-27). ولكـن الكـلام عـن هيرودس والمسيح جـاء أخيراً في (33-31:13، 12-6:23) كيف أن طلبة هيرودس أ أن يرى المسيح قد تمت له ورآه وكانت دينونة لـه أكثـر. ولكـن ق. لوقـا حـذف كـل جـوانـب قـصـة المأسـاة الـتي تمت بقطع رأس يوحنـا المعمدان التي جاءت في (مر 17:6-29)، واكتفى ق. لوقـا بكـيـف ألقى هيرودس يوحنا في السجن

(19:3)

ولكننا نجد في الإنجيل وقفة مفاجئة بعد «وكان يطلب أن يراه» ثم فراغ تركه الناسخ عن الناسخ وغالباً عن المؤلف وهو ق. لوقا إذ لم يطق المنظر واستكثر أن تقطع رأس من هو أعظم من نبي . وأعظم من ولدته نساء الدنيا، ثمناً لرقصة بنت هيروديا التي راهنت على رأس قديس ودفع الملك الماجن الرهان؛ الأمر الذي إذ سمعه يسوع المسيح كف عن الخدمة في اليهودية كلها، لا خوفاً من هيرودس بل احتراماً للذكرى.

7:9 «فسمع هيرودس رئيس الربع بجميع ما كان منه، وارتاب لأن قوما كانوا يقولون: إن يوحنا قد قام من الأموات».

ق. لوقا هنا يوافق ق. متى أن هيرودس رئيس ربع وليس ملكاً، اللقب الذي أعطاه له ق. مرقس على وجه ما يقوله الناس. والمقصود هنا ما عمله المسيح من معجزات أرعبت قلب القاتل، وخاصة بعد ما جاء التلاميذ يحكون عن أعمالهم أيضاً فذاع صيت المسيح بالأكثر. فارتاب هيرودس خوفاً على نفسه. ولكن ما شاع عن قيامة يوحنا من الموت جاء في غير موقعه ومعناه، إذ لم يسمع من قبل مثل هذا، ولكنها رعبة أدخلها الله في قلبه نظير ما اقترفت يداه.

8:9 «وقوماً: إن إيليا ظهر، وآخرين: إن نبيا من القدماء قام».

واضح أن قول الناس إن إيليا “ظهر”، كان بسبب أن إيليا لم يمت ولكنه أخذ إلى السماء حيا. فاليهود كانوا يترقبون ظهوره تتميماً للنبـوات أن إيليا سيأتي قبل مجيء مسيا كقول ملاخي. ولكـن الشعب ظن أن المسيح أخذ عمل إيليا لكي يبشر بالنهاية، وليس هنا مكان تصحيح لأفكار الناس. أما قولهم إنه أحد الأنبياء القدامى قد قام ففي إنجيل ق. مرقس قال تلاميذه هذا القول بالنسبة للمسيح قول الناس (مر 28:8).

9:9 «فقال هيرودس: يوحنا أنا قطعت رأسه. فمن هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا! وكان يطلب أن يراه».

مما زاد اضطراب هيرودس قول الناس إن يوحنا قد قام من الأموات، فكان رده المباشر أنه قطع رأسه فمـن أيـن يقـوم. ثم أن توقف ق. لوقـا عنـد هـذه الكلمـة يفيـد أن ق. لوقا توقف أيضـاً عـن التفكير أو أنه أفاد إفادة عاد ومحاها، أو حطم قلمه!! وجلس ينعي هذا القديس البار. إنها لعنة البشر إراقة الدماء البريئة بل الشريفة بل القديسة.

3 – إطعام الخمسة آلاف (17-10:9)

(مت 13:14-21)
(مر30:6-44)

هنا نقدم رؤية متسعة لمعجزة إطعام الخمسة آلاف رجل من الخمسة أرغفة. فبعد عودة الاثني عشر الذين كنّا ندعوهم بالتلاميذ، ابتدأ ق. لوقا بعد ذلك عنـد رجـوعهم بالأخبار السارة أن يدعوهم بـ الرسل” للمسيح. وبعد أن استمع إليهم المسيح أخذهم جانباً ربما للراحة والمراجعة وسماع بقية أعمالهم، ولكن منعتهم الجموع المتراصة التي اعترضت طريقهم إلى الراحة. وهكذا قبل المسيح الوضع وبدأ يخدمهم بالكلمة والأشفية. وهناك في نهاية النهار لميا حاول التلاميذ الحصول على طعام لم يجدوا، فالمكان كان قفراً، فكانت ورطة بالنسبة لهم وللجموع المحيطة بهم. ولم يحسبوا حساب الرب وكنوزه التي لا تفرغ والتي لا تزيد إلا عند الحاجة وتفيض لمزيد من الإيمان ليكتبه التاريخ ويقرأه إلى الآن. اثنان وأربعون جيلاً يقرأون قصة الخمسة آلاف والاثنتي عشرة قفة!! ولكن مع قصة الخمسة آلاف رجل والخمس خبزات بقيت لنا العقيدة وبقي لنا من هو هذا!! وبقيت لنا العلاقة السرية بين المن السماوي الذي أشبع شعب إسرائيل بأكمله أربعين سنة والخمس خبزات والسمكتين التي أشبعت خمسة آلاف رجل وفضل عنهم اثنتا عشرة قفة، ثم ينكشف السر أكثر وإذا هو نفسه الخبز الحي النازل من السماء الذي يأكله الإنسان ولا يموت. الخبز في القديم أي المن كان لقوام الجسد، فلما مات الجسد كف المن، وهنا الخبز الحي: يموت الجسد ويبقى الإنسان حيا به.

هذه القصة ترددها الأناجيل الأربعة ويضعها ق. مرقس في الربيع على مسافة بعيدة من الصليب (مر 39:6) وفي إنجيل ق. يوحنا (4:6).

وهنا لا تفوتنا الملاحظة أن التلاميذ راجعون من التبشير بملكوت الله، فأكمل لهم المسيح الحديث عن ملكوت الله. فهنا في إشباع الجموع صورة للملكوت من الخارج، كيف يطعم الراعي الصالح قطيعه بالكلمة، فبالخبز وحده لا يحيا الإنسان ولكن الخبز وعليه كلمة الله يصير خبز الحياة يشبع الجسد في مفهـوم القـصـة ويشبع الـروح في مفهـوم السـر. لأن الكنيسة جمعت بين الملكوت والخمس خبرات في سـر واحد. وعندنا التقليد الكنسي مرسوم على حجـارة مـن القـرن الثالث مشيراً إلى الإفخارستيا بالخمس خبزات والسمكتين. فهكذا يسندنا التقليد مع الإيمان الحي بصدق القصة وصدق التفسير.

ويلزمنا أن نعرف أن هناك ست روايات لإكثار الخبز والسمك وإطعام الجموع، اثنتان للقديس مرقس واثنتان للقديس متى وأخرى للقديس يوحنا والسادسة للقديس لوقا، مع الفروقات في الرواية وفي هدفها.

ففي قصتي إشباع الجموع عند ق. مرقس، الهدف واضح أن المسيح يطعم الجموع كصدي لعمل العهد القديم في إرسال المن من السماء، ونجد في إنجيل ق. يوحنا أن المسيح فسرها هكذا بنفسه، أما في إنجيل ق. لوقا فالهدف كان إظهار مسيانية المسيح، وقد مهدت هذه الآية لاعتراف ق. بطرس بعد ذلك أنه هو المسيا. 

واستطاعت الكنيسة في كل عصورها أن ترى قصة إطعام الخمسة آلاف رجل من الخبزات الخمس مثالاً حيا للإفخارستيا، وأن الذي كسر الخمس خبزات بعد أن باركها، وأعطى كل الناس لتأكل هو هو الذي قدم جسده على الصليب كذبيحة تؤكل في سر خبزة المحبة التي للشكر. كما رآها آباء كثيرون أ أنها كانت وليمة ملكوت الله بلا نزاع، وبالأخص كما رآها ق. لوقا (15:14): «طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله» وفي رأينا، تُعتبر قصة الخمس خبزات والسمكتين بكل ملابساتها ونطقها خاصة كسر الأرقام سواء الخمسة آلاف أو الاثنتي عشرة لتمتد إلى ما لا نهاية، هي أعظم تعبير عمن هو المسيح الذي أمامنا ولماذا جاء وماذا أعد لنا عند الآب؛ بل لم يفت هذا المعنى عن نفس الجموع إذ قاموا واحتاطوا به ليعملوه ملكاً بالقوة، الأمر الذي راود أذهان التلاميذ أيضاً مما جعل المسيح يأمر” التلاميذ في الحال بالإبحار توأ وصرف الجموع. صحيح كانت نظرة الشعب مادية ولكن كان مصدرها روحياً بكل تأكيد، بمعنى أن هذا هو الملك الآتي ليعمل لنا أعمال الخلاص والسلام عوض عبودية الرومان ونكد الزمان. 

فالمسيح في قصة إشباع الجموع بهذه الأرقام يصلح بكل تأكيد أن يكون ملك العالم كله في نظر بؤس الإنسان، لأنه أثبت حقا وعلى مستوى الأرقام أنه قادر أن يجعل العالم لا يجوع، ومقتدر أن يذلل هيجان الطبيعة ويشفي كل أنواع الأمراض. لأنه لو أردنا أن نقول الحق فالمسيح بما صنعه على مستوى المادة فتح أعيننا على ماذا سيكون على مستوى الروح، وإن كانت قدراته على أمور العالم والجسد هكذا تسـخـر مــن المحـدوديات وتتحـدى الآلام والأمــراض بـل وتتحـدى المـوت نفسـه بـكـل دوافعه وآثاره، فنحن نكون عمياناً فاقدي البصر إن لم تهتف: هذا هو ملكوت الله على الأرض يتجلى ويلمس ويؤكل ويسمع. فماذا يتبقى للإنسان ليؤمن بالمسيح الآتي وملكوت الله بعد ذلك في السماء في موطن اللازمن واللامحدود واللامعقول التي نسميها الأبدية السعيدة أو مطلق الحب والسعادة والحياة.

 والمسيح لما قال: «ملكوت الله داخلكم» (لو21:17)، لم يقصده أنه موجود على مستوى أشكاله ومظاهره، بل على مستوى الوعي بالمطلق، فالمسيح فتح ذهننا لندرك المكتوب ولنـدرك ما هو ليس مكتوباً، ندرك في وعينا كيف ينكسر من الآن قانون الجاذبية وقانون الأرقام والزمان والألم والموت. ومن هنا جاءت الصعوبة الرهيبة التي تواجهنا في تصور ملكوت الله وحقيقة المسيح في الله. لأننا ولدنا وعشنا وأخذنا بالميراث أن نحيا في المحدود لا نقوى أن نتخطاه وإلا قيل عنّا أننا مجانين. هذه القوانين المادية والأرضية طوق من حديد أغلق على عقلنا وعلى تصوراتنا. وأما الحياة بالروح أو الأبدية السعيدة أو ملكوت الله تتخطى كـل مـا عرفه وأدركه الإنسان إلى ما لا نهاية، والإحساس بما لا نهاية هـو المستحيل بعينه. إذن، أصبح على المسيح أن يسير على الماء وأن يقيم من الأموات ويشفي كل مرض ويطرد الشياطين أجساد الناس، ولكن فوق ذلك كله أن يكسر رقم خمسة ويكسر من بعده رقم اثنتي عشرة. إذن، ممكن لك الآن بكل سهولة أن تجعله خمسين مليوناً أو بليوناً أو العالم كله ليأكل من الخبزات الخمس التي كسرها المسيح، وبعد ذلك يرفع الفائض فإذ هو لا يسعه العالم!! كان لابد أن يصنع المسيح هذا ليجعلنا نحس أو نفهم أو نؤمن بأنه هو ابن الله، وأنه جاء ليدعونا لنحيا في حياة الله التي ليس فيها حزن بعد ولا كآبة ولا تنهد ولا شمس تنير ولا قمر يضيء لأن الله هو النور!!

والعالم كله يصرخ: هناك نقص في الغذاء والعالم مهدد بالجوع، وهناك نقص في الماء والعالم والزرع مهدد بالعطش والموت. أبدأ هذه رؤية مزيفة، فالعالم محتاج الله فقط ولا يظن ظان أن العالم ممكن أن يفني من جوع أو عطش أو بالقنبلة النووية، بل الذي سيقتله هو نقص المحبة وأخاف أن أقول انعدامها، والقضاء كما يقول الروح في العهد القديم يبدأ من بيت الله، فرجال الله هم المسئولون عن كارثة العالم!! وإلا فمنذا يقول إن العالم يخلو من خمس خبزات وسمكتين، ولكن العالم خلا حقا من الذي يبارك ويكسر الخبز. وهنا أرسلهم محملين بقوة الكلمـة للكرازة وعمل المعجزة سواء بالشفاء أو إخراج الشياطين.

ويلاحظ أن ق. لوقا وهـو يأخـذ مـن إنجيل ق. مرقس حذف موضـوع تعب التلاميذ وقصـد المسيح للراحة عندما طلب أن يذهبوا إلى مكان بعيد، فيظهر أن ق. لوقا كان متعجلاً دائماً لينقل للقارئ ما للمسيح، وعين ق. لوقا مسلطة في هذه المعجزة على . العشاء الرباني أو الإفخارستيا، معتبراً أن هذه القصة تحمل كل عناصرها بألفاظها “فكلمات التأسيس” – الصلاة على الخبز والخمر، موجودة بحذافيرها: ونظر إلى فوق وبارك وكسر وأعطى”.

وبالتالي يكون من مد يديه وكسر الخبز هو الذي مد يديه على الصليب ليكرس الجسد للذبيحة، ثم إلى إطعام الكنيسة وإعطائها السر لتكرره ويظل هو في وسطها يكسر الخبز لأنه حقق وعده: «أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 20:28). يكسر الخبز ويسقي الكأس بيده كما تؤمن بذلك الكنيسة الملهمة بالروح أن المسيح نفسه هو الذي يطعم جسده للشعب بيديه ويسقيهم دمه بالكأس، وإنما تحت صورة يد الأسقف أو الكاهن حينما يكسر الخبز أو يسقي من الكأس. فجوهر سر الإفخارستيا مهيب بسبب أن المسيح هو الذي يقتطع من جسده ويعطي، ومن دمه المهراق في الكأس يسقي. لذلك ففي منطق اللاهوت أن الكاهن أو الأسقف ليس هو الذي يمارس السر بل المسيح. فسيان كان الأسقف أو الكاهن قديساً أو غير قديس، طاهراً أو غير طاهر، فهو يحمل دينونة نفسه، ولكن السر لا يتأثر لأنه في عرف اللاهوت الأرثوذكسي عن يقين أن المسيح هو الذي يبارك ويكسر ويطعم، ومن الكأس يسقي بنفسه الخاطئ ويفرح بكل خاطئ يأتي إليه.

لذلك في منطق سر الإفخارستيا الإلهي أنه طعام عدم الموت أو خبز الحياة الأبدية، وبالتالي هو من خصائص وأساسيات سـر الملكوت، هنا على الأرض. فالذي يتعاطى سر الإفخارستيا بالروح فهو يتعاطى المسيح ويشترك معه في كل ما يخص المسيح . عند الآب أيضاً. 

وهكذا يتحدى الإنسان الذي يحيا حسب الروح وليس حسب الجسد بتناولـه مـن هذا السر، يتحدى العالم والموت وكل ضيقات الحياة. فهو في الملكوت يعيش ولا تفصله عن المسيح أي قوة شريرة، ولا الشيطان نفسه بقادر أن ينزع حب الله منه أو يمس إنسانه الجديد في كيانه. فالإفخارستيا ترياق عدم الموت ” تأتي هنا بمعنى التحصين الإلهي، أو بمعنى أوضح وأوقع: أن من ينال المسيح في أحشائه كيف يموت؟ ألم يقل هو: أنا هو خبز الحياة فمن يأكلني يحيا بي ولا يموت إلى الأبد ولا يأتي إلى دينونة؟!! (يو (58 .57 .48:6 .24:5

فما هو عذرك أيها الإنسان الذي تقول لوكئًا في أيام المسيح ورأيناه وأمسكناه بأيدينا. هذه الأمنية حققها المسيح بجعل جسده ودمه في متناول كل الكنيسة وكل إنسان، و «طوبى للذين آمنوا ولم يروا »(يو 29:20)، «الذي وإن لم تروه تحبونه، ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكـن تؤمنـون بـه فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد.» (1بط 8:1)

10:9و11 «ولما رجع الرسل أخبروه بجميع ما فعلوا، فأخذهم وانصرف منفرداً إلى موضع خلاء لمدينة تسمى بيت صيدا. فالجموع إذ علموا تبعوه، فقبلهم وكلمهم عن ملكوت الله، والمحتاجون إلى الشفاء شفاهم».

القديس لوقا حذف هنا علة أخذ المسيح للتلاميذ إلى مكان قفر بعيداً عن الناس، إذ كانوا قد جاءوا متعبين. وهذا هو أسلوب ق. لوقا: يصفي الحدث بما يكفي لإظهار جوهر القضية، وهو هنا في اعتبار ق. لوقا أولاً إعطاء صورة لملكوت الله ثم صورة للإفخارستيا، وذلك صدى لخبرة التلاميذ العملية الآن من نحو عمل الله بقوة معهم. والكنيسة التي يمثلها هنا الاثنا عشر تقدم هاتين الحقيقتين: فالكنيسة تُحسم معنى وحقيقة ملكوت الله بتوضيح قوة الله في الحياة اليومية، ثم سر الخبز والخمر في معنى قوة الخلاص التي أحبوها واندهشوا لها. أما الشفاء الذي كان يجري على أيديهم فهو لأن قوة المسيح كانت معهم، وهذه الثلاثة هي أركان خدمة المسيح والكنيسة معاً على الأرض. 

12:9 «فابتدأ النهار يميل. فتقدم الإثنا عشر وقالوا له: اصرف الجمع ليذهبوا إلى القرى والضياع حوالينا فيبيتوا ويجدوا طعاماً، لأننا ههنا في موضع خلاء».

الميعاد تأخر وهو ميعاد أكل الناس عموماً، وهنا نلاحظ ظلاً واقعاً من بعيد على ميعاد عشاء الرب الأخير، وهو نفسه كان في الكنيسة الأولى حين كان يقـام سر الإفخارستيا في العشاء وليس في الصباح (ارجع إلى صفحة 245). واضح هنا للقارئ أن الجموع التي تبعت المسيح ليست من سگان المكان، والمكان فعلا قفر لا يصلح لمبيت ولا يوجد فيه ما يؤكل. وربما كان المكان أيضاً ليس أرضاً يهودية بل قفراً تابعاً لأراضي المدن العشر الأممية، حيث يعز الضيافة والمبيت. 

13:9 «فقال لهم: أعطوهم أنتم ليأكلوا. فقالوا: ليس عندنا أكثر من خمسة أرغفة وسمكتين، إلا أن نذهب ونبتاع طعاماً لهذا الشعب كله».

هنا الظرف المتحكم حيث هم في القفر، والمكان ليس مأهولاً باليهود، ليعطي إشارة من بعيد أننا وكأنا في برية سيناء. ولا يصعب على القارئ أن يطبق في الحال ما سيكون. فإن كانت السماء هذه المرة لا يمكن أن تنـزل منّا، لأن المـن الحقيقي في وسطهم، إذا حتماً سيأكل الشعب بمعجزة. ولكـن عين التلاميذ لم تكن لماحة إذ لم تلحظ التعليم في أعماقه إذ تحركت أفكارهم نحو الشراء، وحتى الشراء يتعذر إذ ليس معهم نقود. هنا قصور عقل الإنسان أمام مواقف سمائية وإلهية مهيبة. وهنا الدرس الذي يريد ق. لوقا المعلم أن يعطيه للكنيسة ليدخل رسمياً إلى تقليدها: أن الكنيسة مسئولة عن إطعام الشعب الجائع حتى ولو كانت فقيرة وليس لديها فلسان ولا لحسة زيت ولا شيء في كوار الدقيق. فهنا يؤسس الرب مبدأ على استفسار التلاميذ أن الكنيسة مسئولة وليس لها أن تتجاهل منابع الزيت والدقيق الذي وضعته أرملة صرفة صيدا في خزانة الكنيسة، أو تتجاهل صنارة ق. بطرس فهي سند كبير يمكن أن يطعم ويملأ الخزانة بالمال، هذا بجوار الاثنتي عشرة قفة التي أمر المسيح أن تستودع في مخازن الكنيسة لوقت الحاجة. لأننا نحن، بالرغم من النعمة التي نحن فيها مقيمون، ولكن نحتاج لبواقي وفضـلات القديسين نسند بما قلبنا إن جف نبعه الجديد. كذلك شبكة ق. بطرس التي كانت قد طرحت على يمين السفينة موجودة في خزانة الكنيسة يمكن أن تنفع ساعة القحط وتعب الليل كله ولا يوجد الإدام. 

آه لو دريت الكنيسة مقدار غناها!! وحقيقة دورها في عالم اليوم! فعالم اليوم يصرخ بلسان عجز التلاميذ: ليس عندنا في خزينة الأمم المتحدة إلا 200 دينار. وما هذا بالنسبة للمسكونة كلها. وما أشبه اليوم بالبارحة، ولكن المثل التي وضعها المسيح لم يستغلها الأمناء فباتت تنعي أصحابها.

«ليس عندنا أكثر من خمسة أرغفة وسمكتين، إلا أن نذهب ونبتاع طعاماً لهذا الشعب كله» :
إن أرقام رئيس مالية كل كنيسة لا تكذب فهي دائماً أقل ودائماً لا تكفي لشيء، هذا كله يسمعه الله ويتعجب ويقول: ألا يوجد في وسطكم صبي تكون أمه قد دشت في مخلاته خمسة أرغفة وسمكتين؟ فقبل أن يعلن الرؤساء إفلاسهم ينبغي أولاً أن يصرخوا إلى الرب، فالرب لا يمطر من نفسه ذهباً ولا فضة ولكنه يضعها في مخلاة صبي، فلتبحث الكنيسة عن الإيمان الذي فيها، فرب صبياً له عند المسيح دالة، فالمسيح سبق وألهم الصبي أن يطالب أمه بالخبزات والسمكات قبل أن يجري مع الرفاق ليلحقوا بالمسيح، أو تكون أمه وضعتها في مخلاته متوسلة أن يستخدمها وقت الجوع. فالنعمة تتكفل من ذاتها بترتيب كل شيء وليس علينا إلا أن نبحث عن الملهمين الذين أعطتهم النعمة مسئولية الجماعة كلها وهم لا يدرون.

الكنيسة لا يعيبها المالية الفقيرة سواء كان لها يهوذا أو هي من ذاتها ولدت فقيرة، ولكن يعيبها جداً أن تستهين بالملهمين وأصحاب القلوب المفتوحة للصلاة وأصحاب المواهب، فهؤلاء قادرون أن يملأوا الكنيسة ذهباً بل وكل الكنائس والعالم.

14:9و15 «لأنهم كانوا نحو خمسة آلاف رجل. فقال لتلاميذه: أتكنوهم فرقاً خمسين خمسين. ففعلوا هكذا وأتكأوا الجميع».

كان ترتيب الشعب فرقاً مئات وخمسينات وعشرات قد تم لأول مرة أيام موسى (خر 21:18). أما الخبز فيذكرنا بالمن السماوي.

أما الأمر بجلوس الشعب فجيد، أما أن يجعلوهم صفوفاً والعدد خمسين فهذا رفع من اندهاش كل من الناس والتلاميذ، أين الطعام؟ فالشعب يعرف أنه ليس من خبز ولا إدام (غموس) فمن أين يأتي بالطعام؟ وهنا في الحال استحضر الشعب ذكرى المـن السماوي، بل وحتى المـن غير منتظر لأن المـن كـان يسقط والشعب في خيامه، وفي الصباح كل واحد يجمع لنفسه. وهذه أول إشارة لسرية القصة التي ستتعجب عليها البشرية كل الأيام والسنين. لأن وضع هذا الشعب هكذا صفوفاً صفوفاً وكل خمسين معاً : يعني أن المن في وسطهم ولن يقوموا ليبحثوا عنه لا في السماء ولا على الأرض، إذ حتماً سيأتيهم وهم جلوس!!

16:9 «فأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين، ورفع نظره نحو السماء وبارگهن، ثم كسر وأعطى التلاميذ ليقدموا للجمع».

هنا كل عيون الشعب مسلطة على الرغيف الذي في يد الرب، والكل رآه وهو يرفع عينيه نحو السماء فابتدأ الشعب يحس بالسر لأن هنا الآن الخبز أخذ السر، سر البركة، من فوق من الآب ومن يد المسيح وقوة الروح القدس التي بدأت تكسر وتعطي الشعب، وإذ بالرغيف الذي انكسر لا يريد أن ينقص. هنا القوة والسر في الكسر، هنا فعل سماوي روحي لاهوتي أزلي أبدي معاً، مطلق بمعنى فعل لا ينتهي. لقد ابتدأ سر الإفخارستيا كفعل بركة وشكر من فم المسيح وهو يدعو الآب ليشترك بالروح! الكسر كفعل خلق مستتر في الكسر وفي اليد التي تكسر، يملأ كل تلميذ حجره، وبمجرد ما يستدير ويعطي المسيح ظهره ليمشي يعود الرغيف بكماله الذي كان عليه. الخبز حقيقي خبز قمح ولكن الكسر فعل إلهي لا يتأتى منه نقص، فبمجرد أن ينكسر يعود الرغيف صحيحاً وكأنه لم ينكسر. وهذه سمة الروح لا ينكسر ولا يتغير ولا يزول وفيه القوة غير المنظورة وغير المحسوسة، يأخذها المتناول في فمه لتدخل أحشاءه لتصنع عملها الروحي، وهي بآن واحد خبزة تؤكل وتُهضم ولكن أثرها الروحي باقي في الإنسان. اللقمة الصغيرة كالكبيرة لأن الخواص الطبيعية لا تهم، ولكن عمل الروح الذي فيها يعمل عمله في الإنسان الذي يقبلها بالروح والإيمان: «فمن يأكلني فهو يحيا بي.» (يو 57:6).

كل لقمة خرجت بالقسمة تخرج حية ولها سمات الروح الأبدي الذي ليس له أي صفة مادية أو حشية من أي شكل. كل لقمة مهما صغرت هي بحد ذاتها تعبر عن المسيح ككل لأنها خبزة حية بالسر روحية بالجوهر، والحياة والروح لا يتجزآن، فهي تعبر عن الكمال الذي في المسيح وتحمل قوة من قوته للشفاء ولكل عمل روحي تعمل. «اثبتوا في وأنا فيكم.» (يو 4:15)

17:9 «فأكلوا وشبعوا جميعاً. ثم رفع ما فضل عنهم من الكسر اثنتا عشرة قفة».

يلاحظ القارئ أن هناك فعلان “شبع”، وفضـل، الامتلاء والفيض. وهـذا هـو سمـة العمـل السماوي «الكيل الملبد المهزوز» أي الملآن الفائض، لأن كل هزة في الملء تجعله يفيض. أتوا إلى المسيح جائعين فارغين فذهبوا شباعي، والذي فاض عنهم يملأ اثنتي عشرة قفة.

مثال الخمس خبزات والخمسة آلاف ثم الشبع حتى يفضل اثنتا عشرة قفة ملانة يعبر تعبيراً سرياً بديعاً عـن مـدى اتساع التحول من المادي إلى الروحي، لأن في هذه الأرقام بلاغة ومنطق، فالمسيح بروحه كسر حدود الأرقام ليحولها إلى أرقام أخرى تتصل باللانهائي. فالخمس خبزات حينما انكسرت بالسر على يد المسيح أطعمت خمسة آلاف، فعلى أقل تقدير أخذ كل واحد رغيفاً وسمكة، فالخمسة صارت خمسة آلاف. والسؤال هنا، ولو فرض أنهم كانوا خمسة آلاف مليون أو المسكونة كلها بأكملها، بل نحن نطمع في اللانهائي هنا والمطلق، فالخمسة ممكن أن تمتد حتى إلى اللانهائي والمطلق. وهنا المسيح أثبت نفسه أنه الإله الأبدي والأقنوم الأزلي واللانهائي، الأول والآخر، البداية والنهاية. ألا يليق بالمسيح بهذا أن يكون ملكاً على العالم بل وصاحب الملكوت؟ فالرجال الذين شبعوا رأوا هذا في إنجيل ق. يوحنا وأرادوا بالفعل أن يمسكوه بالقوة لينصبوه ملكاً، وحتى التلاميذ مالوا إلى رأيهم لولا أن المسيح قد أنهى هذه المؤامرة اللطيفة وأمر التلاميذ أن يركبوا السفينة وبارك هو الجموع وصرفهم وذهب يصلي وحده. لأنه قبل أن يقبل الملكوت لابد أن يقبل الموت أولاً ويدفع ثمن خسران الإنسان ليكسبه الحياة وإلا فكيف يكون صاحب ملكوت يغيب عنه الإنسان، وعلى من يملك؟! الأبدية معه، والإنسان اللبيب الحكيم يرى أن قصة الخمس خبزات والخمسة آلاف، وهي القصة التي انكسر فيها رقم (5) ليمتد إلى اللانهائية بلا توقف ولا حدود، تمثل سر تحول المادة في يد المسيح إلى روح، والزمن إلى أبدية وخلود، الأمر الذي تجسّد ليكمله في نفسه والإنسان معه.

4 ـ اعتراف بطرس (20-18:9)

(مت 13:16-16)
(مر29-27:8)

حق للمسيح جداً بعد هذه القصة أن يسأل تلاميذه: تُرى من أكون أنا؟ التي جاءت إجابتها متفرقة بين (18-20، 21و22، 23-27، 28-36) ويظـل هـذا السؤال يفسر في (9: 37- 50). وردا على سؤال المسيح أعطى التلاميذ له انطباعهم عنه . ولكن آخذين برأي العامة من الناس، لأنهم هم أنفسهم لم يصلوا بعد إلى معرفة شخصية معلّمهم، إذ عسر عليهم أن يصلوا إلى قرار من أنفسهم، فأعطاهم الله من فوق ما يقولون لكي يكون هذا أول كشف عن شخصية المسيح ينطقها إنسان وهو لا يدري بما ينطق. لأن التلاميذ وقف تفكيرهم عند اعتقادهم فيه أنه نبي ولكن يعمل أعمالاً لم يعملها نبي، أن يقيم ابنة يايرس من الموت شيء جديد جداً على أذهانهم، وأن يطعم خمسة آلاف من الرجال ما عدا النساء والأولاد في برية من خمس خبزات وسمكتين رفع تقديرهم للمسيح عن ما هو أكثر من نبي، ولكن ماذا يكون؟ ولكن بقي أمر واحد في ذهنهم أن من ينتظره الشعب ليخلص الأمة يتحتّم أن يكون أكثر فعلاً من نبي، ولكن ماذا يكون؟ لذلك فالإيحاء الذي سمح به الله أن يملأ فكر ق. بطرس وإيمانه أنه هو المسيا الآتي لم يكن مصادفة ولا من فراغ، فالتلاميذ جمعوا من الأدلة في حياة المسيح ما يؤكد لهم أنه المسيا، ولكن كل مرة يحاولون أن يثيروا هذا الافتراض يمنعهم المسيح حتى يمكنه أن يتمّم خدمة ابن الإنسان” أو “العبد المتألم، ويحمل بالفعل خطايا الأمة وازدراءها من واقع حي، بمعنى كشف واقع الشعب والرؤساء في علاقتهم المتدهورة بالله. لذلك تركهم المسيح ليتصرفوا بتلقائيتهم دون أن يظهر نفسه ليتحمل بالفعل ما كان يتحمله الله في سلوكهم وضمائرهم حتى النهاية. فإخفاء المسيح لمسيانيته أرهق العلماء للغاية وقالوا فيه ما قالوا، ولكن الأمر واضح، إذ يلاحظ القارئ أن المسيح كرر كثيراً وعن عمد أنه يعمل أعمال الله ويقول أقوال الله ولا يعمل أو يقول شيئاً من نفسه: + «أنا أتكلم بما رأيت عند أبي أنا إنسان قد كلّمكم بالحق الذي سمعه من  الله.» (يو 8: 40,38)

+ «فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو ولست أفعل شيئاً من نفسي بل أتكلـم بهـذا كما علمني أبي. والذي أرسلني هـو ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه.» (يو 29:8)

+ «تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي.» (يو 7: 16 و17)

يرفضون وبمعنى بل هو إنما جاء ليعطي صورة كاملة الله عملياً في كل شيء، ذلك لينبه الشعب الجاهل أنهم برفضه الله ، وبعدم السماع له فهم يسدون آذانهـم عـن صـوت الله . أعمق فإن الله أرسل ابنه متجسّداً وله كل ما لأبيه، أولاً ليكشف عصيان هذه الأمة الله وعقوقها وعدم صلاحية رجال الدين ورؤساء الشعب أن يحملوا الأمانة للعهد الجديد، ذلك قبل أن يعمل عملية الفداء العظمى ليدخل ملء الأمم إلى حظيرة الله. وهذا الكلام واضح تماماً في مثل الكرامين الأردياء الذين قتلوا أنبياء الله وعادوا وقتلوا ابنه الوحيد فأصبحوا مرفوضين، وقد أحرجهم المسيح بهذا المثل حتى نطقوا هم بأنفسهم الحكم على أنفسهم، إذ بعد أن قال مثل الكرامين قال للكتبة والفريسيين: «فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين؟ قالوا له أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً ويسلم الكرم (ملكوت الله) إلى كرامين آخرين (الأمم) يعطونه الأثمار في أوقاتها …» فرد المسيح عليهم بعد أن فضحهم: «لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم (بمعنى أن ملكوت الله في العهد الجديد هو أصلاً لهم حسب الوعد) ويعطى لأمة تعمل أثماره.» (مت 21: 33-41)

18:9 «وفيما هو يصلي على انفراد كان التلاميذ معه. فسألهم قائلاً: من تقول الجموع أنّي أنا؟»

يلاحظ هنا أن ق. لوقا لاعتباره أن ما سيأتي من اعتراف بإيمان المسيا ربما يكون أخطر عملية في مراحل التعليم، لذلك وضعها في موضع الصلاة، في حين أن ق. مرقس جعل هذا الاختبار وهم سائرون في الطريق نحو قيصرية فيلبس. من ذلك نفهم أن التقليد الذي أخذ منه ق. لوقا أحاط هذه القصة بهيبة الصلاة لخطورة أهميتها. ويلاحظ أنه يبدو أن المسيح كان يصلي مع التلاميذ، وهذه أول مرة نسمع بها أن المسيح كان يصلي مع تلاميذه. وواضح أن هدف صلاة المسيح للآب في حضرة التلاميذ أن يفتح بصيرتهم ويعرفهم ما هو الملكوت الذي يسعون إليه ويخدمونه، ويكشف عن بصائرهم حقيقة يسوع! وقد جاءت استجابة الصلاة في الحال. والمسيح جعل سؤاله تدريجياً إذ ابتدأ من معرفة الناس عنه لأن رسالة المسيح بالأساس قائمة على مدى إدراك الشعب للمسيح. فإن استقرت معرفتهم على أنه “المرسل’ من الله والحامل لصورة جوهره: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو 9:14)، يكونون قد أدركوا في الحال أنه هو الآتي الحامل لهم الخلاص والحياة الأبدية: «إلى من نذهب . كلام الحياة الأبدية عندك» (يو 68:6). فرسالة المسيح متوقفة على قبول إدراكهم لحقيقته وبالتالي رسالته. 

19:9 «فأجابوا وقالوا: يوحنا المعمدان. وآخرون إيليا. وآخرون إن نبيا من القدماء قام».

القول بأنه يوحنا المعمدان هو الذي كان يملأ أفكارهم، وواضح أنه نفس ما وصل آذان هيرودس القاتل، والسبب طبعاً أن موت المعمدان فجأة أحدث هزة قوية وسط الشعب، وكانوا ينتظرون ماذا سيحدث بعد ذلك، فقيامة المعمدان من الموت كانت منتظرة، وهو ما فهمه هيرودس أيضاً. أما قولهم عن إيليا فهو تقليد يهودي قديم، وهو هنا يتناسب مع أعمال المسيح الإعجازية التي رأوها بالعين الكليلة أنه ربما يكون إيليا، وهذا معناه أن رسالة المسيح لازالت تحبو في قلوبهم بإيمان بدائي. أما قولهم بأن أحد الأنبياء القدماء قد قام، فهو أيضاً تقليد قديم عن قيامة جزئية تكون أيام المسيا.

ولكن المسيح بسماعه هذه الاحتمالات علم أن رسالته المسيانية لا تزال مخفية.

20:9 «فقال لهم: وأنتم، من تقولون أني أنا؟ فأجاب بطرس وقال: مسيح الله».

واضح أن إعادة المسيح للسؤال نفسه على تلاميذه معناه أنه غير راض عن استجابة الشعب لشخصه : والآن يطلب من التلاميذ ما هو أصح باعتباره معهم ليل نهار.

استجابة بطرس كانت أسرع من بقية التلاميذ، ولكن يبدو أنه كان ينطق بلسان كل التلاميذ.
«مسیح الله » وقالها ق. يوحنا في إنجيله: «قدوس الله » (يو 69:6). ولكن لم يكن بطرس أول المعترفين، فالملاك قالها ساعة البشارة: «إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب» (لو 11:2)، وعرفها سمعان الشيخ القديس وأعاد روايتها عنه ق. لوقا: «وكان قد أوحى إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب» (لو 26:2). كذلك فإن الشياطين عرفوه: «فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح.» (لو 41:4)

ويلاحظ أن ق. لوقا أضاف أكثر من ق. مرقس وق. متى أنه ليس “المسيح” فقط، بل مسیح الله معتبراً أنه ممسوح من قبل الله لعمل الله. ويصر ق. لوقا دائماً على إضافة المسحة الله، فنسمعها في نهاية الخدمة: «خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو المسيح مختار الله» (لو 35:23)، وتأتي في اليونانية “إن كان هو مسيح الله المختار” وكأن مسيح الله أو مختار الله ممسوح ومختار للآلام والموت، الأمر الذي أوضحه المسيح في إنجيل ق. لوقا بعد اعتراف ق. بطرس بقوله: «ينبغي أن ابن الإنسان يتألم كثيراً ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم» (لو 22:9). وهذه حقيقة لصقت باسم المسيح، فمعروف لنا عن إحساس قوي أن كلمة مسيح الله تعـني طريـق الـفـداء بـالآلام والمـوت. فكلمـة مسيح تحمل عنـدنا رنين الألم والموت، هذه أظهرها لنا ق. لوقا بوضوح وكأنه سلمها للكنيسة لتكون تقليداً وقد كان. ففي فكرنا دائماً أن اسم “المسيح” يعني حامل الألم والدم وليس مجرد الموعود أو صاحب الوعد. وقد انتقل هذا التقليد إلى الرسّامين، فأهم صور “المسيح” تأتي في موضع الألم وإكليل الشوك والدم والمسامير في اليدين والرجلين، ولا يذكر مسيح الفرح والمجد إلا في حدود القيامة.

والذي أعطانا هذا التقليد ليكون هو إيماننا بالدرجة الأولى هو تعليق المسيح المباشر على اعتراف بطرس أن المسيح ينبغي (must) يتحتم أن يتألم كثيراً “بمعنى أن اسم المسيح” يحمل الآلام الكثيرة. ولكن العجيب والمهم أنه انتقل إلينا: قاسم الإنسان “المسيحي” معناه حتماً حامل الصليب الذي يتمادي القوم ويوشموه على الذراع والكف، بمعنى أن الإنسان قد دخل في زمالة الآلام مع المسيح، ووصفها المسيح قانوناً روحياً: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي (أي يدخل الملكوت) … يحمل صليبه كل يوم ويتبعني» (لو 23:9)، فالجلجثة دخلت ضمن قصة ميلادنا الثاني بالروح القدس، فهي برزخ العبور إلى الملكوت. 

5 – رد المسيح على اعتراف بطرس (22,21:9)

(مت 17:16-21)
(مر31,30:8)

تمهید:

هذه اللحظات التي دعت المسيح أن يسأل عن رأي الناس فيه ثم رأي تلاميذه خاصة، تعبر عن دخول المسيح في منطقة حرجة للغاية من حياته وعمله، فهو بحسب إنجيل ق. مرقس (الذي نأخذه دائماً كقائد للتحرك العام المسجل في الإنجيل)، نجد أن هذا الحرج بدأ يظهر في منتصف إنجيل ق. مرقس تماماً في الأصحاح الثامن العدد (22)، أي منتصف الإنجيل وبالتالي منتصف الرواية المأساوية. فالمسيح سأل تلاميذه عن رأي الآخرين ورأيهم ليتحسّس مدى احتمالهم للبدء في الإعلان عن آلامه وموته. وبالفعل ما أن نطق ق. بطرس بالحقيقة «أنت هو مسيح الله» حتى وضح أن العلامة قد بدأت، وهي استعداد التلاميذ أولاً. لأن كلمة “المسيح” كما سبق وقلنا تحمل معنى الآلام والدم. فأول عمل عمله المسيح أن انتهرهم أي أوصاهم بشدة أن لا يذكروا ذلك لأحد حتى لا يثيروا حوله الجو وتتعكر الكرازة الهادئة التي كان يقودها المسيح. ويلاحظ القارئ أن المسيح بدأ يسأل ذلك بعـد حادثة إطعام الجمـوع الـتـي بعـدهـا هـاج الجمع وأرادوا أن يمسكوه بالقوة ويعلنوه ملكاً لإسرائيل (يو 15:6)، الأمر الذي يبدو أن تلاميذه أيضاً شاركوا الشعب في رأيهم، لولا تدخل المسيح السريع وأمره للتلاميذ أن يركبوا السفينة ويعبروا البحيرة وحدهم، وأسرع هو وفض الجماعة وصرفها بسلام وذهب يصلي على الجبل. لم تذكر الأناجيل كلها هذه الأمور، لكنها واضحة للغاية لمن يحلل الحركات والكلام.

هنا في إنجيل ق. لوقا يبدو أن ق. لوقا قد فهم ذلك إذ أسقط الكلام الذي يفصل بين الخمس خبزات والخمسة آلاف وبين سؤال المسيح للتلاميذ عن من يقول الناس عنه، فظهر هذا السؤال بعد معجزة الخمس خبزات والخمسة آلاف مباشرة بنوع من الوعي الروحي الشديد حتى ينتبه ذهن القارئ دون أن يتدخل هو بالشرح. فواضح أن الجمع الذي أكل وشبع بهذه الطريقة المذهلة . خمس خبزات وسمكتين، فهم أن هذا هو المسيا دون أي شك. ولكون التلاميذ شاركوهم في هذا الرأي، عاد المسيح بعد فترة لم يذكرها ق. لوقا ـ يسألهم عن رأي الناس ورأيهم. فبهـدوء أعطاهم الفرصة أن يعبروا عن فكرهم، ولكن حذرهم من الإثارة لئلا يفسدوا عليه المسيرة. 

ثم أسرع المسيح وفي الحال أعطاهم فكرة عن ماذا يعني أن يكون المسيح هو “المسيا”، لأنهم فهموا ذلك عن طريق المعجزة والكلام وأراد أن يعلن لهم كيف يمكن أن مسيا يصير ملكاً. وبدأ يكشف لهم آلامه وموته، ولكن لئلا يخوروا أكد لهم قيامته بعد ثلاثة أيام. ثم أردف بعد ذلك مباشرة بحقيقة أن عليهم هم وعلى كل من أراد أن يتبعه ويصير من مختاريه الذين يملك عليهم، أن يحمل أيضاً صليبه، بمعنى يتلقى الاضطهاد والآلام والموت ليدخل مملكة المسيا الحقيقية في السماء. فبدون صليب ليس سر إكليل.

بقي أن نشرح التحول السريع من الاعتراف بالمسيح أنه مسيا على فم بطرس ثم الرد مباشرة من المسيح باعتباره ابن الإنسان، فقد لوحظ أن المسيح يلجأ لوصف نفسه بلقب ابن الإنسان كلما جاء ذكر الآلام أو وصف اتضاعه أو الإساءة إليه أو الرفض عوض الاعتراف به كابن الله.

21:9 «فانتهرهم وأوصى أن لا يقولوا ذلك لأحد».

‏ «انتهرهم وأوصى»: 

وتجيء هنا بمفهوم الشدة، بمعنى: عنف، ولكنها أتت في (56:8): «فأوصاهما أن لا يقـولا لأحـد» وقد جاءت سابقاً في (35:4) بالنسبة للشياطين بنفس العنـف.

ولكن هنا كلمة انتهرهم  لا تأخذ صورة التعنيف بل القصد منها التوعية بشدة أو التوجيه، خاصة وأنه أورد معها كلمة أوصى «فانتهرهم وأوصى » وهنا يلزم أن يأتي الكلام بعد ذلك في صيغة المصدر وليس فعل الأمر أن لا يقال ذلك لأحد، لأنه اعتبر أن الذي عرفه بطرس وقاله هو على مستوى الاعتراف وغير قابل للإشاعة، لا لأنه غير حقيقي ولكن لأنه حق، وإنما ليس هو ميعاد إذاعته وهو الآن فوق قدرة الاستيعاب عند الناس.

22:9 «قائلاً: إنه ينبغي أن ابن الإنسان يتألم كثيراً، ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويقتل، وفي اليوم الثالث يقوم».

إن الكلام هنا متصل مباشرة بما قيل في الآية السابقة، لذلك جاء الاتصال في قائلاً” أي شارحاً سبب عدم إذاعة الحقيقة السالفة. ويجيء هنا لقب ابن الإنسان لأن العمل هنا يختص بالمسيا أو استعلانه أنه هو المسيا، وهذا سبب انتهاره لهم لأن زمان استعلان المسيا لم يأت بعد، ويلاحظ عادة فيما يختص بالآلام المزمعة وهي مسيانيته أنه فضل أن ينسبها لنفسـه كـابن الإنسان أي في حالة استعلانه، وإن كان قد نسب الآلام إلى نفسه كـ يسوع المسيح” في (لو 26:24): «أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده» كما نسبها إلى نفسه شخصياً كيسوع المسيح بعد قيامته هكذا: «وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث» (لو 46:24)، فهو إنما يذكر صميم عمل يسوع المسيح حسب المشيئة الإلهية.

«يتألم كثيراً»: πολλὰ παθεῖν

وتعني يتألم بأشياء كثيرة، ولهذا فإنها تجمع معاً ما عامله به اليهود والكتبة والفريسيون مع ما لاقاه من معاملة السنهدرين بالضرب والإهانة بجميع صورها، فجميع الآلام معاً استحضرها المسيح بكلمة πολλὰ ، لذلك أضاف إليها مستدركاً الرفض على طول المدى ἀποδοκιμασθῆναι. فالآلام والرفض تجيء في وصف المسيح معاً، لأن آلام الرفض إذا شعر بما القارئ يجدها مفجعة وموجعة أكثر من الآلام بالنسبة لنفسية المسيح الذي جاء ومعه الأخبار السارة والمصالحة والتبني!! «محتقر ومخذول من الناس» (إش 3:53)، وقد جاءت في النسخة العبرية بما يتوافق مع الرفض.

«ويقتل»:

وقد تحولت هذه الكلمة في الطقس لكلمة يصلب لأن كلمة يقتل غير مقبولة  تقليدياً، فهو لم يقتل ولكنه صُلب حتى الموت في التعبير الكنسي.

«يقوم»:

وصحتها في الترجمة: “يقام” وبآن واحد “يرفع”.
هنا جاءت هذه الكلمة عوض التي جاءت في إنجيل ق. مرقس. وقد جاءت في المبني للمجهول ولم يلتفت إليها المترجم “يرفع أو يقام” للتعبير عن تدخل الآب.

6 – موقف التلاميذ من الصليب بعد ارتفاع المسيح (23:9-27)

(مت 24:16-28)
(مر1:9-34:8)

الكلام هنا للتلاميذ وكل من سيتبع المسيح. وهو يختص بموقفنا جميعاً من الصليب والآلام، فهي رسالة المسيح التي جاء ليمررنا فيها معه لحساب قيامته وصعوده ونصرته وملكوته، فنحن إن أردنا أن نشترك في قيامته وصعوده ونصرته يتحتم علينا أن نجوز معه آلامه وصليبه التي هي أصلاً لنا وحدنا ولكنه حملها معنا. فنحن نكون أمناء لصليب المسيح وموته إن كنا قد وضعنا في قلوبنا أن نموت معه كل يوم باستعداد الشهادة والاستشهاد: «فلينكر نفسه ويحمل صليبه (استشهاد) كل يوم ويتبعني» ولكن استعداد بذل الذات كل يوم يؤكد خلاصها كل يوم، أما الذي يتهرب من الشهادة واستعداد الاستشهاد متوهماً أنه يخلص نفسه، فإنه يكون في الواقع قد حضرها للدينونة والهلاك لأن ذاته لـن تخلصه، وتفضيله الحياة الحاضرة على الحياة الأبدية ينزع عنه الحياة الأبدية كحق لمن يؤمن بموت المسيح ويشهد لإيمانه باستعداد موته معه، فإنه لا يبقى له حق في القيامة والبقاء لحياة أبدية. إنها خدعة هذا العالم التي يبثها الشيطان بحكمته القاتلة، فالهروب من الضيقة والموت هو بعينه الهروب من الحياة والسعادة الأبدية، فخدعة الشيطان تكشفها حقيقة موت المسيح وحصوله للإنسان بموته على حياة أبدية: فهروب الإنسان من إماتة الذات واحتمال آلام هذا الزمان معناها “مسيحيا” الهروب من شركة آلام المسيح وموته وبالتالي ضياع حق الحياة الأبدية. فالسؤال الذي يضعه المسيح في الآية (25) جدير بأن يكون قاعدة تفكير أساسية في علاقتنا بالمسيح والعالم!! لأنه إن قبلنا المسيح وبعنا العالم صارت لنا حياة أبدية، ولكن إن قبلنا العالم حتى صار لنا كل ما في العالم ورفضنا المسيح نكون قد حكـمنـا علـى أنفسـنـا بـالهلاك الأبـدي. والسـؤال المصـري يضـعه المسـيح هكـذا: 

هل العالم أم المسيح؟ قرر من الآن والذي تقرره سيحكم لك أو عليك.

ثم يعود المسيح في الآية (26) يحكي عن مصير إنسان اختار العالم وباع المسيح لأنه استحى بأن يدعى مسيحياً ورفض أن يحمل عـار الصليب والمصلوب، إذ بالنهاية يرفض المسيح أن يعتبره ابنه أو تلميذه أو حتى تابعه. وهكذا فإن جحد المسيح هو جحد الحياة الأبدية، والعالم ورئيس العالم لا يعوض الإنسان عن حبه للعالم وجحده للمسيح، بل يذهب الإنسان من يوم إلى يوم يحس بشناعة اختياره ويطلب الموت باختياره. أفمـا كـان مـن الأفضل أن نحتمل تهديد الموت ونقبل أن نموت ونحن أمناء للمسيح الذي فدى حياتنا من الموت بموته؟

وفي الحقيقة حينما يفرط الإنسان في حياته ويقبل الموت إيماناً وحباً للمسيح، فهو في الحقيقة يسلم للمسيح حياته ويقدم للمسيح موته شهادة إيمان وحب، وبهذا تقبل حياته وتعوض بالأبدية ويقبل إيمانه ويعوض بشركة الحياة مع المسيح.

ثم عاد المسيح أخيراً ليعطي توكيداً: كما أن الإنسان في حاضر حياته الآن لا يرى ما يعوضه عن أن يهلك ذاته ويقبل الاستشهاد لحساب المسيح، كذلك يؤكد أنه الآن يوجد بعض التلاميذ وفي حياتهم الحاضرة يرون الملكوت ويتحققون صدق قول المسيح!

23:9 «وقال للجميع: إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم، ويتبعني».

يتبع المسيح يعني أن يدخل الطريق المؤدي إلى الملكوت، أي يقبل دعوة الشركة في الحياة الأبدية مع الآب ويسوع المسيح، ولكن ليس الألم مجرد كارت دخول بل هو التعبير الصادق عن الإيمان، الإيمان بمن نتألم معه ونسعى إليه. ولكن الذي يريده المسيح من إعلانه الصعب هذا هو أن الملكوت الذي يتخيله التلاميذ على أنه مجد وعظمة بحد ذاته إنما الطريق إليه هو عبر آلام كثيرة ورفض، وأنني سائر إليه وأنـا عـالم بآلامه، والموت يشكل لي باباً أدخل منه إلى الحياة الأبدية. لذلك تحتّم إن أتيتم وراء المسيح أن تعبروا الآلام وتدخلوا من نفس الباب.

فالألم في المسيح تزكية وإيمان، واحتماله بصبر برهان أكيد على استحقاق الراحة الأبدية، وقبول الموت بالمشيئة مسبقاً داخل القلب يؤكد الدخول إلى الحياة الأبدية. إن السر الأعظم في حياة المسيح هو ارتضاؤه بالمشيئة أن يتألم بالألم الذي يؤدي إلى الموت. وعمق هذا السر فائق وعسير جداً أن نستوعبه ومستحيل علينا استحالة كلية أن ندرك عمقه ومعناه إلا إذا عبرناه. لأن شرح سر الصليب بآلامه لا يمكن أن نبلغ حقيقته الجوهرية إلا إذا عبرنـا عليـه ونلنـا مـا وراءه. فسر المحـد والخلاص والحيـاة الأبدية والشركة مع الابن الوحيد في ما هو ميراث الآب، هذه السعادة الأبدية تحمل وحدها قوة الصليب والآلام. لذلك لا يطمع الإنسان مهما كان أن يعرف سر الصليب إلا إذا حمله بآلامه، ولكن لكي يدرك قوته الفائقة فهي قائمة في نوع السعادة والفرح الأبدي الذي ينتظره بالإيمان والرجاء.

وإني انتهز هذه الفرصة أيها القارئ العزيز لأكشف سر وصايا المسيح كلها، فوصية المسيح تجدها بالأمر، وهذه الصيغة هي أول حركة سرية في وصايا المسيح إذ تعني أنه لا مفر للإنسان إن هو أراد الله والحياة الأبدية فلابد أن يخضع للوصية لأنها أمر. ولكن من الوجه الآخر الله لا يعطي أوامره جزافاً، بل إن كان الله قد أمر أمراً فهو حتماً قابل للتنفيذ، وبالتالي يحمل قوة الأمر، أي يحمل قوة الله نفسه الذي أمر أمراً أن تصنع هذه الوصية أو تلك. بمعنى أنه بمقدار ما أن . وصية الله هي إلزامية فهي حتماً تحمل قوة تنفيذها داخلها – فمثلاً إن سمعت المسيح يقول: أحبب عدوك وبارك لاعنك، فإذا قرأتها على أنها مجرد تعليم فمن البداية تجدها صعبة ومستحيلة حتى لمجرد قبولها شكلاً، ولكن إذا أخذتها باعتبارها وصية إلهية خرجت من فم الله تبتدئ تحس أولاً أنها وصية مهيبة حقتًا وتحمل أفكاراً وتدبيراً ومستقبلاً للإنسان أعجب ما يكون حيث لا يبقى للإنسان عدو! بعد ذلك إذا بدأت بالضمير أولاً أن تقبلها، بمعنى أن تحاول أن تنفذها تجد ما هو أعجب، إذ أنها تنفتح عليك ككلمة الله لتعطيك قوة على التنفيذ، فإذا تشجعت معتمداً على صدق وعود الله وابتدأت تنفيذها تنجح وتخرج بتجارب وتدرك شيئاً من سر حب الله الأعظم الذي قال هذه الوصية وغيرها، كمن يقول لك نفذ وأنا أعطيك القوة، نفذ وأنا ضامن نجاحك، نفذ وسينكشف في قلبك معنى الحب الحقيقي والحياة الأبدية: «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب .» (مز 8:34)

 ومن هنا يظهر لنا بقوة معنى “تنكر ذاتك”، فالمسيح وضع إنكار الذات قبل “حمل الصليب”، فعلى أساس الكلام الذي قلناه والذي انتهينا فيه إلى أن الوصية هي أمر صدر من الله وهي تحمل قوة تنفيذها لمن صدق وآمن أن أوامر الله صالحة وللخير المطلق، فإن أنت اعتمدت على الله وبدأت تنفيذ وصية «احمل صليبك واتبعني» تجد الوصية نفسها تعطيك القوة المطلوبة لتنفيذها حتى النهاية. وهذا هو بعينه إنكار الذات!! فإنكار الذات هو الاعتماد الكلي على الله!! في كل وصية بل وفي كل شيء. وطبعاً الآن يتضح لنا من الذي سينجح في حمل الصليب ومن سيفشل، فكما هو واضح هنا، إن سر وصية المسيح «احمل صليبك واتبعني» واقع كله بكل ثقله على “إنكار الذات”. والآن أيضاً عرفنا تماماً أن «انكر ذاتك» أو إنكار الذات هو بعينه الاعتماد الكلي على الله. لذلك نجد أن الإنسان الذي يعتمـد علـى المسيح ويلتجئ إليـه في كـل حياتـه هـو الإنسـان الـذي ينكـر ذاتـه دائمـاً.

 وجيد أن يكون هذا اختبارنا المسيحي الأول أن نمارس الاعتماد على الله قليلاً قليلاً حتى نسلمه الحياة برمتها: «لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله.» (رو 14:8)

كذلك لا يفوتنا هنا أن نفحص الوجه الآخر: فإذا “ لم تنكر ذاتك” ماذا يكون؟ حتماً لا تحتمل الصليب في أقل ألم أو أقل مهانة أو خسارة، وبالتالي فالطريق إلى الملكوت مسدود، قـد سـدته الذات بشهواتها وغرورها وجبنها.

24:9 «فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي فهذا يخلصها».

هذه الآية مرتبطة بالسالفة وشارحة لها، وبمنتهى البساطة يقول المسيح: إن الذي يضحي بأمر الحياة الحاضرة من أجل المسيح حبا وكرامة، ومن أجل فقراء وضعفاء المسيح، ومن أجل الإنجيل أي الكرازة بالبشارة المفرحة، فإنه يحسب أنه احتفظ لنفسه بالحياة الأبدية. أما الذي احتفظ بصحته وماله وقوته لذاته فقط حتى لا يخسر شيئاً من حياته الأرضية فهو قد حكم عليها في الدينونة بالهلاك الأبدي. أو بمنتهى الاختصار هي معادلة: إما حياة هنية هنا وإما حياة هنية هناك. هذا هو التصور الأول ولكن الحقيقة المدهشة أن الذي عاش بالتقوى هنا وبذل من فكره وعمله وحياته وماله للإنجيل ومن أجل الإنجيل فقد انتهى إلى حياة هنية هنا وأقصى الهناء هناك. ومثل هذا الحكيم تحتاج إليه الكنيسة أشد الاحتياج فهو كنزها الروحي الإنجيلي الذي في الحقل، وهو كنزها المادي الذي يكيل للفقير بالكيل الملبد المهزوز بنفس الكيل الذي يكيل به له من الروح والنعمة والسعادة والصحة. إنهم قليلون جداً ولكنهم عظماء جداً.

25:9 «لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله، وأهلك نفسه أو خسرها؟»

هنا يرفع المسيح نظره فجأة نحو إنسان عملاق استطاع أن يغتني بكل غنى العالم بقوته ومهارته وفنه وذكائه فيجيء المسيح هامساً في أذنه: ماذا فعلت من أجل نفسك؟ وهنا: «أهلك نفسه أو خسرها» يقصد بهما المسيح أن الإنسان مال نحو الخطية والفساد. فهلك وخسر الحياة الأبدية. 

لاحظ عزيزي القارئ أن المسيح لا يزال يخيرك بين الربح والخسارة، ووضع الربح على مستوى كل غنى العالم وأمجاده، ووضع أمامه نفسك العظيمة التي على صورة الله خلقت، والتي تمنها المسيح بدمه ففداها لتصبح غنيمته يرثها له ويورثها ما له. نعم، فوجد أن نفسك أعظم من العالم كله!! هذا عنده هو بحساب دمه الذي سفكه على الصليب من أجلك.

علماً بأن الذي ربح المسيح يكون قد ربح الحياة هنا وربح نفسه وربح الحياة الأبدية، وكأن الاختيار هو: من هو الذي تضعه هـدف حياتك؟ نفسك أم المسيح؟ فإن كان نفسك فقد خسرت المسيح وخسرت نفسك أما إذا كان الذي تضعه هدفاً لك هو المسيح فتكون قد ربحت المسيح حقا وربحت نفسك والحياة الأبدية.

والمسيح أعطانا درساً شامخاً مجيداً حينما خيره الشيطان بين أن يعطيه ممالك العالم كلها بأن يسجد له ولو سجدة واحدة أو الموت الزؤام على الصليب؟ فاختار الصليب، وإذ بهذا الاختيار يخلص العالم كله، كل من لا يسجد للشيطان ولا سجدة واحدة، يخلصه من الخطية والموت والهلاك، ويورثه الحياة الأبدية.

26:9 «لأن من استحى بي وبكلامي، فبهذا يستحي ابن الإنسان متى جاء بمجده ومجد الآب والملائكة القديسين».

إن عملية القضاء (الدينونة) العظمى التي إما يرتفع فيها الإنسان إلى مصاف الملائكة بالفعل أو ينحط عن مركزه الإنساني المحمل بالملامح الإلهية ليهبط إلى مستوى الحرمان الكلي من كل مراحم الله ونعمه، نقول إن هذه العملية، عملية الدينونة الأخيرة، هي وليدة عملية أخرى أعظم، هبط فيها المسيح وهو ابن الله إلى مستوى العبد وسلّم نفسه بإرادته إلى الموت ليحمل خطايا العالم على الصليب الذي حسب أنه أعظم عار بحسب التقليد اليهودي. والإنسان منذ أن يتحرك وجدانه ويدرك مركزه من الله والعالم وهو يوازن بين هاتين العمليتين، لأن موت المسيح على الصليب صار هو الكفارة عن كل الخطايا وبالتالي أساس كل النعم في الحياة الأبدية، ولكن هذا الصليب نفسه الذي تم به الخلاص هو بذاته موت العار والفضيحة التي قبلها المسيح بالجسد من أجل كل خطاة العالم. فإما أن نؤمن بالمسيح ونشترك في هذا العار لننال غفران الخطايا والحياة الأبدية، وإما أن نستثقل هذا الإيمان على خلفية العار أي الصليب فتبقى خطايانا في عنقنا نقف بها في مجلس القضاء والدينونة العظمى لتشتكينا أمام عدل الله.

والآن على الإنسان أن يختار : إما قبـول عـار الصليب والإيمان بمن صلب عليه وتخليص كـل ديـن ودينونة الخطية: «لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح» (رو 1:8)، وإما يستحي الإنسان من عار الصليب واسم المصلوب وإنجيله، وبهذا يختار لنفسه بقاء كل دين خطاياه غير مغفورة حيث ترفع لميعاد قضاء الدينونة.

ومن الآن أعطانا المسيح الخيار: إما الصلح مع الآب بالصليب، وإما دخول الدينونة بدون مصالح حيث يأتي المسيح في استعلان محده الذي كان قد أخفاه عن عيوننا، ومحد أبيه الذي اختفى وقت الصليب مع جوقات الملائكة مسبحين يرنمون لعدل الله ورحمته. فأولاد المسيح حينئذ يجرون نحوه فرحين هاتفين محداً محـداً والمسيح وجهـه نحـوهـم أكثـر فـرحـاً، أمـا الـذين استحوا منـه ورفضـوه ورفضـوا إنجيلـه فـلا يمكن أن يتصور أحد مقدار خزيهم بل وخزي المسيح منهم كونهم أهانوه وفضحوه ونكلوا بأولاده مجاناً.

27:9 «حقا أقول لكم: إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله».

وبعد هذه التلميحات عن ملكوت الله أصبح اشتياق التلاميذ شديداً أن يروه أو حتى يعرفوا ما هو. صحيح أنهم آمنوا أن كلام الحياة الأبدية هو عند المسيح وحسب (يو 68:6)، فما هو ملكوت الله؟ المسيح هنا سبق استعلان المجد النهائي وأعطى بعضاً منهم أ أن يروه وهم بطرس ويعقوب ويوحنا في رؤيا التجلي، حيث ظهر المسيح ممجّداً وسط قديسيه موسى وإيليا. الأول يمثل الناموس والثاني يمثل النبوة، والاثنان يشهدان للمسيح.

ولكن أيضاً حدثت رؤيا عامة أخرى بقيامته من الأموات إذ ظهر للاثني عشر والمريمات ويعقوب خاصة وأكثر من خمسمائة آخرين. ويكون بهذا أن المسيح نفسه هو ملكوت الله أو استعلان مملكة الله.

ويلاحظ أن المسيح يقول: «حقا أقول لكم» بعد أن أعطى توصيف لملكوت الله، بل وبعد أن أعطاهم سر معرفة الملكوت هذا: «لكم قد أعطي أن تعرفوا ملكوت الله» (لو 10:8). وقد أوضح ق. بطرس أنه يعرف سر ملكوت الله حينما قال للرب أنت هو «مسيح ا الله»

ثم عندنا ركيزة جيدة في قوله للفريسيين: «لا يأتي ملكوت الله بمراقبة» (لو 20:17)، إذا فهو حدث فائق عن الزمن والملاحظة، ثم قوله لهم: «ها ملكوت الله داخلكم.» (لو 21:17)

فقول المسيح: «ها ملكوت الله داخلكم» هو الموازي لقول ق. بولس: «المسيح يحيا في» (غل 20:2)، والموازي لقول المسيح نفسه: «أنتم في وأنا فيكم» (يو 20:14). فحين يقول المسيح إن ملكوت الله داخلكم فهذا يعني قبول المسيح ليملك على القلب والحياة: «فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في» (غل 20:2). وحين يقول المسيح إن: «ملكوت الله لا يأتي بمراقبة» يعني أن افتقاد الله بروحه والإحساس بوجود المسيح أمر لا يمكن أن نتتبعه، فزيارات النعمة كالروح القدس يهب حيث يشاء (يو 8:3). بمعنى أن الله دائماً هو صاحب المبادرة ومن العسير على الإنسان أن يضع لأعمال الله وزيارات نعمته ترتيباً زمنياً أو أصولاً أو حتى وسائل. ولكن في ظننا أن كثيراً منا ذاق حال زيارة النعمة وامتلاك الله للقلب. فهذا ملكوت الله داخلنا. 

وقصد المسيح الأساسي من هذه الآية هو إعطاء صورة واقعية للملكوت حتى لا نظن بسبب ضعفنا أن الملكوت بعيد أو صعب أو أنه ليس للإنسان أن يراه أو يذوقه. فملكوت الله رئي في التجلي بلا نزاع ورثي في القيامة بكل تأكيد ورئي لاستفانوس حيث رأى المسيح قائماً – عن يمين الله !!

7 – تجلي المسيح (28:9-36)

(مت 1:17-8)
(مر 9: 2 – 9)

لا نستطيع أن نفرق بين ما فات من الآيات الخاصة بملكوت الله وهذا الحدث العظيم: التجلي. والملاحظ بشدة أن المسيح أراده أن يكون في دائرته الخاصة جداً مع ثلاثة تلاميذ فقط حينما أخذهم وصعد بهم إلى قمة الجبل، على نمط قمة جبل موسى حينما تراءى لموسى ليضع أسس العلاقة بين يهوه الله العظيم وبين شعب إسرائيل بعد أن أخرجه من أرض مصر. والموضوع يتكرر، فنحن على أبواب خروج أعظم وأعلى، خروج من أورشليم القديمة بذكرياتها وتاريخها الذي قارب أن يدخل في اللاموجود، ونحن سمعنا الآن وعلى التو أن موسى وإيليا قد ظهرا مع المسيح وتحدثا عن “الخروج” المزمع أن يعمله المسيح خارج أورشليم. الخروج الأول صاحبه ذبيحة حمل الفصح التاريخية والرمزية بآن واحد، وها هو الخروج الثاني والأصيل يقوم ويتأسس على حمل الله الذي يرفع خطية العالم كله وليس فقط خطايا شعب تنكر لإلهه.

التجلي هنا هو حدث مسبق للصليب يشرحه بالسر ويعلنه في العلانية، فالحمل الوديع على وشك أن يرفع، والشعب برؤسائه يصرخون اصلبه اصلبه. وما كان واجباً أن يرافق الصليب من محد التجلي كذبيحة إلهية عظمى قدمت للفدية في أعلى وأوسع معانيها، سبق المسيح وقدمه في التجلي كاستعلان ما كان لابد أن يكون على الصليب. ومن جهة أخرى فإن النور والبهاء والمجد المرافق للتجلي حسب جزءاً منظوراً ومسبقاً لاستعلان مجيئه الثاني بعد أن يكون قد أعد لمختاريه مكاناً ليأتي ويأخذهم ليكونوا معه في مجده. فحضور نخبة من التلاميذ في التجلي كان إيذاناً لاستعداد قديسيه وملائكته للحضور في الظهور الثاني بكل أمجاده.

على أن موسى وإيليا خرجا من العالم خروجاً خاصاً جداً، الأول رقد فوق جبل نبو، والثاني أخذ في مركبته النارية حيا، باعتبار أن موسی كان لابد أن يموت فهو ممثل الناموس الذي يتحتم عليه أن يوقف ليشاهد تكميله على يدي آخر مثله، أما إيليا فهو يمثل الشعلة النارية النبوية التي ستظل حية لتحضر في المعمدان في الظهور الأول في العالم لتأسيس الملكوت بالروح في صورته الزمنية.

كان لابد أن يأتي بعد موسى نبي آخر مثله يسلمه الناموس ليضع مع تلاميذه كماله ويضع ختمه عليه، وكان لابد أن تتجمع النبؤات كلها في يدي الآتي بروح إيليا لتشهد للنبي الآخر المحسوب أن شهادته «هي روح النبوة» (رؤ 10:19)، ويكمل معها بدوره تأسيس الكنيسة لتحمل الملء: المسيح والرسل والأنبياء «ملء الذي يملأ الكل في الكل» (أف 23:1)، «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية.» (أف 20:2)

وإن كان لحزننا أن التلاميذ لم يستطيعوا استيعاب كل علامات خروجه الذي أكمله في أورشليم، ولا حتى استطاعوا أن يفهموا تحليه معهم، ولكن كان يلزم أن تؤسس هذه الأساسات، لتستلمها كنيسة الدهور ليعيش فيها وبها جميع الذين تأهلوا للملكوت :

+ «ضعوا أنتم هذا الكلام في آذانكم: إن ابن الإنسان سوف يسلم إلى أيدي الناس. وأمـا هـم فـلـم يفهموا هذا القول وكان مخفى عنهم لكي لا يفهموه. وخافوا أن يسألوه عن هذا القول.» (لو 9: 44, 45)

+ «وأخذ الاثني عشر وقال لهم: ها نحن صاعدون إلى أورشليم وسيتم كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان. لأنه يسلم إلى الأمم ويستهزأ به ويشتم ويتفل عليه ويجلدونه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم. وأما هم فلم يفهموا من ذلك شيئاً وكان هذا الأمر مخفى عنهم ولم يعلموا ما قيل.« (31:18-34)

 وكل الذي رأوه هو محد الزائرين السمائيين مع محد المسيح في وهج أقنومه المتجلي، فانحصروا في ما رأوا وطلبوا عمل المظال للتكريم كعادة الإنسان ولم يكلّفوا أنفسهم أن يسألوا المعلم عما حدث. ولكن لكي لا تعبر هذه الحوادث المحسوبة كتأسيس للكنيسة ولعالم الأجيال التي قاربت الآن على الأربعين جيلاً، فنحن الآن على أبواب سنة 2000م، جاءت خصيصاً سحابة نيرة وشملت الموقف كله تعبيراً عن حضور الله وهو في أعلى حالات تحليه على الأرض، تصحيحاً لفكر بطرس المتعثر في مجرد تكريم أمكنة وأسماء، مما دعا الصوت من السماء أن يرن في قلوبهم أن هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا!! تأكيداً لشخصية يسوع أنه “المسيح المختار من الله القادم ليكمل عمله، حيث يطلب الصوت أن يخضعوا ويسمعوا له. وفي هذه اللحظة ظهر يسوع واقفاً وحده.

والآن، نفهم جيداً لماذا سأل المسيح تلاميذه عما يقول القوم عنه وماذا يقولون هم أيضاً؟ لأنه قد ابتدأ بالفعل الإعلان عن آلامه وصليبه وقيامته حتى لا ينفصم هذا المشهد الإلهي عن أنه هو الابن الوحيد المحبوب «له اسمعوا» هذه محسوبة شهادة مؤازرة من السماء مع شاهدين ظهرا خصيصاً لتقوم الكلمة، وليفهم العالم أن الألم والصليب والموت بحوادثهم الجسام هي جزء حي من خطة الله لتكميل عمل الخلاص الذي تحشد الابن ليكمله.

 وإذا انتبه القارئ يلاحظ أن ق. لوقا قدم حادثة التجلي هذه بعد سؤال المسيح مباشرة عمن يقـول الناس إني أنا، ذلك لكي يرد عليهم بحقيقة نفسه من واقع سماوي وشهادة الناموس على يد صاحبه، وشهادة الأنبياء على يد ممثلهم الأعظم. ثم بعد هذا كله بل وقبل ذلك كله صوت الآب من السماء: « هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا» هذا يُحسب للقديس لوقا حبكاً في تصنيف الحوادث ورواية الإنجيل، محاولاً باستماتة من  أول الإنجيل إلى آخره أن يقدم للقارئ من وراء صياغة الحوادث كما ـ ولكن منشقة من حيث زمانها وموضعها ـ شرحاً قوياً لا يتدخل هو فيه وإلا أفسد الإلهام. وفي هذا وفي ذاك لم تغب النعمة عن عملها. فالذي يقرأ الإنجيل بترؤ وبالاستعانة بالروح فإنه يكتشف أعماقاً منه تغيب عن أعظم العلماء والمعلمين. 

وهنا يؤسفنا جداً أن نعقب على معظم العلماء الذين خطأوا ق. لوقا في موضع التجلي وقالوا أن موضعه الصحيح هو بعد القيامة. وكالعادة أهملوا التأمل وأعوزهم الإلهام بشدة. فإن التجلي يحكي عمّا هو آت من القيامة، فمجيء التجلي قبل القيامة ضرورة قصوى تؤكد أن الذي سيرفعونه على خشبة ويصلبونه هو أعظم من موسى وجميع الأنبياء، بل إن حضورهما والحديث معه عن الخروج (الصلب والقيامة) العتيد أن يكمله خارج أورشليم يجعل الناموس خادماً للصليب والأنبياء شاهدة للقيامة. فلو كان التجلي قد وضع بعد القيامة لأضعف القيامة جداً بالثوب اللامع، ولأصبح حضـور الناموس والأنبياء فاقداً معناه ومضمونه، في الصلب والقيامة.

28:9 «وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام، أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب وصعد إلى جبل ليصلي».

هنا نشعر برغبة ق. لوقا في ضم قصة التجلي إلى الأقوال السابقة بخصوص ملكوت الله بنوع من اللهفة والإصرار، ليلفت نظر القارئ بأن التجلي هو عينة شاهدها ثلاثة تلاميذ بأنفسهم. والقصد المباشر هو تغطية الحديث عن آلامه الكثيرة وموته مصلوباً بهذه الرؤية العينية حتى لا يرتاع التلاميذ للآلام الوشيكة والصلب بصورته المرعبة، وليعطي وعداً مخفيا بأن الذي سيحمل صليبه ويتبعه ناكراً ذاته سيكون عضواً في هذا الملكوت. ولكن لا توجد مشكلة لدى المدققين في أن ق. مرقس حدد المدة المذكورة بستة أيام فقط، مما يكشف لنا أن ق. لوقا هنا يتبع تقليداً مكتوباً غير ما يتبعه ق. مرقس. ولكن في إنجيل ق. لوقا أعطى كلمة “نحـو” ثمانية أيام فجعلها مفتوحة للزيادة والنقصان فلـم تعـد مشكلة ولكـن تحقيقـاً مـن مـصـادر أخـرى. ويقـول العلمـاء إن ق. مرقس إنمـا اختـار الستة أيام ليعطي المثيل لعدد الأيام التي مكثها موسى على الجبل ليقابل الله في القديم (خر 16:24): «فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل وحل مجد الرب على جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام وفي اليوم السابع دعي موسى من وسط السحاب» (خر 24: 15و16). فالقديس مرقس أعطاها ستة أيام، وق. لوقا أعطاها نحو ثمانية أيام اجتهاداً لكي تصير معجزة موسى على الجبل كمعجزة المسيح مع التلاميذ. ولكن المشترك في الحادثتين هو الذي يعنينا جداً وهو أن محمد الرب حل على الجبل هذا الذي هو ليهوه في القديم، جاء نفسه ليسوع المسيح على الجبل تعبيراً عن تنازل الله ليصنع مقابلة مع الإنسان استعلاناً لمجده. وظهور موسى مع المسيح في التجلي يشير إشارة بليغة إلى التوازي البديع، ورفع الفكر في الحال إلى أن المسيح هو هو يهوه في استعلانه الجديد للعهد الجديد. كذلك هنا تلميح لمقابلة اليوم الثامن عند ق. لوقا باليوم الذي خلق فيه المسيح الخلقة الجديدة بقيامته بعد السبت الأخير في الزمن العتيق، لأن يوم الأحد الذي قام فيه الرب من الأموات لا يحسب من أيام الزمن العتيق، فهو اليوم الثامن إذا أردنا أن ننسبه للزمن، وهنا خروج واضح عن الزمن إلى اللاعودة، فاليوم الثامن الذي قام فيه المسيح هو بدء الخلود أو الزمن الإلهي المحسوب الأول والآخر معاً!!

ثم ندخل في الحال في المطابقة العددية مع العهد القديم إذ أمر الله يهوه موسى أن يصعد هو وهارون وناداب وأبيهـو للترائي أمام الله، هكذا نجد التطابق العددي أيضاً في التجلي حيث أخذ الرب معه بطرس ويوحنا ويعقوب وصعدوا إلى الجبل مع المسيح. وقد حدد العلماء جبل حرمون أنه الذي تم فيه التجلي، وغيرهم رأوا أن جبل تابور في الجليل هو الأقرب إلى الظن. أما القول بأن المسيح صعد ليصلي فهو التعبير المسياني الأقرب إلى التعبير إذ هو في حقيقته مقابلة مع الله وحسب، أما المجد الذي ظهر فيه المسيح فهو للحاضرين معه بطرس ويعقوب ويوحنا. ولكن في حقيقة الأمر هو التعبير العتيق الذي اقترحه دانیال: «… أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً» (دا 7: 13و14). فهنا منظر من مناظر المقابلة على مستوى الفكر البشري حيث يتقابل المجد مع المجيد، حيث التجسّد هو الذي هذه الثنائية غير الموجودة، فهو في حقيقته وجوهره محمد الله انعكس على يسوع الابن المتجسّد. فالمجد هنا الله وللمسيح بآن واحد، لأن المجد والممجد واحد!! ولكي نوضحها أكثر نقول: إن الآب والابن ذات واحدة هو الله، ولكن الابن تجسّد، فالمجد الذي انعكس على الابن المتجسّد يسوع هو مجد الله وهو محد المسيح بآن واحد. فالذي ينظر مجد المسيح هنا ينظر مجد الله. فهنا ظهر المسيح على حقيقته الإلهية أنه هو والله واحد.

29:9 «وفيما هو يصلي صارت هيئة وجهه متغيرة، ولباسه مبيضا لامعاً».

هنا نواجه شركة جوهرية معبّر عنها برؤية جسدية بين الله الآب والابن المتجسّد. هنا للأسف لا يزال ق. لوقا على خلفية موسى والله على الجبل، حيث وجد بعد ذلك وجه موسى متغيراً لأنه كان يتكلم مع يهوه: «وكان لما نزل موسى من جبل سيناء ولوحا الشهادة في يد موسى عند نزوله من الجبل أن موسى لم يعلم أن جلد وجهه صار يلمع في كلامه معه» (خر 29:34). أما ق. مرقس فلم يكن على هذه الخلفية في سرده لقصة التجلي إذ يعبر عنها تعبيراً خالصاً من أي تشبيه فيقول: «وتغيرت هيئته  قدامهم» (مر 2:9) التي ترجمت بالتجلي. والمعنى الروحي العميق يقصد أن المسيح أخذ هيئته الحقيقية.

والمعنى الذي يكشف حقيقة تغير أو تحلي هيئة المسيح وليس وجهه فحسب، هو أن المسيح هو ابن الله الوحيد صاحب الجوهر الواحد مع الآب والمحد الواحد الفائق، الذي تخلى . عن مجده ليأخذ جسد إنسان. فهنا وقد وقف الابن المتحسد مع الله استعاد بالضرورة محده الذي له لحظة من الزمان لينظره تلاميذه على حقيقة مجده. فالتغير هنا بمعنى ا التجلي هو في الحقيقة تغير إلى الأصل، تغير إلى وضعه الأول كصاحب المجد. هنا تغير أو تجلي المسيح لا يقارن أبدأ بتجلي وجه موسى، لأن وجه موسی مهما تجلى فقد دفن في النهاية في التراب، أما مجد المسيح الذي له الذي رآه التلاميذ لحظة التحلي فهو المجد الدائم الذي له، ولكن إذ أخلى نفسه منه بإرادته استطعنا أن نراه ونتكلم معه.

لذلك نستطيع أن نقول: إن تقليد ق. مرقس أشد وضوحاً وأكثر جلاء دون محاولة المقارنة مع موسى، الأمر الذي أخذ به ق. متی فأخذ عنه ق. لوقا، فهو لم يضف عليه مجد بل استرد لنفسه مجده. ولكـن عـاد ق. لوقا واسترد حقيقة التجلي بسرعة في الآية (32) إذ قال: «فلما استيقظوا رأوا محده والرجلين الواقفين معه»

أما أن لباسه كان مبيضاً لامعاً، فمبيضاً هنا جاءت باليونانية λευκὸς وهو تعبير يقال عن ملابس الملائكة السمائيين، فهو لا لون له ولكن بلمعان وصفاء. 

 وهنا يزداد أمامنا معنی التجلي، فالمادة في الملابس أصابها التغيير على نمط ما سيتغير به العالم والخليقة:

+ «عندك أسماء قليلة في ساردس لم ينجسوا ثيابهم، فسيمشون معي في ثياب بيض معنی لأنهم مستحقون.» (رؤ 4:3)
+ «من يغلب فذلك سيلبس ثياباً بيضاً ، ولن أمحو اسمه من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته.» (رؤ 5:3)
+ «ولما دخلن القبر رأين شاباً جالساً عن اليمين لابساً خلة بيضاء .» (مر 5:16)
+ «وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق، إذا رجلان قد وقفـا بهـم بلبـاس أبيض.» (أع 10:1)

ولكن ق. مرقس يزيد على لون ملابس المسيح بقوله “تلمع “، ولكن عاد ق. لوقا في موضع آخر ووصف البياض ليس بلمعان ولكن بصورة براقة مشعة: «وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بمن بثياب براقة » ( لو 4:24). لذلك يبدو حتى اللباس الخارجي له هيئة ولمعان خاص لكل فئة من الملائكة. 

30:9 «وإذا رجلان يتكلمان معه، وهما موسى وإيليا».

في إنجيل ق. مرقس يضع إيليا قبل موسى ولا لذلك إلا أن المعروف في التقليد أن إيليا يأتي أولاً (مر 11:9). ولكن ق. لوقا يضعهما هنا حسب ترتيبهما الزمني. ويضيف ق . مرقس أنهما كانا يتكلّمان مع يسوع. علماً بأن كان يمثل الناموس وإيليا الأنبياء، ومعروف في التقليد اليهودي أنه مذكور عنهما أنهما يأتيان بمجيء المسيا الثاني في نهاية العالم. ولكن ذكرهما هنا في التجلي واضح السبب منه، فهما يقدمان الشهادة كل في اختصاصه، فموسى يشهد للمسيح بأنه النبي الآخر الذي يأتي بعده، وإيليا يقول عنه ملاخي إنه سيأتي ليعيد قلوب الآباء على الأبناء والعكس، قبل مجيء المسيا (مل 5:4)، فظهورهما معاً يؤكد موسی دور المسيا.

31:9 «اللذان ظهرا بمجد، وتكلّما عن خروجه الذي كان عتيداً أن يكمله في أورشليم».

«ظهرا بمجد»: 

يبدو أن هذا المجد الذي ظهرا به هو أيضاً انعكاس المجد الذي ظهر به المسيح بمعنى مجد الله: «وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم» (لو 9:2). والمعنى أنهما زائران سماويان .

ويعطي ق. لوقا هنا موضوع الحديث الذي دار بينهم وهو خروج المسيح  بمعنى مغادرة، ولكن بمفهوم النهاية إذ تحمل رنة الموت كما عرفها ق. بطرس: «فاجتهد أيضاً أن تكونوا بعد خروجي تتذكرون كل حين بهذه الأمور» (2بط 15:1). ذلك كعمل خلاص: موت وقيامة.

«يكمله»: 

وتعني هنا مشوار حياته حتى أكمله على الصليب: «قد أكمل» (يو 30:19)، تعبيراً عـن اكتمال خدمة المسيح للخلاص

32:9 «وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنّوم فلما استيقظوا رأوا مجده، والرجلين الواقفين معه».

 لقد عودنا بطرس والذين معه أن ينعسوا نعاس الاستغراق في النوم أثناء صلاة المسيح، وهي عادة معظم الناس عند الصلاة أو سماع العظات. لأن النفس التي لا تستطيع أن تنفعل بروح الله عسير عليها أن تتيقظ لمتابعة كلمات الخلاص أو الحديث عن الأمور الروحية عامة. فالتثاؤب وتغميض العينين بإلحاح وتدني الرأس قليلاً قليلاً نحو الصدر، وربما سماع صوت شخير، وهذا سلوك مرذول، كلها تحكي عن عزوف النفس عن سماع كلمة الله. وهذه الخصال الرديئة ضيعت على آلاف الناس قبول توجيهات النعمة وعمـل الـروح القدس والتقدم في الحياة الروحية. أما السبب الأساسي في ذلك فهو إحساس الإنسان بالاكتفاء بحالته أو عدم إحساسه بضرورة الحياة الروحية وأهمية الخلاص لنفسه، وهذه مصيبة هذا الدهر: «تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان» (رؤ 17:3). ونلاحظ حزن المسيح وتألمه جداً هذه الحالة التي كان عليها التلاميذ أثناء صلاته في جثسيماني والتي تحسب لحظات وداع للعالم والتلاميذ، وقد عنّفهم المسيح على ذلك: «أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة» (مت 40:26). ومعروف أن الروح النشيطة الساهرة لا تستطيع النعاس ولا ثانية واحدة. فالقلب ملتهب والفكر يقظ والروح نشيطة تطلب المزيد من القوة والحب والحياة. 

«رأوا مجده»: 

هنا تعبير سري من تعبيرات الروح في الحياة الروحية، فهو تعبير عن المجد العتيد في الحياة الجديدة، وهي رؤية ترفع الإنسان من واقعه الميت إلى بهجة ونور الحياة الآتية، فهو سبق تذوق حياة الروح في المجد الآتي. وربما هذا كل ما قصده المسيح من أخذهم وصعودهم معه وحضور صلاته لكي يتعرفوا على حقيقة المسيح في ذاته كرب المجد، لكي يسند إيمانهم ساعة الصليب الذي كان على بعد ساعات معدودة، ولكنهم خيبوا أمل المسيح وظنه، إذ لما بدأت ساعة الخطر «تركه التلاميذ كلهم وهربوا.» (مت56:26)

لذلك نقول يا عزيزي القارئ إن الانتباه ساعة الصلاة والوعظ هو ذخيرة عظيمة تعرف قيمتها ساعة الخطر والضيق. فمطلوب منا أن نختزن قوة لساعة الضعف.

ومجد المسيح الذي رآه الثلاثة والذي رآه الاثنا عشر ويعقوب والمائة والخمسمائة أخ في القيامة هو الميراث الذي ورثه المسيح لنا جميعاً: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني» (يو 22:17)، لكي يبقى لنا ذخيرة حية نستمد منها قوة متجددة إزاء أهوال العالم وضيقاته، فلا يضعف إيماننا بالمسيح، لأنه وعد أنه سيكون معنا حتى النهاية. وهكذا يتضح لنا أن محد المسيح ه طاقة ألوهة ممنوحة لنا لتزيد إيماننا دائماً بربوبية المسيح ولاهوته للحياة الجديدة، في عالم عتيق ينتمي إلى الخطية ويقوده العدو. 

33:9 «وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع: يا معلم، جيد أن تكون ههنا. فلنصنع ثلاث مظال: لك واحدة، ولموسى واحدة، ولإيليا واحدة. وهو لا يعلم ما يقول».

في عيد المظال يصنع اليهود مظالاً. من جريد النخل والبوص وبما يمجدون الله ويشكرونه على حضوره بنفسه معهم في سيرهم بسيناء، وحفظهم وسترهم بالسحاب أثناء ترحالهم حتى لا تؤذيهم الشمس على مدى الأربعين سنة بكاملها حتى دخولهم أرض الميعاد. ويوجد تقليد مسلم أن في آخر الأيام سيحدث مثل هذا أيضاً كعلامة. 

وهكذا تذكر بطرس الشاكيناه (السكنى) في البرية تحت ظل السحاب الذي يعني روحيا حضرة الرب الدائمة معهم: «إن لم يسر وجهك (أمامنا) فلا تصعدنا من ههنا» ردا على وعد الله: «فقال وجهي يسير فأريحك» (خر 33: 15و14). هذا الحضور الإلهي ظل الشعب ينتظره ويجدد رجاءه كل سنة في عيد المظال حتى يجيء. وعلى أساس هذا التقليد قال بطرس اقتراحه بعمل ثلاث مظال. ولكن للأسف الشديد لم يدرك بطرس الفارق بين المسيح وموسى وإيليا. فهذه سقطة فكر وإيمان واستنارة، لذلك لم تفت على كاتب التقليد أن يقول: «وهو لا يعلم ما يقول» ولكن أخذ بطرس والتلاميذ فرصة أخرى عظمى لكي يعرفوا أن يفرقوا بين المسيح وموسى وإيليا، بقيت لنا ذخراً إيمانياً.

34:9 «وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة فظللتهم. فخافوا عندما دخلوا في السحابة».

كان رد الله السماء سريعاً على خطأ بطرس أن يجعل ابنه الوحيد على مستوى موسى خادم من الرب أو إيليا النبي، ويصنع مظالاً من جريد وبوص، فكشف عن أعينهم فرأوا سحابة تظللهم وهي . طبعاً الحضرة الإلهية التي تناسب تجلي المسيح أو استعلانه على حقيقته الإلهية. أما القول بأنهم خافوا عندما دخلوا في السحابة فهذا دليل على أن السحابة لم تكن أقل من حضور المجد الإلهي الذي استجابت له أرواحهم فخافوا. ولم يقل إنهم ارتاحوا أو سروا لذلك؛ بل خافوا رهبة للمفارقة الشديدة تجاه حضرة الله. وهكذا يوبخ الله بطرس الذي اقترح للمسيح . مظلة . فإذا من بوص هي سحابة مجد.

35:9 «وصار صوت من السحابة قائلاً: هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا».

الصـوت صـوت الآب، وهنا وضح لنا أن الله الآب كان في السحابة التي ظللتهم، والخـوف كـان لوجود يهوه بإحساس الروح بالرغم من جهالة الفكر. لأن الذي لا يفهم بالكلام يفهم بالإحساس فيما يخص الإلهيات. وهنا يشهد الآب لابنه الرب يسوع أن «هذا هو ابني ا الحبيب» ليس كموسى ولا إيليا بل هو ابن الله الذي له كل الكرامة والمجد مع أبيه الصالح. وهكذا يتكلم الله معنا إن لم يكن بالكلمة المسموعة منا فبحضرته المخيفة على مثال ما عمل مع إسرائيل الذي رفض كلمة الله، فنزل بنفسه متجسّداً ليصنع مع الإنسان عهداً جديداً ليس بالكلمة فقط بل وبالدم المسفوك أخيراً. ويلاحظ هنا أن الله يتكلّم عن ابنه بضمير الغائب. وقول الله للتلاميذ: «له اسمعوا» يفيد الطاعة والخضوع.

وللعالم كـريـد هنـا قـول جيد إذ يقول إن صوت الله في المعموديـة كـان للمسحة وكان موجهاً للمسيح نفسه، أما هنا فالصوت للتلاميذ لكي يطيعوا ويخضعوا لمن مسحه الله على الأردن.

وإذا انتبهنا إلى تسلسل الكلام نجد أن الله ألهم بطرس منذ قليل أن يقـول مـن هـو يسـوع هـو المسيح”، فهنا يكمـل الله بالصوت المسموع أن يخضعوا ويطيعوا المسيح بعد أن عرفوه. على أ أن الترجمة العربية التي ترجمت «هذا هو ابني الحبيب» يترجمها العلماء حسب بعض المخطوطات القديمة: « هذا هو ابني المختار »  وهو لقب يعطي نفس المعنى، وهو يكرر كثيراً في العهد القديم. وفي قوله: «له اسمعوا» تلميح لما قاله موسى: «يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون» (تث 15:18)، أما من لا يسمع له فكأنه يقاوم الله نفسه: «ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه.» (تث 19:15)

36:9 «ولما كان الصوت وُجد يسوع وحده، وأما هم فسكتوا ولم يخبروا أحداً في تلك الأيام بشيء مما أبصروة».

القديس مرقس يوضح أن المسيح هو الذي أمرهم أن لا يقولوا لأحد إلا بعد أن يقوم من الأموات. هنا يجعلها ق. لوقا كأنها من أنفسهم سكتوا ولم يخبروا أحداً، ولكن لنا شهادة بديعة من ق. بطرس الرسول يحكي فيها قصته مع المسيح على جبل التجلي: «لأننا لم نتبع خرافات مصنعة، إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنا معاينين عظمته (مجده). لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجداً، إذ أقبل عليـه صـوت كـهـذا مـن المجـد الأسنى: هذا هو ابني الحبيـب الـذي أنـا سـررت به.  ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء، إذكنًا معه في الجبل المقدس.» (2بط 1: 16 -18)

8 – شفاء المسيح لشاب به روح شرير (37:9-43 أ)

(مت 14:17-21)
(مر 14:9-29)

وعودة للمسيح بعد التجلي إلى حقل الخدمة وهموم البشر، ويستمر في خدمته بين هتاف التهليل والترحيب وبين الهجـوم والتحدي، بين القبول والرفض، وحتى أهله والأخصاء وكـل الجليـل كـادوا يستودعونه في يد الشامتين. أما في التجلي فأظهر أقصى ما يمكن أن يوجه قلب تلاميذه إلى رسالته كلها بعد تأكيدها من اعتراف الله من المجد الأسنى بأنه مختاره وابنه، ويوصي بأن له اسمعوا أي أطيعوا واخضعوا. ولكن حتى تلاميذه ظلوا غير فاهمين وغير قابلين المصير المرسوم من الله في طريق الآلام والصليب. ولكن لكي يعفيهم الوحي الإلهي الغباوة الكلية عاد يعطيهم العذر رسمياً بقوله: «وأما هم فلم يفهموا هذا القول وكان مخفي . عنهم لكي لا يفهموه» (لو 45:9)!! ونحن لو انتبهنا لهذا التقرير الخطير: «وكان مخفي عنهم لكي لا يفهموه»، نجده وكأنه جزء حي صادق للإيمان بالمسيح على مدى الأجيال ليجعل الإيمان بالمسيح لا يرتكن على الفهم والتحليل وموافقة العقل والمنطق، وإنما يعطي فرصة للروح في الداخل لتأخذ دورها الأعظم وتقبل عطية الروح القدس للنمو والتعرف على الحياة الأبدية التي وهبت لها. وتظل الطوبى على المدى للذين «آمنوا ولم يروا» (يو 29:20)!! «الذي وإن لم تروه تحبونه. ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد.»(1بط 8:1)

وفي وسط الكلام يوضح الروح أن التلاميذ فعلاً لم يصلوا بعد إلى مواجهة العدو السافر، إذ أخفقوا في شفاء صبي استحوذ عليه روح شرير وأخذ يلقيه على الأرض من حين إلى حين، وهو التشخيص الدقيق لمرضى الصرع. ولكن هذه هي حيل الشيطان لتظهر وكأنها طبيعية وليست من شغل يديه، بدليل شفاء الصبي بكلمة من المسيح الذي انتهر الروح النجس.

وفي قول المسيح للتلاميذ والجموع: «أيها الجيل غير المؤمن والملتوي إلى متى أكون معكم وأحتملكم يظهر بوضوح أنه الزائر السماوي الذي هبط إلى أرض شقائنا ليطيب أمراضنا ويرتقي بإيماننا. وطبعاً غــي عـن القـول أن هـذا الإعـلان البـديـع مـوافـق أيما موافقـة لنزولـه للتـو مـن فـوق جبـل التجلي ورؤى المجد وسماع صوت أبيه من المجد الأسنى. وكأن حنينه إلى الصليب قد زاد وثاقت روحه للذهاب إلى الآب والجلوس عن اليمين في عرشه الممجد، عوض الجهاد مع الكتبة والفريسيين الأراذل الذين آذوا نفسه الوديعة وجعلوه يشتهي النهاية.

ومن قصة عجز التلاميذ عن أن يشفوا مريضاً به روح نجس وضح كيف كانت خدمة المسيح ملقاة بضغطها الشديد على المسيح وحده، إذ يظهر التلاميذ في مواقف الخطر أو الصعوبة موقف المتفرج المستعد للجري والهروب. وكأن القصة وراء القصة تحكي على من قامت المسيحية وما هو حدود إيماننا بالمسيح وحده، الذي بكل قوتنا ينبغي أن نلقي رجاءنا عليه: «وليس بأحد غيره الخلاص» (أع 12:4)، «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي» (يو 6:14)، «أنا هو الباب» (يو 9:10)، «أنا هو القيامة.» (يو 25:11)

37:9 «وفي اليوم التالي إذ نزلوا من الجبل، استقبله جمع كثير».

ونحن لا نندهش من قوله وفي اليوم التالي لأن هذا هو طقس الأيام عند اليهود، فإذا غربت الشمس صار يوماً ثانياً ولو بدقيقة، ولكن هنا يبدو أنهم نزلوا من الجبل في وقت الصباح. ويلاحظ أن التلاميذ الأخر الذين لم يصطحبهم معه بقوا على سفح الجبل منتظرين، حيث اجتمع معهم جمع كبير من المرضى والشعب الذي يريد أن يراه ويسمعه.

38:9 «وإذا رجل من الجمع صرخ قائلاً: يا معلم، أطلب إليك. أنظر إلى ابني، فإنه وحيد لي».

القديس لوقا يضع القصة هنا خالية من البيانات المرافقة التي ظهرت عند ق. مرقس، فلا إشارة إلى إيمان الرجل ولا إشارة إلى عدم إيمان التلاميذ ولا انبهار الشعب لما حدث إذ أجله إلى نهاية القصة. وهنا لا ينبغي أن تفوت علينا ملاحظة في غاية الدقة اقتبسها ق. لوقا من إنجيل ق. مرقس وهي عدم إيمان الجيل «الجيل غير المؤمن» (لو 41:9)، (مر 19:9). هنا تقرير المسيح هذا ـ الذي هو بمثابة إعلان الرفض بالرغم من المعجزات المتوالية – يشير إشارة بليغة إلى أن خدمة الجليل قد قاربت النهاية، وبالتالي تشير إلى بداية الطريق الصاعد إلى أورشليم والنهاية .

39:9 «وها روح يأخذه فيصرخ بغتة، فيصرعه مزبداً، وبالجهد يفارقه مرضضاً إياه».

في إنجيل ق. لوقا يزيد في وصف الأعراض للمرض أكثر من إنجيل ق. مرقس. فيصف ق. لوقا هنا كيف يعتري الولد نوبـات مـن تسلط . الـروح عليه بصورة عنيفة، وكيف يصرعه فيقع ويترضـض على الأرض، وهذه كلها أعراض مرض الصرع الذي يصعب شفاؤه. ولكن الحقيقة أن الشيطان يستطيع أن يغير في عمله بالنسبة لمن يحتل جسده، فيظهر بأي صورة يراها الشيطان، وقد يعدد الصور فتتعدّد الأعراض لتُربك أعظم طبيب. وبالرغم من ذلك كله من الممكن ألا يوجد في المصاب أي نوع من المرض أو الخلل الفسيولوجي، ويكون صحيح ا الجسم تماماً بالاختبار والفحص. فالشيطان أبو جميع الأمراض وبلا استثناء. لذلك كان أول عمل ينبغي أن يقوم به أهل المريض هو الالتجاء إلى الله والصلاة وبعد ذلك يأتي دور الطبيب. ففي هذه الحالة بالذات أضاف الشيطان على الصرع أيضاً صمماً، أي عدم سمع نهائياً فسموه “روح أخرس” (مر 17:9). والشيطان يلتجئ إلى هذه الحيلة حتى يهرب من سماع أي صلاة عليه بالكلمات التي تجبره على مفارقة الجسد، وإذا سئل لا يرد، لأن أذنه تكون مشلولة ولسانه أيضاً مشلولاً. وهكذا استبد هذا الروح بالولد وأرهقه من كثرة السقوط الذي يرضض جسده، وحينما يصيبه الدور يضغط على أسنانه ويخرج رغاوي من فمه وقد يقطع لسانه أثناء الضغط عليه. ولكن للأسف لم يذكر ق. لوقا كل هذه الأوصاف ولكنها جاءت في إنجيل ق. مرقس وبعضها أتى في إنجيل ق. لوقا ولم يأت في إنجيل ق. مرقس.

40:9 «وطلبت من تلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا».

 توجد أرواح شريرة عاتية جداً يعسر جداً إخراجها بالقوة، فإذا لم يكن المصلي عليها مقتدراً بالروح فالشيطان قد يستهزئ به هو. ولكن شكراً الله فقد جاء الأقوى ونهب بيته وفك أسراه وغنم غنائمه، وأصبح ولد صغير يحمل الصليب يقتدر في عمله كثيراً.

41:9 «فأجاب يسوع وقال: أيها الجيل غير المؤمن والملتوي، إلى متى أكون معكم وأحتملكم؟ قدم ابنك إلى هنا».

 الجيل كله غير مؤمن، فأبو الولد لا يؤمن بالتلاميذ أن يكون لهم قوة للشفاء، والتلاميذ لا يؤمنون أنهم قادرون باسم المسيح على الشفاء، والولد نفسه لضعف إيمانه يهزمه الشيطان. فوقوف الشيطان هكذا وهو يهزأ بهم جميعاً ضايق المسيح، إذ أن ضعف إيمانهم هو الذي أعطى الشيطان هذه القوة على إهانة خليقة الله. وهو نفس شعور يهوه تجاه الشعب في البرية بنفس الصفات، “فإلى متى أحتمليك” طال أمدها جداً، فهنا ثلاثة آلاف سنة!! والمسيح يتكلم كضيف سماوي نزل يفتقد شعبه فوجد الشعب كله إنساناً مريضاً استولى عليه الشيطان وهزأ به ولم يعد في الأرض إيمان بعد، فقال لملائكته قدموه إلي، فحمـل عـن النـــاس ضـعفهم ووضـع خطايـــــاهم وآثــامـهـم عـلـى جـسـده، ودخـل إلى الشيطان كرجل واحد، فاستضعفه الشيطان وجمع عليه كل كتيبته من كتبة وفريسيين وصدوقيين ورؤساء كهنة وشيوخ الشعب جميعاً وقال لهم: اصلبوه فصلبوه، وإذ هو رب الحياة، مات بالبشرية التي فيه وأحياها الله خليقة جديدة، ولم يعد للشيطان عليها سلطان إن هي أمسكت باسمه وصليبه.

 واضح أن عدم وعدم الالتزام بوصاياه هو الذي يفتح الباب للشيطان للدخول والعربدة في الجسم كما رأينا، فالمسيح كشف أن عدم إيمان الأب والعائلة والتلاميذ هو العلة في عدم شفاء هذا الولد البائس، لأن الشيطان إذا تملك في الجسد يصيبه بأنواع أمراض وعذاب أليم. والقصة كما ظهرت في إنجيل ق. لوقا أن الشيطان يريد هلاكه. وهنا يبدو أن المسيح قد ضم هذه الحالة إلى كل الحالات الأخرى ووصفها بأنها حالة عدم إيمان في الجيل كله. وطبعاً سؤال «إلى متى أحتملكم» رده: إلى الصليب! و «إلى متى أكون معكم؟» فهو كل الأيام وإلى نهاية كل الدهور !

+ «رجل أوجاع ومختبر الحزن … فلم نعتد به، … وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه والرب وضع عليه إثم جميعنا، ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه ضرب من أجل ذنب شعبي وجعل مع الأشرار قبره على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش. أما الرب فشر بأن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم… سكب للموت نفسه الإيمان بالله وأحصي مع أثمة وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين.» (إش 53: 3-12)

42:9 «وبينما هو آت مرقة الشيطان وصرعة، فانتهر يسوع الروح النجس، وشفى الصبي وسلمه إلى أبيه».

مدة عن له هنا أراد الشيطان أن يظهر قوته وسلطانه أمام المسيح، فصرع الولد وجعله يتلوى كمن يمزق ثوباً. وفي إنجيل ق. مرقس يقف الولد أمام هذا المنظر المرعب طالباً المعونة. فهنا يكشف المسيح مسئولية الأب في هذه المحنة، إذ كان رد المسيح بعد أن سأله . مرضه وقال منذ صباه، فأرجع هذه الحالة إلى عدم إيمان الأب وأوقف شفاء الولد على مقدار إيمان الأب، فصرخ الأب يطلب قوة لإيمانه: «فقال يسوع: إن كنت تستطيع أن تؤمن كل شيء مستطاع للمؤمن. فللوقت صرح أبو الولد بدموع وقال أومن يا سيد فأعن عدم إيماني» (مر 9: 23 و24). الإيمان الأول الذي يقوله أبو الولد هو الإيمان الفكري والذي نكرره باللسان، أمّا اعترافه بعدم إيمانه فهو الإيمان القلبي غير الموجود نتيجة البعد عن مصدر الإيمان. فالإنسان يستمد إيمانه الفكري من الإنجيل والوعظ، ولكن الإيمان القلبي يستحيل أن يستلمه الإنسان إلا من الله مواجهة، الذي يسكب سكيب نعمته على كل الطالبين الآتين إليه رافعين قلوبهم باستعداد العمل بالإيمـان والســـلوك بمقتضاه. ولكن ق. لوقـا يختـزل القصة ليأتي إلى النهاية أنه شفى الصبي وسلّمه لأبيه. ونحن نجد أن رواية ق. مرقس ترتكز بشدة وتدور حول محور الإيمان ومسئولية الأب والأسرة ثم التلاميذ، كدرس أدخله ق . مرقس ببراعة مدهشة في خزانة الكنيسة ليكون عبرة للجميع. أما ق. لوقا فكانت وجهة نظره نحو قوة المسيح ومقدرته على إخضاع هذا الشيطان العاتي وإعجاب الشعب.

43:9 ( أ ) «فبهت الجميع من عظمة الله».

هنا غاية ق. لوقا من سرد هذه القصة ليضاهيها بالمجد والعظمة في التجلي.

«فبهت»ـ «عظمة الله»: 

والقديس لوقا يستعرض بهاتين الكلمتين عظمة الله التي تبهر الإنسان في مواجهة عظمة الله التي تجلت على الجبل لتلاميذه. فالذي رآه الثلاثة تلاميذ على جبل التجلي رآه الشعب كله جهاراً على مستوى الفعل المقتدر. لذلك، فإن كان ق. مرقس يسعى وراء الإيمان بتركيز زائد، فالقديس لوقا بنفس هذا التركيز يسعى وراء مصدر الإيمان.

9 – المسيح يعلن عن آلامه مجدداً (43:9 ب – 45)

(مت 22:17و23)
(مر 9: 30-32)

 للأسف أسقط ق. لوقا من روايته سؤال التلاميذ السري لماذا لم نستطع نحن أن تخرج الشيطان، فكان رده إن «هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم» (مر 29:9)، وبهذا سقط هذا التقليد عند ق. لوقا. ومعروف أنه كان يقدم إنجيله للأمم فلم يجعل الإيمان باهظ الثمن. ولكن نحن لسنا من الأمم الآن بـل مـن أهل بيت الله، والصـوم عندنا هو القاعدة الصلبة التي نبني فوقها دستور إيماننا، لأن الإيمان يحتاج إلى قلب باع الدنيا ودفنها: «دع الموتى يدفنون موتاهم وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله» (لو 60:9). وبيع الدنيا ومشتهياتها مع إغراءات العالم والجسد التي لا حد لها ولا ضابط لا يكون إلا بالصـوم. فإذا أراد أي إنسان أن يبدأ الطريق عليه أن يضع الصـوم كـأغلى درة في إكليل خلاصه، لأن إيمان الإنسان الذي تدرب على الصوم جيداً وضبط الجسد وشهواته قادر بالحق أن يخرج الشيطان بكلمة صلاته، وينصاع الـشـيطان صارخاً لأن ليس له في هذا الإنسان مأخذ. أما إيمان بلا صـوم عـن شهوات الدنيا فلا يخيف الشيطان ولا يخرجه بل يجعله يستدير على المصلي ويعيره بشهواته. فمرة ذهب راهب ليخرج شيطاناً وكان يحب أمه كثيراً، ومرتبطاً بحبه لها أكثر من عبادته، فلما نادى الشيطان ليخرج من الإنسان المريض ناداه الشيطان: “ماما ماما”، فخزي الراهب وذهب إلى ديره ليتعلم كيف يبيع الدنيا بأهلها أولاً.

بعد حديث المسيح مع تلاميذه أخذهم وانطلق متجهاً إلى أورشليم عبر الجليل سرا، وفي الطريق كرر المسيح عليهم موضوع الآلام التي سيحوزها، وقد اعتاد المسيح أن يلجأ إلى تذكار آلامه بعد أن يكون قد أدى المعجزات وانبهر الناس والتلاميذ. وهنا تم هذا بالفعل، فبعد أن «بهت الجميع من عظمة الله »على يد المسيح عاد محدداً يكلمهم عن آلامه، وإنما في هذه المرة عرضها بمنتهى الاختصار: «ابن الإنسان سوف يسلّم إلى أيدي الناس» ولكن كالعادة عبرت هذه الكلمات الخطيرة من فوق رؤوسهم دون أن يعوها أو يسألوا حتى عن معناها. ولكن لم يهتم المسيح بضعف فهمهم لكلمات المأساة العظمى التي سيجوزها إذ انتظر إلى ما بعد حدوثها، بعد القيامة، ليكونوا على خلفية تقيهم من الخوف: «أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغي (حتماً) أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى محده» (لو 24: 25و26)، هذا كان حديث المسيح لتلميذي عمواس بعد قيامته من الأموات. فانظر يا عزيزي القارئ كيف أن المسيح لا يزال حافظاً في نفسه بطء قلوبهم في الإيمان حتى بعد قيامته.

ويلاحظ عند ق. لوقا أن موضوع الآلام كلما يطرقه المسيح يوصي بحفظه سرا وعدم إذاعته، في مقابل موضوع “المسيا” وسريته عند ق. مرقس. والقديس لوقا يقدم لنا هذا الاتجاه السري عند المسيح في عدم الإعلان عن الآلام والصلب والموت إلا بعد القيامة، حتى يستطيع التلاميذ أن يعادلوا الصليب والآلام بالقيامة من الأموات، فتفوز القيامة باحتضانها لكل أنواع الآلام والعذاب الذي تحمله المسيح من أجل الخلاص.

43:9 (ب) و44 «وإذ كان الجميع يتعجبون من كل ما فعل يشوع، قال لتلاميذه: ضعوا أنتم هذا الكلام في آذانكم: إن ابن الإنسان سوف يسلم إلى أيدي الناس».

هنا يحاول المسيح أن يلقن تلاميذه سرّ الملكوت الآتي على أساس الآلام والصليب، وفي الحال يظهر أمامنا الآن مقارنة واضحة بين الشعب المتعجب والمتهلل للآيات والمعجزات؛ وفي نفس الوقت لا يعرف عن سر الملكوت وثمنه شيئاً، وبين التلاميذ الذين الآن على دراية بالآتي سرا. ولكن يلاحظ أن المسيح يضغط على ضرورة حفظ هذا الكلام سرا بقوله: « ضعوا أنتم هذا  الكلام في آذانكم (المقصود بها في قلوبكم)» فوضعها في الآذان هو كناية عن سمع الكلام السري؛ وهو أن «ابن الإنسان سوف يسلم إلى أيدي الناس» والعجيب أن ق. لوقا يحذف هنا بقية الجملة الرسمية: « ويصلب ويقوم في اليوم الثالث» ويرى العلماء أنه لا يوجد أي داع ليختزل ق. لوقا جملة السر كلها بما فيهـا مـن آلام وصلب وقيامة، إلا أن ق. لوقا تسلم هذا التقليـد مـن مصـدر وثيق وأن المسيح فعلاً اختصر الرواية في هذه الجملة القصيرة.

45:9 «وأما هم فلم يفهموا هذا القول، وكان مخفى عنهم لكي لا يفهموه، وخافوا أن يسألوه عن هذا القول».

لقد نفذ المسيح خطته بالفعل في جعل أخبار آلامه سرية بأن قالها لتلاميذه، ولكن حبسها عن فهمهم حتى يتذكروها فقط بعد القيامة. إنه عمل عجيب حقا إذ جعلهم يسمعون بآذانهم عن صلبه وآلامه وموته، وحبسها عنهم حتى لا ينزعجوا الآن، أما بعد القيامة فسيتذكرون كل ما قاله لهم. وبهذا يكون المسيح قد أعطانا بواسطة تلاميذه جميع تنبؤاته عن الصلب قبل الصلب، ثم تتميمها بالحرف الواحد، ليكون هذا عند تلاميذه وعندنا أن المسيح إنما أسلم نفسه لأيدي الناس، وأسلم نفسه للآلام، وأسلم نفسه للصلب والموت بإرادته، ثم قام من الأموات. وبذلك يكون قد جعل الآلام والصلب والموت عملاً إرادياً تممه حسب مشيئة أبيه بالحرف الواحد. وهذا هو السر في تكراره مرات ومرات عمّا سيحدث له، حتى بعد حدوثه يفهمون أنه إنما عمله بإرادته حسب خطة الآب لخلاصنا.

10 – عراك على من يكون الأول بين التلاميذ (46:9-48)

(مت 1:18-5)
(37-33:9)

يلاحظ القارئ في المقارنة بين سرد ق. مرقس وسرد ق. لوقا للحوادث، أن في الثلاث مرات التي ذكر فيها المسيح شيئاً عن آلامه القادمة، حدث بعد كل منها تلميح أن التلاميذ لم يدركوا ما قاله المسيح، وفات عليهم أن الحديث عن الآلام حسب قول المسيح هـو عـن بذل الحياة، فأعقبوا كـل حديث بما يثبت عالمية فكرهم القاصر مثل: «وقال القول علانية (عن آلامه) فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره، فالتفت وأبصر تلاميذه فانتهر بطرس قائلاً اذهب عني يا شيطان لأنك لا تهتم بما الله لكن بما للناس» (مر 8: 32و33)، هذا عند ذكر آلامه أول مرة. أما المرتان الثانية والثالثة فكان العراك بينهم على من يكون الأول أو الأعظم أيضاً، مما يكشف قصور فهمهم عن لماذا الآلام التي يتكلم عنها المسيح، إذ لم يربطوا أبدأ بين ذكره لآلامه وملكوت الله الذي يكرزون به، مما اضطر المسيح أن يعيد فكر ملكوت الله وحتمية تواضع الفكر والقلب وبساطة الروح كأساس للدخول إلى الملكوت. فعوض النزاع بينهم فيمن هو الأعظم ينبغي أن يكون العكس فيمن هو أبسط وأقل وأصغر. والخدمة تقاس بمقياس ما توفر للكارز من خصال وصلاحية وليس بمستوى قيمته الشخصية. كذلك اضطر المسيح أن يعبر لهم عن ما هو حمل الصليب، فهو يحمل ليس على أكتاف محبي الرئاسة والمتكأ الأول؛ بل على الظهور المنحنية في الخدمة المتواضعة لحمل آلام الناس والاشتراك في أوجاعهم وأحزانهم.

أما فلسفة إقامة ولد في وسطهم وقوله: «من قبل هذا الولد باسمي يقبلني، ومن قبلني يقبل الذي أرسلني ، فهي ليست واضحة ولكنها عميقة. ففي أيام المسيح كان من يهتم بولد يحسب إنساناً تافهاً، هكذا تماماً يطلب المسيح أن من يقبله لابد أن يكون عند ذاته إنساناً تافهاً، وهذا هو الذي ينفتح أمامه باب الملكوت. ولكن لاحظ أنه يجب أن يكون شعور البساطة أو الصغر أو عدم الاستحقاق لشيء هو عند الإنسان ذاته بالنسبة لنفسه هو، وليس بين القوم، لأن التصاغر أمام الناس مذموم أما التصاغر في ضمير الإنسان لنفسه فهو ممدوح، وهو الذي يجعله يستحق ملكوت السموات كولد.

كذلك نجد ق. لوقا ينتبه إلى هذا الأمر ويورده هنا بعد ذكر المسيح لآلامه ويتوسّع فيه، ولكن من الملاحظ في كل هذه أن المسيح يلتقطها من نفسه بالإيحاء دون أن يسمعهم ويرد عليهم. وهنا في هذه المرة أحضر ولداً صغيراً في وسطهم وابتدأ يعطي درسه العجيب عن التصاغر المؤدي إلى الملكوت، على غرار المسيح نفسه الذي أخلى ذاته من مجد الألوهة وصار كإنسان حقير عبد، ومن تحت هذه الحقارة وانسحاق النفس كعبد ربح العالم كله للملكوت بالصليب!! فالتصاغر لكسب الملكوت هو تصاغر إلهي لا تدانيه عظمة أعظم الناس. ويعطينا مثالاً في هذا التصاغر العجيب المهيب داود النبي والملك لميا خرج ليستقبل تابوت العهد، فكان يمشي ويرقص أمامه، فلما عيرته ميكال زوجته وهي ابنة شاول الملك السابق قال لها: «فقال داود لميكال، إنما أمام الرب الذي اختارني دون أبيك ودون كل بيته ليقيمني رئيساً على شعب الرب إسرائيل، فلعبت أمام الرب. وإني أتصاغر دون ذلك وأكون وضيعاً في عيني نفسـي وأمَّا عنـد الإمـاء الــتـي ذكرت (عيرته كـيـف ترقص أمام العبيد والإماء) فأتمجد.» (2صم 6: 21و22)

عزيزي القارئ، إن العظيم حقا هو من يستطيع أن يتصاغر. وهذا يكون مستوى الداخلين إلى ملكوت الله الصغار حقا والمتصاغرين بالحق!! لهذا قال: إن باب الملكوت ضيق.

ويبدو أن العراك كان بين يهوذا وق. بطرس، إذ يبدو أن يهوذا كان ذا شخصية معتداً بنفسه!

46:9 «وداخلهم فكر من عسى أن يكون أعظم فيهم؟»

لقد أدرك المسيح هذا الذي دار بينهم وبادرهم بالتعليم. وقد أكد المسيح هذا في مواضع كثيرة لأن هذا النقاش والعراك على من يجلس أولاً ومن يكون فيهم أعظم تكرر منذ بداية التلمذة، وظلت هذه النقيصة لاصقة بهم وربما بسبب يهوذا حتى إلى وقت العشاء الأخير. أمر مؤسف وهو إسفين الشيطان الذي طعن به الكنيسة ولا زالت تعاني منه، وهذا الفكر لم يفارق أي هيئة دينية في العالم أو في الكنيسة حتى في الأديرة بين الرهبان. وهكذا استطاع الشيطان أن يشغل فكر الكنيسة ورؤسائها وكل العاملين فيها ـ من هو الأول، من هو الرئيس، من هو الأعظم – عن أن تؤدي دورها التواضعي بين الناس، واختفى قول الرب: «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب.» (مت 29:11)

47:9 «فعلم يسوع فكر قلبهم، وأخذ ولدا وأقامة عنده».

لقد أحس المسيح بالروح فيما كانوا يتحاورون به دون أن يعلمه أحد، ولكنه في هدوء انتقى من الواقفين ولداً صغيراً وأوقفه بجواره، وكان هذا العمل وحده فيه عظة لمن له قدرة أن يتعظ المعلم المملوءة توجيهاً، فكونه في بداية الدرس يوقف الولد بجواره فهذا نوع من تكريم الصغير، بمعنى أ أن تعليمي ليس على مستوى العظماء ولكن بواسطة هذا الولد سأعطيكم درسي. من لفتات

48:9 «وقال لهم: من قبل هذا الولد باسمي يقبلني، ومن قبلني يقبل الذي أرسلني، لأن الأصغر فيكم جميعاً هو يكون عظيماً».

لقد قال المسيح في مسألة من هو أول أو أعظم، مثلين:
المثل الأول: ضرورة أن يصير الإنسان مثل ولد حتى يدخل ملكوت الله.
المثل الثاني: أن من يقبل ولداً باسمي يقبلني.

والقديس متى ضم الاثنين معاً هكذا: «فدعا يسوع إليه ولداً وأقامه في وسطهم وقال: الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات. فمن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السموات. ومن قبل ولداً مثل هذا باسمي فقد قبلني.» (مت 18: 2-5).

والقديس لوقا ذكر أيضاً قبول الملكوت مثل ولد: «الحق أقول لكم: من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله.» (لو 17:18)

والحقيقة أن هذا الموضوع أصبح على ثلاثة أوضاع:
الوضع الأول: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات.» (مت3:18)
الوضع الثاني: «من قبل ولداً واحداً مثل هذا باسمي فقد قبلني.» (مت 5:18)
الوضع الثالث: «من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله.» (لو 17:18)

 ولكن الشرح الذي يتضمن هذا كله يمكن أن يكون هكذا:
إن من يتصاغر حتى إلى مستوى هذا الولد من أجل اسمي يعتبر أنه قبل المسيح ذاته، بمعنى أن مستوى فهم وقبول الملكوت هو على مستوى تصاغر القلب والروح والنفس حتى إلى مستوى الطفولة. لأن العكس من ذلك أن يتصرف الإنسان إزاء الملكوت والمسيح كعالم متعلم بكـل علـم الفلاسفة. فالمسيح هنا جعل قبوله على مستوى قبول ولد، فالقبول هنا هو الإدراك والإيمان معاً، بمعنى أن يكون خالياً من التعقيد، خالياً من الذاتية على أساس من الشعور بالصغر وعدم الاستحقاق لشيء، ولكن في آن واحد يكون له ثقة الولد في الطلب وثقته في الأخذ، بمعنى أن يثق أن ما يطلبه يناله بالدالة التي فيه دون أي شعور منه بالاستحقاق لشيء، لأنه ليس إنسان في الوجود يشعر بصغر ذاته إلا الأولاد. والمسيح يطلب أن الذي يأتي إليه يكون بهذا الشعور الذي للولد: شعور بالصغر، شعور بعدم الاستحقاق، وبآن شعور بالدالة، شعور بأن ما يطلبه يناله، مع ثقة بكل وعد وانتظار تتميم الوعد. وفوق هذا كله الافتخار الشديد بالحظوة عند المسيح والله مع الفرح الغامر الذي يحول حياته إلى نعيم يملأ قلبه ومخيلته. وطالما قد وصل إلى حضرة المسيح فليس هناك قوة على الأرض تنتزعه من حضن يسوع.

وأما معنى هذه الآية بحسب ما يقول العالم أليس عن العالم كريد فهو أن خدمة المحبة إنما تختبر بمستوى سلوكها تجاه المحتقرين والمستضعفين].

ولكـن يلزم أن نزيد عليها أن استحقاق المحبة في المسيح أو للملكوت إنما يكون على مستوى المحتقرين والمستضعفين أيضاً.

وهنا قد اختزل كل من العالم كريد والعالم أليس موضوع قياس الولد بالنسبة للإيمان بالمسيح وقبوله، وبالتالي قبول ملكوت الله، إلى أن قصد المسيح هو مجرد إعطاء مثال الأقل أو الأصغر The least. ولكن الطفولة ليس أبرز ما فيها الصغر، فيها الصغر نعم ولكن بدون الوداعة والحب والدالة واستجابة النداء والثقة الزائدة والفرح الشديد لا تحسب طفولة ولا تحسب قياساً يقاس عليه. وأعظم مثل لرغبة المسيح في قياس سيكولوجية الولد قدمته أعظم شخصية روحية في القديم، وهو داود الملك لما رقص أمام التابوت، ولما عيرته زوجته (بنت شاول) رد عليها بما يرغبه ويتمناه المسيح لنا: «… أمام الرب، وإني أتصاغر دون ذلك وأكون وضيعاً في عيني نفسي وأما عند الإماء (مؤنث العبد) التي ذكرت فأتمجد »(2صم 6: 21و22) وبهذه الصفة الملكوتية قال عنه الله: «وجدت داود بن يئى رجلاً حسب قلبي.» (أع 22:13)

هذا هو داود الأعظم والأصغر بآن واحد. ولكن: ومن يكون داود إزاء من ترك عرشه في السماء، وأخلى نفسه من مجده، وأخذ شكل العبد وأطاع حتى الموت موت الصليب؟

11 ـ من ليس علينا فهو معنا (50,49:9)

(مر 38:9-40)

50,49:9 «فأجاب يوحنا وقال: يا معلم، رأينا واحداً يخرج الشياطين باسمك فمنعناه، لأنه ليس يتبع معنا. فقال له يسوع: لا تمنعوه، لأن من ليس علينا فهو معنا».

بعد تعريف يسوع للتلاميذ بمن هو الأعظم، يبتدئ ق . لوقا بعد ذلك بموضوع أثاره ق. يوحنا عن إنسان يحترف إخراج الشياطين مستخدماً اسم يسوع المسيح فمنعوه لأنه لا : يتبع التلاميذ. ولأهمية هذا الموضوع جعلناه وحده منفرداً لأن الكنيسة تعاني كثيراً بسبب غياب هذا المبدأ. فقول المسيح أن من ليس علينا فهو معنا يفتح الباب لمزيد من أن يكون هذا الإنسان معنا لو فتحنا له باب المحبة. فالمسيحية لا تؤمن بالعداوة ولا المقاومة ولا التحرب، خاصة وأن اسم المسيح هنا مشترك، فالكنيسة عانت المرارة من القطع والحرمان والصـدود ولم تستخدم المحبـة قبـل القـطـع. فالـذي يقبـل المسيح ولا يقبلنـا لـيـس هـو عدونا بالضرورة. وإن كانت الفرقة حادثة في عدم الاتفاق على الاسم، اسم يسوع المسيح، فالسر في ذلك في نقص المحبة، لأن المحبة تقرب القلوب، وإذا اقتربت القلوب اقتربت المبادئ والأفكار والاعتقادات. فإذا قبلنا هذا البعد أو عدم الاتفاق لأي سبب مهما كان فالمحبة قادرة أن تلغيه، خاصة إذا كانت على مستوى التواضع في ضوء المثل السابق أن نصير كأولاد حتى ندخل معاً ملكوت الله.

والإنسان يتعجب من العلماء الذين وضعوا كل همهم في كيفية إخراج الشيطان، ولم يعالجوا هذا المبدأ الخطير الذي أتعب الكنيسة على مدى التاريخ كله، إذ كان فرض العداوة قبل ممارسة المحبة هو سياسة الكنيسة بالنسبة للذي يختلف معها في “الاسم”، اسـم يسوع. والإنسان يتعجـب هـل مـن أجـل إخلاصنا لاسم يسوع ننقسم ونحارب بعضنا بعضاً ونعيش في بغضة وقطيعة ونحن نخدم اسماً واحداً مات صاحبه على الصليب من أجلنا نحن جميعاً؟! 

فانظر عزيزي القارئ جيداً إلى هذا القانون الذي وضعه المسيح للتلاميذ أي للكنيسة: «من ليس علينا فهو معنا» أليس هذا باباً مفتوحاً: طالما الذي يكرز باسم المسيح ليس ضدنا فعلينا أن نقترب إليه بالمحبة وهو يقترب إلينا بالمحبة حتى تخدم معاً اسماً واحداً. لأن انقسامنا أحدث انقساماً في اسم المسيح أمام العالم. فإن كنا نخدم اسم المسيح حقا واسم المسيح واحد غير منقسم، أصبح انقسامنا بسبب الاسم عاراً علينا وعلى اسم المسيح. وإنه لأمر مستحيل أن يعبد اثنان المسيح بحق وإخلاص وهما متخاصمان وأعـداء لبعضهما. الكنيسة المنقسمة في العالم اليـوم استطاعت بسلطانها وقوانينها أن تدخل العداوة والفرقة والقطيعة في صميم الإيمان والعقيدة وتجعل الشعب يؤمن مرغماً بأن عقيدته هي الحق وعقيدة الغير خطأ ويلزم الفرقة والبعد بل والحرص والقطيعة بل والعداوة حتى يظل كل شعب على حق!!

 ليس المطلوب الآن وحدة العقيدة والنطق الواحد بكل مفردات الإيمان، بل المطلوب قبول كل واحد للآخر على أنه حق لنفسه وعلى أن له إيماناً حقيقياً صادقاً لنفسه وعلى أساس محبة صادقة من القلب. هذا يمهد للمسيح الموجود في الوسط أن يمارس سلطان وجوده، لأنه أن تتصالح كل الكنائس وتتفق بالمداولات على إيمان وعقيدة موحدة أمر مستحيل للطاقة البشرية، ولكن يستحيل أن يجتمع الجميع بحضور المسيح ولا يوجد المسيح الإيمان والعقيدة بحضوره. لأن ما أفسده الإنسان لا يصلحه إنسان، ولكن طبيعة المسيح ووظيفته أن يصالح المضادات ويجعل الاثنين واحداً (أف 14:2).

يبدو أن المسيح متعوق في مجيئه بسبب عدم المصالحة في كنيسته،
إذ يقول ملاخي النبي إن الصلح حتمي لمجيء الرب وإلا إذا جاء
على خصومه فإنه سيضرب الأرض باللعن (مل 6:4).

 

 

 

ملكوت الله . فالمتقدمون أو المدعوون لملكوت الله، كما هو واضح من الآية (62:9)، يتحتم عليهم أن يكون عندهم أولاً وأخيراً، إذ هـم مـدعـوون أن يتبعـوا مـن هـو الأول والآخر (رؤ 17:1). ولا يسمح لشيء أن يعوق الطريق إلى الملكوت أو يفضلها حتى ولو كان إلى دفن الأب الميت في البيت . إلى هذا الحد يوضح المسيح خطورة السعي في طلب ملكوت الله، لأنه يعتبر المحك للحياة أو الموت بالنسبة للإنسان الساعي في طريق الله.

وهكذا تبدو المطالب في مجموعها أن يكون الإنسان بلا قيد وتتخطى بهذا مطالب التلمذة للربيين

والفريسيين. ويلاحظ أن ق. لوقا امتاز عن ق. متى بأن اختار هذا الوضع لهذه الحالات المسجلة أمامه

ووضعها قبل إرسالية المسيح لتلاميذه السبعين مباشرة كدستور حياة، كذلك ق. لوقا أضاف على ما في

إنجيل ق. متى الحالة الثالثة من مصدر آخر.

عن وهذا الجزء من الإنجيل يهمنا جداً لأنه يعطي الأصل أو المنبع الذي أخذت منه الكنيسة شروط الحياة الرهبانية التي تفرعت منها خدمة الكهنوت بدرجاته، أي أخذت الجزئين الأساسيين اللذين تأسّست عليهما الكنيسة الأولى منذ أول يوم بعد الخمسين، حينما قسّمت خدمة البشارة ككل إلى رسل يتخصصون للصلاة وخدمة الكلمة (أع 4:6)، وشمامسة يقومون بأعواز الشعب الأخرى وأهمها الحياة الروحية، فالتقطت الرهبنة الجزء الأول وهو الصلاة وخدمة الكلمة وذلك بالانقطاع الكلي في مكان واحد على أساس البتولية الدائمة. وتطورت خدمة الشموسية إلى كل درجات الكهنوت التي تخدم الشعب في كل مكان. ثم بدأت الكنيسة تلتفت إلى الرهبانية لتأخذ منها خدامها، ولكن ظلت وإلى الآن الرهبانية مستقلة الكنيسة. ولكن أخيراً تغيّر هذا النظام بأكمله لما بدأت الكنيسة تقيم للمجموعات الرهبانية أسقفاً على كل مجموعة فدخلت الرهبنة تحت نظام الكنيسة، وأضعف جداً هذا النظام التلمذة بجزئيها الرهبانية والكهنوت فلم تعد وصايا المسيح الثلاثة: بلا مأوى، بلا اهتمام بأسرة، بلا ارتباط بأسرة – إلا في الحالات الرهبانية المتحفظة جداً. لذلك كان آباؤنا الشيوخ القدامي يقولون لنا عند الرسامة للرهبانية: “ يا ابني احسب النفقة” لأنها في عرف العالم باهظة جداً.

ولكن وصايا المسيح لا تُحسب باهظة التكلفة للتلمذة وخدمة ملكوت الله وبالتالي ليست الكنيسة

مغالية في ترتيب طقس الرهبانية فيها، لأن الله في العهد القديم طالب بني لاوي المنوط بهم خدمة خيمة

الاجتماع ـ التي توازي في الماضي الهيكل في أورشليم والآن الكنيسة أو الدير ـ بما يتوازي مع هذه

الوصـايا. ويكفـي أن نعطـي لمحـة خفيفـة عـن الـوصـايـا الـتـي كـان يحرص اللاويـون قـديماً

ً

خامساً: نحو الصليب (51:9 – 10:19)

عنـد نهايـة الآيـة (50:9) ت اقَّــف ق. لوقـا عـن أن ينقــل عـن القـديس مـرقس، ولكنــه سـيعود إليـه عنــد الآية (15:18) التي عند ق. مرقس هي (13:10)، وقـد أسـقط مـن روايتـه مجمـل الجـزء مـن مـرقس 41:9 إلى 10: 12 الا أنه كان يتقابل مع بعض محتوياته في مواضع قليلة لا نريد أن نرهق القارئ بمتابعتها.

على الطريق:

تعاليم المسيح لتلاميذه:

( أ ) واجبات التلمذة وتميزها وامتيازاتها
(24:10-51:9)

1 – المسيح تجاه قرية السامريين (9: 51-56)

القديس لوقا وحده

أول جزء مـن الحديث يختص بالتلاميـذ الذين يرافقونه في طريقه الصـاعد إلى أُورشـليم. مــــن أول الحديث يعطينا ق. لوقا فكرة عامة عن أين المسيح وإلى أين. فنحن في الجليل الآن والمسيح يتخـذ طريقـا ً ً ليســير فيــه لا يعرفــه فيــه أحــد إذ أراد أن يعــبر في الســامرة صــاعداً إلى أُورشــليم. والعــداوة المـرة بــين السامريين واليهود معروفة. ولكن يبدأ ق. لوقا الحديث بقوله: « وحينما تمَّت الأيام لارتفاعـه ثبت وجهه لينطلـق إلى أورشـليم » وبقولـه: « حينمـا تمـت الأيـام لارتفاعـه»؛ يقصـد أن الـزمن المحـدد للكرازة والمحـدد من الآب قارب على الانتهاء. وهكذا نحس أن الأيام لا تسير ببطء كما في بداية الإنجيل ولكن توقع الحوادث والأيام يجري بسـرعة. وكل ما نستخلصه من الأحاديـث هو الإصرار الهادئ الذي يعلنه المسيح بوضوح لتقبل النهاية بثبات ووجهـه متجه نحو أورشليم. وأهـم الحوادث هي بعض المضايقات والمقاومات التي كان يعبر عليها المسيح كمسافر. فالهدف لا يحتمل أن تثنيه عنه مقاومات. وهنا تظهر روح المسيح المتزنة الفائقة السمو، خاصة في مواجهة العداوة كسبق تذوق بسيط إذا قيس بما ينتظره هناك في أورشليم من آلام مروعة. وقد سبق أن رفضته الناصرة فعبر عليها بهدوء في بداية خدمته. وقد أغراه يوحنا ويعقوب أخوه للانتقام من السامريين الذين أظهروا لهم روح العداء، ولكن المسيح تخطاها دون انفعال وظهرت روحه الهادئة المنتصرة على الشر دون مصاريف . فوضح الفارق الهائل بين روح إيليا لما طلب أن تنزل نار من السماء وتأكل المضادين، وبين المسيح الذي أعطى تلاميذه درساً فيما ينبغي أن يكون عليه المسيحي من محبة وتسامح تجاه الأعداء. فشكلت قصة السامريين ورفضهم حتى لا يعبر المسيح في أرضهم أول صورة للكنيسة وقد نزلت بحر العالم لتعبر بالمسيح الأهوال، وكانت هذه القضية للتلاميذ هادياً في طريق إرسالية الخدمة ونصحاً غالي القيمة للذين يبادلون الشر بالشر.

وواضح أن ق. لوقا اهتم ! بأن يضع هذه القصة في موضعها هنا في بداية الرحلة الأخيرة لأورشليم، لأن روح التعليم في هذه القصة واضح جداً أنه ليؤسس للكنيسة منهجاً واضحاً في المعاملات. علماً بأن ق. لوقا هو الوحيد الذي اهتم بهذه القصة ليقطع بها خط الرجعة على الكنيسة كمؤسّسة سلام ومحبة أن تمارس النقمة أو ترد على المقاومة. ويسرد ق. لوقا هذه القصة كتوجيه مقدم من المسيح خصيصاً هنا للتلاميذ الذين أرسلهم أمامه في ذهابه لأورشليم. لهذا تظهر بوضوح شديد أنها جزء حي من أصول الكرازة وواجباتها.

51:9 «وحين تمت الأيام لإرتفاعه ثبت وجهه لينطلق إلى أورشليم».

«تمت الأيام»: 

كلمة تشير إلى أن ما هو قادم في الكلام خطة إلهية سبق تحديد زمانها ومكانها، وكانت خدمة المسيح السالفة كلها تمهد وتشير وتسير نحو ما سيحدث في أورشليم. كذلك تشير كلمة تمت” إلى أن النهاية في حيـاة المسيح وخدمتـه قـد تمـت حـسـب تدبير الله السابق. وتأتي كلمـة ارتفاعـه ” لتوضح أنها هي المقصودة من قبل، والتي من أجلها سار المسيح طريقه منذ البدء. يعني هنا أن الصعود هو الغاية التي ينتهي الزمان والطريق معاً إليها، ولكن كلمة ارتفاعه” تتضمن أصلاً نزوله: «وأما أنه صعد، فما هو إلا إنه نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى» (أف 9:4)، وهنا إشارة سرية للموت والنزول إلى القبر. إذن، «تمت الأيام» هو اصطلاح عجيب غزير المعنى وعميق، وقد استخدمه المسيح نفسه (يو 23:12 1:17، مت 18:26) إشارة إلى نهاية العملية برمتها: الآلام والموت والقيامة ثم الارتفاع. ومجيء اسم إيليا حالاً بعد ذلك يعطينا فكرة أن مقصد الارتفاع هو حاضر في ذهن التلاميذ لأن إيليا صعد إلى السماء حيا (2مل 10:2 إلخ) وكأن من ضمن الطريق الذي بدأه المسيح بالسير نحو أورشليم هو كمالة الطريق إلى فوق .

52:9 «وأرسل أمام وجهه رسلاً، فذهبوا ودخلوا قرية للسامريين حتى يعدوا له».

تعتبر السامرة الفاصل الطبيعي بين اليهودية والجليل، وعاصمة اليهودية هي أورشليم، ولكن بسبب عداوات قديمة أصبح من العسير أن يعبر إنسان عبر السامرة متجهاً نحو أورشليم، لدرجة أن المسافر لابد أن يأخذ معه طعامه على طول الرحلة لأنه لا يتمكن من شراء شيء أو طلب طعام إن كان يهودياً. واليهود يعتبرون السامريين دنسين، لا يتصلون بهم بأي وسيلة، ولذلك فإن اليهودي لا يأكل طعاماً من السامرة.

من أجل هذه الأسباب أرسل المسيح رسلاً ليعدوا له الطريق من طعام وخلافه. ولكن كان قصد المسيح لو أمكن أن يسمحوا له بالخدمة في إحدى قراهم التي على الطريق، لهذا أرسلهم ليعدوا له مكاناً بينهم، ولكن للأسف الشديد رفضوا.

53:9 «فلم يقبلوه لأن وجهه كان متجهاً نحو أورشليم».

عداوة جنس ودين واحتكاك دائـم وبغضـة شديدة من الناحيتين وخاصة بين العاصمتين، لأن أورشليم حسب ادعاء السامريين اغتصبت كرامة السامرة ومركز العبادة، لذلك تأصلت العداوة وقامت المناوشات المحلية باستمرار، وهذا يحكيه يوسيفوس المؤرخ، وكان من العسير أن يمر يهودي في أرض السامرة خاصة إن كان متجهاً نحو أورشليم.

54:9 «فلما رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا، قالا: يارب، أتريد أن نقول أن تنزل نـار مـن السماء فتفنيهم، كما فعل إيليا أيضاً؟».

وهنا ينتهز ق. لوقا قصة إيليا والنار التي أكلت رسل الملك والذين معه المذكورة في (2مل 10:1)، ينتهز هـذا الحادث ويضعه هنـا كتـعـلـيـم للكنيسة كي لا تستخدم الكنيسـة سـلطانها الروحي ولا الزماني للـدعاء ضد الأعداء، أو حتى تمني الشـر للناس مهما قدموا من رفض وإهانة. وفعلاً صارت هذه القصة جزءاً لا يتجزأ من التقليد التعليمي في الكنيسة الحية. ويلاحظ أن ق. لوقا يعطي اسمي يعقوب ويوحنا اللذين اسمهما بوانرجس أي ابني الرعد (مر 17:3)، ربما تعليقاً على قولهما هذا. ونحن نتعجب لأن درس المسيح الأول للتلاميذ كان واضحاً فيه مثل هذا التعامل وكيفية معالجته: «وكل من لا يقبلكم فاخرجوا من تلك المدينة …» (لو 5:9). ولكن الذي يبدو لنا أن رد يعقوب ويوحنا لم يكن مجرد مجاملة أو لغو كلام، لذلك رد عليهم المسيح في الحال.

55:9 «فالتفت وانتهرهما وقال: لستما تعلمان من أي روح أنتما!»

اتفق هنا العلماء وبلا استثناء أن هذه الآية أضيفت مبكراً جداً بواسطة أحد النساخ لأن جميع النص الأقدم لم يحتويها. على كل حال هي توافق الموقف والمعنى. والكلام ينتهي في المخطوطات القديمة عند: وانتهرهما”. 

 

56:9 «لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص. فمضوا إلى قرية أخرى».

يتفق العلماء أن هذه القرية ليست في السامرة، إذ يبدو أنهم بعد الرفض قد عبروا من جديد إلى الجليل ثم إلى بيرية، كما عاد ق. لوقا وذكرها في الآية (11:17): «وفي ذهابه إلى أورشليم اجتاز في وسط السامرة والجليل» وبهذا نفهم أن المسيح أكمل وصيته أنه إذا رفضوكم في مدينة فاذهبوا إلى أخرى.

2 ـ تكلفة التلمذة (57:9-62)

(مت 19:8-22)

بعد أن رفضوا في السامرة وابتدأوا يعبرون في الجليل، تقدم إليه بعض الأشخاص يطلبون التلمذة للمسيح بينما كان متجهاً نحو أورشليم، غير أنهم لم يكونوا على قدر كاف من تحمل تكلفة التلمذة للمسيح. وأجاب يسوع على كل واحد منهم ـ وقد كانوا ثلاثة – بالإجابة التي تناسب وضعه. فكشف المسيح لهم صعوبة الطريق وصرامة حياة التلمذة، فالذين يتبعونه أينما ذهب يتحتم عليهم أن يستعدوا ليكونوا بلا مأوى كما ارتأى المسيح أن يعيش، كذلك يجب أن يضع الإنسان التلمذة فوق حاجات الأسرة وواجباتها ويكافح للنهاية.

 فالمتقدمون أو المدعوون لملكوت الله، كما هو واضح من الآية (62:9)، يتحتم عليهم أن يكون ملكوت الله عندهم أولاً وأخيراً، إذ هـم مـدعـوون أن يتبعـوا مـن هـو الأول والآخر (رؤ 17:1). ولا يسمح لشيء أن يعوق الطريق إلى الملكوت أو يفضلها حتى ولو كان إلى دفن الأب الميت في البيت . إلى هذا الحد يوضح المسيح خطورة السعي في طلب ملكوت الله، لأنه يعتبر المحك للحياة أو الموت بالنسبة للإنسان الساعي في طريق الله.

وهكذا تبدو المطالب في مجموعها أن يكون الإنسان بلا قيد وتتخطى بهذا مطالب التلمذة للربيين والفريسيين. ويلاحظ أن ق. لوقا امتاز عن ق. متى بأن اختار هذا الوضع لهذه الحالات المسجلة أمامه ووضعها قبل إرسالية المسيح لتلاميذه السبعين مباشرة كدستور حياة، كذلك ق. لوقا أضاف على ما في إنجيل ق. متى الحالة الثالثة من مصدر آخر.

وهذا الجزء من الإنجيل يهمنا جداً لأنه يعطي الأصل أو المنبع الذي أخذت منه الكنيسة شروط الحياة الرهبانية التي تفرعت منها خدمة الكهنوت بدرجاته، أي أخذت الجزئين الأساسيين اللذين تأسّست عليهما الكنيسة الأولى منذ أول يوم بعد الخمسين، حينما قسّمت خدمة البشارة ككل إلى رسل يتخصصون للصلاة وخدمة الكلمة (أع 4:6)، وشمامسة يقومون بأعواز الشعب الأخرى وأهمها الحياة الروحية، فالتقطت الرهبنة الجزء الأول وهو الصلاة وخدمة الكلمة وذلك بالانقطاع الكلي في مكان واحد على أساس البتولية الدائمة. وتطورت خدمة الشموسية إلى كل درجات الكهنوت التي تخدم الشعب في كل مكان. ثم بدأت الكنيسة تلتفت إلى الرهبانية لتأخذ منها خدامها، ولكن ظلت وإلى الآن الرهبانية مستقلة الكنيسة. ولكن أخيراً تغيّر هذا النظام بأكمله لما بدأت الكنيسة تقيم للمجموعات الرهبانية أسقفاً على كل مجموعة فدخلت الرهبنة تحت نظام الكنيسة، وأضعف جداً هذا النظام التلمذة بجزئيها الرهبانية والكهنوت فلم تعد وصايا المسيح الثلاثة: بلا مأوى، بلا اهتمام بأسرة، بلا ارتباط بأسرة – إلا في الحالات الرهبانية المتحفظة جداً. لذلك كان آباؤنا الشيوخ القدامي يقولون لنا عند الرسامة للرهبانية: “ يا ابني احسب النفقة” لأنها في عرف العالم باهظة جداً.

ولكن وصايا المسيح لا تُحسب باهظة التكلفة للتلمذة وخدمة ملكوت الله وبالتالي ليست الكنيسة مغالية في ترتيب طقس الرهبانية فيها، لأن الله في العهد القديم طالب بني لاوي المنوط بهم خدمة خيمة الاجتماع ـ التي توازي في الماضي الهيكل في أورشليم والآن الكنيسة أو الدير ـ بما يتوازي مع هذه الوصـايا. ويكفـي أن نعطـي لمحـة خفيفـة عـن الـوصـايـا الـتـي كـان يحرص اللاويـون قـديماً الذي قال عن عليها بأمر الله – علماً بأن اللاويين منهم الكهنة أولاد هارون. وهنا موسى يعطي البركة لسبط لاوي فيقول: «وللاوي أبيه وأمه لم أرهما وبإخوته لم يعترف وأولاده لم يعرف، بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك. يعلمون يعقوب أحكامك وإسرائيل ناموسك. يضعون بخوراً في أنفك ومحرقات على مذبحك. بارك يا رب قوته وارتض بعمل يديه. أحطم متون مقاوميه ومبغضيه حتى لا يقوموا. »(تث 33: 8-11)

هذا قانون حياة اللاوي كاهن العهد القديم: «عن أبيه وأمه لم أرهما» أي انقطع لدرس التوراة وصان عهد الله، وأيضاً «بإخوته لم يعترف» أي كأنهم غير موجودين لديه، «وأولاده لم يعرف» وحتى أولاده كأنهم ليسوا له، هذا كله ليتفرغ لدراسة كلمة الله ونساختها وشرحها وتعليمها للشعب. علماً بأن اللاوي أبوه لاوي مثله وقد يكون كاهناً ابن كاهن ولكن ليس لأبيه حقوق عنده وكأنه ليس أباه، ليتفرغ لكلمة الله وصون عهود الله المكتوبة ومتطلباتها.

 لذلك لا يظن أحد أن وصايا المسيح الثلاثة للتلمذة التي ذكرناها هي ثقيلة بل تبدو الآن أهـون قليلاً. ولكن على مستوى العموم فإن خادم الرب على أي مستوى وعلى كل حال وضع عليه أن يتفرغ كلية لكلمة الله وصيانة عهد الله. كذلك لا يظن أحد أن الرهبنة اخترعت قوانينها بل هي ـ كما هو واضح ـ مأخوذة من وصايا الله للاوي خادم الله. فاللاوي واضح من بركة موسى الوحيد هو خدمة الله، وليس للأب أو الأم أو الإخوة والأخوات حقوق عنده. أليست هذه بالنص هي قوانين الرهبنة، علماً بأن اللاوي متزوج وينجب أولاداً لكي لا يعدم الله خادماً . له أن واجبه يخدم مقادسه.

والجميل للغاية أن في الثلاثة نماذج من التلاميذ الذين جاءوا يطلبون التلمذة لدى الرب يسوع، اثنان منهما جاءا باختيارهما وواحد ناداه الرب، وهذا يعني أ أن يسوع المسيح الذي وضع قانون التلمذة ويعلم بمشقته يدعو إليه تلاميذاً ويا لطوبى لمن يدعوه الرب .

ومن يدعو؟ يدعو الذي هو وحيد أبيه ويموت أبوه ولا يعود ليدفنه، وهذه منتهى الجفوة بحساب الناس والعالم، ولكن هذه تأخذ صداها من قول الرب: «ليس أحد ترك بيتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أما أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً، لأجلي ولأجل الإنجيل، إلا ويأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية» (مر 29:10و30). فإذا سألتني لماذا الكنيسة ضعيفة؟ أقول لك لأن التلمذة فقدت طريقها.

57:9و58 «وفيما هم سائرون في الطريق قال له واحد: يا سيد، أتبعك أينما تمضي، فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه».

 إزاء طلب الشخص الأول الذي تقدم من ذاته طالباً أن يتبع المسيح أينما يمضي (بمعنى التبعية وليس ليكون كأحد التلاميذ وإنما ليكون من التابعين وكفى)، كان رد المسيح على هذا المشتاق للتبعية أن اتباع الرب معناه ترك كل شيء جملة ـ أي مرة واحدة ـ كمن قطع التذكرة في الطريق الصاعد إلى السماء بعيداً الأهل والوطن والأحباء والمال والغنى وأوهام العالم الباطل. وأشار المسيح إلى انعدام فرص إراحة الجسد وتنعيمه، ولا حتى إلى درجة أين ينام الإنسان وأين يستريح، كالطائر الذي يخرج من ا البيضة ويتعلم الطيران فيطير ولا يعود يذهب إلى عشه. وحتى الطائر أعطي الغريزة أن . لنفسه عشاً، أما يبني الساعي وراء المسيح أو الملكوت فقد فقد هذه الغريزة، إذ يكون كإبراهيم الذي دعاه الله ودعا نفسه لاتباع الله بالإيمان فخرج من وطنه وبيته وعشيرته حسب الصوت الذي دعاه، وسار في الأرض ولا يعلم أين يذهب (عب 8:11)، وصار متغرباً في أرض غريبة ممتدة بطول بلاد فلسطين وعرضها من مكان إلى مكان يضرب خيمته وينام، فأقسم الله أن يعطيه كل الأرض التي تغرب فيها وطناً لنسله تعبيراً عن استيطان السماء التي افتتحها واحد من نسله وهو المسيح. فالذي يريد أن يستوطن السماء عليه أن يعيش متغرباً عن أهله ووطنه وبيته، وحتى جسده، لأن من يتمسك بجسده كمن يبيع وطنه السماوي، ومن تغرب عن جسده يكون قد استوطن السماء. لأن الجسد في الإيمان المسيحي يمثل الوطن والأهل والعشيرة والدنيا والعالم؛ بل ويمثل التفاهة واللاشيء، بل والموت والفناء، لأنه هو وكل ما له وكل أعماله من التراب وإلى التراب يعود: «فإذ نحن واثقون كل حين وعالمون أننا ونحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغربون عن الرب . فنثق ونسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب.» (2کو 5: 6-8)

وهكذا جاء المسيح وأعطى نفسه مثالاً حتى إلى الحرمان من راحة الجسد، أو غفوة يغفوهـا وهـو متعب في مكان رأسه فيه. حتى وبهذا الجسد المتعب والرأس التي لم تعرف راحة الإغفاءة وقت التعب الشديد استطاع أن يتقدم إلى الصليب ليقدم هذا الجسد ذبيحة عن كل تعابى الأرض، ليهبهم لا راحة جسدية بعد ولا راحة زمنية، بل راحة هي الراحة العليا بجسد جديد خلقه لنا من صليبه وقيامته، جسداً روحياً لا من تراب الأرض بعـد بـل مـن طبيعة جسد قيامته، مؤهلاً لملكوت الله الذي تحشد ليدعونا إليه.

59:9 «وقال لآخر: اتبعني. فقال: يا سيد، ائذن لي أن أمضي أولاً وأدفن أبي».

دفن الموتى من المهام الأساسية جداً في الحياة الاجتماعية عند اليهود، بجانب أنه واجب ديني حتى لا يعدى أحد إن كان الموت بمرض ما. ولهذا يعتبر سؤال ذلك المبتدئ للتلمذة وكأنه سؤال معقول وهام. فلماذا لم يلتفت المعلم لأهمية هذا الاعتذار؟ الحقيقة أن المسيح أبرز ولأول مرة أولوية الدخول إلى ملكوت الله فوق كل مهمة أيا كانت، ولكن الأكثر أهمية منطقياً هو أن الآخرين الذين لا يسعون إلى الملكوت لهم الأولى والمنوط بهم هذا الواجب المادي، الذين أسماهم المسيح بالموتى بمعنى أنهم غير طالبين الحياة الحقيقية.

60:9 «فقال له يسوع: دع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله».

 المسيح هنا يضع حدا فاصلاً بين مهام هذا العالم وبين ملكوت الله، أي الخلاص والحياة الأبدية، وقد أوضحها جداً في قوله: «أنا لست من العالم» (يو 14:17). ثم يطبق هذا النص على تلاميذه: « ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم» (يو 16:17). المسيح قطع هنا قطعاً بأن مسيرة الملكوت أو الحياة الأبدية ذات أولوية مطلقة على أي مطلب لهذا العالم، حتى ولو كان أن يدفن الإنسان أباه الميت أمامه. هذا القطع الشديد لم يسنه المسيح من فراغ، بل من خبرة شعب على مدى ألفي سنة تحت وصايا معتدلة لم يستجيبوا لها وخسروا علاقتهم بالله. فابتدأ في العهد الجديد يضع حدا فاصلاً بين ما هو لهذا العالم والجسد بكل مطالبهما وبين الدعوة إلى ملكوت الله، وقد طبقها المسيح منذ أول حركة في تدبير ملكوت الله في رسالته. فقد نادى تلاميذه وهم في وسط معمعة العالم وطالب الصياد أن يلقي بصيده ومهنته ويتبعه، ونادي موظف الضرائب أن يترك مهنته ويتبعه، فلما لبوا الدعوة صاروا رسلاً للكنيسة توضع حول رؤوسهم الهالات ويقدم لهم الملوك الخضوع والطاعة. إذن فدعوة المسيح للملكوت تختص بصميم حالة الإنسان ومستواه، ترفعه من المزبلة وتجلسه مع الرؤساء. بمعنى أن دعوة المسيح ليست ضد الإنسان ولكن ضد العالم!! ليست لحرمان الإنسان من أسرته وأفراحه الدنيوية بل ضماناً لمسرته وفرحته الأبدية التي لا يمكن أن تنزع منه.

وحينما يقول المسيح: «دع الموتى يدفنون موتاهم وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله» فهي دعوة للحياة الأبدية، بمعنى الكرازة والمناداة بالملكوت للناس لكي لا يموتـوا مـوتهم الأبدي، أي أن الموت الجسدي بما يحيطه من أحزان وواجبات لا يقاس بالموت الأبدي والحرمان من الحياة مع الله. والمسيح هنا لا يقصد أن يترك الميت لينتن في مكانه، إذ يوجد من هو مستعد لدفنه، بل يقصد خدمة موت الجسد التي لا يمكن أن تُقاس بخدمة الواقعين في الموت الروحي ودعوتهم إلى الحياة الأبدية. هذا طريق وذاك طريق آخــر تمامـاً، فالخدمـــة الدنيويـــة طريقهـا إلى الـــــوال بـكـل محاملاتهـا أمـا خـدمــة الملكوت فهي حياة وبقاء ودوام أبدي.

ويلاحظ أن المسيح هنا هو الذي يدعو الإنسان أن يتبعه لينادي بملكوت الله، وليس ذلك فرضاً وضعه على كل الناس. فهي حالة فريدة من نوعها حينما يسمع الإنسان دعوة الله له ليحيا معه في ملكوته، وكم من أشخاص دعاهم الله فتشككوا وانهزموا وأعطوا القفا الله وفضلوا خدمة العالم، وبعدها ندموا ندماً شديداً، بل عضوا على نواجذهم حينما أحسوا وتيقنوا أنهم لم يحسنوا الاختيار. فالله لا يغتصب إنساناً قط بل أعطى الله للإنسان أن يغتصب ملكوته لكثرة حنانه وحكمته ولشهوة قلبه أن يملأ قلبه بمحبيه. لذلك دعوة الله لا تأتي عارمة وكأنها تهزم إرادة الإنسان، بل تأتي بصوت خفيف خفة نسيم الصباح يكاد الإنسان لا يحسها ولكنه لحظة أن يقبل تزداد ويزداد رنينها حتى تملأ كل كيانه وحياته، بل وتسد عليه كل المنافذ.

 فالله يدعو برقة شديدة غير محسوسة ولا مسموعة لكي تلتقطها الروح فقط وتستجيب لها دون إجبار، لتبقى للإنسان حريته الكاملة في الاختيار دون تدخل زائد من طرف الله.  نعم نقول إنه بمجرد أن تقبل روح الإنسان الدعوة تصير فيه كطاقة من نار تأكل كل ما حواليها ويظل صوت الله الخفيف يتتبع الإنسان حتى يتأكد أنه الله، وبعدها يتواجه الإنسان مع الملكوت مواجهة ويحس بحب الله وفضله وإحسانه كل أيام حياته.

على أن دعوة الله للإنسان أن يتبعه إلى ملكوته تحسب بحساب الربح والخسارة أنها تعادل كل أمجاد العالم ومشتهياته بكل كراماته وغناه، ثم تتخطاه لتلغيه وتلغي وجوده من قلب الإنسان وروحه وفكره، وينتهي الإنسان إلى ما انتهى إليه شاول المدعو بولس: «بل إني أحسب كل شيء … نفاية (أي زبالة) لكي أربح المسيح.» (في 8:3)

61:9 «وقال آخر أيضاً: أتبعك يا سيد، ولكن ائذن لي أولا أن أودع الذين في بيتي».

هنا ولهذا أيضاً سبق المسيح وقيم أعداء الإنسان الحقيقيين أنهم هؤلاء «الذين في بيتي» إذا قيمت العداوة على المستوى الروحي، إذ قال صراحة: «أعداء الإنسان أهل بيته» (مت 36:10). حنين الأسرة والعشيرة والوطن طوح بعظماء كثيرين وجعلهم يفضلون العالم عن الله، وخدمة الأسرة عن خدمة الروح. وقد حاول ذلك الإنسان المربوط بأهل بيته أن ينطلق وراء المسيح ليخدم الملكوت على شرط بقـاء الحنين إلى الأهـل والأصـدقاء والتراب، فيمشـي يـنـادي بملكوت الله وأهـل بيتـه يـشـدون عقله وقلبه وعواطفه من خلف، فتخرج خدمة الملكوت ملوثة بخدمة الجسد تسيطر عليها عواطف اللحم والدم، فتخرج العظات ولها رنين أرضي لا تستطيع أن ترتفع بقلوب سامعيها إلا إلى ما دون السقف. لذلك أسرع المسيح وكشف ذلك الخيط الذي يربطه من خلف ليظهر في الحال أنه لا يصلح إلى أمام ولا إلى فوق!!

62:9 «فقال له يسوع: ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله».

هنا يستخدم المسيح حذق الفلاحة وخدمة حرث الأرض وتخطيطها بالمحراث. فالفلاح الخبير الماهر حينما يخرج بزوج من البقر على المحراث ويبدأ يخطط الأرض خطوطاً طويلة قد يزيد طولها عن مئات الأمتار، والخط بجوار الخط لا يخل ولا إلى شبر واحد وإلا صار مهزأة بين الفلاحين والغادين والرائحين وتتراكم بعد ذلك البذار فوق بعضها فلا تنبت. فالفلاح الماهر بعد أن يكمل حرث حقله تنظره من بعيد وتتعجب لهذه المهارة، إذ ترى الأرض مرسومة بخطوط المحراث باستقامة لا تأتي بها في زماننا هذا إلا الآلات الدقيقة. فإذا لاحظت فلاحنا هذا وجدته واقفاً على مؤخرة المحراث يسوق البقرات وعينه إلى الأمام لا تميل يمنة أو يسرة، وكأن وجهه قد تصلب في اتجاه الخطوط والملكوت ـ وواحسرتاه على فلاح الإنجيل الخائب الذي وقف على المحراث يحرث حقل الله وهو ناظر إلى خلف، إلى أهل بيته ومشدود بمن فيه، تخرج كلماته وعظاته فاقدة استقامة الإنجيل، والروح تميل إلى هنا وهناك لتجامل هذا وذاك ولا تستطيع أن تربط القلوب بالله.

 

زر الذهاب إلى الأعلى