ملكوت الله كالبذرة التي تنمو دون أن نعرف كيف
إنجيل يوم الخميس من الأسبوع الأول من الصوم المقدس
المزمور: « قُوَّتِي وَتَرَنُمِي الرَّبُّ وَقَدْ صَارَ لِي خَلَاصًا. تَأْدِيبًا أَدْبَنِي الرَّبُّ وَإِلَى الْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي» (مز 118: 14، 18).
الإنجيل: «ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:”هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ السَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى الْمَنَارَةِ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ صَارَ مَكْتُومًا إِلاَّ لِيُعْلَنَ. إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ” وَقَالَ لَهُمُ:”انْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ. لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ”. وَقَالَ:”هكَذَا مَلَكُوتُ اللهِ: كَأَنَّ إِنْسَانًا يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ، فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ”» (مر 4: 21-29).
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد ، آمين
إنجيل القداس:
+ «… وَقَالَ: هكَذَا مَلَكُوتُ اللهِ: كَأَنَّ إِنْسَانًا يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ، فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ».
هذا المثل شبية إلى حد كبير بقول المسيح بخصوص ميلاد الإنسان الجديد من الروح: «الرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ نَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا ، لكِنَّكَ لَا تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلَا إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ» (يو 3: 8).
فالولادة الجسدية تتم بضجة وصراخ، ولكن الميلاد الروحي للإنسان لا يلمحه أحد من الخارج؛ أما نفس الإنسان فتحشه في الداخل وتُدرك أنَّ شيئًا هاما وعظيما قد حدث، ولكن سرعان ما يهدأ.
فالمسيح يُمثل الملكوت كالبذرة بالمفرد التي يُلقيها الإنسان في الأرض وهو يقظ، ثم يذهب وينام ويقوم.
والكلام هنا يوحي بالهدوء فلحظة سقوط الكلمة المُحيية في قلب الإنسان يمكن رصدها وتحديدها بالساعة واليوم والسنة: «أَعْرِفُ إِنْسَانًا فِي الْمَسِيحِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَفِي الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ أَمْ خَارِجَ الْجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ اللَّهُ يَعْلَمُ اخْتُطِفَ هَذَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ» (2کو 12: 2) «صَعِدَ بُطْرُسُ عَلَى السَّطْحِ لِيُصَلِّيَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ … فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ غَيْبَةٌ، فَرَأَى السَّمَاءَ مَفْتُوحَةٌ» (أع 10: 9-11)؛ لأنها تكون بارزة في تأثيرها: «فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ وَقَالُوا لِبُطْرُسَ وَلِسَائِرَ الرُّسُلِ: مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ؟ فَقَالَ لَهُمْ بُطْرُسُ تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (أع 2: 38،37 ).
ولكن بعد أن تستقر الكلمة في القلب، تبدأ عملها بهدوء بالغ وبعيدا عن الحواس، حتى أن رد الفعل يصفه الرب بأنّ الإنسان يذهب ينام ويقوم ليلا ونهارًا، أي يُمارس حياته العادية اليومية بهدوء كأن شيئًا لم يحدث، في حين أن قوة الملكوت تكون قد أخصبت روح الإنسان في الداخل وبدأ الجنين الروحي في النمو ليأخذ وجوده وعمله جنبا إلى جنب مع الإنسان الطبيعي. ولكن كما يبدأ اللون الأخضر يكشف عن النبات الجديد الذي بدأ هكذا تبدأ ثمار الروح تكشف عن خليقة جديدة تكون قد بدأت بالفعل تصبغ الحياة كلها الفكر، الكلام المشيئة الشعور السلوك، وكل حركة من حركات الإنسان تبدأ ينمو، تأخذ لونها الروحي بوضوح.
“والبذرة تطلع وتنمو، وهو لا يعلم كيف”.
واضح أن البذرة الأولى اختفت وأنَّ الجسم الجديد هو الذي بدأ يأخذ وجوده.
+ كلمة “تطلع” بمعنى تنبثق إلى أعلى، فبقدر ما تمتدُّ البذرة بجذرها في تربة القلب بقدر ما ينبثق الجسم الجديد إلى فوق فالإنسان الجديد يكون انجذابه إلى أعلى، ضد جاذبية الأرض، وهذه تُمثَّل حرية الإنسان الجديد ضد عبودية العالم وقوانينه، وضد جذب الأرض والأرضيات، ثم الجذب المضاد من فوق يكون بالحب الشديد لله والمسيح.
+ و”تنمو”: هنا الغذاء سري للغاية، والنمو يُبهر نظر الإنسان بالنسبة للبذرة التي بدأت تُعطي نموًا مطردًا قويًّا. فالإنسان يرى نموا كل يوم ألوانا وروائح وأزهارا، ولا يدري من أين يأتيها هذا كله. فالأسرار بالنسبة للنبات كثيرة بالفعل فليست التربة والماء فقط مع المخصبات والإنزيمات والهرمونات والمعادن المعروفة والنادرة والحموضة والقلوية؛ بل والشمس والهواء والرطوبة والجاذبية ومئات من العوامل بعضها عُرف الآن وبعضها لا يزال يُكتشف كل يوم. هكذا بالنسبة للإنسان الجديد يقول المسيح والبذرة تطلع وتنمو وهو لا يعلم كيف.
فالإنسان الجديد لا يطلع ولا ينمو من تلقاء ذاته؛ بل أيضًا تعمل عوامل كثيرة لانبثاقه إلى أعلى وإلى نموّه الدائم. فرسوخ الإيمان هو التربة، وكلمات الإنجيل هي المطر السماوي أي الماء والمخصبات هيا العظات وسير القديسين.
وامتداده إلى فوق باستمرار ضد جَذب الأرض، هو بفعل الحب الإلهي، الذي بمثابة الجاذبية المضادة للعالم.
والدفء والنور والشمس هو بالروح القدس الذي يُلهب القلب ويحفظ حرارة الروح على الدرجة السماوية، وهو المسئول عن كل عمليات التمثيل الغذائي لتحويل كل شيء لحساب الحياة الأبدية.
أما الذي لا نعرفه عن نمو الإنسان الجديد بالروح فهو أكثر مما نعرفه كقول المسيح تماما. ولكن الحقيقة الواضحة أمام عيوننا هي أننا ننمو، وتعلقنا بما فوق يزداد ويتأصل، وقليلا قليلا تنتقل تعلقاتنا من الأرض إلى السماء، ونودّع الوطن الأرضي لنستقبل وطننا السماوي. وبالنهاية نحمل الثمر الذي نُسلّمه للآخرين عندما يأتي الحصاد.
ولكن علينا أن نتنبَّه من جهة إصرار الرب على تشبيه ملكوت السموات ببذرة تسقط في الأرض لتقوم بجسم جديد لتُعطي ثمرًا كثيرًا! لقد كرر المسيح هذا المثل، وأخيرًا وصف نفسه أيضًا بحبة القمح التي تسقط لتموت، لتقوم وتأتي بثمر كثير.
فهنا بداية الملكوت واحدة في كل هذه التشبيهات وهي حتمية موت البذرة عن شكلها وهي مدفونة في الأرض: «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرِكَثِيرِ» (يو 12: 24).
فسر بداية ملكوت السموات يتركز في حتمية موت الإنسان عن شكله وصفاته وطباعه ليأخذ شكلا وصفات وطباعًا أخرى جديدة مختلفة تماما تحمل في طبيعتها قوة الإثمار ودوام الحياة!
كل من لا يهون عليه أن يفقد مواريث صفاته وعاداته وطباعه، ويخشى الموت الإرادي، ويجزع من دفن الذات؛ يبقى كما هو، يبقى وحده، يبقى مُضمنا من الداخل كتربة حجرية لا تقبل الزرع، وكل كلمة تسقط عليها تموت هو أيضًا يذهب وينام ويقوم كالآخرين، ولكن لا شيء ينبثق من داخل، ويظنُّ أنَّ الآخرين مثله، فيبقى لاهيا عن مصيره.
البذرة كحبة القمح مثلا تختزن في داخلها كل صفات جنسها بكل دقائقها مع قوة الحياة التي أخذتها من يد القدير هكذا بذرة الملكوت فهي تحمل صفات أو أفعال وطبيعة الملكوت مع قوة الحياة الأبدية. فعندما تخصب الكلمة في كيان الإنسان الداخلي، تنبثق الطبيعة الجديدة حاملة صورة الملكوت وقوته ونعمته وحكمته.
وكما يغتذي الإنسان من طعام العالم ويستنشق هواءه ويستقبل نوره وحرارته وشمسه؛ هكذا إنسان الملكوت في الداخل يغتذي بالروح والمعرفة والحق – أي المسيح – فهو مأكل حق ومشرب حقٌّ، طعام البالغين (راجع يو 6: 55 ؛ عب 5: 14).
ويختصرها المسيح بقوله: «مَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي» (يو 6: 57). لا نتحول نحن إليه فقط؛ بل هو يحلُّ فينا فيُعطينا حياته وكل ما له.
كما يختصرها بولس الرسول قائلًا: «الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غل 2: 20)، أي يمتص كل ما فينا من عوامل الموت والفناء ليُعطينا الحياة والخلود.
وتختصر الكنيسة ذلك بقولها: “هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له. فلنُسبّحه ونُمجّده ونُزِدْهُ عُلوا” (ثيئوطوكية الجمعة).
الإنسان العتيق يبدأ يذبل ويشيخ حتى يضمحل، فيخرج إنسان الروح والملكوت ويطلع وينمو ويتلألأ خضرة ونُضرة لا تُفارقه إلى الأبد؛ ينفتح فكره على المسيح، فتسكنه الحكمة، وتُعلّمه أسرار التسبيح وطبائع السمائيين.
+ فبقدر ما تُعَتَّم عين الجسد وتكلُّ عن رؤية الزائلات؛
تنفتح عين النفس على رؤية النور والخلود.
+ وبقدر ما تتصامم أذن الجسد عما للجسد؛
تنفتح أذن الروح على ما يقوله الروح.
+ وبقدر ما يشيخ العقل عن الفهم وإدراك الحسيات؛
ينفتح الوعي الروحي على استجلاء كل ما الله.
وننتهي إلى ما يقوله بولس الرسول: «ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ» (1كو 15: 54).
ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.