تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 16 للقمص متى المسكين
الأصحاح السادس عشر:
(ز) المال بين أيدي أبناء الظلمة
وكيف يكون بين أيدي أبناء النور
(31-1:16)
هنا أعطى المسيح مثلاً محتواه مرفوض روحياً، ولكنه يوضح حكمة أبناء الظلمة، كيف يستخدمون المال ولو بالحرام حتى يعيشوا في عالم ظالم شرير . هذا المثل مؤداه أن وكيلاً لرجل غني وشي به، فعرف أنه سيطرد من وكالته حتماً، فذهب وغير الوثائق التي تفيد مديونية الناس للغني، فالذي عليه مائة مكيال زيت جعله يغيّر الصك المكتوب إلى خمسين، والذي عليه مائة مكيال قمح جعله يكتب ثمانين، حتى إذا طرد من وظيفته يمكنه أن يسترد جزءاً من هذه المختلسات لنفسه ليعيش منها. فلا شك أن هذا الإجراء الماكر مرفوض روحياً، فهو مختلس. ولكنه عمل ذلك بحكمة الأشرار من أجل حياته على الأرض. والمسيح يقصد من هذا المثل لا أن نقتدي به ولكن أن نتعلم . منه ماذا نصنع في هذا العالم الظالم الشرير، لكي يكون لنا حياة أفضل في العالم الآخر. واضح إذن أن المطلوب أن نبدد مال هذا العالم الظالم الشرير على الفقراء والمساكين والمعوزين، حتى إذا طردنا من هذا العالم الشرير نجد رحمة وعزاء عند الله في عالم النور. وهذا يحسب لنا عمل حكمة ممتازاً في مالنا الخاص الذي هو مال العالم الظالم الشرير. فالمال كله هنا حسب «مال الظلم» على كل حال مهما حصلنا عليه بالأصول والحلال، فهو مال هذا العالم الظالم الشرير. ولكي نحوله إلى مال مقدس ـ الذي يسمونه الآن عملية غسل الأموال – بالعملة السماوية التي عليها صورة الله، علينا أن نبدده على مساكين هذا العالم الذين ظلمهم العالم وحرمهم من خيراته الظالمة. والآية الرائدة التي جاءت في هذا المثل لتوضحه تماماً جاءت هكذا: « وأنا أقول لكم اصنعوا لكم أصدقاء (في السماء) بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية »(9). هكذا فإن منفعة المال في العالم هو أن نشتري به النصيب الحسن السماوي.
أما قصة الغني ولعازر فهي تطبيق عملي للمبدأ السابق، حيث الغني المتنعم بالمال لم يستطع أن يعطي فتات الخبز لفقير على الباب، فعندما انتقل إلى فوق وجد لعازر في النعيم لأن العالم ودعه إلى السماء مظلوماً مهاناً بلا رحمة، فرحمته السماء وأجلسته في مجالس القديسين. أما الغني فذهب إلى الجحيم، فاشتهی أن يذهب لعازر إليه ويبل لسانه بطرف إصبعه وما سُمح له، بل سمع أن غني العالم فقير الآخرة، والمتنعم فيها معذب هناك.
فإن كـان قـد اعـتـبـر مـال الظلـم في قصـة وكيـل الـظـلـم ذا منفعـة أن يبذر ويصرف على الفقـراء والمساكين، وهذه ربما هي حسنته الوحيدة، حيث نبذره هنا على المساكين فنحفظه فوق كنصيب مع القديسين، إلا أن المال في قصة الغني ولعازر كان نكبة على الغني، وعدم رحمة على لعازر.
وبين القصتين دس القديس لوقا مخاطبة عابرة مع الفريسيين لأنهم استهزأوا بكلام المسيح إذ كانوا محبين للمال، وهم يبررون أنفسهم قدام الناس، ولكن الله يكشف خباياهم وقلوبهم. ولأن المستعلي بنفسه هو رجس قدام الله فيكونون قد حكموا على أنفسهم، وعقب على ذلك بقوله: «لا تقدرون أن تخدموا الله والمال»
1 – الوكيل الحكيم (وكيل الظلم) (1:16-9)
القديس لوقا وحده
يلزمنا أن نجد جواباً على عدة أسئلة لندرك حقيقة هذا الوكيل الحكيم دنيوياً والمزور والسارق والمختلس روحياً:
ماذا كان يعمل هذا الوكيل؟
كان يغير الصكوك التي يدون فيها ديون الزبائن بكتابة أرقام أقل، حتى إذا طرده صاحب المال يكون له عند الزبائن الذين كتبوا على أنفسهم فيها أرقاماً أقل من الحقيقة، فيقاسمهم الفرق عند طرده من الوكالة.
ما هو القصد الذي قصده المسيح من هذا المثل؟
كان القصد واضحاً أن أبناء النور يكون لهم نفس هذه الحكمة دون سرقة أو اختلاس؛ بل بعكس ذلك، فلأن هذا العالم ظالم فـمالـه كـلـه هـو مـال ظلم، فعلى الإنسان أن يبدد هذا المال على الفقراء والمساكين ليتحول كـل مـا سيبدده إلى رصيد سماوي، فعندما يذهب إلى فوق يجد رصيده في انتظاره: رحمة من الله ومحبة كما أحب ورحم فقراءه على الأرض.
أما كاتب الإنجيل فما هو قصده من هذا المثل؟
قصده أن يقول للفريسيين وأمثالهم محبي الأموال إن الأموال التي كنزتموها في هذا العالم ستغرمون بها في العالم الآخر، لأنكم لم ترحموا الفقراء والمساكين؛ بل كنتم تتمتعون بما لحسابكم فقط أو لمجرد أن تكنزوها حتى تصيروا من أغنياء وعظماء الأرض، ويخدمكم العالم ويخاف منكم الآخرون. كما أنه أعطى قراء إنجيله درساً أن كـل مـال يعطى لهـم مـن أمـوال زائدة عن حاجتهم، لا يدخروه للزمن بل يرسلونه إلى فوق ليصبح رصيداً لهم في السماء.
ولكـن لكي يتضح المثل أكثر فإنه عند الآية (7) تكون القصة قد انتهت بالنسبة لوكيل الظلم وقصاص الأرض. أما ما جاء في الآية (8) فهو تعليق السيد صاحب الأرض أو صاحب العالم بنوع التهكم. ويوضح ذلك قول وكيل الظلم في الآية (3) عن صاحب الأرض الغني إنه «سيدي»
1:16و2 «وقال أيضاً لتلاميذه (خاصة): كان إنسان غني له وكيل، فوشي به إليه بأنه يبذر أمواله. فدعاه وقال له: ما هذا الذي أسمع عنك؟ أعط حساب وكالتك لأنك لا تقدر أن تكون وكيلاً بعد».
لا يزال المسيح يتكلم وسط الجمع، والكتبة والفريسيون سامعون، ولكن المسيح يوجه هنا كلامه لتلاميذه لأن المثل في الحقيقة يصلح للاثنين.
يلاحظ أن الإنسان الغني كان له وكيل وكان يتعامل مع متاجر يبيع لهم الزيت الخارج من معصرته وطبعاً زيت زيتون، والقمح من حقله، فهو إنسان ثري حقا ووكيله وكيل قانوني للبيع والتحصيل، وفي هذه الحالة يكون له صلاحيات كبيرة في المطالبة بالديون ورفع القضايا وقفل المحلات في حالة عدم السداد، نظير ذلك فهو يعمل عند صاحب الأرض إما بالعمولة أو بالأجر، وغالباً كان بالعمولة. ويبدو أنه كان يحابي التجار على حساب صاحب الأرض (كان يبذر أمواله) التي تحسب نوعاً من التبديد، ولهذا صمم على عزله – وهنا على القارئ أن يلاحظ أننا مطالبون بمثل هذا السلوك روحياً كما سيتضح ـ فدعاه صاحب العمل وأمره أن يسلم دفاتر الوكالة وجميع الإيصالات .
وهذا أيضاً سيحدث لنا حينما يجدنا السيد رئيس هذا العالم غير أمناء لحسابه لأننا نبذر “مال الظلم ـ ومال العالم هو مال الظلم كثر أو قل، جمع بأمانة أو غير أمانة ـ فحينما يجدنا رئيس العالم نبذر أمواله على أولاد رئيس العالم السماوي يحقد علينا (وهو وضع أولاد الله القديسين في وسط هذا العالم موظفين وتجاراً، أو العاملين بأي عمل حينما يسخون على الفقراء والضعفاء ويبذرون “مال الظلم على الأعمال التي يحتاجها المسيح على الأرض، فإنهم يكونون مبغضين من رئيس هذا العالم جداً). وإن طالت حياتهم مهما طالت سيودعهم رئيس العالم بالإهانة وربما بالاضطهاد أو الأمراض، وهذا هو «أعط حساب وكالتك» بالنسبة لرئيس العالم، فنعطيه حساب وكالته الردية ونمرق إلى السماء حيث نجد أن كل الأرصدة من مال الظلم التي حنّا (من خيانة) فيها رئيس العالم وشربناها إلى فوق، قد تحولت إلى أموال طاهرة مقدسة التي هي مواهب نعم الله في السماء. وهذا بلغة هذه الأيام هو محاولة جريئة لغسل أموال الظلم (أي مال العالم) وتحويلها إلى أموال سماوية!
علماً بأننا حينما يقبلونا فوق في السماء يسألوننا عن إخلاء طرف من رئيس العالم، فالذي يجدونه لم يخل طرفه تماماً لا يقبل. ورئيس العالم يعطي إخلاء الطرف مع شهادة بعدم الصلاحية في العالم وصفات رديئة كثيرة، منها أنه كان يضيع وقته في الصلاة والذهاب للكنائس وتبديد أموال العالم على الغرباء من العالم كالشحاذين والمساكين، وكان يمت بصلات شديدة بعدونا الأكبر صاحب السماء وابنه.
7-3:16 «فقال الوكيل في نفسه: ماذا أفعل؟ لأن سيدي يأخذ مني الوكالة. لست أستطيع أن أنقب وأستحي أن أستعطي. قد علمت ماذا أفعل، حتى إذا عُزلت عن الوكالة يقبلوني في بيوتهم. فدعا كل واحد من مديوني سيده، وقال للأول: كم عليك لسيدي؟ فقال: مئة بث زيت. فقال له: خذ سكك واجلس عاجلاً واكتب خمسين. ثم قال لآخر: وأنت كم عليك؟ فقال: مئة كر قمح. فقال له: خذ صكك واكتب ثمانين».
طبعاً أخذ الوكيل العلم بتسليم الوكالة، وعليه أن يرتب الدفاتر والإيصالات ولكن فكر كيف يعيش بعد الطرد، ويبدو أن العمل شحيح في هذه الكورة. ففكر: أنا لا أستطيع أن أنقب أي أسرق (مع أنه حرامي) ولا أستطيع أن أشحذ، فهداه فكره لعملية الاختلاس. فتاجر الزيت كان عليه مائة بث زيت، والبث بحسب يوسيفوس المؤرخ يساوي 8,6 جالون أو 39 لتراً تقريباً، وبحسب الاكتشافات الأثرية يســـــاوي 20 لتراً تقريبـاً. فجلسـا معـا هـو وتـاجر الزيـت وزؤرا إيصالات الاستلام والدفع حتى صارت خمسين بثا وهي تساوي في ذلك الزمان 500 دينار بعد خصم السرقة، رقماً لا بأس به.
ودعا تاجر القمح وصنع معه نفس الشيء إذ كان عليه مائة كر قمح. فقال خذ صكك واكتب ثمانين، والكر koroj هو مكيال يبدو أنه بالزكيبة ويساوي 48 جالون. وكان ثمن القمح آنئذ بحسب العلامة يوسيفوس المؤرخ بين 25-30 ديناراً للكر الواحد، الذي يساوي في جملته 2500 دينار. وهكذا خرج من إيصالات القمح بسرقة قدرها 500 دينار، لا بأس بها أيضاً.
8:16 «فمدح السيد وكيل الظلم إذ بحكمة فعل، لأن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم».
المسيح هنا هو المتكلم، فواضح جداً أن السيد kurio كيريوس هنـا هـو الغني صاحب الأرض. والكلام هنا غير واضح لأن الغني ـ الذي وصفه المسيح بالسيد بنوع التهكم ـ وجد في وكيل الظلم حكمة (ظالمة طبعاً) وفي غير مصلحة الغني، ولكن استطاع بها أن يعيش بأن يرحل مال الظلم الذي اختلسه مع زبائن الرجل الغني، لكي يقبلوه حينما يأتي إليهم بعد الطرد يسترزق. وعلق المسيح على ذلك: هل أبناء النور يستطيعون أن يكون لهم حكمة مثل هذا الرجل؟ ويسرّبوا مال الظلم في هذا العالم إلى فوق «حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية»
9:16 «وأنا أقول لكم: اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم، حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية».
واضح من القصة التي قالها المسيح ومن تصرف وكيل الظلم أنه تصرف بحكمة في مال الظلم بحسب مهارة أولاد العالم. وأن المسيح قال هذه القصة لنأخذ هذا الأسلوب عينه. والشرح كما سبق وقلنا في المقدمة يكون كالآتي :
إن هذا العالم الظالم الشرير هو السيد، ونحن رغماً عن أنفنا أقامنا هذا السيد وكلاء له لنكدح ونشتري ونبيع ونعمل في مكاتبه الحكومية، وفي أعماله الخاصة في الزرع والبناء والتجارة والبنوك والصناعة، واكتشاف الفضاء والنزول على القمر لكي تجمع له المال ونسلمه لمن يستلم، ونجمع له العلم والبيانات والاختراعات ونسلّمها له. فمطلوب منا من وراء هذا السيد القاسي الشرير أن نأخذ نصيبنا ، مال الظلم هذا، ولكن ما نستحقه بأمانة كاملة، ثم نبدده على الفقراء والمساكين والمذلين والمرضى وذوي العاهات حتى لا تبقي له شيئاً عنـدما يطردنـا ونذهب إلى فـوق حيـث نجد أموالنا كلها قـد تحولت من أيدي الغلابة والمساكين إلى أيدي الملائكة فوق، ووضعت كلها رصيد نعمة وحكمة ووعي روحي لكشف أسرار ملكوت الملك العظيم السمائي. فنؤهل للعمل مع ا الغني في الرحمة. ذلك أفضل جداً.
2 – الأمانة في المال – (10:16-13)
القديس لوقا وحده
10:16 «الأمين في القليل أمين أيضاً في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضاً في الكثير»
لا تفهم هذه الآية إلا على ضوء الآية السابقة، حيث الأمانة لحساب المسيح فوق للملكوت، بمعنى أن الذي يكون العالم الظالم الشرير قد سلمه وكالة صغيرة لكي يخدمها لحسابه، فإذا انتهز الفرصة وكان أميناً للمسيح والملكوت والحياة الأبدية، وبدد منها شيئاً على الفقراء أمثاله والمساكين أيضاً، ولو قروشاً قليلة، ثم إذا استحسنه رئيس العالم الظالم الشرير ورفعه إلى وكالة أعظم فانتهز الفرصة نفسها وكان أميناً لسيده المسيح وأخذ من المال الزائد من عمله وبدده يميناً وشمالاً على كل مسكين وذليل وكـل معـوز ومتضايق ـ فإن هذا كله يحسب له أمانة للمسيح في الكثير، ويحفظ له فوق أجراً عظيماً لا يتدنّس ولا يضمحل.
11:16 «فإن لم تكونوا أمناء في مال الظلم، فمن يأتمنكم على الحق؟»
الأمر واضح يا عزيزي القارئ، فالأمانة في مال الظلم هي جمعه بالأمانة والدقة، ولكن صرفه بالتبديد على الفقراء والمساكين والمظلومين والمتضايقين لفك ضيقهم. هذه هي الأمانة في مال الظلم تحت رئاسة رئيس هذا العالم الظالم الشرير. أما أن يأتمنا المسيح على الحق بالمقابل فهذا بحق المعادلة السرية بيننا وبينه التي سيكشف عنها بعد قليل.
12:16 «وإن لم تكونوا أمناء في ما هو للغير، فمن يعطيكم ما هو لكم؟»
وأيضاً بمقتضى ما سبق من آيات، الأمانة فيما للغير هي ا الأمانة فيما للمساكين والمذلين وبائسي الأرض، هؤلاء هم “الغير” الذين يتبعون المسيح رأساً. أما عطية ما هو لكم” فهي هنا النعمة والبركة والستر والرضا والفرح والرجاء والسرور الكامل، والشركة السرية مع الله الآب وابنه يسوع المسيح. فهي معادلـة تسير هكــذا بـدد مـا هـو هنـا عـلـى مساكين الله، يسكب الله عليـك مـن فوق من غنى مجده.
13:16 «لا يقدر خادم أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال».
واضح جداً الآن بمقتضى شرح ما فات، أنه يستحيل أن نخدم المال بأمانة لحساب العالم ونكون في ذات الوقت أمناء في خدمة المسيح بالروح والحق. هنا مضادة عظمى يستحيل حلها إلا بما استطعنا أن نقوله ونوضحه في الآيات السالفة. فلكي نكون أمناء للمال لابد أن نجاهد ونبذل ما في وقتنا وصحتنا وأعصابنا لنستزيده لحساب رئيس هذا العالم الشرير، الذي يعطينا إذا نجحنا وجمعنا له الملايين لنضعها في البنوك، يعطينا شهادة الدكتوراه في الإخلاص في خدمة العالم ومال الظلم. ولكن أن تخدم المسيح تصبح خدمتنا للمال لحساب السيد المسيح، أي نأخذ منه الكفاف والباقي في مشروعات لحساب الفقراء والمساكين فيكون لنا كنز في السماء، والله لا يكذب. يستحيل أن نحب المال ونحب الله، هذا رياء فريسي. إذا أحببنا الله فعلاً من كل قلبنا وفكرنا يلزم ويتحتّم أن المال إذا وقع في يدنا يكون مال الله، ومال الله يعطى للمحتاجين من أولاد الله ولا يخصنا منه إلا كفافنا.
يستحيل أن نخدم المال ونخدم الله، إن أردنا أن نخدم المال ونخدم الله معاً. فيلزم بالضرورة أن يكون المال مال الله بالفعل وليس بالكلام.
وإلى هنا ينتهي موضوع المال، ويؤسفني أن أقول أن الشراح الذين اضطلعوا بشرح هذا الأصحاح أعطوا شرحاً متحيزاً للعالم ولمال الظلم. لذلك نوعي القارئ أن المسيح يقول الحق والحق لا يجوز اللعب به ليتناسب مع ظروفنا أو مبادئنا نحن أو واقعنا المالي. فإن كنا نحسب أنفسنا أننا أبناء الملكوت، فالملكوت له شروط يلزم أن تُراعي جيداً هنا في العالم. وأي محاولة للخلط بين العالم والملكوت مجازفة نحن فيها خاسرون:
+ «وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة، تغرق الناس في العطب والهلاك. لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة.» (1تي 6: 9 و10)
3 – توبيخ الفريسيين الذين أرادوا أن يخدموا الله والمال (15,14:16)
القديس لوقا وحده
هذا الفصـل مـن الأصحاح هو تعقيب على كلام المسيح بخصوص المال وخدمته، فلما سمعه الفريسيون استهزأوا : به مثل كل إنسان يريد الآن أن يزكي الغنى واقتناء المال والادعاء بإمكانية خدمة الله والمال. ويكشف المسيح عن سر الإصرار على خدمة المال مع خدمة الله أنها محاولة لكسب رضى الناس وتكريمهم.
ولكن شهادة الله[1] نقولها إن بعض العلمانيين الجبابرة في هذا الجيل قاموا بمشاريع ينتفع منها الفقير والمريض. هؤلاء لا يمكن أن نضعهم في صفوف الأغنياء الذين يطلبون الكرامة ومحد الناس، لأن أعمالهم تشهد لهم. والمسيح هنا يتكلم قاصداً الفريسيين الذين يضمرون في قلوبهم – كما يراها – محبة المال والجري وراءه.
14:16و15 «وكان الفريسيون أيضاً يسمعون هذا كله، وهم محبون للمال، فاشتهرأوا به. فقال لهم: أنتم الذين تبـررون أنفسكم قدام الناس! ولكن الله يعرف قلوبكم. إنّ المستعلي عند الناس هو رجس قدام الله».
إن كلام المسيح مثل صليب المسيح وعلى مستواه. فكما أن الذي قاله المسيح يبرهن صدقه على الصليب، كذلك يريد المسيح منّا، إن كنا نؤمن بصليب المسيح والملكوت الذي أعد، فحتماً : نؤمن بصدق كلامه والحق الذي فيه. فالذي يرى في كلام المسيح تعارضاً مع حياة الإنسان ومنفعته فلن يستطيع أن يؤمن بصليب المسيح وأن يمارس الموت معه. فموقف الفريسيين هنا أنهم استهزأوا به، مما أدى في النهاية إلى أنهم اشتركوا في صلبه. فإن أخطر ما في محبة المال أنها تؤدي إلى الكبرياء والاعتداد بالذات التي وصفها المسيح أنها رجس عند الله .
4 – الناموس والملكوت (17,16:16)
(مت 12:11و13، 18:5-32)
هذا الجزء من الأصحاح يتعرض لموقف المسيح من الناموس، إذ يقرر المسيح أن الناموس والأنبياء إلى ذلك الوقت ابتدأ المعمدان يبشر بملكوت الله. ويبدو أن ق. لوقا في قراءته للنص في يوحنا، ومـن المخطوط الذي أخذ منه فهم أن الإنسان هو الذي يغصب نفسه إليه، في حين أنه جاء في إنجيل ق. متی أن «ملكوت السموات يغصب، والغاصبون يختطفونه» (مت 12:11). ولكن عاد المسيح يرفع من شأن كلمة الله في الناموس كما نطقها الوحي وأعطى مثلاً لذلك بالطلاق، مؤكداً أن الناموس لن يزول حرف واحد منه حتى ولو زالت السماء والأرض. وذلك ردا على الفريسيين الذين كانوا يهاجمون ملكوت الله مدافعين عن الناموس.
16:16و17 «كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا. ومن ذلك الوقت يبشر بملكوت الله، وكل واحد يغتصب نفسه إليه. ولكن زوال السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس».
هذا الكلام بعينه جاء في إنجيل ق. متى (12:11 إلخ)، أما ما جاء في الآية (17) من إنجيل ق. لوقا فقد جاء في (مت 18:5). وقد حدث نقـاش كبير بين العلماء في قول ق. لوقا هنا أن الإنسان يغصب نفسه إليه، في حين أنها حسب تقليد ق. متى أتت أن «ملكوت السموات يغصب والغاصبون يختطفونه» (مت 12:11). والحقيقة أن روح الوضعين واحد وهو يعبر عن عمل الروح في الإنسان في وضعه الجديد، فإن كان يغصب نفسه فبالروح، وإن كان يغتصب الملكوت فبالروح، وليس لقدرة الإنسان أن تدفعه خطوة واحدة في طريق الملكوت. فهنا هو عمل الروح القدس الخالص والإنسان يساق به. والأمر كله يدور حول أن الملكوت صار حقيقة واقعة في الحاضر الزمني بواسطة الرب يسوع، ودور الدخول إلى الملكوت أصبح علينا ولكن بدون الروح القدس هذا أمر مستحيل.
أما الآية (17) فهي موازية لما جاء في (مت 18:5) بخصوص الناموس وزوال السماء والأرض. فـدوام كلمة الله أمر مقطوع بـه علـى أسـاس أن المسيح فسر الناموس بتعاليمه وأكملـه بـصـليبه.
فالناموس قائم قيام كلمة الله إلى الأبد، ولكن من واقع الكرازة بالإنجيل وتكميله بالخلاص.
5 – سر الزيجة والطلاق (18:16)
(مت 3:19-9) (مر2:10-12)
18:16 «كل من يطلق امرأته ويتزوج بأخرى يزني، وكل من يتزوج بمطلقة من رجل يزني».
إن التشدد الحادث في العهد الجديد بواسطة المسيح في أمر الزواج والطلاق أكثر من العهد القديم، راجع إلى انفتاح الملكوت والحياة مع الله، فدخلت علاقة الرجل بالمرأة وضع الخلقة الأول، كما تمسك بذلك المسيح حينما سُئل:
+ «هل يحل للرجل أن يطلق امرأته، ليجربوه. فأجاب وقال لهم: بماذا أوصاكم موسى. فقالوا: موسی أذن أن يكتب كتاب طلاق فتطلق. فأجاب يسوع وقال لهم: من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية، ولكن من بدء الخليقة ذكراً وأنثى خلقهما الله. من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً، إذا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان .» (مر 2:10-9)
ونقول إنه بانفتاح الملكوت أصبحت الكنيسة تمارس سر الزيجة بين الرجل والمرأة لحساب الملكوت والنسل الخارج منهما. ومن هذا المنطلق لم تعد الزيجة للمتعة، ولا على مستوى العالم، بل على مستوى ميراث الملكوت والحياة الأبدية. ومضمون سر الزيجة المسيحي، هو حدوث اتحاد سري بالروح القدس بين الرجل والمرأة على أساس اتحادهما معاً في جسد المسيح، فهذا هو الذي جمعهما إلى واحد. بمعنى أنه بصلاة الكنيسة وطلب الروح القدس ليحل ويبارك على اتحادهما، يحدث الاتحاد السري بالروح القدس في جسد المسيح، لأنه لا يمكن أن تحدث وحدة في الكنيسة بدون الروح القدس وبدون جسد المسيح. فلو علمنا أن الكنيسة تمثل جسد المسيح السري يصبح اتحادهما إلى جسد واحد جزءاً لا يتجزأ من كيان الكنيسة التي هي جسد المسيح.
فالآن ينبغي أن نتصور أن اتحاد الرجل والمرأة ب بسر الزيجة، بواسطة الكنيسة، ينشئ كياناً جديداً للرجل والمرأة، كياناً متحداً من أنا الرجل، وأنا المرأة، هو أنا الزيجة. هذا الكيان الجديد هو مقدس أمام الله، يمتلكه الزوج والزوجة والمسيح، وهو أعلـى مـن كـيـان الرجل وكيـان المـرأة منفردين، وهو مصدر قوتهما وسعادتهما في حياة الزيجة الجديدة، وكما قلنا إنه ليس ملكاً للرجل وحده ولا للمرأة وحدها، بل ملكاً لهما معاً باتفاق وتحت وصاية المسيح وبركة وقوة الروح القدس صاحب السر !!
هم هنا اتحاد الرجل بالمرأة لتكوين الكيان الزيجي الجديد المتحد بالمسيح والروح القدس، يدخل فيه المسيح كعنصر أساسي يكمل بوجوده عجز الخليقة ويقدسها لحساب الآب. والغاية الكبرى من سر الزيجة وخلق هذا الكيان الجديد من الرجل والمرأة واتحادهما بالمسيح، هو النسل. فالكنيسة عينها من النسل، لأنه هو وجودها وحياتها، فالنسل المتحصل من الزيجات المقدسة، الأعضاء الذين يكونون هيكل الكنيسة. فهم الكنيسة الأعظم هو النسل الذي إذا تربى وعاش تحت مظلة الزيجة المقدسة المتحدة بالمسيح والمؤازرة بروح الله، تضمن الكنيسة خلاصه ليكونوا أعضاء في الملكوت. وواضح الآن أن سر الزيجة ينتهي بالملكوت للرجل والمرأة والنسل.
وطالما حافظ عليه كل من الرجل والمرأة، وكرماه وقدساه، تقدسا به وصار ضمين خلاصهما معاً وقداستهما معاً ولحساب الملكوت؛ ولكن لا يدخلان الملكوت بهذه الوحدة المقدسة بسر الزيجة، ولكنها تؤهلهما لدخول الملكوت كل بكماله المسيحي، حيث هناك تصير الوحدة الكاملة الفردية مع المسيح، لأن في الملكوت لا توجد ثنائيات زيجية، بل وحدة من الكل في المسيح.
فالآن كيف نطيق بعد هذا البناء لهيكل الكنيسة ولحساب الملكوت، ونتصور أن يحدث طلاق؟ ألا يكون هذا بمثابة تقطيع الكيان السري الجديد الذي نشأ من اتحاد الرجل والمرأة بسر الزيجة، وحضـور الروح القدس، والاتحاد بجسم المسيح؟
ثم ألا يكون هذا هدماً لجسم الكنيسة، وقطعاً للطريق أمام الرجل والمرأة والنسل المؤدي إلى الملكوت؟ لذلك نعود ونؤكد أن الزيجة وما ينشأ منه باتحاد الرجل والمرأة ليكونا جسداً واحداً في المسيح بكيان جديد، هو عنصر بناء الكنيسة. وليس هذا تصوراً أو عقيدة أو افتراضاً، بل واقع حي يغار عليه المسيح.
فالكنيسة التي تتهاون في تسهيل الطلاق، إنما تهدم نفسها وتقضي على مستقبل الذين سهلت لهم الطلاق، وهذا يكاد يكون غلقاً لباب الملكوت في وجوههم.
لذلك إذا قرأنا وسمعنا المسيح يتشدد في ذلك، فالأمر يخصه وهو يغار على جسده وعلى مستقبل أولاده بالنسبة للملكوت الذي كلفه دمه.
أما تحديد خطية الزنا أنهـا تفسـخ هـذا العقد أو هذا السر، فلأن الذي وثق السـر هـو الـروح القدس، والمعونة للتغلب على صعاب الحياة، ولكن بمجرد أن تحدث خطية الزنا ينسحب الروح القدس من السر وتنفك الوحدة من تلقاء ذاتها حتى بدون طلاق. فالطلاق هنا إنما يأتي تحصيل حاصل، فخطية الزنا تُحسب أنها ضربة من الشيطان عنيفة موجهة لقداسة السر وعمل الروح القدس. لذلك أصبحت الكنيسة ملزمة أن تجري الطلاق بكل حزن وأسى، وكأنها تجرح نفسها وتقطع جسدها بيدها!!
ولكن إن أحس الزوج والزوجة بهذه الخطورة التي تبلغ حد الجريمة في حق الشريك والأولاد والمسيحوالروح القدس، واستطاع المخطئ أن يعترف ويتذلل ويطلب الغفران، فالغفران هنا لا يمنع على أساس دم المسيح القادر أن يقدس بعد نجاسة ويحيي من الموت!!
+ «يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك، أما دانك أحد. فقالت: لا أحد يا سيد. فقال لها يسوع: ولا أنا أدينك، اذهبي ولا تخطئي أيضاً.» (يو 10:8و11)
وحينئذ تقوم الكنيسة بواجبات التطهير، وإعادة قوة السر.
ولكـن بعـد هـذا نقول إنه يلزم جداً للزوجين أن يدركا حقيقة سر الزيجة على هذا الأساس، حتى تتقدس علاقتهما معاً بالوعي الروحي لقيمة هذا السر العميق والضارب جذوره في ملكوت الله .
ومرة أخرى نوعي، أن من الاتحاد السري بين الرجل والمرأة في الاتحاد السري بين الرجل والمرأة في سر الزيجة، ينشأ كيان زيجي حديد من الاثنين، فائق على كيان كل منهما بمفرده. فذات الرجل، وذات المرأة، أنشأا باتحادهما ذاتاً جديدة أقوى وأعظم من كل منهما، هي مصدر حبهما الشديد ومصدر عطفهما كل على الآخر، وهي بمثابة محال جديد جاذب لكل منهما نحو الآخر، هذا يحسه من نجح في تكريم حياته الزوجية. فلو انفتح وعي كل منهما على هذه الحقيقة وعاشا معاً في ظلها، يصعب جداً، بل ويكون من المستحيل أن يخون أحدهما الآخر .
لذلك نتمنى أن تشدد الكنيسة على سمو هذا السر العميق والفائق، لأن في إدراك هذه الحقائق تتقدس الوحدة، وتثمر لحساب الكنيسة والمسيح.
6 – لعازر والغني – (19:16-31)
القديس لوقا وحده
نحن لازلنا مع المسيح من بدء الآية (15) والتلاميذ حضور والفريسيون أيضاً.
والقصة تلمس مشكلة المال وسوء استخدامه وضحاياه، كما تكشف عن نهاية حزينة للغني ومنزلة الفقير المظلوم والمهان في نظر الله.
من عنده هي وجوده اسم لعازر ” يفسّر : الله يعين”، وقد اختير عمداً ليظهر تدخل الله في حياة الفقراء والمظلومين. ولعازر كانت إقامته المفضلة بجوار باب قصر الغني حتى يتلقى الفتات الساقط مائدة الغني، وكان مكتفياً بما يترقبهـا كـل يـوم بفارغ الصبر، فكانت . كل معيشته. ولكـن كـان هكذا باستمرار مؤذياً لنظر الغني لأنه يفسد جمال المدخل الرخامي، وبصعوبة رضي بوجوده. أما لعازر فكان قانعاً جداً بما أنعم به الغني عليه في السماح بوجوده بجوار القصر. وكان يتسلى بالكلاب التي تلتهم أكثر من نصف جرايته، وعبثاً كان يهشها حتى لا تؤذي جروحه التي تلحسها بالرغم من أنفه. كان لعازر صورة مجسمة لبؤس البشرية التي تقع ضحايا للغنى. فكان المسيح قاصداً أن يرينا هذا المنظر بعد المال يتعظ الناس، فلولا قليل من رحمة الله لصرنا مثل لعازر . وكان حظ لعازر بعد أن مات أن حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، أما الغني فبعد أن مات حمل إلى الهاوية. وهكذا تتبادل السماء مع الأرض حظوظ الناس معكوسة، ويمكن أن تتغير الأوضاع هنا ولكن هيهات أن تتغيّر درسه عن حتى الأوضاع هناك .
ولكن أهم ما في القصة بحسب المسيح أن الغني طلب من إبراهيم أن يرسل أحداً إلى أسرته ليحضهم على التوبة قبل أن ينالوا ما هو فيه من عذاب، فكان رد إبراهيم في نهاية الحديث أنه لو قام بينهم واحد من الأموات فإنهم لا يؤمنون، وطبعاً كان المسيح يشير إلى نفسه والفريسيين الذين أمامه.
21-19:16 «كان إنسان غني وكان يلبس الأرجوان والبز وهو يتنعم كل يوم مترفها. وكان مسكين اسمه لعازر، الذي طرح عند بابه مضروباً بالقروح، ويشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغني، بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحة».
منظر عـادي يكاد يتكرر كثيراً في عالم الإنسان، في كل زمان ومكان. وإن كان هذا مجرد منظر فردي في القرن الأول المسيحي، فالآن ونحن في القرن العشرين وفي نهايته أيضاً لم تعد مسألة غني ولعازر؛ بل إن شعوباً برمتها هي الغني وشعوباً برمتها هي لعازر. ولعازر كان يجد الفتات ويأكلها، ولكن شعوب أفريقيا اليوم لا تجد الفتات، وإن وجدتها لا تقوى من الضعف أن تأكلها وتقع مكانها وتموت، مئات وألوف في اليوم الواحد. هذا هو عالم الإنسان اليوم، أما السبب فهو قسوة الشعوب على الشعوب، ولا نقول الإنسان على الإنسان، أما الغني المتنعم بكذا وكذا فلا يحسب بجوار الشعوب الغنية إلا مثلاً رديئاً للغني. وكانت الكلاب تلحس قـروح لعازر أما الشعوب التي تتضور الآن جوعـاً فـلا يستطيع فيها الولد الراقد على الأرض من شدة الجوع والضعف أن يمنع الكلاب من تقطيعه وأكله!! كما ظهر في التلفزيون!
24-22:16 «فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات الغني أيضاً ودفن، فرفع عينيه في الجحيم وهو في العذاب، ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه، فنادى وقال: يا أبي إبراهيم ارحمني، وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني، لأني معذب في هذا اللهيب».
عجیب أن العلماء ينكرون أن الملائكة تحمل أرواح القديسين والمختارين إلى فوق. إنه من صميم الإيمان المسيحي أن الملائكة تحمل أرواح المنتقلين وبعض الأشخاص رأوهم عياناً.
أما ذهاب روح لعازر إلى حضن إبراهيم فهذا هو طقس مائدة الملكوت، حيث يجلس المختارون الذين لقوا عذاباتهم على الأرض وماتوا على الإيمان. إن نصيبهم فوق القديسين.
أما الغني الذي مات ودفن وهو بكامل أجته فحملت روحه إلى الهاوية وهو مكان الانتظار قبل الدينونة، ورأى لعازر في حضن إبراهيم، فترجى إبراهيم أن يأتيه لعازر ويبل لسانه بإصبعه. هذه كلها كنايات عن مقدار العذاب الذي تلقاه أرواح الأشرار في مكانها. ولعل أعظم عذاب يصيبها هو تيقنها أنها خسرت قضيتها وحكم عليها بالحرمان من الله إلى الأبد. هذا هو اللهيب الذي لا يطفأ.
25:16 «فقال إبراهيم: يا ابني اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك، وكذلك لعازر البلايا. والآن هو يتعزى وأنت تتعذب».
لم تسعف الغني الختانة ولا القرابة الجسدية، وحتى إبراهيم يقول له يا ابني وهو يتبرأ منه. لقد فضلت النفس المتعة في الدنيا عن تعبدها الله وصـومها وصلاتها، فحكمت على نفسها بالحرمان الأبدي من رحمـة الله. والله لا يعذب أحـداً ولكـن يـا ويـل ويـا عـذاب مـن يرفض الله، فإنه يحـس هنـاك أنه اقترف أعظم جريمة في حياته وشارك الشيطان في مصيره. الزمان هنا والأيام هنا زمان مقبول وأيام عبادة حقة الله وصلاة وهي التي ستقرر مصيرنا هناك.
هنا نقرر لأنفسنا المكان الذي سنذهب إليه وموقفنا من الله والقديسين.
26:16 «وفوق هذا كله بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أثبتت، حتى إن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون، ولا الذين من هناك يجتازون إلينا».
الحياة في العالم الآخر مرتبة ترتيباً يذهل العقل، فهذه الملايين التي سبقت وذهبت هناك وجدت أعاجيب من حيث الدرجات والإمكانيات وقدرة التعارف، وقدرة الكلام بدون كلام، وقدرة الانتقال المذهلة. فإلى أي مكان تريد الروح تجد نفسها فيه في الحال. فليس هناك مسافات ولا أزمنة ولا احتكاك ولا مشاعر بشرية، بل مشاعر راقية جداً عما للإنسان العادي. والفئات تنقسم بحسب وعيها الروحي إلى درجات، وكل قسم له صفاته ومواصفاته التي تتناسب مع درجته في المعرفة والوعي الروحي. ولا يستطيع أحد أن يخرج عن حدوده أو ينتقل من درجة إلى درجة، وحتى ولو أراد يستحيل لأن الذي يرفعه في درجته هو وعيه الروحي حينما يرتقي. لذلك فالذي يصلي هنا ويقرأ الإنجيل ويتأمل ويفتش في المعاني ويغوص في تدبيرات الله ينفتح وعيه الروحي، وبكثرة الصلاة والشكر والتسبيح وبذل الحب ترتقي النفس في وعيها وتغتسل من أدرانها وتتنقى. فهنا الاستعداد وأخذ الروح وانفتاح الوعي: «حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب.» (لو 45:24)
ولكن ليس النعيم هناك وقفاً على الروحانيين والمتدربين على المعرفة، بل يشاركهم الذين تعذبوا وتألموا ودفعوا كثيراً بسبب إيمانهم أو عذبوا أو قتلوا. هذه الأرواح بمجرد أن تصل إلى المسيح فوق ينفتح وعيها الحال وتصبح مهيأة لأعلى الدرجات. وطوبى لمن يهيئ نفسه هنا وطوبى للمتألمين من أجل الإيمان والمحرومين من أجل اسم المسيح، والمجربين بكل تجربة مؤلمة إن بالمرض أو بالاضطهاد أو بالظلم، طالما هم صابرون محتملون شاكرون ومسبحون اسم الرب .
31-27:16 «فقال: أسألك إذا يا أبت أن ترسله إلى بيت أبي، لأن لي خمسة إخوة، حتى يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضاً إلى موضع العذاب هذا. قال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء، ليسمعوا منهم. فقال: لا يا أبي إبراهيم. بل إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون. فقال له: إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء، ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون».
– يتوسّل الغني لدى إبراهيم أن يرسل لعازر إلى بيت أبيه من أجل إخوته الخمسة العائشين بعيداً عن الله مثله. ويرد عليه إبراهيم – ولاحظ أن المتكلم هنا هو المسيح – فقال له عندهم موسى والأنبياء. وهكذا يشهد المسيح أن الناموس والأنبياء كافية لكي تكمل إيمان الإنسان بالله وتعده للتوبة والحياة.
ولكن يلح الغني أن يرسل إبراهيم واحداً من الأموات لهم ليتوبوا. فكان رد المسيح الحزين إنه ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون. وطبعاً المسيح يشير إلى نفسه وإلى السادة الفريسيين الأغنياء الواقفين، ولكن هل يقبل الفريسيون الدرس؟
يا رب افتح قلوب عبيدك لكي يدركوا قيمة دعوتك هذه لهم.
- لا يسعنا المجال هنا أن نذكر ما يقوم به رجال هذا الجيل وسيداته من مشاريع للنهوض بالشعب القبطي، الذي يجعلنا تدعو لكي يزداد إيمانهم مع غناهم، حيث يصبح المال وسيلة فعالة للبذل والتضحية والاتضاع والسهر على خدمة المعوزين أيا كانوا. وهنا يصبح الغني قادراً حقا أن يدخل من ثقب الإبرة الذي هو الباب الضيق الموصل من هذا العالم إلى الملكوت، ومعه جمل محمل بدعوات الأيتام والأرامل والمرضى والمساكين.
تفسير إنجيل لوقا – 15 | إنجيل لوقا – 16 | تفسير إنجيل لوقا | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل لوقا – 17 |
القمص متى المسكين | ||||
تفاسير إنجيل لوقا – 16 | تفاسير إنجيل لوقا | تفاسير العهد الجديد |