تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 17 للقمص متى المسكين
الأصحاح السابع عشر:
( ح ) تعليم للتلاميذ (1:17-10)
(مت 18: 6و7و15و22,21)
الآية السادسة = (مت 20:17)
(مر 42:9)
ينتقل بنا ق. لوقا من التعليم للجماعة المجتمعة إلى التعليم للفريسيين ثم للتلاميذ. فالجزء القادم يخص التلاميذ، على أنه يحوي تعليمات من جهة خطر وضع عراقيل أمام الآخرين (17: 1-3)، والاحتياج إلى أن يسامح بعضهم بعضاً (17: 3و4)، ثم النمو في الإيمان (17: 5و6)، والحاجة إلى التواضع في أداء الواجبات (17: 7-10)، ويجمعها ق. لوقا من مصادر مختلفة لذلك يعوزها الرباط الواحد.
1 – العثرات (2,1:17)
يقول المسيح: إنه توجد عراقيل في العالم، ولكن الناس مسئولون أخلاقياً إذا بدر منهم ذلك، وكان الأفضل لهم أن يموتوا ولا يحدث منهم هذا الإعثار لأنهم سيعانون حتماً في الدينونة. وهذا الكلام يأتي موازياً لما في إنجيل ق. مرقس (42:9) وإنجيل ق. متى (6:18).
1:17و2 «وقال لتلاميذه: لا يمكن إلا أن تأتي العثرات، ولكن ويل للذي تأتي بواسطته! خير له لو طوق عنقه بحجر رحى وطرح في البحر، من أن يعثر أحد هؤلاء الصغار».
المسيح هنا يقول إنه توجد عثرات في العالم، ولكن المسببين لها أناس كان أفضل لهم لو وضعت في أعناقهم أحجار رحى وماتوا قبل أن يتسببوا في هذه العثرات، وبعدها يدخلون في الدينونة الرهيبة. وهـذا الـقـول يـــوازي مـا جـاء في إنجيـل ق. مرقس (42:9)، وإنجيـل ق. مـتى (6:18).
والتشديد الذي اهتم به المسيح في هذا الموضوع في الثلاثة أناجيل هو عن إعثار صغار المؤمنين، أو حتى الأطفال، والتي يوضحها ق. متى بقوله: «لأن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات» (مت 10:18). فالذي يعثرهم خير له لو طوق عنقه بحجر رحى وطرح في البحر، إلى هذا الحد يبدو الحكم شديداً قاسياً عنيفاً. والسبب واضح أولاً لأنهم ضعاف لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وثانياً لأنه ليست لهـم قـدرة على فهم حيل الأشرار. والعثرة هي ما يسبب الخطية أو يسهل الوقوع فيها بخبث. وعنصر الشر المحرك للعثرة هنا هو الشيطان الذي يستولي على أفكار عديمي الإيمان ليوقعوا المؤمنين في الخطية. وقول المسيح إنه خير لمن تأتي بواسطته العثرات أن يربط في عنقه حجر رحى ويلقى في لجة البحر من أن يعثر واحداً من هؤلاء الصغار، يوضح أن دينونة مريعة تنتظره، وهي أصعب من هذا العقاب جداً. وفي القانون الجنائي يحكم على هذا الإنسان بعقوبة شديدة للغاية قد تصل إلى الإعدام. وبنفس الروح الحزينة المنتقمة للمظلومين يقول المسيح نفس الشيء عن الذي سلمه: «ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان. كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد.» (مر 21:14)
وعلى ضوء هذا التحليل لإعثار الأولاد الصغار قامت في العالم مؤسسات للدفاع عن الطفولة والأولاد من حيث النواحي الأخلاقية والتعليم والعناية والصحة، وانتبهت المحاكم لتشديد العقوبة على الذين يعبثون بمقدرات الطفولة والأولاد الصغار، بنفس روح المسيح هذه.
ولكن لا يزال سن الطفولة والأولاد الصغار محتاجاً لمن يصـد عنهم أسباب الإعثار والخطية وحتى الإجرام، فوسائل الإعلام المنظورة في التليفزيون تسمم الأولاد بكـل أنـواع الموبقات، والكنيسة واقفة مكتوفة الأيدي وأمام عيوننا يسقون الطفل كل وسائل الخطية والإجرام.
2 – التوبة والغفران غير المحدود (4,3:17)
3:17و4 «احترزوا لأنفسكم. وإن أخطأ إليك أخوك فوبخه، وإن تاب فاغفر له. وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم ورجع إليك سبع مرات في اليوم قائلاً: أنا تائب فاغفر له».
يلاحظ القارئ تسلسل الفكر، فذكر العثرات أوجب في الحال الاحتراس حتى لا نقع، ولا يقع أحد من الصغار في حيل الأشرار وقدوتهم السيئة. فكلمة: «احترزوا لأنفسكم» تحمل منهجاً كاملاً لأعمال الوقاية من التيارت والقدوات ووسائل الإعلام وفي المدارس. ثم أمام الخطية والخاطئ لابد أن تقف وسائل المواجهـة والتعنيف. هنا كلمة وبخه تحمل منهج التعليم لتعديل الفكر وإصلاحه والعناية بالخاطئ حتى يتوب ويرجع عن طريق الخطية. ثم تسهيل عمل التوبة بالرجوع وطلب الغفران، حيث لابد أن يفتح المسئولون أحضانهم للخاطئ الراجع عن خطيته مهما يكون قد استغرق فيها، لأن انزلاق الخاطئ في مزيد من الخطية عملية مريعة يقودها الشيطان عياناً فيخطف الأولاد والشباب من أحضان آبائهم ويطرحهم في أماكن الشر واللهو والرذيلة، هنا احترزوا احترزوا. كذلك ليس من السهل عودة الخاطئ، فإذا عاد، هذا يعني أن روح الله يسوقه للخير، فهنا يتحتم على صاحب المغفرة أن يتلقفه بالمحبة والفرح ليزيل عنه آثار ألم الضمير. ومهما كرر الخاطئ والمسيئ خطيته يتحتّم أن يجد عندك الصبر والسماحة والقلب المفتوح لكي لا يذهب ولا يعود، وتكون أنت المسئول عن خطيته. فصاحب الخطية يمثل الإنسان الضعيف على كل حال مهما كان جباراً، وصاحب الغفران يمثل الله، فيلزم لنا أن نقف موقف الله من التسامح والغفران والحب. ولكي يتقوى صاحب الغفران عليه أن ينسى أنه أهين، أو يتذكر أنه أصبح شريك المسيح في الإهانة والآلام. وعلى كل الأحوال ليس من حق الإنسان أن لا يغفر، فاغفروا يغفر لكم، وإن لم تغفروا فلن يغفر لكم أبوكم الذي في السموات (مر 11: 25و26). وقد لقنها لنا المسيح تلقينا نكرره كل يوم: «واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا» هذه الفضيلة كفيلة أن ترتقي بالإنسان نحو الله. والذي يغفر الخطية من كل قلبه يحس بالراحة والسلام والفرح في الحال، والذي يدعي أنه يغفر وهو لم يغفر ولا زالت النقمة في قلبه فهذا كمن يحمل غضب الله غيره وعن نفسه، أي يحمل سم الخطيتين في نفسه، فهو كمن يهلك نفسه وأعصابه، فهو لم يغفر خطية غيره أي أنه يظل محتفظاً بالحقد في قلبه كما هو، ويحمل خطية عدم الغفران لغيره، فأي حماقة ومصيبة هذه؟
عزيزي القارئ، أينما استطعت أن تحس بأن غيرك واجد عليك، أسرع إليه واطلب السماح والمغفرة، وكلما أحسست بقلبك أنك واجد على أحد أسرع إليه واطلب السماح منه ولا تبت والغضب في حضنك. واذكر أولاً وأخيراً أننا نحن المسيحيين أطفال المسيح مهما زادت القامة والسن والعلم والكرامة. فكلما أحسن الإنسان بأنه ابن المسيح فإنه يتشجع ويعمل عمل المسيح حتى إلى غسل الأرجل.
3 – قوة الإيمان (6,5:17)
5:17و6 «فقال الرسل للرب: زد إيماننا. فقال الرب: لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذه الجميزة انقلعي وانغرسي في البحر فتطيعكم».
بعد قد تحرك قلب التلاميذ بسبب إعطاء مثل كبيرة وعظيمة للقلب الكبير والعظيم الذي يستطيع أن يغفر للإنسان الخاطئ خطيته، ولو كررها سبع مرات وجاء سبع مرات يطلب الغفران. وسبب تحرك قلب الرسل، بل قلبك وقلبي أيها القارئ، هو أن المسيح هنا جعلنا نحس بقلب الله، وكشف من بُعد عن قلبه وصبره وحبه واحتماله للخطاة. فأمام هذا الإحساس بدنو النفس من الله والمسيح تأوه التلاميذ لما أحشوا أن قلبهم ونفسهم من دون ذلك!! إنه توق شديد حرك الروح والقلب والنفس أن ترتقي عن مستواها البشري المنحط لكي تتسامى مع روح الله. لقد طلبوا رسمياً أن يزيد المسيح إيمانهم … فتعجب المسيح لأن الإيمان عنصر إلهي يزداد بالفعل والتصديق. فكلما اندفع الإنسان بدافع الإيمان ليكمل وصية الله يزداد إيمانه في الحال ليعمل وصية أكبر. لأن الإيمان بالله والمسيح يعني حضوراً إلهياً في القلب يستمد منه الإنسان القوة. فأصل ونبع الإيمان كله في قلبك إذا آمنت أن المسيح هو ابن الله ، وهو بحسب وعده الصادق معنا وفينا بروحه. إذن، فالإيمان كله داخلك فكيف تطلب المزيد؟
وهنا نجيء إلى نص الآية حيث يقول المسيح إنه إن كان في قلبك إيمان حتى ولو كان في نظرك صغيراً جـدا جـداً كـحبـة الخردل، فإنـك هـذا القـدر مـن الإيمان تقـول للشجرة انقلعي وانغرسي وانطرحــي في البحــر فتطيعــك. ولــيس ذلــك فقــط – مــن حيــث ضــخامة الفعـل – بــل إذا قلــت لهــذا الجبـل انتقل وانطرح في البحر يطيعك.
ولكن ما معنى ذلك؟
معناه أن قوة الإيمان في قلوبنا معطلة بسبب عدم تشغيلها، ولكن كيف نشغل أو نحرك الإيمان في قلبنا للعمل؟ هنا ندخل في القيمة العظمى لمفهوم المجازفة. أنت لن تخسر شيئاً، إبتدئ بنفسك وآمن بقوة المسيح وابدأ استخدم إيمانك في حياتك أنت أولا. آمن بأنك ابن الله وقف وصل بإيمان صادق أمام الله أبيك الذي في السموات واطلب منه أول طلب في حياتك وقل له: أنا أؤمن أنك أنت أبي الحقيقي وليس لي أب غيرك، كما علمنا المسيح: «لا تدعوا لكم أباً على الأرض» (مت 9:23). وهنا يلزمنا أن نكشف لماذا ألغى المسيح أي أبوة وبالأخص الأبوة البشرية؟ لكي يصبح أبونا الوحيد هو الله. فإذا تم ذلك بالإيمان الحقيقي فأنت ستتعجب كيف يصبح الله فعلاً أباك الخاص، ولكن افتح عينيك وقلبك عليه وابتدئ سر أمامه وكن كاملاً في اعتمادك عليه وسوف تجد أنك دخلت دائرة من العناية والحب الأبوي لله. ارفع قلبك دائماً وقل بكل شجاعة وإيمان بأن الله أصبح أباك الوحيد، وابتدئ اسأل منه ما يخص حياتك الروحية والنمو في الفهم والإحساس بالله، وستری أنه سينفذ لك ما تريد بالقدر الذي يتناسب مع بنوتك، ولكن لا تطلب أشياء مادية ولا طلبات روحية تفوق قامتك في الإيمان والعمل. فإذا أتقنت دور أبوة الله لك فسوف تجد كيف سيسكب الله من أبوته فيك، لأن هذا هو عمل الله الذي من أجله أرسل ابنه إلى العالم متجسدا لكي يدخلنا مرة أخرى بالفداء والخلاص والمصالحة إلى الله كأبناء. هذا المستوى من الإيمان هو أقوى وأشد أن نقول للشجرة أو الجبل انطرحا في البحر ويطيعان. لأنه إن كان الله هو أبونا الوحيد فسوف يعمل لنا كل ما يفوق العقل من أجل إسعادنا به. فإذا اختبرنا حقيقة الإيمان بالله كأب نكون قد بلغنا قمة الإيمان، الذي يحرك العالم كله وليس الشجرة والجبل.
كذلك نسمع المسيح يقول: «لا تدعوا لكم معلماً على الأرض لأن معلمكـم واحـد هـو المسيح» لماذا؟ وماذا يعني ذلك؟ يعني أن الحياة الروحية لا ينفتح بابها إلا بالمسيح، فهو الباب ولن نعرف الطريق إلى الله إلا بالمسيح. فإذا حاولنا أن نعرف كل هذه الحقائق الإنجيلية من الكتب وأفواه المعلمين فستزداد معرفتنا بالحقائق، ولكن يظل المسيح هو الحقيقة الوحيدة والعظمى المخفية، لأنه لا يستعلن بالكتب ولا بالعظات ولكن يـستعلن بالروح والتعبـد الـصـامت والصلاة القلبية، لذلك قال: لا تدعوا لكم معلماً غيري لأني أنا الوحيد الذي سأعرفكم من أنا!! فمهما قرأت في كتب اللاهوت والدراسات الإنجيلية لتعرف من هو المسيح، جيد، ولكن لن تبلغ إلى المسيح نفسه لتعرف منه سر البنوة الله إلا بالاستعلان بالروح في القلب، فالذي سيبلغك إلى المسيح نفسه هو المسيح. لذلك قال: أنا معلّمك الوحيد. وهكذا إذا بدأنا نقرأ الإنجيل ونود أن نفهم أسرار المسيح، يكون أن من له علاقة خاصة بالمسيح بإيمان أنه المعلم الوحيد، تنفتح أمامه كل أسرار الإنجيل والملكوت والله. يحس بها ويشعر أن له علاقة سرية بها. فالصليب مثلاً ومعه الفداء والخلاص، إن كان الإنسان قد بلغ حالة حب وإيمان بسيط جداً كطفل بشخص المسيح الوديع المتواضع، يحس بعظمة الصليب قبل أن يعرف عنه شيئاً، وحينما يأتي ذكره يشعر بقلبه ينبض ونفسه تنفتح له، قبل أن يدرس معناه وآثاره في خلاصنا. هذا هو الإيمان بالمسيح، اسمع قيمة هذا الإيمان البسيط غير العلمي مـن فـم المسيح لمرثا: «إن آمنت ترین محد الله» (يو 40:11)!! هنا الإيمان أعطى الرؤيا لمجد الله. فالإيمان بالمسيح علاقة حية شخصية بالمسيح تأتي من بعدها معرفة كل ما يخص الله والمسيح في الإنجيل.
بهذا الإيمان البسيط نغلب العالم (1يو 5: 4و5)، فهل غلبة العالم أكبر وأعظم أم طـرح الشجرة والجبل في البحر؟ فالمسيحية تقوم على هاتين الحقيقتين أن الله هو الأب الحقيقي، والمسيح هو المعلم الحقيقي. بمعنى أن الله هو الوحيد الذي يقربنا إليه كأبناء، والمسيح هو الوحيد الذي يعرفنا بنفسه كابن الله ويقدمنا إلى الآب كأبناء معه. والإنسان الذي أبوه الله ومعلمه المسيح بالحق هو الإنسان الذي غلب العالم بكل قواته: «ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم» (يو 16:17). من له هذا الإيمان لا يطرح الجبل في البحر فقط بل يطرح العالم كله!!
4 ـ مثل العبد البطال (7:17-10)
10-7:17 «ومن منكم لـه عبـد يحرث أو يرعى، يقول له إذا دخل من الحقل: تقدم سريعاً واتكي. بل ألا يقول له: أعدد ما أتعشى به، وتمنطق واخدمني حتى آكل وأشرب، وبعد ذلك تأكل وتشرب أنت. فهل لذلك العبد فضل لأنه فعل ما أمر به؟ لا أظن. كذلك أنتم أيضاً، متى فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا: إننا عبيد بطالون. لأننا إنّما عملنا ما كان يجب علينا».
يصر هنا يقصد المسيح أن يكشف أن العلاقة بين الله والإنسان كانت لها صورة وحقيقة الأبوة للإنسان، إلا أن الإنسان في المقابل لا تزيد علاقته عن علاقة عبد بالنسبة الله. أما الله فينعم وأما الإنسان فيعبد كعبـد صادق أمين، ولا ينتظر الإنسان من الله إلا القبول كعبد، في حين أن الله دائماً أنه أب. هذه المعادلة تخفي تحتها أسراراً عظيمة وعجيبة، لأنه وإن كانت هذه حقيقة أزلية أن الإنسان عبد وخلق ليعبد ويخضع ويطيع، ولكن الله لم يحتمل أن يكون مجرد سيد يعبد، بل اشتاقت نفسه أن يكون أباً ليعبر عن حقيقة حبه وعظمة نعمته التي أبت نفسه أن تكون تعويضاً . عن عبودية الإنسان، فآلت عليه نفسه أن يسكب نعمته على الإنسان كاستحقاق وليس كإنعام السيد، وبهذا أكمل عملية التحشد وظهور ابنه بهيئة الإنسان أو كإنسان. وهكذا حدث شيء هائل من التقارب بين الله والإنسان، كاد فيه الإنسان أن يتآخي مع الابن الوحيد «ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين» (رو 29:8). نعم تم هذا كله من طرف الله وإنعامه العجيب أن يصير الإنسان بالنهاية ابناً مع الابن ووريثاً. هذا من وجهة نظر الله وقدراته التي حققها وكأنه يريد أن يسعد نفسه بأبناء يحبهم وينعم عليهم ويعطف عليهم كأبناء مع الابن وفيه: «سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته.» (أف 5:1)
ولكن ماذا من جهة الإنسان، فنحن مهما بلغنا من إحسانات الله ونعمته التي رفعتنا إليه إلا أننا أصلاً وفعلاً عبيد لأننا مخلوقون كعبيد لنعبد الله. فالله من جهة قلبه الكبير ونعمته الفائضة علينا صار أباً حقيقياً للإنسان، ولكن الإنسان مهما ارتقى وتآخي مع الابن وجلس معه عن يمين الآب، إلا أنه يصر أنه عبد وإلا يحرم من أن يعبد الله. فنحن عبيد بالفعل حتى ولو صرنا أبناء في نظر الله.
لذلك أصبح أسعد عمل نقوم به هو أن نعبده كعبيد في مقابل أسعد شيء عنده أن يكون لنا أباً يعطف. هذه المعادلة اللاهوتية حتمية وفيها منتهى الكمال للإنسان مقابل كمال الله الفائق.
من بهذا الوضع الفائق الجمال والكمال نفهم الآية في المثل الذي أعطاه المسيح: «متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون، لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا» ! وهذا حق، لأننا مهما قدمنا . شكر وتسبيح وسجود دائم بلهج لا يفتر النهار والليل، فهذا لا يكافئ إعطاء الله كآب محبته وأبوته الحانية مع إنعامه علينا. أين التكافؤ؟ إنها استحالة!
( ط ) مجيء ابن الإنسان (8:18-11:17)
1 – السامري الشاكر أو الأبرص العاشر (11:17-19)
القديس لوقا وحده
14-11:17 «وفي ذهابه إلى أورشليم اجتاز في وسط السامرة والجليل. وفيما هو داخل إلى قرية استقبله عشرة رجال برص، فوقفوا من بعيد ورفعوا صوتاً قائلين: يا يسوع يا معلم، ارحمنا. فنظر وقال لهم: اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة. وفيما هم منطلقون طهروا».
نحن لازلنا صاعدين في الطريق نحو أورشليم وعلى حدود السامرة، ويبدو أننا متجهون شرقاً على حدود بيرية لاتخاذ الطريق من أريحا إلى أورشليم تلافياً لاختراق السامرة مباشرة نحو أورشليم، الأمر الذي لا يطيقه اليهود لكراهية قديمة، لذلك كانوا يسيرون على الحدود بين الجليل والسامرة وبيرية. وعلى مقربة من حدود قرية سامرية استقبلته جماعة من مرضى البرص الذين كانوا يتجمعون معاً – خارج المدن – ويتجمعون معاً في مسيرتهم حتى يصيروا ظاهرين لئلا ينجسوا أحداً من المارة إذا خالطوهم. وكانت هذه أوامر مشددة عليهم. فرأوا المسيح مع جماعة التلاميذ سائرين فعرفوهم. وهنا ابتدأ الرجاء بالنداء عن بعد حسب الأصول بإلحاح طالبين الرحمة. فما كان من المسيح إلا أن تحنن عليهم وأمرهم بالذهاب إلى الكهنة ليروا أنفسهم. وهذا معناه أنه أعطاهم قوة الشفاء من على بعد. وقد تم بالفعل، إذ أصابهم الشفاء وهم سائرون. فعاد منهم واحد سامري سريعاً قاصداً المسيح يهلل، وإذ قد شفي جاء ليشكر المسيح، فكان نصيبه إزاء هذا الشعور الجميل أن أعطاه المسيح الخلاص أيضاً.
19-15:17 «فواحد منهم لما رأى أنه شفي، رجع يمجد الله بصوت عظيم، وخر على وجهه عند رجليه شاكراً له. وكان سامريا. فأجاب يسوع وقال: أليس العشرة قد طهروا؟ فأين التسعة؟ ألم يوجد من يرجع ليعطي مجدا لله غير هذا الغريب الجنس؟ ثم قال له: قم وامض إيمانك خلصك».
علماً بأن هذا المرض غير قابل للشفاء، فشفاء العشرة يعتبر حدثاً فائقاً، لذلك كانت فرحتهم عارمة، ومن الفرحة لم ينتبه تسعة منهم للعودة لتقديم المجد لله وشكر المسيح، إلا واحداً وهو السامري الجنس الذي تملكه الفرح فعاد مهللاً من بعد حتى وصل إلى المسيح وخر تحت رجليه ساجداً شاكراً، مما حرك قلب المسيح فأعطاه بالمثل شفاء الخلاص. ولكن تأسف المسيح لعدم رجوع التسعة الباقين لأنه طبعاً كان يود أن الجميع يقبلون الخلاص. على أن البرص كانوا يعيشون في خيام خارج المدن وغير مسموح لهـم الـدخول داخل المدينة (لا 14: 2-32). وكان محدداً لهـم أن لا يقربوا أحداً إلا على مسافة طويلة على أن يصرخ من على بعد: أبرص أبرص، حتى ينتبه السائرون. وواضح أن التسعة الذين لم يعودوا كانوا يهوداً، وواضح أنهم آمنوا بالمسيح لذلك شفوا في الطريق إلى الكاهن، ولكن الشفاء والفرحة ألهتهم عن تقديم واجب الشكر لله. ويذكرنا هذا السامري طيب القلب بالسامرية التي بسبب وعيها وسرعة بديهتها عرفت المسيح وآمنت واعترفت وصارت مبشرة لأهل مدينتها. مع العلم بأن « البرص يطهرون» (لو 22:7) هي إحدى أقوى علامات العهد الجديد.
2 – مجيء الملكوت (21,20:17)
القديس لوقا وحده
21:20:17 «ولما سأله الفريسيون: متى يأتي ملكوت الله؟ أجابهم وقال: لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون: هوذا ههنا أو: هوذا هناك، لأن ها ملكوت الله داخلكم».
واضح هنا تداعي الأفكار والحوادث، فشفاء العشرة البرص كانت أكبر علامة على مجيء مسيًا العهد الجديد”؛ ولكن ليظهر ق. لوقا عمى هؤلاء الفريسيين وضع الاثنين بجوار بعض، فالبرص يطهرون والفريسيون يسألون، البرص نطق شفاؤهم بملكوت الله الذي أتى، وعيون الفريسيين عميت عن الرؤيا والسماع. وبالحقيقة نحن متعجبون ماذا كان يعمل أكثر من ذلك لهذا الشعب حتى يدرك أن المسيح في وسطهم. فما كان من المسيح إلا أن راجعهم على سؤالهم عن الأزمنة والأوقات وحساباتهم متى يأتي الملكوت، بأن قال لهم: إن ملكوت الله لا يأتي بمراقبة ولا بالحسابات. وفي الحقيقة عبارة «ملكوت الله داخلكم » تعني أنه: “في وسطكم”، لأن الله داخلكم بالنسبة للجماعة أنه وسطكم أو معكم لأن لا يجوز أن يُفهم داخل الجماعة بمعنى داخل الفرد. لذلك فعبارة: «ملكوت الله داخلكم» تحتمل بحسب التقليد أن ملكوت الله وسطكم، ويكون المعنى واضحاً جداً مشيراً إلى المسيح، فهو كان وسطهم وسيكون فيهم أيضاً. وقد اتفق أعظم العلماء والثقـات أنها تعني: ملكوت الله في وسطكم”. ولكـن واضح لنا أنها تشمل المعنيين، لأن المسيح وهو الوحيد الذي يمكن أن يعبر عن مفهوم مجيء الملكوت شمل كل الوجود معنا وفينا وفي وسطنا. كل هذا على أساس انفتاح ذهن المؤمنين ليقبلوه، حتى أن الفعل المرافق للمجيء يمكن أن يكون في الحاضر والمستقبل معاً؛ بل واحتمال أن يكون المعنى بالنسبة لمجيئه أنه يجيء فجأة جائز أيضاً بالنسبة لإمكانية الإحساس المفاجئ به، ليس بالعين ولكن بالقلب. لأن البديهية الروحية لا تقبل وضع ملكوت الله تحت مراقبة زمنية أو مكانية، هذا أمر مستحيل. ملكوت الله ي يتبع وجود الله، والله يوجد فوق الزمان والمكان والحدود بأي صورة، ولا يسع وجود الله في عالم الإنسان إلأ قلب الإنسان، لأنه يستحيل أن يوجد الإنسان بمعزل عن ا وإلا يكون مرفوضاً ومائتاً، ولكننا نحيا به وهو يحيا فينا. وكلام المسيح في غاية الوضوح: «أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد» (يو 23:17). لأن ملكوت الله ليس له حدود فهو يكتنفنا ونوجد فيه ويوجد فينا دون أن نحسه لأنه ليس مادياً، ولا يمكن أن نتعرف عليه إلا إذا انفتح هو علينا برحمته أو انفتحنا نحن عليه بالإيمان والوعي الروحي العالي. وملكوت الله يكون فينا حينما يسر بنا، ونحن نكون فيه عندما تسر به فنحسه: «فرح الرب هو قوتكم» (نح 10:8)، «سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أ أحد فرحكم منكم» (يو 22:16)، لأن فرحنا هو الله وهو المسيح وهو الملكوت. وحينما يبطل هذا الجسد حينئذ ستدرك كل هذه الحقائق، ولكن طالما نحن نحيا بالجسد فالملكوت سيبقى لغزاً لأنه ليس من طبيعتنا.
3 – يوم ابن الإنسان (22:17-37)
(مت 26:24 -28 و37-41)
24-22:17 «وقال للتلاميذ: ستأتي أيام فيها تشتهون أن تروا يوماً واحداً من أيام ابن الإنسان ولا ترون. ويقولون لكم: هوذا ههنا، أو: هوذا هناك. لا تذهبوا ولا تتبعوا، لأنه كما أن البرق الذي يبرق من ناحية تحت السماء يضيء إلى ناحية تحت السماء، كذلك يكون أيضاً ابن الإنسان في يومه».
هنا نحن في امتداد سؤال الملكوت. فالإنسان يتوق أن يعرف المستقبل، ولكن مستقبل الإنسان في الجسد شيء ومستقبل الإنسان بالروح شيء آخر تماماً. فنحن الآن في المستقبل بالنسبة لهؤلاء الذين كانوا مع المسيح في ذلك اليوم وهم صاعدون إلى أورشليم منذ 2000 سنة، نحن الآن في المستقبل بالنسبة لهم. كانوا هم عائشين في يوم من أيام ابن الإنسان ولم يدركوه ولم يحشوا به، قد ذهب من فوق رؤوسهم ولم يتمتعوا به أو يهتموا به، هكذا نحن أيضاً حتى ولو جاء المسيح اليوم فلن ندركه ولن نهتم بمجيئه، ونقول عليه كما قال الفريسيون أو حتى كما قال التلاميذ أنت: “المسيح”، ثم تركوه وهربوا وأخذوا يتفرجون عليه وهو على الصليب، ولا فهموا الصليب بل جزعوا منه. إذن، يوم ابن الإنسان هو يومان: يوم للعائشين للجسد ويوم للعائشين بالروح. العائشون بالروح يعيشون يوم ابن الإنسان كل يوم وعلى الدوام، وحتى ولو جاء ابن الإنسان في اليوم الأخير فسيراه العائشون بالروح بوضعه المتحلي: نور من نور. أما الذين لا يعيشون بالروح بل في شهوات الجسد وملذاته، فلن يروه، وإذا رأوه سيكون هو الديان الذي يوقظ ضمائرهم وقلوبهم ليروا أيامهم المظلمة التي قضوها في إهانة اسمه ومجده: فجور وزنا ونجاسة وأعمال قسوة وظلم وسرقة وكل ما هو مشين.
ولذلك لم يعطهم المسيح أي وعد بأن مستقبلهم سيكون أفضل من يومهم، ولكن بالنسبة له فهو إذا جاء يملأ الكون كله بوجوده وليس مكاناً دون مكان. فالمستعدون يفرحون لأنه سيأتي ليأخذهم إليه للمكان المعد، وأما غير المستعدين فسيتألمون آلاماً ليس فيها عزاء ولا رجاء، لأن الندم للنفس هو أشد أنواع الآلام. ويصف المسيح مجيئه كظهور البرق حينما يضيء كل دائرة الكون ويراه كل بشر معاً.
25:17 «ولكن ينبغي أولا أن يتألم كثيراً ويرفض من هذا الجيل».
يسبق المسيح هنا ويعرف تلاميذه بالذي سيتم قريباً جداً حتى يتيقظ قلبهم ويفهموا رسالته. فالآلام والرفض حتمية قبل المجيء والظهور الذي يشتهونه. فالآلام قبل المجد، والرفض قبل الظهور .
30-26:17 «وكما كان في أيـام نـوح كذلك يكون أيضاً في أيام ابن الإنسان. كانوا يأكلون ويشربون، ويزوجون ويتزوجون، إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك، وجاء الطوفان وأهلك الجميع. كذلك أيضاً كما كان في أيام لوط، كانوا يأكلون ويشربون، ويشترون ويبيعون، ويغرسون ويبنون. ولكن اليوم الذي فيه خرج لوط من سدوم، أمطر ناراً وكبريتاً من السماء فأهلك الجميع. هكذا يكون في اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان».
دائماً يستشهد الإنجيليون بسدوم والطوفان في معاملة الله للجيل الرافض: «ولم يشفق على العالم القديم بل إنما حفظ نوحاً ثامناً كارزاً للبر إذ جلب طوفاناً على عالم الفخار. وإذ رمد مدينتي سدوم وعمورة حكم عليهما بالانقلاب واضعاً عبرة للعتيدين أن يفجروا.» (2بط 2: 5و6)
هكذا يذكر المسيح الرافضين والذين باعوا أنفسهم للخطية وحياة المجون أنه سيفاجئهم مجيء ابن الإنسان في يوم لا يعلمونه، تشرق الشمس ومعها الظلمة، وتمطر السماء ليس ماء بل ناراً. فبقدر ما أن ابن الإنسان كله حلاوة ومشتهيات للروح العطشانة إلى الله والنعمة والملكوت، بقدر أن غضبه لا يطاق بالنسبة للذين أهانوا محبته وداسوا دمه وازدروا بصليبه. ولكن أخطر ما في إنذاراته هو المفاجأة، دائماً يشدد عليها حيث لا توجد فرصة ولا دقيقة واحدة للندم أو التوبة. لذلك أصبح شروق شمس جديدة بنورها ليأخذ الإنسان فرصة يوم جديد في حياته هي فرصة للتوبة، وبدء جديد لحياة جديدة فيها تمجيد الله وشكره، كفرصة عظمى قبل أن يأتي الصباح الذي لن تشرق فيه شمس. إن أخطر ما يواجه الإنسان في حياته هو أن تؤخذ نفسه وهو غير مستعد لمواجهة الله. لذلك كل ساعة في عمر الإنسان هي فرصة جديدة لفتح القلب الله وإعطاء عهداً للعودة إلى الصلاة وتقديم العبادة الصادقة لله، وليت ساعاتنا وأيامنا كلها صلاة وشكر وتسبيح لتحسب مستحقين لرؤياه عند مجيئه، أو عند الذهاب إليه، والجاهل هو الذي يسوف العمر باطلاً!
37-31:17 « في ذلك اليوم من كان على السطح وأمتعته في البيت فلا ينزل ليأخذها، والذي في الحقل كذلك لا يرجع إلى الوراء. أذكروا امرأة لوط! من طلب أن يخلص نفسه يهلكها، ومن أهلكها يحييها. أقول لكم: إنه في تلك الليلة يكون اثنان على فراش واحد، فيؤخذ الواحد ويترك الآخر. تكون اثنتان تطحنـان معاً، فتؤخذ الواحدة وتترك الأخرى. يكون اثنان في الحقل، فيؤخذ الواحد ويترك الآخر. فأجابوا وقالوا له: أين يارب؟ فقال لهم: حيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور».
لقد جمع ق. لوقا أهوال هذه الأيام الأخيرة في انتهاء العالم من الأناجيل الأخرى فدخل فيها وصف أهوال الحرب السبعينية وإطباق جنود الرومان حـول المدينة. ودائماً في رؤى الأبوكاليبسيس لا تذكر الفواصل الزمنية بين حادثة وأخرى لأن الرؤيا خارج الزمان. لذلك نجد رؤى الأشياء التي ستحدث في الأيام الصعبة القريبة مشتركة مع حوادث آخر الزمان. ولو أن الأهوال واحدة والقصد من تكرارها أن يحترس الإنسان لئلا يؤخذ وهو غير مستعد. وكثرة الأسئلة عما سيحدث لا قيمة لها لأنه لن توجد فرصة للإنسان أن يعرف في وقتها شيئاً، إلا أنه مدعو ليعطي جواباً عما صنع. فذكر هذه الأيام الصعبة يوجهنا إلى كيف نقضي زماننا الآن في حياة مسيحية مقبولة أمام الله.
أما القصد من أن الذي يريد أن يخلص نفسه يهلكها، فهو أن الذي يجمع لنفسه المال وكل ما يؤمن حياته من الموت والخوف والحاجة بلا اهتمام بالحياة التي فوق فإنه يهلك نفسه. أما الذي يفرط في نفسه وحياته من أجل الحياة فوق فهو يحفظها لحياة أبدية. وهذا يعني أن ننتهز فرصة حياتنا الآن لنقدم أنفسنا الله في عبادة صادقة وترفع عن الدنايا والأمور التي تُغضب الله . مهما كلفتنا.
أما قوله: «حيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور» فيعني في أبسط معناه: “حيث الجريمة يجتمع القضاء”.
تفسير إنجيل لوقا – 16 | إنجيل لوقا – 17 | تفسير إنجيل لوقا | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل لوقا – 18 |
القمص متى المسكين | ||||
تفاسير إنجيل لوقا – 17 | تفاسير إنجيل لوقا | تفاسير العهد الجديد |