تفسير سفر ملاخي 3 للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث
الوعد بمجيء المسيَّا

 

في الأصحاح الأول كشف عن جراحات الشعب كله، قادة وشعبًا، بكونهم محتقرين لاسم الرب بتقديمهم الذبائح المعيبة والعبادة الحرفية من قلبٍ دنسٍ. وفي الأصحاح الثاني يوبخهم بكونهم كاسري الوصية والعهد الإلهي، فصارت بركاتهم لعنات. غدروا بالرب إلههم كما غدر الرجال بزوجاتهم. وفي الأصحاحين الثالث والرابع يحدثنا ملاخي النبي عن المجيئين الأول والثاني لكلمة الله المتجسد. يأتي ليحل وسط البشرية بكونها هيكله، كما يأتي ليدين ويحرق الشر. الرب نفسه في حبه للبشرية ينزل إليها ليقدسها.

الآن في هذا الأصحاح يقدم الوعد بمجيء المسيا ومن يهيئ له الطريق، الذي وحده يُطهر شعبه كما بنارٍ، فيقدمون تقدماتهم بالبرّ. مجيئه لا يعني سلبيتهم، بل يلزمهم أن يرجعوا إليه فيختبروا رجوعه إليهم. يسألهم الرجوع إليه بخطوات عملية، في عبادة روحية حقيقية، ويقين أن الله يشفق بهم كأبناء له، فيتمتعون بروح الحكمة والتمييز.

 

1. التهيئة لمجيء المسيَّا 1:

في استخفاف كان الأشرار يتساءلون: “أين إله العدل؟” (2: 17). وقد جاء الرد مباشرة إنه سيأتي في ملء الزمان، وقد صار ذلك على الأبواب.

هَأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي.

وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ،

وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ.

هُوَذَا يَأْتِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. [1]

يُشير الرب إلى القديس يوحنا المعمدان الذي يرسله قدامه ليهيئ له الطريق بالمناداة بالتوبة، وتقديم معمودية التوبة، والشهادة للرب بكونه حمل الله الذي يحمل خطية العالم.

يدعو القديس يوحنا ملاكه. هنا يقف كثير من آباء الكنيسة في دهشة أمام محبة الله الفائقة للإنسان، فإنه يود أن يدعو كل إنسانٍ ملاكه الخاص. فهو يعشق الإنسان، يود أن يرفعه إلى أعلى مستوى سماوي.

لقد هيأ الله البشرية لمجيئه منذ سقوط آدم وحواء، حيث قدم لهما الوعد: “أضع عداوة بينكِ وبين المرأة، وبين نسلكِ ونسلها؛ هو يسحق رأسكِ، وأنتِ تسحقين عقبه” (تك 3: 15). وجاء الآباء ثم الأنبياء يقدمون رموزًا ونبوات عن مجيئه، وأخيرًا يرسل الله يوحنا المعمدان كملاكٍ يهيئ الطريق للمسيا الموعود به، وقد دعاه الله ملاكه [1]. إنه قادم ليعلن الرسالة الإلهية التي استلمها من السماء وليس من بشرٍ. لقد خُتم الكتاب المقدس بهذا الوعد، وجاءت افتتاحية إنجيل معلمنا مرقس الرسول بكونه أول الأناجيل التي كُتِبَت تشهد بتحقيق هذا الوعد (مر 1: 12).

جاء القديس يوحنا المعمدان يهييء الطريق أمام السيد المسيح بالمناداة بالتوبة وتقديم معمودية التوبة. جاء يعلن لهم أن خلاصهم لا يكمن في انتسابهم الجسدي لإبراهيم أب الآباء، بل بمجيء ذاك الذي ترجى إبراهيم مجيئه.

جاءت هذه النبوة واضحة تمامًا، وقد تحققت في شخص القديس يوحنا المعمدان الذي شهد ليسوع المسيح أنه “حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 29). لهذا حاول اليهود أن يقدموا تفاسير متنوعة لهذا النص فادعى بعضهم أن ملاخي يتحدث عن نفسه كملاك الرب، وادعى آخرون أنه يُشير إلى ملاك الموت الذي يقود الأشرار ليطرحهم في نار جهنم.

يؤكد النبي أن المسيا الرب يأتي بغتة إلى هيكله، الذي يطلبه الأتقياء، خائفو الرب، منذ أيام آدم وحواء. إنهم ينتظرونه بفرحٍ عظيمٍ، وكما يقول الإنجيلي: كانوا “ينتظرون تعزية إسرائيل” (لو 1: 25)، وفداءً في إسرائيل (لو 1: 38)، إذ هو “مُشتهى كل الأمم” (حجي 2: 7). يجد الكل فيه مسرة قلوبهم.

يأتي بغتة“. لقد اقترب مجيئه، فلا ننتظره عن بعد كما كان الآباء البطاركة وما بعدهم من أنبياء، إنما صار المسيَّا قادمًا على الأبواب. ولعله يقصد بقوله “بغتة” أنه سيأتي في وقت لم يتوقع كثيرون مجيئه بالرغم من وضوح النبوات وتحديد تاريخ مجيئه كما جاء في سفر دانيال. حقًا عند ميلاده أكد الكهنة أنه يولد في بيت لحم أفراتة، لكنه جاء بالنسبة لهم بغتة، إذ لم يتهيأوا لمجيئه بالرغم من معرفتهم العقلية بذلك.

إلى هيكله“، فقد جاء إلى الهيكل الذي في أورشليم وطهَّره أكثر من مرة من باعة الحمام والصيارفة. فعل هذا بسلطان، لأنه هيكله وبيته. وفي سن الثانية عشرة وقف في الهيكل وسط المعلمين يسحب قلوبهم بسلطانه، إذ كان يعمل فيما لأبيه (لو 2: 49). وعندما دخل إلى أورشليم في الأسبوع الأخير ذهب إلى الهيكل مباشرة (مت 21: 12). هناك تقدم إليه عمي وعرج يطلبون الشفاء (مت 21: 14). هناك كرز وحاور وصنع آيات ومعجزات.

مع أنه جاء لكي يقيم هيكلًا جديدًا في قلوب مؤمنيه، لكنه كرَّم الهيكل في أورشليم، مطالبًا إيانا باحترام بيت الله.

هوذا يأتي قال رب الجنود“، فإن المتكلم أمين في مواعيده، قادر على تحقيقها، فقد جاء ولم يبطئ.

* “كان إنسان مُرسل من الله اسمه يوحنا” (يو 1: 6)… لقد دُعي “رسولًا” (مل 3: 1)، لأن امتياز الرسول هو أنه لا يقول شيئًا من عنده[96].

* تحدث يسوع عن ثياب يوحنا وسجنه ودوره في النبوة؛ بقوله هذا أظهر أنه أعظم من نبي. ماذا يعني يسوع أيضًا أنه هو أعظم؟ في كونه كان قريبًا جدًا من ذاك القادم. يقول: “هأنذا أرسل ملاكي أمام وجهك”, قاصدًا قربه من المسيا. فكما بالنسبة للملوك الذين يركبون بجوار المركبة يكون أكثر شهرة من البقية، هكذا كان يوحنا، إذ يظهر بدوره قريبًا من المجيء ذاته[97].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* يوحنا أعظم من الأنبياء الآخرين للسبب التالي: تنبأ الأنبياء الآخرون عن يوحنا أنه قادم، أما يوحنا فأشار بإصبعه أنه جاء حقًا، قائلًا: “هوذا حمل الله الذي يحمل خطية العالم” (يو 1: 29). لم يبلغ فقط مركز نبي، بل والمعمدان بتعميده ربه، هذا رفع من شأنه. بهذا حقق نبوة ملاخي إذ تنبأ عن ملاك. يوحنا انتمي إلى طغمة الملائكة، ليس حسب الطبيعة، بل بسبب أهمية رسالته. إنها تعني أنه الرسول الذي يعلن عن مجيء الرب[98].

القديس جيروم

* بكلمة “ملائكة” (غل 3: 19) يعني رسل الله أي موسى وابن نون وأنبياء آخرين حتى يوحنا المعمدان[99].

الأب أمبروسياستر

* في هذا النص يسبق فيخبرنا عن كلٍ من المجيئين للمسيح، الأول والثاني. الأول حيث يقول: “للتو سيأتي الرب في هيكله بغتةً”. هذا يُشير إلى جسد المسيح الذي قال عنه بنفسه في الإنجيل: “اهدموا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أنا أقيمه” (يو 2: 19). ومجيئه الثاني تنبأ عنه بتلك الكلمات: “ومن يقدر أن يفكر في يوم مجيئه؟ ومن يقف ليراه؟”[100].

* يُدعى البشر ملائكة، فيقول الرسول عن نفسه: “كملاكٍ من الله قبلتموني” (غل 4: 14). ويُقال عن يوحنا المعمدان: “هأنذا أرسل أمام وجهك ملاكي يهيئ طريقك قدامك” (مت 11: 10). لذلك عند مجيئه ومعه كل ملائكته (مت 25: 31) سيكون معه قديسوه أيضًا[101].

 القديس أغسطينوس

2. نار إلهية مطهَّرة 2-3:

يأتي الرب القدوس ليقيم من البشرية هيكله المقدس، فمع حبه العجيب للإنسان واعتزازه به، ويحسبهم كالذهب السماوي أو الفضة، لا يقبل أن يكون فيه زغل أو دنس. يود أن يلبسه بٌره الإلهي، فيصير قلبه هيكلًا مقدسًا، ويشتم الله كل عبادة أو تقدمة رائحة رضا، موضع سروره الإلهي.

وَمَنْ يَحْتَمِلُ يَوْمَ مَجِيئِهِ؟

وَمَنْ يَثْبُتُ عِنْدَ ظُهُورِهِ؟

لأَنَّهُ مِثْلُ نَارِ الْمُمَحِّصِ،

وَمِثْلُ أَشْنَانِ الْقَصَّارِ. [2]

مع أنه جاء متجسدًا في تواضعٍ، لكي يلتقي بكل الطبقات حتى العبيد الذين كانوا في ذلك الحين مُحتقرين، لكن “من يحتمل يوم مجيئه؟” “من يثبت عند ظهوره؟” جاء لا ليدين بل ليخلص العالم، ومع هذا فكان صاحب السلطان الذي كانت القيادات اليهودية ترتعب أمامه.

هذا عن مجيئه الأول ليخلص، فماذا يكون في مجيئه الأخير ليدين؟ يراه المؤمنون وعيناه حمامتان، بينما يتطلع إليه الأشرار وعيناه متقدتان نارًا!

جاء السيد المسيح مثل نار الممحص، مثل أشنان (صابون) القصار الذي ينقي الأقمشة وينظفها مما تعلق بها من أقذار. جاء ليلقي نارًا على الأرض (لو 12: 49-50).

المسيح نفسه الذي فعل هذا كله سيقف فيما بعد أمامنا كديانٍ لنا. بالتأكيد لم يعبر الأنبياء على هذا، بل تنبأوا عنه. البعض رآه في ذات الشكل الذي يكون عليه حين يقف أمامنا، والبعض تنبأ فقط خلال الكلمات. كان دانيال بين البرابرة والبابليين عندما رأى المسيح آتيًا على السحاب. أنصتوا إلى قوله: “رأيت، هوذا مثل ابن إنسان آتيا على السحاب. وجاء إلى القديم الأيام وقُدم أمامه وأعطي الحكم والمملكة وكل الشعوب والقبائل والألسنة لتتعبد له” (راجع دا 7: 13-14). أشار إلى قضاء الله وحكمه بقوله: العروش أعدت والكتب انفتحت. ونهر من النار جرى أمامه. ألوف ألوف خدمته، وربوات ربوات تنتظره (دا 7: 9-10). لم يعلن دانيال هذا فحسب، وإنما أظهر الكرامة التي ينالها الأبرار حين قال: “أعطي حكما للقديسين الذين للعلي، وملك القديسون” (دا 7: 22). هذا الحكم سيأتي خلال نارٍ. قال ملاخي: “إنه آتٍ (كنار أتون مطهرٍ) مثل طرقات القصارين”. عندئذ يتمتع الأبرار بكرامةٍ عظيمةٍ. ويتحدث دانيال عن القيامة حيث يقول: “الراقدون في التراب يقومون” (دا 12: 12)[102].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* عندما سقطنا، قام قرن الخلاص لأجلنا (لو 1: 69)، وحجر الزاوية الرئيسي (إش 28: 16)، ويربطنا به ببعضنا البعض، وُضع في الوقت المناسب، أو قامت النار (مل 3: 2-3) التي تطهر أمورنا المنحطة الشريرة (1 كو 3: 13-15)[103].

 القديس غريغوريوس النزينزي

يقول أحد آباء الكنيسة بأنه: [ليس في جسارة يُدعى يوحنا ملاكًا مع أنه إنسان، وذلك بسبب قوته واستحقاقة، فإنه أكثر مجدًا مما لو كان ملاكًا بالاسم أو بالطبيعة. فإن الملاك يُدعى ملاكًا بسبب طبيعته كملاك أكثر منه أنه قد تأهل لذلك. لكنه لأمر معجزي أن إنسانًا وهو في طبيعته البشرية يعبر إلى القداسة الملائكية وينال نعمة الله التي ليست بحسب الطبيعة[104]].

فَيَجْلِسُ مُمَحِّصًا وَمُنَقِّيًا لِلْفِضَّةِ.

فَيُنَقِّي بَنِي لاَوِي وَيُصَفِّيهِمْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ،

لِيَكُونُوا مُقَرِّبِينَ لِلرَّبِّ تَقْدِمَةً بِالْبِرِّ. [3]

يجلس ممحصًا“، حيث يطهر البشرية بإنجيله ليقيم منها كنيسة مقدسة بلا عيب. ينزع عنها الزغل، فتصير ذهبًا نقيًا ممحصًا بالنار. يقول الرسول بولس: “كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة، وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدّسها، مطهرًا إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو أي شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدسة وبلا عيب” (أف 5: 25-27). وأيضًا “الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم، ويطهر لنفسه شعبًا خاصًا غيورًا في أعمالٍ حسنة…” (تي 2: 14).

فينقي بني لاوي، ويصفيهم كالذهب والفضة“. وكأن السيد المسيح يطهر الذين قبلوا أن يكرسوا حياتهم له، لتسبيحه وخدمته وتقديم قلوبهم ذبائح حية، فيكونوا بني لاوي العهد الجديد الروحيين.

إن كان السيد المسيح قد اختار التلاميذ والرسل ووهبهم عطية الكهنوت، وبالتالي جاء خلفاؤهم يتسلمون ذات الموهبة، إلا أنه يوجد كهنوت عام يناله المؤمن في سرّ المعمودية. خلاله يقدم المؤمن صلواته وأصوامه وعطاياه وخدمته تقدمات روحية مقبولة لدى الله. يقول القديس يوحنا باسم كل الكنيسة: “جعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه” (رؤ 1: 6).

يطهر السيد المسيح مؤمنيه بروحه القدوس الناري “بتجارب متنوعة، لكي تكون تزكية إيمانهم تُوجد للمدح والكرامة والمجد” (1 بط 1: 6-7).

بعمل الروح القدس قي قلوب المؤمنين يصير “قربان الأمم مقبولًا مقدسًا بالروح القدس” (رو 15: 16). فيحققون كلمات المرتل: “اذبحوا ذبائح البرّ” (مز 4: 5). وكلمات الرسول بولس: “فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية” (رو 12: 1).

* انزعوا دنس تجديفهم الذي حلّ بهم، وطهروا بنفخات التطهير المقدس النفوس المطمورة في الوحل الكريه، حتى تتحول مغارات اللصوص إلى بيوت صلاة[105].

* إن كانوا لا يعرفون شيئًا عن الأسرار والرؤى، إنما شكَّلوا أحكامهم فقط على مصالحهم الذاتية الحاضرة… فإن غباوتهم في فهم النبوة عظيمة وحسدهم عظيم في الأمور البشرية. يلزم أن تُقتلع مثل هذه الغباوة والحسد من عقولنا. يليق بالإنسان أن يكون أكثر التهابًا من النار لكي يقف ضد مثل هذه الجماعة. هذا هو السبب الذي لأجله قال المسيح: “جئت لألقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟” (لو 12: 49) ولهذا ظهر الروح في (شكل) نارٍ[106].

 القديس يوحنا ذهبي الفم

* “هو سيعمدكم بالروح القدس ونار” (مت 3: 11)… لقد أضاف الطوباوي المعمدان إلى كلمة “الروح” التعبير الحامل لمعنى العمل: “ونار”. هذا لا يعني أننا بالمسيح نتعمد بنارٍ، وإنما لأنه خلال الإشارة إلى النار تُوهب لنا طاقة الروح واهبة الحياة[107].

القديس كيرلس الكبير

3. يغيِّرهم ولا يتغير 4-6:

فَتَكُونُ تَقْدِمَةُ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ مَرْضِيَّةً لِلرَّبِّ كَمَا فِي أَيَّأمِ الْقِدَمِ،

وَكَمَا فِي السِّنِينَ الْقَدِيمَةِ. [4]

في الأصحاح الأول تحدث عن قرابينهم النجسة على مذبحه (1: 7)، هنا إذ تحدث عن مجيء المسيّا وتمتع المؤمنين ببرِّه، يقول: “تقدمة يهوذا وأورشليم تكون مرضية للرب” [4].

يتحدث هنا عن التقدمة الجديدة خلال الصليب، وذبيحة الإفخارستيا موضع سرور الآب، وليست مكرهة للرب.

كما في أيام القدم، وكما في السنين القديمة“؛ حيث يرجع بذاكرتهم إلى تقدمة هابيل التي قبلها الله، وذبيحة نوح بعد الطوفان التي اشتمها الله، رائحة رضا، وذبيحة هرون حيث أنزل نارًا من السماء، وأيضًا ذبيحة إيليا إلخ. هكذا خلال الصليب يجعلنا الرب مقبولين فيه ومحبوبين (أف 1: 6)، ويُسر بنا وبما نقدمه له مما أعطانا. يقول الرسول عن خدمته بين الأمم بإنجيل الخلاص: “ليكون قربان الأمم مقبولًا مقدسًا بالروح القدس” (رو 15: 16). كما يسألنا الرسول أن نقدم ذبيحة مرضية عند الله خلال التصاقنا بذبيحة الصليب: “فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية” (رو 12: 1).

* كيف يمكن للشخص الذي يشاكل هذا الدهر، والذي لم يتحول إلى تجديد ذهنه، ولم يُسّرْ في جدة هذه الحياة، بل عوض هذا يتبع الحياة حسب الإنسان العتيق، أن يطيع الرسول، الذي يأمركم أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة ومرضية لله؟ كيف يمكنك وأنت كاهن الله وممسوح لهذا الهدف عينه أن تقدم تقدمة لله، ليست تقدمة غريبة تمامًا عنك أو مخادعة، بكونها مكونة مما هو خارج عنك، بل يطلب بالحق تقدمة هي لك، تحتوي على ما هو في داخلك، الإنسان الداخلي فيك، الذي يعينك أن تكون كاملًا وبلا عيب حسب كلمة الحمل، ليس فيه أي غضب أو عيب (رو 8: 9-11؛ 1 كو 3: 16-17؛ 2 كو 13: 5؛ كو 1: 27)؟ كيف يمكنك أن تضع هذه التقدمات أمام الله إن كنت لا تنصت إلى الشريعة التي تمنع أي إنسان غير مقدس أن يكون كاهنًا[108]؟

القديس غريغوريوس النيسي

* لقد قُدم الأمم لله ذبيحة مقبولة، عندما آمنوا بالمسيح وتقدسوا بالإنجيل[109].

القديس أغسطينوس

وَأَقْتَرِبُ إِلَيْكُمْ لِلْحُكْمِ،

وَأَكُونُ شَاهِدًا سَرِيعًا عَلَى السَّحَرَةِ وَعَلَى الْفَاسِقِينَ،

وَعَلَى الْحَالِفِينَ زُورًا وَعَلَى السَّالِبِينَ أُجْرَةَ الأَجِيرِ:

الأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ،

وَمَنْ يَصُدُّ الْغَرِيبَ،

وَلاَ يَخْشَانِي،

قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. [5]

الله الذي يشفق على البشرية كما على أبنائه، ويقبلهم كموضع سروره، ويشتم عطاياهم مما قدمه لهم رائحة سرور خلال الصليب يقترب إليهم للحكم على الذين يرفضون التجاوب مع حبه، ويتحدون العدل الإلهي.

أ. شهادته بصليبه ضد السحرة: إنه يكون بصليبه شاهدًا على السحرة الذين لا يقبلون الحب الإلهي، بل يثقون في قدرة أبيهم إبليس. في ختام الكتاب المقدس يحذر الرب بنفسه من السحر، فيضم “السحرة” ضمن الفئات التي نصيبها البحيرة المتقدة بنار وكبريت، الذي هو الموت الثأني الأبدي (رؤ 21: 8).

ب. شهادته بصليبه ضد الفاسقين الذين يتمرغون في الشهوات. في سفر إشعياء يوبخ الرب الشعب المنحرف: “أما أنتم فتقدموا إلى هنا يا بني الساحرة ونسل الفاسق والزانية” (إش 57: 3). وفي هوشع: “حاكموا أمكم، حاكموا، لأنها ليست امرأتي، وأنا لست رجلها، لكي تعزل زناها عن وجهها وفسقها من بين ثدييها” (هو 2: 2). “كلهم فاسقون كتنورٍ مُحمى من الخباز” (هو 7: 4).

* في بدء النبوة أعطى المدينة اسم “زانية”. “كيف صارت المدينة الأمينة صهيون زانية؟” (راجع إش 1: 21) هكذا يتهمهم بالزنا، ليس فقط بكسرهم لقدسية الزواج، وإنما أيضًا بكسر الوصايا، بينما كانوا يبدو كأنهم قريبون من الله، كانوا عبيدًا في الخفاء للشياطين، وهذا في الواقع هو زنا فاضح[110].

ثيؤدورت أسقف قورش

* إنها لا تحفظ أمانة الحب نحوي، بل بالحري خانت الألفة، واستخفت بطهارة الإتحاد معي. وليس لديها الرغبة في أن يكون لها ثمار إرادتي[111].

القديس كيرلس الكبير

ج. شهادته بصليبه ضد الحالفين زورًا: الذين يستخفون بقدسية اسم الله، فيشهدون كذبًا. يقول الرب في زكريا النبي: “فتدخل بيت السارق وبيت الحالف باسمي زورًا وتبيت في وسط بيته، وتفنيه مع خشبه وحجارته” (هو 5: 4).

د. شهادته ضد الظالمين لإخوتهم: إنهم يسلبون أجرة العمال، ويسحقون الأرملة واليتيم، ولا يترفقون بالغريب، فيحرمونه من حقوقه لأنه يجهل قانون البلاد. لقد حسب الرب كل تصرف ضد هذه الفئات هو حرمان من مخافة الرب وخشيته. يقول المرتل عن الشرير “ليس خوف الله أمام عينيه” (مز 36: 1). كثيرًا ما يحذرنا الله من ممارسة هذا الظلم، حاسبًا إنه مُوجه ضده شخصيًا، وضد وصيته. “لا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير” (زك 7: 10). “لا تسيء إلى أرملةٍ ما ولا يتيمٍ. إن أسأت إليه، فإني إن صرخ إليَّ أسمع صراخه، فيحمى غضبي، وأقتلكم بالسيف” (خر22: 22-23). “الديانة الطاهرة عند الله الآب هي هذه :افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنسٍ من العالم” (يع 1: 27).

* الذين هم بلا حماية يتعرضون بالأكثر أن يكونوا ضحية الطغيان. قدر ما كانت الضحية متواضعة قدر ما يحُسب مضطهدًا مقاومًا لله[112].

القديس جيروم

يرى القديس جيروم في الأرملة النفس التي فقدت الله عريسًا سماويًا لها، وفي اليتيم النفس التي حُرمت من أبوة الله، والغريب النفس التي ليس لها موضع تستقر فيه[113]، أي في الأحضان الإلهية، والأجير هو من ينشغل بالماديات لا بالأبديات.  يليق بنا أن نهتم بمثل هذه النفوس، ولا نستخف بخلاصها حتى تتمتع بالشركة مع الله، وتنعم بعذوبة الخلاص، وشركة المجد الأبدي.

لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ لاَ أَتَغَيَّرُ،

فَأَنْتُمْ يَا بَنِي يَعْقُوبَ لَمْ تَفْنُوا. [6]

يظهر الله طول أناته عليهم، فإن كان آباؤهم قد تمردوا عليه وعلى خدامه منذ نشأتهم كأمةٍ في مصر حيث قال اليهود لموسى: “من جعلك رئيسًا وقاضيًا علينا؟” (خر 2: 14)؛ وبعد الخروج حيث تذمر الشعب مرارًا وتكرارًا ضد موسى وهرون، وعبدوا العجل الذهبي. وأيضًا حتى بعد دخولهم أرض الموعد حيث طلبوا لأنفسهم ملكًا كسائر الشعوب (1 صم 8: 5)، فقال الرب لصموئيل النبي: “لم يرفضوك أنت، بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم” (1 صم 8: 7). كثيرًا ما عصوا الوصية، وعبدوا الأوثان، وارتكبوا الرجاسات. يقول: “من أيام آبائكم حدتم عن فرائضي، ولم تحفظوها” ]7[. يكشف لهم إنهم عوض الرجوع إليه كمَّلوا كأس شر آبائهم. وكما يقول عزرا: “منذ أيام آبائنا نحن في إثم عظيم إلى هذا اليوم” (عز 9: 7).

لم يتركهم في حيرة، بل قدم لهم العلاج، بعودتهم إليه، فهو وحده سرّ شفائهم من أمراضهم المستعصية. فالتوبة ليست مجرد تراجع عن الخطية، إنما ما هو إيجابي فيها هو الرجوع إلى الله، وانشغالهم به على الدوام.

في عدم قدرة على إدراكهم لحقيقة أعماقهم قالوا: “بماذا نرجع؟” كانوا يظنون وهم في شرورهم وغدرهم بالله وبإخوتهم الضعفاء أنهم مع الله، وأنه ساكن في وسطهم لمجرد اهتمامهم بأورشليم ووجود الهيكل فيها.

بقولهم “بماذا نرجع؟” يعلنون عما في قلوبهم من تذمر ضد الأنبياء الحقيقيين، إذ يحسبونهم كمن يهوون التوبيخ ويطالبون بأمور ليست من حقهم، ويثيرون ضمائرهم بلا سبب حقيقي. ففي تشامخ يقولون: بماذا نرجع؟ أو ما هي الخطايا التي تنسبونها ضدنا؟

إذ ينذر الذين ليس فيهم مخافة الرب فيسيئون التصرف مع إخوتهم، خاصة الضعفاء والمساكين والغرباء، يؤكد لهم أن إنذاره لا رجعة فيه إلا بتحركهم نحو رحمته خلال الرجوع عما فيه، والتصاقهم بالرب نفسه. بقوله “لأني أنا الرب لا أتغير” يؤكد لهم أنه كلمة واحدة من كلماته لا تسقط. إنه لا يهادن الخطية، ولا يقبل الشركة مع الظلمة. فإن كان في طول أناته احتمل شعبه فلم يفنَ، إنما لأنه ينتظر رجوعهم إليه بالتوبة. إنه أمين في محبته ووعوده الإلهية. إنه “ليس إنسانًا فيكذب” (عد 23: 19).

وكما يقول إرميا النبي: “إنه من إحسانات الرب أننا لم نفنَ، لأن مراحمه لا تزول” (مرا 3: 22-23).

رد العلامة أوريجينوس على صلسس (كلسوس) الذي هاجم المسيحية كما اليهودية وادعى أن القول بالتجسد يجعل الله بتنازله قابلًا للتغير من الصلاح إلى الشر، ومن الفضيلة إلى الرذيلة، ومن السعادة إلى البؤس، وما هو أفضل إلى ما هو أسوأ. يقول: [مع استمراره في عدم التغيير في جوهره، نزل إلى الشئون البشرية بتدبير عنايته. نحن نظهر أن الكتاب المقدس يمثل الله غير قابل للتغير بقوله: “أنتم هكذا” (مز 102: 27) و”أنا لا أتغير”. بينما آلهة أبيكريوس Epicurus إذ يتكون من ذرات، فهم قابلون للانحلال مادام كيانهم هو هكذا، ويسعون بل يطردون الذرات التي تحوي عناصر دمار. حتى إله الرواقيين بكونه ماديًا، ففي وقت ما كل جوهره يتكون من العنصر الرئيسي القائد، وذلك عندما يحترق العالم. وفي وقت آخر عندما يُعاد تنظيم الأشياء يصير ماديًا جزئيًا. حتى الرواقيون كانوا عاجزين عن إدراك فكرة الله طبيعيًا بطريقة مميزة بكونه كائنًا غير فاسدٍ تمامًا، وبسيط وغير منقسم[114].

* اسمع الله يقول: “أنا هو، أنا هو، لا أتغير”. إنه يبقى دائمًا ثابتًا غير متغير في كيانه، والذين يتشكلون بواسطة الإنجيل، والذين تغيروا بوصاياه قدر استطاعتهم لن ينحرفوا عما يحيون فيه خلال الزمن. لهذا يحذر بولس أيضًا الشعب: “لا تشاكلوا هذا العالم، بل تغيروا بتجديد أذهانكم، حتى تميزوا إرادة الله الصالحة والمقبولة الكاملة[115].

 القديس ساويرس الأنطاكي

* كيف يمكن أن يكون قابلًا للتغير والتحول ذاك الذي يقول: “أنا في الآب، والآب فيَّ” (يو 14: 10)، و”أنا والآب واحد” (يو 10: 30)، وبالنبي: “أنا الرب لا أتغير” (مل 3: 6)…؟ عندما صار إنسانًا لم يتغير، وإنما كما يقول الرسول: “يسوع المسيح هو أمسًا واليوم وإلى الأبد” (عب 13: 8)[116].

البابا الكسندروس السكندري

* يبقى كما هو الله على الدوام، ولا يقف في عوزٍ إلى تقدمٍ، ذاك الذي هو على الدوام كما هو عليه من ذاته وإلى ذاته[117].

القديس هيلاري أسقف بواتيه

* يتغير المخلوق بواسطة الخالق حسبما يشاء، لأنه قابل للتغير ويطيع إيماءة الذي خلقه. أما الخالق فطبيعته ثابتة غير قابلة للتغير، لهذا يقول النبي عن طبيعة الخالق: “هو صانع كل الأشياء ومغّيرها” (راجع عا 5: 8 LXX). أما عن الكلمة الإلهي فيقول العظيم داود: “أنت هو هو وسنوك لن تفنى” (مز 103: 27). مرة أخرى يقول الله نفسه عن ذاته: “أنا هو الرب، لا أتغير” (مل 3: 6)[118].

* إن كان بالطبيعة هو أسمىْ من التغير والتحول، فإنه لا يتحول من عدم قبوله للموت إلى مائت، ولا عدم قبوله الألم إلى الشعور بالألم، لأنه لو كان هذا ممكنًا ما كانت هناك حاجة له أن يأخذ طبيعتنا[119].

ثيؤدورت أسقف قورش

*    إننا نحتاج إلى ما يقوله الرسول: “وتتجدَّدوا بروح ذهنكم” (أف 4: 23)، إلي التقدم الروحي ف “أنسى ما هو وراءُ” (في 3: 13). فإن تغاضى الإنسان عن فعل ذلك تكون النتيجة الحتمية هي النكوص والتقهقر من سيئ إلى أسوأ.

لا يمكن للعقل أن يبقى على حالٍ واحدٍ. فكما أن الإنسان الذي يجدف بقوة يحاول أن يقاوم بسفينته ضد العاصفة القوية، مقتحمًا التيار بقوة ذراعيه، وبهذا يمتد إلى ما هو قدام، أما إذا تراخي بيديه، فإن سفينته تدور بسرعة تحت قوة العاصفة، هكذا يصير فشلنا واضحًا إن كنا لا نكسب شيئًا إضافيًا. لأنه بغير شكٍ نتراجع إلى الوراء عندما نكون غير متقدمين إلى الأمام.

وكما قلت لا يستطيع العقل البشري أن يبقى على حاله، إذ لا يستطيع أي قديس أن يصل إلى مرتفعات كل الفضائل مادام باقيًا في الجسد متى بقى بدون تغيير. فإما أن يضيف شيئًا أو يفقد شيئًا. إننا نعترف بأن الله وحده هو غير المتغير، فيصلي إليه النبي الطوباوي قائلًا: “ولكن أنت، أنت، وسنوك لن تفنى” (عب 1: 12). ويقول الله عن نفسه: “أنا الرب لا أتغيَّر” (مل 3: 6). لأنه هو وحده الذي بطبيعته صالح على الدوام وكلي الصلاح ولا يمكن أن يُضاف أو ينقص منه شيء.

لهذا يلزمنا أن نخضع لمطالب الفضيلة بعناية فائقة وشوق، وأن نشغل أنفسنا بعملها، لأنه كما قلنا أن العقل لا يقدر أن يبقى على حالٍ واحدٍ، أي لا يمكن أن يبقى من غير أن يُضاف أو تقل منه صفاته الحسنة. فالفشل في اقتناء صفات جديدة يعني وجود خسارة. وإذ تبطل الرغبة في التقدم يوجد خطر التقهقر إلى الوراء[120].

الأب ثيؤدور

* يقول المخلص نفسه: “هوذا ها أنا، لا أتغير” (مل 3: 6)، بينما يكتب بولس: “يسوع المسيح هو أمس واليوم وإلى الأبد” (عب 13: 8) ولكن في الجسد اختتن، وحمل، وأكل وشرب، واضطرب وعُلق على خشبة وتألم، وكان فيه كلمة الله الذي لا يقبل الألم غير المادي[121].

* إن كان (الأريوسيون) يفترون هكذا بنسبتهم التغير للكلمة، فليتعلموا مدى الخطورة الكائنة في فكرهم، لأن “الشجرة تُعرف من ثمرها” (مت 12: 23). ولهذا أيضًا: “فإن من قد رأى الابن فقد رأى الآب” (يو 14: 9). ولهذا أيضًا فإن معرفة الابن هي أيضًا معرفة الآب. ولذلك فإن صورة الله غير المتغيرة ينبغي أن تكون ثابتة غير متغيرة، لأن “يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد” (عب 12: 8). وداود يقول مترنمًا به: “أنت يا رب منذ البدء أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك. هي تتلاشى وأنت ستبقى، وكلها كثوبٍ ستبلى وكرداءٍ تطويها فتتغير، ولكن أنت أنت وسنوك لن تنتهي” (مز 102: 26-28، عب 12: 10-12). والرب نفسه يقول عن نفسه بواسطة النبي: “انظروا إليٌَ، فترون أنيِ أنا هو” (تث 32: 39)، وأيضًا: “لا أتغير” (مل 3: 6). وربما يقول أحد أن المقصود هنا هو الآب. ولكنه من المناسب أن يُطلق هذا على الابن أيضًا. خاصة لأنه حينما يصير إنسانًا، فإنه يُظهر شخصيته كما هي، ويظهر عدم تغيره، وذلك بالنسبة لأولئك الذين يتصورون أنه بما أنه اتخذ جسدًا، فإنه قد تغير وصار آخر… طبيعة كل المخلوقات وكل الكائنات هي متغيرة ومتحولة، وباستبعاده الابن عنها فعنه يبين (الكتاب) بقوله: “أنت أنت وسنوك لن تنتهي” (عب 1: 12). إنه (الابن) لا يتبدل ولا يتغير. وهذا بحقٍ أمر طبيعي. لأن الأشياء المخلوقة بما أنها نشأت من العدم، ولكونها لم تكن كائنة قبل أن تُخلق، لذلك فإن لها طبيعة متغيرة حيث أنها عمومًا قد خُلقت من العدم. أما الابن فإنه كائن من الآب وهو من ذات جوهر الآب، لذلك ليس من العدل أن يقول أحد أنه من جوهر غير المتغير يُولد كلمة متغير، وحكمة قابلة للتحول[122].

* كان لهرون خلفاء، وعمومًا فإن رجال الكهنوت بحسب الشريعة يحلون محل سابقيهم بمرور الوقت أو بسبب الموت. أما الرب فله “كهنوت ثابت لا يزول” (انظر عب 7: 24). لقد صار رئيس كهنة أمينًا باقيًا إلى الأبد، وقد صار أمينًا حسب الوعد لكي يستجيب لأولئك الذين يقتربون إليه ولا يخدعهم. وهذا ما يمكن أن تتعلمه “يتألمون بحسب مشيئة الله، فليستودعوا أنفسهم كما لخالقٍ أمينٍ” (1 بط 4: 19)، لأنه هو أمين وغير متغير، بل هو ثابت إلى الأبد، وهو يهب تلك الأشياء التي وعد بها[123].

القديس أثناسيوس الرسولي

4. الرجوع إلى رب الجنود 7-12:

مِنْ أَيَّأمِ آبَائِكُمْ حِدْتُمْ عَنْ فَرَائِضِي وَلَمْ تَحْفَظُوهَا.

ارْجِعُوا إِلَيَّ أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ.

فَقُلْتُمْ: بِمَاذَا نَرْجِعُ؟  [7]

انشغل اليهود بالتقدمات والذبائح وكثرتها دون المبالاة بنقاوة القلب وممارسة الحب الأخوي، خاصة نحو المحتاجين، لذلك يعلن لهم أن الرجوع إليه بالإيمان الحيّ العملي يلزم أن يتحقق خلال إخوته المساكين “إخوة الرب” وكما يقول القديس يوحنا الحبيب: “لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟” (1 يو 4: 20).

*    بينما يُغضب (الشرير) الله بمعاصيه الكثيرة والمستمرة، فإن الله يُطيل أناته عليه، وبطول أناته ينتظر يوم الدينونة، حتى يعقد الكل العزيمة (على التوبة)… إنه يُفضل أن يطيل أناته عليه إلى فترة طويلة، محتملًا إياه بالرحمة، مؤجلًا (عقوبته)،… منتظرًا رجوعه إليه، وذلك كما ينصحنا الله نفسه، قائلًا: “لأني لا أُسر بموت من يموت، فأرجعوا وأحيوا” (حز 18: 32). مرة أخرى: “ارجعوا إليٌ يقول رب الجنود” (راجع مل 3: 7) [124].

الشهيد كبريانوس

* اطلبوا الرب أيها الخطاة وتقووا في أفكاركم بسبب الرجاء. اطلبوا وجهه بالتوبة في كل الأوقات (مز 105: 3)، فتقدسون بقداسة حضرته، وتتطهرون من آثامكم (حز 36: 25). أسرعوا إلى الرب أيها الخطاة، فإنه يمحو الإثم ويزيل الخطايا. فقد أقسم: “إني لا أسر بموت الشرير” (حز 33: 11)، بل أن يتوب الخاطي ويحيا. “بسطت يدي طول النهار إلى شعبٍ متمردٍ وعاصٍ” (راجع إش 65: 2). “فلماذا تموتون يا بيت يعقوب؟” (مز 33: 11). “ارجعوا إلي أرجع إليكم” (مل 3: 7)[125].

مار إسحق السرياني

* صار وجهك وجه زانية، أنت لا تعرف كيف تستحي (إر 3: 3). ارجع أيها البائس إلى الرب، فيرجع هو إليك (مل 7) تُب، فيندم على الشر (التأديب) الذي كان سيوقعه عليك[126].

القديس جيروم

أَيَسْلُبُ الإِنْسَانُ الله؟

فَإِنَّكُمْ سَلَبْتُمُونِي.

فَقُلْتُمْ: بِمَ سَلَبْنَاكَ؟

فِي الْعُشُورِ وَالتَّقْدِمَةِ. [8]

يُجيب الرب نفسه على تساؤلهم: “إنكم سلبتموني”] 8[ هذا اتهام جديد موجه من الرب نفسه ضد الشعب على لسان النبي.

الاتهام الأول: احتقار الكهنة لاسم الرب (1: 6).

الاتهام الثاني: يقربون خبزًا نجسًا على مذبح الرب (1: 7).

الاتهام الثالث: أعثروا كثيرين بالشريعة، أفسدوا عهد الله (3: 8).

الاتهام الرابع: الغدر وعمل رجاسة في إسرائيل وفي أورشليم (3: 11).

الاتهام الخامس: اتعبوا الرب بكلامهم (3: 17).

الاتهام السادس: من أيام آبائهم حادوا عن فرائضه ولم يحفظوها (3: 7).

الاتهام السابع: سلبوا الرب (3: 8).

الاتهام الثامن: أقوالهم اشتدت على الرب (3: 13).

هنا يُقدم الاتهام السابع، وهو اتهام بسرقة الرب قهرًا، وسلب حقوقه عليهم. كيف يمكن للمخلوق الضعيف أن يسلب الله العالم بكل شيء والقدير؟ هل يتوهم أنه يسلبه سرًا دون علم منه أو دون قدرة على مقاومته؟ من الحماقة أن يرتكب الإنسان جريمة كهذه في حق الله.

“فقلتم: بِمَ سلبناك؟” في جسارة يبررون أنفسهم ويطلبون من الله الدليل على ارتكابهم هذه الجريمة.

لقد سلبوه عشور ما وهبهم مجانًا، وما نذروه، وبالتقدمات الواردة في الشريعة. وهم بهذا ارتكبوا جريمة ضد الأمة كلها، إذ لا يجد الفقراء والمساكين والمحتاجين نصيبًا لهم في بيت الرب. هذا ومن جانب آخر، إذ سلكوا بالشح مع بيت الله، حلت اللعنة على الأرض، ففقدت الأمة الكثير من الخيرات والعطايا الإلهية بسبب هذه اللعنة. حلت المجاعات والأوبئة وثارت الطبيعة على الإنسان!

سبق فأدبهم بذات التأديب حين اهتموا ببناء بيوتهم وتجاهلوا بناء بيت الرب (حج 1: 10-11)، والآن يكرر التأديب لعدم تقديم احتياجات الخدمة في الهيكل.

قَدْ لُعِنْتُمْ لَعْنًا وَإِيَّأيَ أَنْتُمْ سَالِبُونَ هَذِهِ الأُمَّةُ كُلُّهَا. [9]

هَاتُوا جَمِيعَ الْعُشُورِ إِلَى الْخَزْنَةِ لِيَكُونَ فِي بَيْتِي طَعَأمٌ وَجَرِّبُونِي،

بِهَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ

إِنْ كُنْتُ لاَ أَفْتَحُ لَكُمْ كُوى السَّمَاوَاتِ،

وَأُفِيضُ عَلَيْكُمْ بَرَكَةً حَتَّى لاَ تُوسَعَ. [10]

يقدم لهم نصيحة مخلصة ليلمسوا عمليًا كيف أن العطاء بسخاء يفتح أمامهم كوى السماوات. يُشير إلى العطايا الإلهية كما من السماء، من حيث لم يكن الإنسان يتوقع، تتدفق عليه فجأة بدون توقع.

الله في حبه وسخائه لا يقف عند المصالحة مع الإنسان الراجع عليه، وإنما يفيض عليه بأكثر مما يتخيل!

وَأَنْتَهِرُ مِنْ أَجْلِكُمْ الآكِلَ،

فَلاَ يُفْسِدُ لَكُمْ ثَمَرَ الأَرْضِ

وَلاَ يُعْقَرُ لَكُمُ الْكَرْمُ فِي الْحَقْلِ،

قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. [11]

يرفع الله عنهم ضربة “الجراد” والحشرات المفسدة للحقول، فلا يجدون في حقولهم كرمة تالفة بعد.

وَيُطَوِّبُكُمْ كُلُّ الأُمَمِ،

لأَنَّكُمْ تَكُونُونَ أَرْضَ مَسَرَّةٍ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. [12]

ينالون مع العطايا المادية تقديرًا واحترامًا من كل الأمم، إذ تلمس الشعوب مسرة الرب بهم، فيطوبونهم بعد أن صاروا موضع سخرية الشعوب بسبب خطاياهم، تصير حتى أرضهم “أرض مسرة”. وكما يقول الرب: “هذه هي راحتي إلى الأبد، ههنا أسكن لأني اشتهيتها” (مز 132: 14).

* الرب الإله ليس في عوزٍ؛ لا يطلب مكافأة، بل تكريمًا. لا يطلب منكم أن ترد له شيئًا من عندكم. إنه يطلب البكور والعشور، فهل ترفضون؟ هذا حدث فعلًا عندما صار المحصول هزيلًا بسبب جفاف المطر، وعندما ضرب البرد كرومكم وأبادها الصقيع. لماذا حدث هذا إلا لحساباتكم الجشعة؟ أخذ التسعة أعشار منكم، لأنكم رفضتم دفع العشور… ستعطون للجندي الشرير (خلال السبي أو ما يمارسه من عنفٍ) ما ترفض أن تعطيه للكاهن… الله مستعد على الدوام أن يهب الخيرات، لكن شر البشرية يمنع ذلك، لأن الإنسان يرغب أن يأخذ كل شيء من الرب الإله، ولا يرغب في تقديم شيءٍ مما يظن أنه يملكه. الآن تصور أن الله يقول: “بالطبع أنت ليّ يا إنسان، لأني خلقتك. الأرض التي تفلحها والبذور التي تزرعها هي ليّ. الحيوانات التي تستخدمها هي ليّ، وأيضا المطر ونفخات الرياح وحرارة الشمس هي ليّ. ما دامت كل عناصر الحياة هي ليّ، وأنت فقط قد وضعت يديك عليها فإنك تستحق مجرد العشور. الآن مع أن الله القدير بحنوه يقوتنا، ويهب الإنسان مكافأة وافرة لأجل عمله البسيط، فإنه يطالب بالعشور لنفسه ويترك الكل لنا[127].

الأب قيصريوس أسقف آرل

5. فساد مفاهيمهم:

أَقْوَالُكُمُ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ قَالَ الرَّبُّ.

وَقُلْتُمْ: مَاذَا قُلْنَا عَلَيْكَ؟  [13]

إذ انشغل الشعب بالغنىٌ المادي، تطلعوا فيما بينهم فرأوا الأشرار أغنياء، والمتكبرين يحتلون مراكز قيادية، فحسبوا ما قدموه في عبادتهم من تقدمات وذبائح لا قيمة له، بل ربما حسبوه خسارة. فقدوا ما قدموه للهيكل ولم ينالوا شيئًا، بل حلٌت بهم التجارب وسادهم الحزن.

هنا يقدم الاتهام الثامن وهو أن أقوالهم اشتدت على الرب، ويترجمها البعض أنها أقوال جريئة على الرب. ففي جسارة بلا وقارٍ تكلموا على الرب، واعترضوا عليه، وحسبوا العبادة له مضيعة للوقت وللمال، ودخول إلى حالة من الحزن والمرارة.

أنكروا ما قالوه، سواء علنًا أو خفية، بأفواههم أو بعقولهم وأفكارهم. “ماذا قلنا عليك؟” طلبوا من النبي إقامة الدليل على هذا الاتهام الموجه ضدهم. ولعلهم هنا لا ينكرون ما قالوه، لكنهم حسبوه أمرًا تافهًا لا يستحق ثورة النبي عليهم. وكأنهم يقولون: ما قلناه يُحسب كلا شيء أمام ما قالته الأمم الوثنية ضد الرب، وما مارسناه من شرور تحسب كلا شيء أمام شرور الأمم، فلماذا كل هذه الثورة؟

لم يحتملوا كلمات التوبيخ، وعوض التطلع إلى أعماقهم، ليطلبوا من الرب تطهيرهم وتقديسهم، قارنوا أنفسهم بغيرهم من الأمم فحسبوا أنفسهم أبرارًا صالحين. لهذا يُطالبنا الرسول بولس أن نقارن الروحيات بالروحيات (1 كو 2: 13).

قُلْتُمْ: عِبَادَةُ الله بَاطِلَةٌ.

وَمَا الْمَنْفَعَةُ مِنْ أَنَّنَا حَفِظْنَا شَعَائِرَهُ،

وَأَنَّنَا سَلَكْنَا بِالْحُزْنِ قُدَّأمَ رَبِّ الْجُنُودِ؟  [14]

وَالآنَ نَحْنُ مُطَوِّبُونَ الْمُسْتَكْبِرِينَ،

وَأَيْضًا فَاعِلُو الشَّرِّ يُبْنَوْنَ.

بَلْ جَرَّبُوا الله وَنَجُوا. [15]

إذ قارنوا أنفسهم بالأمم الوثنية حسبوا أن العبادة لله باطلة، إذ دفعت بهم إلى الحزن، بينما يعيش المتكبرون الوثنيون الرافضون للإيمان بالله الحيّ وفاعلو الشر في سعادة فائقة، يبنون وينمون ولا يعوزهم شيء. إنهم يطوبون الأشرار ويندمون على التصاقهم بالرب والعبادة له كما لو كان مصدر حزن وكآبة.

لم يدرك هؤلاء أن علة حزنهم وعدم سعادتهم ليست عبادة الله، وإنما لأنهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس (مت 15: 9)، وأنهم يقتربون إلى الرب بشفاههم وقلوبهم بعيدة عنه (مت 15: 8). لم يدركوا أن سرّ شقاوتهم هو ارتباطهم بالعطايا الأرضية والراحة الزمنية. وكما يقول الرسول بولس: “إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فإننا أشقى جميع الناس” (1 كو 15: 19). أما من يتعبد للرب بالروح وبحكمةٍ سماويةٍ، فيدرك أن “طرق الحكمة نِعَم، وكل مسالكها سلام” (أم 3: 17).

* هذا ما يعلنه النبي عن الدينونة الأخيرة، حيث يكون فيها الأشرار غير سعداء حتى في المظهر، بل سيكونون في منتهىٌ البؤس بوضوح، ولا يكون الصالحون في معاناة من أية ضيقةٍ أو بؤسٍ ولو كان وقتيًا، إنما يتمتعون بسعادة تامة أبدية. فقد سبق فاقتبس عبارات مشابهة عن هؤلاء، إذ قال: “كل من يفعل الشر فهو صالح في عيني الرب، وهو يُسر به” (مل 2: 17). أقول هذا يحدث بسبب فهم الشريعة موسى بطريقة جسدية، لذلك تذمروا ضد الله[128].

* يضع غير الناضجين روحيًا رصيدهم بالأكثر في الوعود الزمنية، ويخدمون الله متطلعين إلى مثل هذه المكافآت. لأنه إذ يزدهر الأشرار يضطربون جدًا. لهذا فإن ملاخي يكمل -لأجل استنارتهم- مميزًا بين البركات الأبدية التي للعهد الجديد التي ينالها الصالحون وحدهم وبين البركات الزمنية المجردة التي للعهد القديم والتي غالبًا لا ينالها الأشرار. يقول: “أقوالكم قد اشتدت عليّ، يقول الرب وقلتم: ماذا قلنا عليك؟ قلتم: عبادة الله باطلة، وما المنفعة من أننا حفظنا شعائره، وأننا سلكنا بالحزن قدام رب الجنود؟ والآن ونحن ندعو المستكبرين سعداء، لأن فاعلي الشر يُبنون، وقد جربوا الله وازدهروا” (مل 3: 13-15)[129].

* ندعو المتكبرين سعداء، لأن العاملين في الشر يبنون (مل 3: 14-15). مثل هذه الشكاوى دفعت النبي أن يسأل التعجل بالدينونة الأخيرة، حيث يكون الأشرار أبعد ما يكون من التظاهر بالسعادة، إذ يكون بؤسهم ظاهرًا للكل. أما الصالحون، إذ لا يرتبكون بعد بالأحزان الزائلة، سيتمتعون بطوباوية واضحة لانهائية. قدم ملاخي توضيحًا مشابهًا للذين بتذمرهم يضايقون الرب: “كل شخص يفعل شرًا (يظن) أنه صالح في نظر الرب، وأن مثل هذا يسره”. النقطة الوحيدة التي أود أن أبرزها أن مثل هذه التذمرات ضد الله هي ثمرة التفسير غير الروحي للشريعة[130].

القديس أغسطينوس

* أرجوكم أن تتأملوا فضيلة البار (ملاخي) وعجرفة اليهود. ذاك الذي يشعر بأنه ليس فيه خطية ينطق بحكم قاسي جدًا على نفسه عندما يقول: “أخطأنا، سلكنا كمتمردين على الناموس، فعلنا شرًا”. أما الذين امتلأوا بربوات الشرور ففعلوا العكس حين قالوا: “نحن حفظناه ممجدين” (مل 3: 14-15 LXX). يسلك الأبرار عادةً بوداعة بعد ممارستهم للصلاح، والأشرار بوجهٍ عام يمجدون أنفسهم بعدما يخطئون… أقول هذا لكي ما نتجنب الخاطئ ونحاكي البار[131].

القديس يوحنا الذهبي الفم

6. تعامله معهم كبنين:

الرجوع إلى الله لا يقف عند العطاء لإخوة الرب، ولا عند الإدراك الروحي لمفهوم العبادة، وإنما يليق بالمؤمنين أن يدركوا حقيقة الله كأبٍ يترفق بهم بكونهم أبناء له، بهذا يتمتعون بروح التمييز، فيميزون الصديقين الذين يمارسون حياة البنوة لله، والأشرار الذين يعصون الآب السماوي.

حِينَئِذٍ كَلَّمَ مُتَّقُو الرَّبِّ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ،

وَالرَّبُّ أَصْغَى وَسَمِعَ وَكُتِبَ أَمَامَهُ سِفْرُ تَذْكَرَة،ٍ

لِلَّذِينَ اتَّقُوا الرَّبَّ، وَلِلْمُفَكِّرِينَ فِي اسْمِهِ. [16]

إذ قدم نظرة عابدي الرب بطريقة حرفية قاتلة مع فساد سلوكهم فرأوه مصدر حزنٍ، يقدم لنا الآن نظرة متقي الرب وخائفيه والمفكرين في اسمه. هنا يربط بين التقوى أو مخافة الرب والانشغال الدائم بالله. فالذين يحملون مخافة الرب كبنين محبين له، يخشون أن يجرحوا علاقتهم به، فتُمتص كل أفكارهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وعواطفهم في الرب وفي اسمه الحلو في أفواههم الداخلية.

الذين لهم هذه الخبرة الروحية العذبة لن يكفوا عن الشهادة لاسم الرب وعمله الخلاصي. “وكلم كل واحدٍ قريبه”، إذ “من فضلة القلب يتكلم الفم” (مت 12: 34). “والإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات” (مت 12: 35).

الإنسان الروحي يتكلم، ليس فقط بشفتيه ولسانه، وإنما بسلوكه وأفكاره وملامحه شاهدًا لملكوت الله الحال فيه.

ما أروع قوله: “والرب أصغى وسمع وكتب أمامه سفر تذكرة”، فإنه يشتاق إلى حديث محبيه أتقيائه، يصغي إليهم، ويسمع كلمات قلوبهم، ويُسجل كما في سفر تذكرة، معتزًا بكل كلمة ينطقون بها. يقول العريس السماوي للنفس البشرية المقدسة فيه: “قد سبيت قلبي يا أختي العروس، قد سبيت قلبي بإحدى عينيك” (نش 4: 9) “اسمعيني صوتك، أريني وجهك، فإن صوتك حلو، ووجهك جميل” (نش 2: 14).

وكتب أمامه سفر تذكرة“: هو تعبير بشري يكشف لنا بلغتنا عن اعتزاز الله بكلمات أولاده وأفكارهم المقدسة ودموعهم وتنهدات قلوبهم. وكما يقول المرتل: “اجعل أنت دموعي في زقك، أما هي في سفرك؟” (مز 56: 8).

* يقول هذا ليس كما لو أنه يوجد كتاب (سفر) في الأعالي، وأناس يكتبون، إنما يقصد بالسفر المعرفة الثمينة الدقيقة، وذلك كما يقول: “الرب سمع وكتب في سفرٍ”، وأيضًا “فَتحت الأسفار” (دا 7: 10) [132].

القديس يوحنا الذهبي الفم

وَيَكُونُونَ لِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ،

فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَنَا صَانِعٌ خَاصَّةً،

وَأُشْفِقُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُشْفِقُ الإِنْسَانُ عَلَى ابْنِهِ الَّذِي يَخْدِمُهُ. [17]

لا يعتز الله بكلمات خائفيه وأفكارهم ومشاعرهم فحسب، إنما يعتز بأشخاصهم، فينسبهم إليه بكونهم أولاده “يكونون ليّ قال رب الجنود”. يحسبهم كنزه الخاص “أنا صانع خاصته”، فيدعو نفسه: “أنا إله إبراهيم، إله إسحق، إله يعقوب”. هو إله كل شخصٍ يحسب الله خاصته، فيكون هو خاصة الله. من يعتز بالله ويمجده، يعتز الله به ويسكب بهاء مجده في أعماقه.

وكما يقول الرب نفسه: “وأنا أكون مجدًا في وسطها” (زك 2: 5). “كفرح العريس بالعروس يفرح بكِ إلهكِ” (إش 62: 5). “وتكونين إكليل جمالٍ بيد الرب، وتاجًا ملكيًا بكف إلهكِ” (إش 62: 3).

فَتَعُودُونَ وَتُمَيِّزُونَ بَيْنَ الصِّدِّيقِ وَالشِّرِّيرِ

بَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ الله وَمَنْ لاَ يَعْبُدُهُ. [18]

إذ يقبل الرب من متقيه أقل الخدمات ويعتز بها لأنها صادرة عن خاصته، عن أبنائه المحبوبين لديه، فإنه يهب أجمل هدية وهي المعرفة النابعة من عنده. يهبهم روح التمييز فيميزون بروحه بين الصديق والشرير، وبين من يعبد الله ومن لا يعبده، الأمر الذي هو من اختصاص الله عارف القلوب.

* الآن يُدعى المتكبرون سعداء؛ نعم الذين يجربون الله يخلصون. ولكن الرب بعد ذلك يهددهم بيوم الدينونة، ويعلن مقدمًا التمييز الذي سوف يحدث بين الأبرار والأشرار، قائلًا لهم هكذا: “تعودون وتميزون بين الصديق والشرير، بيم من يعبد الله ومن لا يعبده” (مل 3: 18)[133].

القديس جيروم

فاصل

من وحي ملاخي 3

لتُطهر أعماقي وتحل فيها أيها القدوس!

 

* أرسلت القديس يوحنا المعمدان ملاكًا لك،

 يهيئ الطريق قدامك بالمناداة بالتوبة!

 وهبتني روحك القدوس يهبني التبني.

 في مياه المعمودية رفعتني إلى حضن أبيك،

 وقدمتني ابنًا يحمل برّك العجيب!

 ماذا أرد لك أمام هذا الحب الفائق؟

* لتحل يا رب في أعماقي، أيها النار الآكلة،

 تحرق كل الأشواك الخانقة لنفسي، وتُقيم مني كائنًا ناريًا،

لا تستطيع كل مياه العالم أن تطفئني.

 قدسني، طهرني، فأصير أيقونة لك يا أيها القدوس وحده!

* أراك نازلًا إلى ضعفي،

 أود أن أرجع إليك، يا أيها الحب الحقيقي!

 تأتي إليّ خلال المتألمين والمرضىٌ والمحتاجين،

 فأنت أب اليتامى، وقاضي الأرامل،

 وراعي النفوس التائهة، لتردها إلى مراعيك العجيبة!

* هب ليّ أيضًا أن أتعبد لك حسبما تريد.

 أتعبد لك بالروح والحق،

 لكي ما أرتفع فوق الحرف، وأتمتع بالروح!

 هب ليّ جناحي الروح، فأطير إليك،

 ارتفع فوق كل الأرضيات،

 ولا أطلب شيئًا من الزمنيات.

* أخيرًا هب ليّ روح التمييز، فأعرف أنك أبي.

 أرى حتى في تأديبات أبوة وحنوًا ورعاية سماوية.

 أميز البرّ عن الشر،

 وأتلامس مع أبرارك القديسين،

 ولا اشترك مع الأشرار المخادعين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى