تفسير إنجيل مرقس ٩ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح التاسع
الملكوت العملي
إذ يقدم لنا الإنجيلي مرقس شخص المسيح كخادم عامل لحساب البشرية، فإنه إذ يقترب من أحداث الصليب يكشف لنا عن ملكوته العملي الذي لأجله يعمل لينعم به على مؤمنيه:
1. الوعد برؤية ملكوت الله 1.
2. الملكوت والتجلي 2-13.
3. الملكوت ومقاومة إبليس 14-29.
4. الملكوت والصليب 30-32.
5. الملكوت والتواضع 33-37.
6. الملكوت واتساع القلب 38-50.
1. الوعد برؤية ملكوت الله
“وقال لهم: الحق أقول لكم أن من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة” [1].
جاء هذا الوعد كتتمة لحديث السيد المسيح عن حمل الصليب واهتمام الإنسان بخلاص نفسه والتمتع بمجد ملكوت الله عند مجيء ابن الإنسان. الآن يتساءل البعض: كيف تحقق هذا الوعد؟ هل وُجد من معاصري السيد المسيح من لم يذق الموت حتى يرى ملكوت الله آتيًا بقوة؟
أولاً: يرى البعض أن هذا الوعد قد تحقق بتمتع ثلاثة من التلاميذ بتجلي السيد المسيح، خاصة وأن الحديث عن التجلي جاء بعد الوعد مباشرة. فالتجلي في حقيقته تمتع بمجد السيد المسيح وبهائه الإلهي بالقدر الذي احتمل التلاميذ رؤيته. يقول القديس أمبروسيوس: [عاين بطرس ويوحنا ويعقوب مجد القيامة فلم يعرفوا الموت.]
ثانيًا: يرى البعض أن “ملكوت الله” الذي أتى بقوة إنما الكرازة بالإنجيل وسط الأمم، فقد دعيت كنيسة العهد الجديد “ملكوت الله”. وقد شاهد بعض التلاميذ هذا المجد العظيم وهم بعد في الجسد، إذ تمتعوا بيوم الخمسين حين حّل الروح القدس في العلية، ونظروا الهيكل القديم قد تحطم بينما انطلقت الكرازة إلى كثير من عواصم العالم الوثني. رأوا ملكوت الله معلنًا في حياة الناس ضد مجد العالم الزائل.
ثالثًا: يرى آخرون أن هذا الوعد الإلهي قائم على الدوام، يتمتع به المؤمنون في كل جيل، حين تدخل نفوسهم إلى بهاء مجد الله الداخلي، ويُعلن الملكوت فيهم دون أن يذوقوا موت الخطية أو يغلبهم إبليس (الموت). يقول القديس يوحنا سابا: [طوبى للنفس التي جمعت نفسها من الطياشة الخارجة عنها، ودخلت داخلها ونظرت ربنا وهو متكئ على كرسيه الذي هو العقل، وقبلت منه وصية جديدة أعني الحب الروحي الذي هو كمال الناموس.]
يقدم لنا القديس أمبروسيوس ذات المعنى حين يعلن أن الإنسان في ضعفه يحتاج لا أن يتمتع بوعد أبدي فحسب وإنما يذوق عربون هذا الوعد هنا في الحياة الحاضرة. فما وعد به السيد هنا إنما يقدمه لكل إنسان يكون قائمًا معه، أي يتمتع بحضرة الرب والشركة معه، فلا يذوق موت الروح، بل ينعم بقوة الملكوت الإلهي في حياته الحاضرة هنا كعربون للملكوت الأبدي، فمن كلماته:
[بينما يرتفع الرب بالروح يشير إليها بمكافأة الفضيلة، وبينما يلوح لنا عن الفائدة التي نجنيها من احتقار أمور هذا العالم يؤازر ضعفنا البشري بتقديم مكافأة حتى في هذه الحياة.
بالتأكيد شاق عليك جدًا أن تحمل الصليب، وتعرض حياتك للأخطار، وجسدك للموت، وتتخلى عن ذاتك، لتنال ما لا تملكه هنا. صعب على البشر أن يعيشوا على الرجاء وحده، فيتعرضوا للمخاطر من أجل التطلع إلى بركات الحياة المقبلة، متخلين عن الخيرات الحاضرة، لذلك إذ لم يشأ الرب الحنون الطيب أن يسقط أحد تحت نير اليأس أو القلق… يسند الضعف بالخيرات الحاضرة، ويسند القوة بالخيرات المقبلة… (بمعنى يعيننا هنا بعربون الملكوت الداخلي، ويكافئنا في الأبدية بكمال مجد الملكوت).
إن كنا نريد ألا نهاب الموت فلنقف حيث المسيح، ليقول لنا نحن أيضًا: الحق أقول لكم أن من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت… فمن نالوا الشركة مع المسيح لا يذوقون الموت. سيموت الجسد لكن تبقى الروح حية.
ما معنى يذوق الموت؟ يوجد أناس يذوقون خبز الدموع (مز 126: 2) وآخرون يأكلون من سموم التنين، أما نحن فلنا الخبز الحقيقي الذي نزل من السماء (يو 16: 51). من يحفظ كلام الله لا يذوق هذا الخبز (الموت)!…
من هو الإنسان الذي لا يذوق الموت إن كانت لا قيامة إلا بعد الموت؟… يوجد أناس أموات وهم يعيشون هنا، كما يوجد أحياء حتى وإن ماتوا، إذ قيل “وإن مات يتكلم بعد” (1 تي 5: 6). كما قيل: ليبتلعهم الموت ولينحدروا إلى الهاوية (مز 55: 16). الذين ينحدرون أحياء في الهاوية هم الخطاة الذين تحدرهم الخطية إلى الهاوية، أما الأحياء الذين لا تنتهي حياتهم: “إله إسحق وإله يعقوب، ليس الله إله أموات بل إله أحياء” (مت 22: 32).
لم يمت بطرس إذ أبواب الجحيم لن تقوى عليه، ولا مات يعقوب ويوحنا ابنا الرعد اللذان عاينا المجد الأسني، فلم تستطيع أمور هذا العالم أن تخضعهما بل سحقاها تحت أقدامهما. لتكن أنت أيضًا كبطرس الخادم الأمين المسالم، فتفتح أبواب الكنيسة وتهرب من أبواب الموت. كن كابني الرعد، كيف؟ عندما لا تتأمل الأرضيات، بل تسند رأسك على صدر المسيح، عندما لا تتأثر بأمور هذه الحياة بل بالعكس تسيطر عليها بقوة الروح التي لك. لتتزلزل الأرض أمامك ولا تمسك بك. لتسيطر على الجسد بقوة الروح، فتقمعه وتستعبده. ستكون ابن الرعد إن كنت ابن الكنيسة، يقول لك المسيح من فوق خشبة الصليب: “هوذا أمك“.]
2. الملكوت والتجلي
إذ وعد السيد المسيح تلاميذه أن بعضًا من القيام معه يعاينون ملكوت الله آتيًا بقوة لم يحدد أسماء الذين يتمتعون بهذه الرؤيا، حتى لا يثير الحسد أو الغيرة بينهم. والآن نراه يأخذ بطرس ويعقوب ويوحنا ويصعد بهم إلى جبل عالٍ منفردين وحدهم [2] ليعلن لهم بهاء لاهوته. وقد سبق لنا الحديث بشيء من الإفاضة عن أحداث التجلي مع تعليقات كثير من الآباء، وذلك أثناء دراستنا لإنجيل معلمنا متى (17: 1-8)، والآن أكتفي ببعض تعليقات بسيطة ومختصرة:
أولاً: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما كتبه الإنجيليون عن التجلي إنما قدر ما تستطيع اللغة أن تعبر، إذ كان المنظر أعظم من أن تسجله ألفاظ بشرية، إذ يقول: [لو أنه أضاء كالشمس لما سقط التلاميذ، إذ هم يرون الشمس كل يوم ولا يسقطون، لكنه أضاء بأكثر بهاء من الشمس… فلم يحتملوا بهاءه، لذلك سقطوا على الأرض.]
ثانيًا: يقول الإنجيلي: “بعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا، وصعد بهم إلى جبل عالٍ منفردين وحدهم” [2]. سبق فرأينا أن انقضاء هذه الأيام الستة قبل التمتع بالتجلي تشير إلى كمال جهادنا على الأرض لننال كمال المكافأة بالدخول إلى شركة المجد الإلهي. ويرى القديس أمبروسيوس أن هذه الأيام الستة تشير إلى ستة آلاف سنة لنعبر إلى القيامة العامة، بينما يرى العلامة أوريجينوس في هذه الأيام الستة تشير إلى راحتنا الحقيقية في الرب بعبورنا ستة أيام الخليقة ودخولنا إلى اليوم السابع أو السبت الروحي.
ما أجمل كلمات القديس أمبروسيوس وهو يدعونا للتمتع بالتجلي الداخلي: [من يرتفع فوق العالم، فوق أزمنة الدهر، ويثبت في الأعالي يتطلع إلى ثمار الأبدية التي للقيامة العتيدة. إذن فلنتخطى أعمال الحياة حتى نستطيع أن نرى الله وجهًا لوجه.]
أما هؤلاء الثلاثة الذين تمتعوا بمحبة الرب والارتفاع معه على جبل عالٍ للتمتع ببهائه فهم بطرس ويعقوب ويوحنا، وكما سبق فقلنا يشيرون إلى الإيمان العامل بالمحبة، بدون الإيمان الحي العامل بالمحبة لن نستطيع معاينة مجده. وقد لاحظ القديس أمبروسيوس أن هذه العطية قدمت لهم بعد الحديث الشخصي الذي تم بين السيد وتلاميذه، فاعترفوا على لسان بطرس الرسول أنه المسيح، وكأن هذا التجلي جاء مكافأة لهذا الاعتراف. يقول القديس أمبروسيوس: [سيتمتع ببركات القيامة هؤلاء الذين سبقوا فاعترفوا بالمسيح، فلا يقوم الأشرار في مجمع الصديقين (مز 1: 5) بل يعاقبون بالدينونة التي سقطوا تحتها.] ويرى ذات القديس أن اختيار ثلاثة هو انفتاح لباب مراحم الله والتمتع بأمجاده للجنس البشري دون تمييز بين يهودي وأممي، إذ يمثل الثلاثة أبناء نوح الثلاثة الذين جاء الجنس البشري كله من نسلهم. هذا الفكر أيضًا نادى به القديس هيلاري أسقف بواتييه.
يرى القديس أمبروسيوس في اختيار ثلاثة من تلاميذه إشارة إلى الحاجة للإيمان بالثالوث القدوس، إذ يقول: [لا يستطيع أحد أن يعاين مجد القيامة إن لم يؤمن بسرّ التثليث بإيمان ثابت صادق.] ولعل اختيار ثلاثة تلاميذ يشير إلى حاجتنا إلى الحياة المقامة في المسيح يسوع القائم في اليوم الثالث، بهذه الحياة الجديدة نرتفع على جبل تابور لنعلوا فوق الموت، متمتعين ببهاء القيامة العاملة في داخلنا.
ثالثًا: في نص منسوب للقديس يوحنا الذهبي الفم قيل أن ملامح السيد المسيح عند تجليه بقيت كما هي لكن أُعلن بهاء مجده. لقد بقى السيد المسيح بجسده، لكن الجسد حمل طبيعة جديدة مملوءة بهاءً ومجدًا، هكذا نحن أيضًا في القيامة العامة نحمل ذات الجسد الذي شاركنا جهادنا، له ذات الملامح لكنه يتسم بسمة المجد الفائق الذي يهبه له الله ليناسب الحياة السمائية الأبدية.
رابعًا: ماذا يعني بقوله: “وتغيرت هيئته قدامهم” [2] إلا أن المجد الذي أُعلن بتجليه ليس بالأمر الجديد عليه ولا بهبة خارجية قُدمت له، إنما هو مجرد إعلان لمجد خفي فيه ظهر في هذه اللحظات قدامهم. وكأن التغير أمر لا يخص طبيعة السيد، إنما يخص أعين التلاميذ التي انفتحت لتعاين ما تستطيع معاينته.
ما أحوجنا أن ننفرد بالسيد المسيح في أعماقنا الداخلية ليفتح عن عيوننا الروحية ونرى ذاك المصلوب الذي قيل عنه: “كعرق من أرض يابسة، لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، لا منظر فنشتهيه“ (إش 53: 2) إنه أبرع جمالاً من بني البشر (مز 45). هذا الذي قيل عنه: “محتقر ومخذول من الناس“ (إش 53: 3)، مشتهى كل الأمم (حج 2: 7). في هذا يقول القديس أمبروسيوس: [تحمل كافة هذه الأمور في طياتها أسرارًا ومعانٍ صحيحة، فإنه حسب قدرتك يصغر الكلمة أو يكبر بالنسبة لك، فإن لم تصعد إلى القمة بحذر فائق لن تُعلن لك “الحكمة“، ولا تنكشف أمامك معرفة الأسرار، ولا تظهر لك أمجاد كلمة الله وجماله، إنما يظهر لك كلمة الله كما في الجسد لا منظر له ولا جمال (إش 53: 2) يظهر لك كإنسان أضناه الألم، يحتمله لأجل ضعفنا. يظهر لك مثل كلمة غلفتها ملابس الحرف ولا ترقى إلى قوة الروح.]
خامسًا: يقول الإنجيلي: “وصارت ثيابه تلمع بيضاء جدًا كالثلج، لا يقدر قصّار على الأرض أن يبيض مثل ذلك” [3].
ما هذه الثياب التي تلتصق بالسيد فتلمع ببهاء إلا كنيسته، كما يقول القديس أغسطينوس. هذه هي سمة المؤمنين الحقيقيين، البهاء الفائق، إذ يقول البابا غريغوريوس (الكبير): [لأن في علو بهاء السماوات العليا، الذين يضيئون بحياة البرّ يلتصقون به، إذ قصد بثيابه الذين يجعلهم ملاصقين له.]
يقدم لنا القديس أمبروسيوس تفسيرًا آخر لهذه الثياب البهية، إذ يقول: [ربما كانت ثياب الكلمة هي العظات عن الكتب المقدسة، فهي بمثابة رداء الفكر الإلهي. فكما ظهر لبطرس ويوحنا بمظهر مختلف وكانت ثيابه تلمع بيضاء، هكذا تتضح الآن أمامك معاني الكتب الإلهية وتصبح الكلمة الإلهية كالثلج لا يقدر قصار على الأرض أن يبيض مثل ذلك.] كأنه إذ ترتفع أفكارنا مع ربنا يسوع المسيح لنوجد معه، ويعلن حلوله فينا تتجلى كلماته فينا ببهاء سماوي لا يُعبر عنه. هذا البهاء ليس من صنع قصّار على الأرض، إنما من صنع القصّار السماوي، أي الروح القدس غافر الخطية، الذي يغسلنا بدم الابن الوحيد فنبيض أكثر من الثلج (مز 50).
سادسًا: كان ظهور موسى وإيليا معه يحمل معان كثيرة سبق لنا عرضها. يقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم تعليلاً لظهورهما وهو إذ قالت الجموع عنه أنه إيليا أو واحد من الأنبياء أراد أن يظهر موسى النبي وإيليا معه أمام التلاميذ ليدركوا الفارق بينه وبين خدامه. أيضًا أُتهم ككاسر للناموس ومجدف ينتحل مجد الآب أحضر موسى مستلم الناموس وإيليا الغيور على مجد الرب ليعلن افتراء المتهمين له.
لعله أيضًا أراد بظهورهما قبل الصلب أن يعلن لتلاميذه أنه يجب ألا يخافوا من الصليب، فقد قبله بإرادته، وإلا ما تمت أحداثه. فإنه أعظم من موسى الذي أنقذ الشعب من يد فرعون، ومن إيليا الذي أرسل نارًا من السماء أحرقت قائدي الخمسين ورجالهما.
سابعًا: اشتهى بطرس أن يقيم ثلاثة مظال مادية للحماية، فجاءت سحابة صغيرة تظللَّهم، ليدرك أنه في القيامة لا نحتاج إلى مظال مصنوعة بأيد بشرية، ولا إلى منازل مادية، وإنما يظللنا مجد الله نفسه، الذي لا يسبب ظلالاً مظلمة بل بالعكس يهب بهاءً ومجدًا. يقول القديس أمبروسيوس [مصدر هذا الظل روح الله الذي لا يظلم قلوب البشر بل يكشف لها عن الخفيات. هذا ما نجده في موضع آخر حيث يقول الملاك: “وقوة العلي تظللك“… لم توجد السحابة بسبب رطوبة الجبال المدخنة (مز 103: 32) ولا بخار الهواء المتكثف، ولا غطت السماء بظلمة مرهبة، وإنما كانت سحابة نيرة لا تبللنا بالأمطار والسيول ولا تغمرنا بطوفان، وإنما نداها الذي يرسله كلمة الله يغمر قلوب البشر بالإيمان.]
ثامنًا: “فجاء صوت من السحابة، قائلاً: هذا هو ابني الحبيب، له اسمعوا. فنظروا حولهم بغتة ولم يروا أحدًا غير يسوع وحده معهم” [7-8].
ماذا يريد صوت الآب: “هذا هو ابني الحبيب، له اسمعوا” إلا أن نقبل كلمة الله المتجسد في حياتنا، نسمع له، ونثبت فيه فنصير نحن أنفسنا أبناء الآب المحبوبين له. غاية الآب أن يرانا ممجدين في ابنه، وكما يقول القديس أمبروسيوس: [إذ نعاين مجد الله بوجوه مكشوفة نتغير نحن أنفسنا إلى تلك الصورة عينها (2 كو 3: 8).]
وللقديس أمبروسيوس أيضًا تعليق جميل على العبارة الإنجيلية التي بين أيدينا، إذ يقول: [لما كان الصوت وُجد يسوع وحده، فبعد أن كانوا ثلاثة وُجد يسوع وحده. رأوا في البداية ثلاثة، أما في النهاية فرأوا واحدًا. بالإيمان الكامل يصير الكل واحدًا كما طلب يسوع من الآب: “ليكون الجميع واحدًا“ (يو 17: 21). ليس موسى وإيليا وحدهما واحدًا في المسيح، وإنما نحن أيضًا واحد في جسد المسيح الواحد (رو 12: 5)… ولعل هذا أيضًا يشير إلى أن الناموس (موسى) والأنبياء (إيليا) مصدرهما الكلمة… لأن غاية الناموس هي المسيح للبرّ لكل من يؤمن (رو 10: 4).]
إذن غاية التجلي أن يلتقي المؤمنين جميعًا كأعضاء في الجسد الواحد خلال الثبوت في المسيح والتمتع بالعضوية في جسده الواحد، فنُحسب بحق أبناء الله المحبوبين والممجدين فيه.
تاسعًا: “وفيما هم نازلون من الجبل أوصاهم أن لا يحدثوا أحدًا بما أبصروا، إلا متى قام ابن الإنسان من الأموات” [9]. يعلل القديس هيلاري أسقف بواتييه هذه الوصية الإلهية بقوله: [أمرهم فيما يخص ما رأوه حتى يمتلئوا بالروح القدس ويشهدوا للروحيات.] هذه الوصية بلا شك أربكتهم، فقد عرفوا أنه المسيح وشهدوا له بذلك، وبحسب الفكر اليهودي المسيح لا يموت، فماذا عني بقوله: “متى قام ابن الإنسان من الأموات”؟
لم يشكوا في أنه المسيح بل بدأوا يتشككون فيما تسلموه عن الكتبة والفريسيين بخصوص المسيح، لهذا سألوا: “لماذا يقول الكتبة أن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً؟” [11]. لعلهم بهذا السؤال يعبرون عن الفكر اليهودي إذ كان مشغولاً بإيليا كمهيئ للطريق للمسيح الذي لا يموت. كانوا يعتقدون أن إيليا لا يزال يعمل لأجل إسرائيل في السماء، وأنه يظهر قبل مجيء المسيح بثلاثة أيام، في اليوم الأول يقف على أحد الجبال العالية ويرفع مرثاة على الأرض الخراب، ويعلن أن سلامًا يحل بالأرض، وفي اليوم الثاني يعلن أن خيرًا يحل بها، وفي اليوم الثالث أن خلاصًا يحل بها، عندئذ يأتي المسيح ليخلص إسرائيل، فلا مجال للموت ولا للقيامة!
سحبهم السيد من فكرهم المادي من نحو مجيء إيليا والمسيح، مؤكدًا أن كل ما اشتهاه الآباء والأنبياء يتحقق في أيامهم وأن إيليا قد جاء، ولكن ليس حسب الفكر الحرفي المادي، وأن المسّيا أيضًا جاء لكنه لا يملك زمنيًا، وإنما خلال الألم والصليب. يقول السيد: “إن إيليا يأتي أولاً، ويرد كل شيء، وكيف هو مكتوب عن ابن الإنسان أنه يتألم كثيرًا ويُرذل. لكن أقول لكم: إن إيليا أيضًا قد أتى، وعملوا به كل ما أرادوا، كما هو مكتوب عنهم”[ 12-13].
كأنه يقول: لقد وضعوا كل رجائهم في مجيء إيليا لا المسيح، وقد جاء إيليا وعوض السماع له قتلوه، وجاء المسيح وعوض الإيمان به يقتلونه. بمعنى آخر يطالبهم السيد المسيح بمراجعة أنفسهم لإدراك الأمور بفهمٍ روحيٍ وإيمانٍ جديدٍ.
لقد جاء إيليا، إذ يقول الملاك بخصوص القديس يوحنا المعمدان “ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته“ (لو 1: 17). وكما يقول العلامة أوريجينوس إنه يوحنا الذي يحمل سمات إيليا لا شخصه. يقول الأب ثيوفلاكتيوس: [مرة أخرى انتهر يوحنا الرذيلة، كان غيورًا ومتوحدًا كإيليا، أما هم فلم يسمعوا له بكونه كإيليا، بل قتلوه بطريقة شريرة وقطعوا رأسه.] يقول القديس أمبروسيوس: [عاش إيليا في البرية وكذا يوحنا. كانت الغربان تعول الأول، أما الثاني ففي البرية داس كل إغراء للملاهي وأحب الفقر وأبغض الترف. الواحد لم يسع لكسب رضاء آخاب الملك، والثاني ازدرى برضاء هيرودس الملك. رداء الأول شق مياه الأردن (2 مل 2: 14)، والثاني جعل هذه المياه مغسلاً يهب خلاصًا. الأول يظهر مع الرب في المجد والثاني يحيا مع الرب على الأرض. الأول يسبق مجيء الرب الثاني، والثاني يسبق مجيء الرب الأول. الأول أسقط الأمطار على أرض جفت لمدة ثلاث سنوات، والثاني غسل تراب أجسادنا في مياه الإيمان خلال ثلاث سنوات. تسألونني: ما هي هذه السنوات الثلاث؟ فأجيبكم بما قيل “هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد“ (لو 13: 7)… السنة الأولى هي عهد الآباء حيث بلغ الحصاد مدى لم يتحقق بعد ذلك، والسنة الثانية هي عهد موسى والأنبياء، ثم السنة الثالثة لمجيء إلهنا ومخلصنا “ليكرز بسنة الرب المقبولة“ (لو 4: 19).]
3. الملكوت ومقاومة إبليس
بينما صعد السيد المسيح بثلاثة من تلاميذه إلى جبلٍ عالٍ يعلن لهم ملكوته آتيًا بقوة، نجد بعضًا من التلاميذ يقفون في عجز أمام إخراج روح نجس أخرس، حتى جاء السيد يكشف لهم عن الحاجة إلى الصوم والصلاة كطريق للصراع ضد إبليس والغلبة عليه بالرب واهب النصرة. وكأن الملكوت ليس مجرد رؤيا يتمتع بها التلاميذ على جبل تابور، لكنه أيضًا ثمرة جهاد روحي ضد عدو الخير بالرب الغالب.
ويلاحظ في هذا العمل الآتي:
أولاً: بينما كان بطرس على الجبل يشتهي البقاء هناك [5] ينعم بمجد السيد المسيح ويتمتع بالرؤيا السماوية إذا بالسيد ينزل به مع التلميذين الآخرين ليروا جمعًا كثيرًا حول التلاميذ وكتبة يحاورونهم [14]. أما علة الحوار فهو عجز التلاميذ عن إخراج روح نجس أخرس من إنسان معذب منذ صباه [21].
ما أجمل أن ينفرد المؤمن بسيده لينعم بالتأملات الروحية والتعزيات السماوية في مخدعه كما على جبل تابور، حتى يشتهي لو بقى عمره كله متأملاً بلا انقطاع، ورؤيا سماوية بلا توقف. لكننا مادمنا في الجسد يلزمنا ان ننزل إلى الميدان للعمل أيضُا من أجل كل نفس معذبة؛ فلا عجب إن رأينا حتى كبار النساك والمتوحدين يهتمون بخلاص النفوس. يقول القديس المتوحد يوحنا سابا: [مرذول قدام الله من يبغض الخاطي.]
الخدمة الروحية هي جزء لا يتجزأ من حياة المؤمن، أيا كان عمله في الكنيسة أو وضعه، سواء كان كاهنًا أو راهبًا أو واحدًا من أفراد الشعب؛ وإن اختلفت الوسائل في ممارسة هذه الخدمة الروحية!
ثانيًا: يقول الإنجيلي: “رأى جمعًا كثيرًا حولهم وكتبه يحاورونهم” [14]. هذا الوصف الإنجيلي لا يمثل لحظة معينة من الزمن، إنما يسجل لنا صورة لا تنقطع، فعلى الدوام يتطلع السيد المسيح ليرى جمعًا كثيرًا حول تلاميذه يشتاقون بالبساطة أن يتمتعوا بعطية المسيح لهم، كما يرى أيضًا كتبة مقاومين يحاورونهم، فلا يقف السيد مكتوف الأيدي، إنما يهب كنيسته على الدوام أن تُشبع الجمع من عطايا سيدها، وأن تقف بثبات أمام مقاوميها.
ليتنا لا نضطرب إذ نشعر بالمسئولية الملقاة على عاتق الكنيسة من جهة جموع البشرية المتعطشة والجائعة تطلب ارتواءً وشعبًا، ومن وجهة المقاومين للحق بكل طريقة، فإن عريس الكنيسة حال في وسطها يشبع الجائعين ويبكم المقاومين. لهذا يترنم المرتل قائلاً: “الله في وسطها فلن تتزعزع” (مز 46: 5)، كما يوصينا السيد نفسه، “فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، أنكم تُعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم“ (مت 10: 19-20).
ثالثًا: وبخ السيد المسيح تلاميذه لعجزهم عن إخراج الروح النجس، قائلاً: “أيها الجيل غير المؤمن، إلى متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم؟” [19]. وبخهم على عدم إيمانهم وقام هو نفسه بالعمل. هو المسئول عن الكنيسة بكونها عروسه يوبخ خدامها عن كل تقصير في إيمانهم أو عملهم ويقوم هو بالعمل.
لنعرض على ربنا يسوع كل أعمالنا لكي وإن وبخنا على ضعفاتنا لكنه يكمل كل نقص فينا.
رابعًا: إذ وبخ تلاميذه طلب تقديم الابن المُصاب بروح شرير، وإذ رأى السيد “للوقت صرعه الروح فوقع على الأرض يتمرغ ويُزبد” [20]. لماذا سمح للشيطان أن يصرعه؟ لا يحتمل السيد أن يرى إنسانًا يتعذب، لكنه قد سمح لهذا المسكين أن يتألم إلى حين، لكي يدفع أباه للإيمان كما قال الذهبي الفم، فقد قال الأب: “إن كنت تستطيع شيئًا فتحنن علينا وأعنا” [22]. أجاب السيد بأن مفتاح الشفاء في أيدي الإنسان إن آمن، إذ قال له: “إن كنت تستطيع أن تؤمن، كل شيء مستطاع للمؤمن” [23]. في إيمان مصحوب بتواضع صرخ الأب بدموع: “أومن يا سيد، فأعن عدم إيماني” [24]. كأن السيد المسيح سمح للابن أن يتألم قليلاً ليبرز إيمان أبيه، ويدفعه بالأكثر إلى التواضع، طالبًا أن يعين الرب عدم إيمانه، وليعلن أيضًا سلطان الإنسان بالإيمان.
ولعل السيد المسيح سمح أيضًا بذلك لكي يكشف عن قسوة إبليس وجنوده، وكما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [سمح للابن أن يهيج لكي نعرف شر إبليس الذي يود قتله لو لم ينقذه الرب]. ولذات السبب سأل السيد والد الشخص: “كم من الزمان منذ أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه، وكثيرًا ما ألقاه في النار وفي الماء ليهلكه“ [21-22]. فإن عدو الخير لا يرحم طفلاً ولا شيخًا، ولا رجلاً ولا امرأة، بل يشتاق أن يدفع بالكل إلى نار الشهوات، أو يسحبهم إلى تيارات مياه العالم ليهلكهم. يحاربنا على الدوام بالمتناقضات، بالنار والماء، إن هربنا من فخ يقيم آخر. على أي الأحوال إن كان الشيطان يدفعنا للنار والماء المهلكين، فإن ربنا يسوع يقدم لنا روحه القدوس الناري خلال المعمودية ليقتل النار الشريرة بنار إلهية، ويفسد مياه العدو بالأردن المقدس!
خامسًا: عجيبة هي محبة السيد المسيح، ففي وسط أعماله الفائقة يبرز فضائل الآخرين مهما بدت قليلة أو تافهة. فإن كان قد شفى الولد، لكنه أبرز حب أبيه له، وإيمانه، وأيضًا تواضعه. أقول ليت لنا قلب هذا الأب نحو كل نفس معذبة فلا نستريح حتى نقدمها بروح الإيمان المتواضع وحده والمملوء حبًا لذاك القادر أن يخلصها. يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [من يربط نفسه بقريبه برباط الحب يكون له ملحًا، ويكون في سلام مع أخيه.]
سادسًا: هذا الأب الذي يئن بدموع ويصرخ لإنقاذ ابنه يمثل نفس كل مؤمن التقى مع الرب وعرف خلاصه العجيب فلا يحتمل عذاب النفوس الجاحدة التي سقطت تحت أسر عدو الخير منذ الصبا، إذ جاءت إلى العالم منذ البداية تحمل الخطية الجدية فتقول مع المرتل: بالآثام حبل بيّ، وبالخطايا ولدتني أمي. ولعل هذا الابن يشير إلى الأمم الذين عاشوا منذ طفولتهم تحت سلطان عدو الخير خلال الرجاسات الوثنية.
سابعًا: يعلق البابا غريغوريوس (الكبير) على عبارة: “فصار كميت، حتى قال كثيرون أنه مات” [26] بقوله: [من يتحرر من سلطان الروح الشرير يُحسب كميت، لأنه كان خاضعًا للشهوات الجسدية والآن يميت في داخله هذه الحياة الجسدانية ويظهر للعالم كميت. الذين لا يعرفون كيف يعيشون حسب الروح يظنون أن من لا يسلك بالشهوات الجسدية ميت تمامًا.] هذه هي نظرة العالم إلى يومنا هذا نحو الروحيين، إذ يحسبونهم محرومين من متعة الحياة وأموات!
ثامنًا: إذ دخل السيد المسيح بيتًا سأله تلاميذه على إنفراد: لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه؟ فقال لهم: “هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم” [29]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد خشوا لئلا يكونوا قد فقدوا العطية التي وُهبت لهم، إذ كانوا قد نالوا سلطانًا على الأرواح النجسة.]
حقًا لقد تمتع التلاميذ بالسلطان، لكن يلزمهم إضرام الموهبة المجانية بالحياة التقوية بالصلاة مع الصوم، للتمتع بشركة عميقة مع الله في ابنه.
يحدثنا القديس يوحنا سابا عن فاعلية الصلاة، قائلاً: [مفاتيح الخزائن موضوعة في أيديكم لكي تأخذوا وتعطوا، حتى تحيوا آخرين وأيضًا]، [قدّس فراشك بالصلاة ورفرفة الروح القدس عليك، فتفوح رائحة أعضائك مثل الطيب.] كما يحدثنا أيضًا عن الصوم باعتدال: [لا تملأ بطنك كثيرًا لئلا يعذبك الزنا، ولا تضعف جسدك لئلا يفرح مبغضوك. أمسك طقس الاعتدال، وأنت تسلك في الطريق الملوكي، وبغير خوف يكون مسيرك.]
4. الملكوت والصليب
كانت أحداث الصليب تقترب، لذلك ففي أكثر من مرة كان السيد يختلي بتلاميذه، ليؤكد لهم ضرورة تسليمه وقتله وقيامته. حقًا في المرة السابقة انتهره بطرس (8: 32)، أما في هذه المرة فلم يفهموا القول وخافوا أن يسألوه [32]، إذ لم يكن ممكنًا للفكر البشري أن يتقبل قيام ملكوت الله على خشبة العار (الصليب)!
الصليب الذي لم يحتمل التلاميذ السماع عنه، إذ ذاقوه وأدركوا فاعليته فيهم أحبوه وحملوه مع عريسهم المصلوب بفرحٍ وسروًر.
يقول القديس أغسطينوس: [لا يوجد مشهد أعظم وأعجب من منظر ربنا يسوع المسيح ابن الله… لقد غلب العالم كله كما نرى أيها الأحباء… لقد قهر… لا بقوة عسكرية بل بجهالة الصليب!… لقد رُفع جسده على الصليب، فخضعت له الأرواح.] ويقول القديس مار أفرام السرياني: [بالشجرة التي قتلنا بها (الشيطان) أنقذنا الرب!]
5. الملكوت والتواضع
إن كان السيد قد رسم لنا طريق خلاصنا بصليبه الذي جاء مخالفًا تمامًا لما ظنه البشر، ففي محبته يشتاق أن يحملنا معه في طريقه الخلاصي خلال التواضع.
لقد ظن العالم أن الكرامة الزمنية والسلطة هما طريق الملكوت، لكن الصليب يعلن التواضع سمة ملكوت الله، لذلك إذ كان التلاميذ يتحاجون في الطريق في من هو الأعظم [24]، نادى السيد المسيح الإثني عشر وقال لهم: “إذا أراد أحد أن يكون أولاً فيكون آخر الكل وخادمًا للكل. فأخذ ولدًا وأقامه في وسطهم ثم احتضنه، وقال لهم: من قبل واحدًا من أولاد مثل هذا باسمي يقبلني، فليس يقبلني أنا بل الذي أرسلني“ [35-37].
لقد وضع السيد المسيح يده على جرحنا البشري القديم، ألا وهو حب الإنسان للكرامة الزمنية والتسلط. فضح جرحنا مقدمًا لنا نفسه مثالاً ودواءً! فقد بدأ أولاً بإعلان الجرح عندما سألهم عما كانوا يتكلمون فيه ليعلن أنه كلمة الله العارف الخفايا والناظر الكل، فاحص القلوب والكِلى. إذ كشف الجرح أعطى الدواء بتعليمه عن مفهوم الرئاسة الروحية خلال التواضع الممتزج حبًا. ثم قدم لهم مثلاً عمليًا باحتضانه ولدًا ليقبلوا هم البشرية بروح الحب كطفلٍ يحتضنوه ويغسلوا قدميه، فيصيروا خدامًا لا أصحاب سلطة. أما المثل العملي للآخرين فقد وضح بقوله أنه من يقبله لا يقبله هو، بل الذي أرسله، مع أنه واحد مع الآب! في حب ممتزج بالطاعة يقدم الابن الآب وإن كان لا ينفصلان قط!
فيما يلي بعض مقتطفات للآباء بخصوص الخدمة الحقيقية وروح التواضع:
v ناقش التلاميذ في الطريق من يكون رئيسًا، أما المسيح نفسه فنزل ليعلمنا التواضع. فإن الرئاسات تجلب التعب، أما التواضع فيهب راحة!
v يريدنا ألا نغتصب الرئاسات لأنفسنا، بل نبلغ العلويات السامية بالتواضع… يا لعظمة التواضع، إذ تربح لنفسها سكنى الآب والابن والروح القدس.
الأب ثيؤفلاكتيوس
v حثهم على التواضع والبساطة بنفس المنظر، لأن هذا الولد طاهر من الحسد والمجد الباطل ورغبة الترأس.
v التواضع رفع موسى، أما المتكبرون فابتلعتهم الأرض.
v التواضع هو أرض حاملة للفضائل، فإن نُزع التواضع هلكت كل الفضائل.
v آباؤنا الجبابرة مهدوا لنا الطريق، إذ لبسوا التواضع الذي هو رداء المسيح، وبه رفضوا الشيطان وربطوه بقيود الظلمة.
v البس التواضع كل حين، وهو يجعلك مسكنًا لله.
القديس يوحنا سابا
6. الملكوت واتساع القلب
إذ حدثنا عن الملكوت الإلهي كيف نخدمه بالتواضع خلال الصليب، خشي لئلا يفهم ذلك بطريقة سلبية لذلك كشف ربنا يسوع المسيح هنا عن التزام أبناء الملكوت للعمل بقلبٍ متسعٍ. فإن كان السيد المسيح نفسه جاء إلى الصليب في اتساع قلب للبشرية لاق بأبنائه أن يحملوا ذات سمته.
قال له يوحنا: “يا معلم رأينا واحدًا يخرج الشياطين باسمك، وهو ليس يتبعنا، فمنعناه، لأنه ليس يتبعنا” [38]. لعل القديس يوحنا لم يمنعه عن غيرة منه أو حسد، لكنه اشتاق أن تكون لهذا الإنسان تبعية للسيد المسيح ولقاء معه، ولا يكون مستغلاً لاسم السيد المسيح في إخراج الشياطين. لكن السيد قال له: “لا تمنعوه، لأنه ليس أحد يصنع قوة باسمي ويستطيع سريعًا أن يقول عليّّ شرًا. لأن من ليس علينا فهو معنا، لأن من سقاكم كأس بارد باسمي لأنكم للمسيح فالحق أقول لكم أنه لا يضيع أجره” [39-41].
هذا الحديث يكشف أن ذاك الذي كان يخرج الشياطين لم يكن ضد المسيح لا بفمه ولا بقلبه، بل كان يعمل لحساب المسيح بإيمان صادق، وإن لم تكن قد أُتيحت له الفرصة للتبعية الظاهرة. إيماننا لا يقوم على أساس تعصبي وتحكم في الآخرين، بل اتساع القلب للكل والوحدة مادام الكل يعمل خلال إيمان مستقيم. وحدتنا الكنسية المسكونية لا تقوم على تجمعات، وإنما على وحده الإيمان الحيّ.
هذا ونلاحظ أن السيد قد تحفظ في كلماته، إذ يوجد أيضًا من يصنع قوات باسم المسيح لكنه يضمر شرًا في قلبه كالهراطقة مسببي الانقسامات والأشرار في حياتهم العملية. يقول السيد نفسه “كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب أليس باسمك تنبأنا، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم: أني لا أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم” (مت 7: 22-23).
بهذا القلب المتواضع والمتسع بالحب يلزم أن نسلك دون أن نعثر الآخرين، وفي نفس الوقت دون أن نتعثر بسبب الآخرين، أي ليكن قلبنا متسعًا بالحب، لا على حساب خلاص إخوتنا الأصاغر، ولا على حساب خلاص نفوسنا.
فمن جهة تحذيرنا من عثرة الصغار يقول: “من أعثر أحد الصغار المؤمنين بي، فخير له لو طوّق عنقه بحجر رحىَّ وطرح في البحر” [42]. بمعنى آخر يليق بنا أن تكون قلوبنا متسعة، فنحتمل ضعفات الآخرين كصغارٍ نترفق بهم ولا نعثرهم في الإيمان. ويقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا لهذه العبارات بقوله أن حجر الرحى يُشير إلى العلماني الذي يرتبك بأمور هذه الحياة فيدور حول نفسه كما حول حجر رحى في مللٍ وتعبٍ بلا هدف ولا راحة، أما الطرح في أعماق البحر فيعني أشر أنواع العقوبة، وكأنه خير لذلك الذي يرتدي ثوب العمل الكرازي أو الخدمة ويعثر الصغار أن يترك وظيفته ويصير علمانيًا، فإنه حتى وإن نال أشر أنواع العقوبة فسيكون له أفضل من إعثار الآخرين وهو خادم، لأنه بدون شك إن سقط بمفرده تكون آلامه في جهنم أكثر احتمالاً.
بقدر ما يتسع قلبنا بالحب لا نُعثر صغار نفوس، ويلزمنا بحكمة أيضًا أن نهرب من النفوس المعثرة لنا، لكن دون إدانة لهم، إذ يقول: “وإن أعثرتك يدك فأقطعها، خير لك أن تدخل الحياة أقطع، من أن تكون لك يدان وتمضي في جهنم إلى النار التي لا تطفأ، حيث دودهم لا يموت، والنار لا تُطفأ” [43-44]. وما يقوله عن اليد يكرره بخصوص الرجل والعين أيضًا. وقد سبق لنا تفسير مفهوم اليد والرجل والعين روحيًا، لذا نكتفي بعبارة القديس يوحنا الذهبي الفم [لا يتحدث هنا عن أعضائنا الجسدية بل عن أصدقائنا الملازمين لنا جدًا، والذين يحسبون ضروريين لنا كأعضاء لنا، فإنه ليس شيء يضرنا مثل الجماعة الفاسدة (الصداقات الشريرة).]
أخيرًا يختم حديثه عن فاعلية المسيحي باتساع قلبه نحو الكل، مشبهًا إياه بالملح الذي يُصلح الآخرين من الفساد، قائلاً: “لأن كل واحد يُملح بنارٍ، وكل ذبيحة تُملح بملح. الملح الجيد، ولكن إذا صار الملح بلا ملوحة، فبماذا تصلحونه، ليكن في أنفسكم ملح، وسالموا بعضكم بعضًا” [49-50]. كأنه يقول أن الملح يفقد كيانه إن فقد ملوحته التي بها يُصلح الطعام، هكذا المسيحي يفقد كيانه كمسيحي إن فقد حبه للغير ومسالمته للآخرين. الحب ليس سمة أساسية في حياتنا بل هو بعينه حياتنا، بدونه نفقد وجودنا المسيحي.
ماذا يعني بقوله “كل واحد يُملح بنار”؟ في العهد القديم كانت الذبائح يلزم أن تُملح قبل تقديمها على المذبح لتحرق، هكذا إن كانت حياتنا ذبيحة حب، فالله لن يقبلها ما لم تكن مملحة بملح الحب الأخوي.
تفسير مرقس 8 | إنجيل مرقس – 9 | تفسير إنجيل مرقس | تفسير العهد الجديد | تفسير مرقس 10 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | ||||
تفاسير مرقس – 9 | تفاسير إنجيل مرقس | تفاسير العهد الجديد |