تفسير إنجيل مرقس أصحاح 10 – كنيسة مارمرقس مصر الجديدة

الأَصْحَاحُ العَاشِرُ 
معطلات الوصول إلى الله
الطلاق | محبة المال | الرئاسة

 

(1) الطلاق (ع 1-13):

1 وَقَامَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى تُخُومِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ أَيْضًا، وَكَعَادَتِهِ كَانَ أَيْضًا يُعَلِّمُهُمْ. 2 فَتَقَدَّمَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَسَأَلُوهُ: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؟» لِيُجَرِّبُوهُ. 3 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «بِمَاذَا أَوْصَاكُمْ مُوسَى؟» 4 فَقَالُوا: «مُوسَى أَذِنَ أَنْ يُكْتَبَ كِتَابُ طَلاَق، فَتُطَلَّقُ». 5 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ كَتَبَ لَكُمْ هذِهِ الْوَصِيَّةَ، 6 وَلكِنْ مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمَا اللهُ. 7 مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، 8 وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. 9 فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقْهُ إِنْسَانٌ». 10 ثُمَّ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ أَيْضًا عَنْ ذلِكَ، 11 فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي عَلَيْهَا. 12 وَإِنْ طَلَّقَتِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ تَزْنِي».

 

ع1: “وقام من هناك وجاء”: أي ترك كفرناحوم، واتجه جنوبا إلى اليهودية بعد عبوره نهر الأردن. وكعادة السيد المسيح، بدأ في تعليم ووعظ كل من اجتمع حوله.

 

ع2: “فتقدم الفرّيسيّون… ليجربوه”: توضح لنا أيضًا أن الفرّيسيّين كانوا يتبعونه، ليس بغرض الاستفادة، ولكن بغرض اختباره وتَصَيُّدِ الأخطاء. ولهذا، اختاروا موضوعا يمثل جدلا اجتماعيا، بالرغم من وضوح الوصية فيه، وهو موضوع الطلاق.

 

ع3-4: في حكمة المسيح وكمالها، أجاب على سؤالهم بسؤال، وهو: ما هي الوصية التي أعطاها الله لموسى؟ فأجابوا بثقة المعلمين بأن الشريعة أجازت الطلاق، بشرط أن تُحرّر وثيقة بهذا، حتى يتسنى للمرأة بموجبها الزواج ثانية إن أرادت (وكان من العادة أن يذهب الرجل أولًا لأحد الحكماء ليمتص غضبه قبل تحرير وثيقة الطلاق).

 

ع5-6: يوضح السيد المسيح ماذا كان قصد الله في الزواج، ولماذا كان الاستثناء والسماح بالطلاق. فالله، في خطته وقصده، خلق رجلا واحدا وامرأة واحدة ليكون كل منهما للآخر. ولكن، لسبب انصراف الشعب عن الله، وهبوط مستواهم الروحي، ومقارنتهم بالشعوب الوثنية التي تبيح الزنى وتعدد الزوجات، سمح الله لهم بالطلاق، ولكن ليس عن رضا قلبه، بل ربما لحماية الزوجة من القتل، أو اتجاه الرجل للوثنية.

 

ع7-8: تأكيدا لإجابته، استخدم السيد المسيح نفس الكلمات التي نطق بها آدم في (تك 2: 24) بعد خلق حواء – وهي كلمات يحفظها الفرّيسيّون جيدا – أما معنى هذه الكلمات، فهو الآتي:

“من أجل هذا”: أي من أجل تمام سر الزيجة.

“يترك الرجل”: أي لا بُد أن يستقل الرجل عن بيت أبيه لبناء أسرته الجديدة. وهذا الاستقلال أو الترك لا يعني إهمال واجباتنا نحو أهالينا في رعايتهم، فالحب الزيجى لا يتعارض مع وصية إكرام الآباء.

“جسدٌ واحدٌ”: تشير إلى روعة الاتحاد الزيجى المسيحي، فبحلول الروح القدس في صلاة الإكليل، يصير الاثنان واحدا على مستوى النفس والجسد والروح.

 

ع9: بعد أن أوضح السيد المسيح صورة الاتحاد الزيجى الرائع في (ع8)، يوضح أيضًا أن الله هو المؤسس لهذا الاتحاد وجامعه، وهو العامل مع المتزوجين، وفيهما، من أجل أن يصيرا جسدا واحدا. وبالتالي، لا يمكن للإنسان أن يبطل ارتباطا أو عهدا أقامه الله وكان شاهدا عليه. ولكن، على الإنسان المسيحي أن يسعى مع عمل نعمة الله في سر الزواج، ويجاهد في ضبط نفسه، وتقديم المحبة، واحتمال نقائص وضعفات الآخر مهما كان هذا صعبا. فالزواج المسيحي ليس من أجل إرضاء النفس وشهواتها، بل هو دعوة لكسر الذات والأنانية والخضوع للآخر، كما توصينا الكنيسة في صلاة الإكليل: “ليخضع كل منكما لصاحبه.” حينئذ فقط تتقابل إرادة الإنسان مع إرادة الله الصالحة.

 

ع10-12: كما حدث في أحيان كثيرة، وعلى انفراد، طلب التلاميذ من السيد المسيح تفسيرا أكثر لهذا الحوار، فأضاف بأن الدافع الحقيقي للسعى في الطلاق، هو أن الرجل والمرأة تتحرك مشاعرهما أو شهواتهما لطرف آخر، فيسعى لإتمام شهوته بالتطليق من الأول للارتباط بالثاني. ولهذا، اعتبر الله أن التطليق للزواج ما هو إلا خطية زنى أمامه، حتى لو وافق المجتمع على هذا الزواج الثاني.

أخي الحبيب… هل فهمت الآن لماذا لا تسمح كنيستنا بالطلاق إلا لعلة الزنا؟ فالكنيسة مؤتمنة على وصية المسيح، ولا يحركها ضغط المجتمع عليها. وبدلًا من اللجوء للحلول السهلة بالتطليق، علينا تثبيت المفاهيم الروحية السليمة، وإعداد الأجيال والنشء لفهم معنى الزواج المسيحي.

(2) بركة الأولاد (ع 13-16):

13 وَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَوْلاَدًا لِكَيْ يَلْمِسَهُمْ. وَأَمَّا التَّلاَمِيذُ فَانْتَهَرُوا الَّذِينَ قَدَّمُوهُمْ. 14 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ ذلِكَ اغْتَاظَ وَقَالَ لَهُمْ: «دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ. 15 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ لاَ يَقْبَلُ مَلَكُوتَ اللهِ مِثْلَ وَلَدٍ فَلَنْ يَدْخُلَهُ». 16 فَاحْتَضَنَهُمْ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَبَارَكَهُمْ.

 

ع13: “وقدموا إليه”: المقصود بالطبع آباء وأمهات الأولاد، فقد شعروا بقداسة المسيح وبركته. ولهذا، تسارع كل منهم في تقديم أبنائه للحصول على البركة بلمس المسيح إياهم. ولنا أن نستنتج أن هذا الوضع قد سبب ازدحاما وضوضاء ً جعل التلاميذ ينتهرون هؤلاء الأهالى.

 

ع14: “اغتاظ”: لا يُفْهَمَنَّ أبدا من هذا التعبير، الانفعال البشرى العصبى الذي قد نقع فيه نحن بضعفنا. ولكن، إذ رأى المسيح كيف صدم التلاميذ أهالى الأولاد بجفاء، قال لهم: “دعوا الأولاد يأتون إلىَّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله.” أي أن هؤلاء الأولاد، ببساطتهم ونقائهم – اللذين قد نكون فقدناهما نحن الكبار – صار لهم الملكوت قبلنا.

 

ع15-16: “الحق أقول لكم”: هو التعبير الذي استخدمه المسيح دوما قبل الإعلان عن حقيقة روحية هامة، وهي هنا: أن الطفولة معنًى وليست سِنًّا، فلن يدخل ملكوت الله إلا كل من تمتع بفضائل الأولاد الصغار كالبراءة والبساطة والثقة، وهي علامات تُميّز أبناء الله الأنقياء، ولا يعرفها العالم الشرير، فالله يريد منا البساطة والتلقائية وثقة الإيمان في الصلاة والحديث معه؛ كذلك يريد أن تخلو معاملاتنا مع الآخرين من الخبث ومن حكمة العالم الشيطانية، بل أن تكون صريحة وبسيطة ولا تخلو من حكمة الروح القدس… وبعد هذا التعليم، احتضن السيد الأولاد بحنانه البالغ، ومنحهم بركته الإلهية.

† إلهي الحبيب… أشتاق لطفولتى فيك… ليتنى كنت من هؤلاء الأولاد، ألمس بيدى ركبتيك، وتلمس بيدك خصلات شعرى، فيسرى في كيانى كله تيار قداستك…

إلهي… أنا أعلم أنك أعطيتنى كثيرا، ولكننى لا أستطيع أن أكتم اشتياقى القلبى في أن أرتمى في حضنك الحنون!

(3) محبة المال (ع 17-27):

17 وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ إِلَى الطَّرِيقِ، رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَثَا لَهُ وَسَأَلَهُ: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» 18 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. 19 أَنْتَ تَعْرِفُ الْوَصَايَا: لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُلْ. لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لاَ تَسْلُبْ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». 20 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي». 21 فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ، وَقَالَ لَهُ: «يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلًا الصَّلِيبَ». 22 فَاغْتَمَّ عَلَى الْقَوْلِ وَمَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ. 23 فَنَظَرَ يَسُوعُ حَوْلَهُ وَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: «مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ!» 24 فَتَحَيَّرَ التَّلاَمِيذُ مِنْ كَلاَمِهِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ أَيْضًا وَقَالَ لَهُمْ: «يَا بَنِيَّ، مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ! 25 مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ» 26 فَبُهِتُوا إِلَى الْغَايَةِ قَائِلِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» 27 فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ اللهِ».

 

ع17: عند خروج السيد المسيح في طريقه إلى أورشليم، أتى رجل وسجد له، سائلا إياه عن الطريق إلى الحياة الأبدية. وكلمة “ركض” توضح أن مجيئه للمسيح كان عن لهفة ودافع حقيقي للمعرفة… وتشير كلمة “جثا” إلى احترامه وتعظيمه للمسيح.

 

ع18: للأسف، استغل أعداء المسيحية، على مر العصور، هذه الآية في إنكار الألوهية عن المسيح. ولهؤلاء نقول أن المسيح أعلن بوضوح عن لاهوته، كما جاء في (يو 10: 30): “أنا والآب واحد.”

ولتوضيح ما قاله المسيح، علينا التعرف، بإيجاز، على خلفية يهودية لهذا الزمن… فقد منع الكهنة والفرّيسيّون الناس من استخدام اسم الله في الأحاديث، والاكتفاء بذكر ألقابه، فكانوا يقولون المبارك… العلِىّ… الصالح… وهكذا.

ولذلك، عندما دعا هذا الرجل المسيح في العدد السابق، قائلًا: “أيها المعلم الصالح”، استوقفه المسيح في هذا العدد، قائلًا: “لماذا تدعونى صالحا؟”، فهل لأنك:

g تدرك أننى الله، فتعطينى الصلاح المطلق الذي لله وحده؟

g تحدثنى كما اعتاد الناس، في مجاملة من يحترمونهم، بإطلاق الصفات والألقاب عليهم؟

 

ع19-20: لم يكن المسيح ينتظر إجابة من الرجل، بل أجابه على سؤاله بأن الطريق إلى الملكوت هو حفظ وصايا الله والعمل بها، وذكر السيد المسيح بعضا من الوصايا العشر؛ ولكن هذه الإجابة لم تُشبع سائلها، فأجاب بدوره إنه يعرف هذه الوصايا منذ الطفولة.

 

ع21-22: “فنظر إليه يسوع وأحبه”: إذ رأى المسيح في هذا الإنسان لهفة سؤاله، واتضاعه في سجوده، واهتمامه الحقيقي في حفظ الوصايا منذ صباه، ومحاولة تطبيقها بأمانة وصدق، ورغبته في ميراث الحياة الأبدية، نظر إليه نظرة حب وتشجيع قبل أن يقدّم إليه العلاج، ويضع أصبعه على المرض الحقيقي لهذا الغَنى، وهو محبة المال. ولهذا، كان العلاج هو الاستئصال الكامل للخطية، بأن يتخلَّى عن أمواله للفقراء، فيصير له كنزا وإكليلا في ملكوت الله. وبالرغم من صعوبة العلاج، لم يخفف السيد المسيح منه شيئا، بل أزاد عليه بأن يتبعه، متخليا عن التنعّم والرفاهية، حاملا صليب إنكار الذات، وقبول الألم… ولهذا حزن الرجل، إذ شعر بسلطان المال عليه؛ وبدلًا من أن يتبع المسيح، مضى مغتما!!

† إلهي وسيدى… إنى أشعر في أعماقى أننى لم أتحرر بعد من محبة المال، بل إننى هذا الرجل عينه… فأنا أخشى وأضطرب إن ضاع منى شيء… إنك تشير إلى مرضى أنا وليس مرضه، فهل تعطينى الشفاء؟! أرجوك، حررنى من هذه المحبة التي تحجبك عنى، وأشبعنى بك فيصير كل ما أملك رخيصا تحت قدميك، ويصير صليبك شهوة قلبى…

 

ع23-25: تعقيبًا وتعليقًا على الحوار مع الرجل الغنى، تكلم السيد المسيح عن صعوبة دخول ذوى الأموال إلى ملكوت الله. وعندما لاحظ حيرة التلاميذ وارتباكهم، أزادهم إيضاحا بأن المال في حد ذاته ليس خطية، ولكن محبة المال والاتكال عليه والتباهى به واكتنازه، يجعل الإنسان معتمدا عليه أكثر من اعتماده على الله، بل يُقَسِّى قلبه على من حوله، ويدخُله كبرياء الغنى، وينسى اتضاعه واحتياجه وشكره لله. ولتوضيح صعوبة خلاص هؤلاء المتكلين على أموالهم، ضرب لهم المسيح مثلا تصويريا بأن مرورُ جمل – بكل حجمه – من ثقب إبرة، أسهل من دخول هؤلاء ملكوت السماوات، أي استحالة خلاص كل من وضع المال في رجائه…

† أخي الحبيب… لا تنس أنه كان هناك أغنياء صالحون، مثل يوسف الرامى ونيقوديموس، ولم يطلب الرب منهم ترك أموالهم. فالخطية إذن، الساكنة في أعماقنا وسط هذا العالم المادي، هي محبة المال ذاته، وهي تمنعنا من رؤية عمل الله، فلنتب عنها. وبدلًا من تمنى الغنى، فلنتمنى ما هو أبقى وأنفع، حيث لا سارق ولا يفسده سوس، وهو الملكوت المعد لنا من قِبَلِ أبينا الغنى.

 

ع26-27: إذ رأى التلاميذ صعوبة ما يعلم به المسيح، عبّروا عما بداخلهم عن صعوبة الخلاص، قائلين بعضهم لبعض: “فمن يستطيعُ أن يخلُص؟” فجاءت إجابة المسيح مطمئنة، أن ما لا يستطيعه الإنسان في جهاده، يكمله الله بنعمته. ولكن، علينا أن نكون أمناء في عرض ضعفاتنا عليه، واشتياقنا للملكوت، وهو القادر أن يتمم خلاصه فينا، لأن كل شيء مستطاع عند الله.

 

(4) الترك من أجل الله (ع 28-31):

28 وَابْتَدَأَ بُطْرُسُ يَقُولُ لَهُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». 29 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولًا، لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ، 30 إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هذَا الزَّمَانِ، بُيُوتًا وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَدًا وَحُقُولًا، مَعَ اضْطِهَادَاتٍ، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ. 31 وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَالآخِرُونَ أَوَّلِينَ».

 

ع28-30: في تلقائية، وكالمعتاد، كان بطرس أسرع المتكلمين مع المسيح. ولعل رهبة الحديث الأخير للمسيح هى التي دفعته للاطمئنان على نفسه والتلاميذ، وهم الذين تركوا كل شيء من أجل تبعيتهم للمسيح.

“مئةَ ضعفٍ”: جاءت إجابة المسيح موضحة ومؤكدة لصلاح الله صانع الخيرات… فهل يمكن أن يكون الله مديونًا لإنسان؟! فكل من ترك شيء من أجل الله والخدمة، له مائة ضعف، والتعبير هنا مجازى، كناية عن فيض عطاء الله لمن ترك وتبعه، فيعطيه هنا إخوة وأولادا روحيين، وسلاما قلبيا وراحة لا يعرفها العالم، ولا يدعهم معوزين لشىء أيضًا من ضرورات العالم المادي الحاضر، وإن كان الأمر لا يخلو من اضطهاد وضيقات في هذا الزمن. أما التعويض الأبقى والدائم، فهو ميراث الحياة الأبدية المعدة من الله ذاته، وسيكون لهم مكانة خاصة ومميزة، وأكثر اقترابا وشبعا بالله مخلّصهم…

† أخي الحبيب… أليس وعد المسيح هذا مشجعا لنا جميعا أن نترك من راحتنا ووقتنا وأموالنا، من أجل المضى معه في تبعية وخدمة روحية قلبية حقيقية… ألم تشتاق معي لمذاق المائة ضعف؟! هيا إذن، تعال إلى الكنيسة، وقدم ولو القليل من وقتك للخدمة، فالمسيح يحتاج كل الطاقات لكنيسته.

 

ع31: أنهى الرب كلامه هنا بتحذير، فالوعد بالملكوت لمن ترك، لا ينشئ تهاونا بضمان الخلاص، بل علينا الاحتراس، وأن نستكمل جهادنا للمنتهى. ألم يكن يهوذا ممن تركوا وتبعوا المسيح؟ ولكنه عاد وانتكس، وأحب المال فسلّم المسيح! فالرخاوة والتهاون تجعل من أتى لاحقا يسبق من كان أولًا.

(5) الإنباء بموته (ع 32-34):

32 وَكَانُوا فِي الطَّرِيقِ صَاعِدِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَقَدَّمُهُمْ يَسُوعُ، وَكَانُوا يَتَحَيَّرُونَ. وَفِيمَا هُمْ يَتْبَعُونَ كَانُوا يَخَافُونَ. فَأَخَذَ الاثْنَيْ عَشَرَ أَيْضًا وَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ عَمَّا سَيَحْدُثُ لَهُ: 33 «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ، 34 فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ».

كان هذا الصعود هو الأخير لأورشليم. أما حيرة وخوف التلاميذ، فكان أساسها الإحساس بالجو العام، إذ كثر الذين يطلبون يسوع، وكثرت وشايتهم، وصار معلوما أن رؤساء الكهنة والفرّيسيّون يسعون نحو التخلّص منه. ولهذا، بدأ المسيح يتحدث معهم بصراحة عن بداية المرحلة الأخيرة في طريق الخلاص، والتي تتضمن خيانة يهوذا، والمحاكمة أمام الكهنة ثم أمام بيلاطس (الأمم)، فآلامه وصلبه، وقيامته في اليوم الثالث.

(6) مفهوم الرئاسة (ع 35-45):

35 وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَبْدِي قَائِلَيْنِ: «يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ لَنَا كُلَّ مَا طَلَبْنَا». 36 فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَفْعَلَ لَكُمَا؟» 37 فَقَالاَ لَهُ: «أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِكَ فِي مَجْدِكَ». 38 فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا؟» 39 فَقَالاَ لَهُ: «نَسْتَطِيعُ». فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَمَّا الْكَأْسُ الَّتِي أَشْرَبُهَا أَنَا فَتَشْرَبَانِهَا، وَبَالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. 40 وَأَمَّا الْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلاَّ لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ». 41 وَلَمَّا سَمِعَ الْعَشَرَةُ ابْتَدَأُوا يَغْتَاظُونَ مِنْ أَجْلِ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا. 42 فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يُحْسَبُونَ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَأَنَّ عُظَمَاءَهُمْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. 43 فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ عَظِيمًا، يَكُونُ لَكُمْ خَادِمًا، 44 وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلًا، يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا. 45 لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ».

 

ع35-37: كان التلاميذ مثل باقي اليهود، فقد فهموا كل أحاديث المسيح عن ملكوت السماوات وملكوت الله، بتصور مادي وأرضى وزمني محدود، وشغلت فكرة المراكز والمناصب بعضهم. ولهذا، كان هذا الحوار والطلب من يعقوب ويوحنا بالجلوس في الصدارة، أي عن يمين ويسار المسيح.

“طلبنا”: جاء الفعل في الماضى ليفيد أنه، إما أن التلميذان سبق وطلبا نفس الطلب، أو إشارة إلى أن أمهما سبق وطلبت نفس الطلب.

 

ع38: “لستما تعلمان”: جاءت إجابة المسيح لتوضح الفرق بين خطة الله في خلاص الإنسان، مرورا بالصليب وآلامه، وبين فكر الإنسان القاصر والمرتبط بالأرضيات وأمجادها الفانية. وأكمل السيد حديثه بسؤال للتلميذين، معناه: هل تستطيعان تحمل آلامى على الصليب، وشرب كأس الظلم والمذلة حتى آخره؟!

 

ع39-40: “فقالا له: نستطيع”: بغير وعى، جاءت الإجابة سريعة وعن غير فهم لقصد المسيح. ولهذا، أجابهما المسيح بما سيفهمانه لاحقا، وهو أن شركة الآلام والموت ستمنح لهما بالفعل، أما الجلوس عن يمينه وعن يساره، فهو لمن يحب الله، ويسعى بالتعب والجهاد أكثر؛ فالله في عدله لا يحابى، يعطى كل واحد “بحسب تعبه” (1 كو 3: 8).

 

ع41-42: لا زالت هذه المشاعر البشرية، وليست الروحية، هي سيدة الموقف، فقد ملأ الغيظ باقي التلاميذ. وإذ لاحظ المسيح هذا، بدأ يصحح أخطاءهم، شارحا لهم مفاهيم العظمة الحقيقية في مملكته، وأن عظمة العالم هي السيادة والتحكم في الآخرين والتسلط عليهم.

 

ع43-45: أما ما أطلبه منكم، فهو الاتضاع الحقيقي. لأن من بذل نفسه وكرامته في خدمة الآخرين، صار عظيما أمام الله. ومن أراد مكانة عالية في الملكوت، عليه التخلى عن كبريائه، كأنه عبد لا حقوق له. وتذكروا هذا دائما، أن تتمثلوا بي في تجسدي، فقد أتيت متخليا عن مجدى، ولم أطلب الكرامة من أحد، بل خدمت الكل في بذل حقيقي حتى الموت.

† إلهي الحبيب… إن ما فعلته بالحقيقة أثناء تجسدك، كان فوق تخيل وفهم حتى الملائكة، ولكن هذا هو حبك واتضاعك المتناهيان… إلهي، اجعلنى أخجل من نفسي التي لا زالت تبحث عن مكانتها ومجدها الدنيوى… اجعلنى أرفع عيناى دائما نحو صليبك، فتكون قدوتى لأنطلق في خدمة من حولى، باذلا ذاتي كما فعلت أنت… آمين.

(7) شفاء بَارْتِيمَاوُسُ الأعمى (ع 46-52):

46 وَجَاءُوا إِلَى أَرِيحَا. وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحَا مَعَ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٍ غَفِيرٍ، كَانَ بَارْتِيمَاوُسُ الأَعْمَى ابْنُ تِيمَاوُسَ جَالِسًا عَلَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. 47 فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ، ابْتَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ: «يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!» 48 فَانْتَهَرَهُ كَثِيرُونَ لِيَسْكُتَ، فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيرًا: «يَا ابْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!». 49 فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى. فَنَادَوُا الأَعْمَى قَائِلِينَ لَهُ: «ثِقْ! قُمْ! هُوَذَا يُنَادِيكَ». 50 فَطَرَحَ رِدَاءَهُ وَقَامَ وَجَاءَ إِلَى يَسُوعَ. 51 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ لَهُ الأَعْمَى: «يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ!». 52 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي الطَّرِيقِ.

 

ع46-47: مرورا بأريحا في الطريق إلى أورشليم، سمع بارتيماوس الأعمى بمرور المسيح، فجاء صراخه “يا ابن داود، ارحمنى” معلنا إيمانا فاق كثيرين… فلقب “ابن داود”، هو لقب المسيح المخلّص، فقد أعلن وآمن بمن رفضه الكهنة والفرّيسيّين. ورجاؤه في الشفاء على يديه، هو إيمان بقدرة هذا المخلّص على كل شيء.

 

ع48: عندما صرخ من أجل الرحمة، انتهره كثيرون…

† ألا يفعل الشيطان معنا هكذا، محاولا إسكاتنا عن التوبة وطلب الرحمة؟ ليتنا نفعل مثله ونزيد صراخنا نحو الله، فنفوز بمراحمه وشفائه لأرواحنا.

 

ع49-50: “فوقف يسوع”: وكيف لا يقف؟! وهو المغلوب من حنانه وحبه للبشر، ونادى على المحتاج الصارخ. فطرح الأعمى رداءه – يرمز الرداء لكسل الإنسان – وجاء إلى يسوع ينبوع شفاءنا.

 

ع51-52: بالرغم من وضوح وتوقع طلب الأعمى، إلا أن المسيح سأله: “ماذا تريد؟” وهذا يذكّرنا بمريض بيت حسدا الذي سأله المسيح: “أتريد أن تبرأ؟” (يو 5: 6). فالمسيح إذن يريد أن يعلّمنا شيئًا هاما، وهو أنه على الإنسان دائما أن يعلن إرادته وإصراره أمام الله، مهما كان ضعفه، والمسيح هو القادر على علاج هذا الضعف أو العجز… ولهذا نال هذا الإنسان شفاءه بسبب إيمانه وإصراره… وتبع يسوع في الطريق، أي في دخوله لأورشليم.

† ليتنا نتعلم يا أخي من هذا الأعمى كيف نصرخ إلى الله، ولا يوقفنا شيء حتى ننال ما نرجوه منه، وخاصة خلاص نفوسنا.

تفسير مرقس 9 إنجيل مرقس – 10  تفسير إنجيل مرقس تفسير العهد الجديد تفسير مرقس 11
كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة
تفاسير مرقس – 10 تفاسير إنجيل مرقس تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى