فصول مُنتخبة من العهد الجديد للقديس اغسطينوس- متى 3

“حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه (مت 3: 13)

بخصوص سر التثليث

1. أيها الأحباء إن فصل الإنجيل قد وضع أمامي الموضوع الذي أحدثكم عنه، الذي كأنه بحسب إرشاد الله، وهو حقًا بإرشاده. لقد اِنتظر قلبي صدور الأمر، كما لو كان من الله يتكلم وبذا استطعت أن أدرك أن هذه هي مشيئته، وهي التحدث في الموضوع الذي سمح أن يُتلى على مسامعكم. فلتصغوا إذن بشغف وإخلاص، وليساعدكم الرب ذاته لأنكم أنتم جهادي.

إننا نشاهد ظهور إلهنا في سر الثالوث عند نهر الأردن، كما لو كان في مشهد إلهي. فعندما جاء يسوع واعتمد من يوحنا، اعتمد الرب بواسطة عبده، صانعًا هذا مثالاً للتواضع. لقد أعلن لنا أن في تواضعه يكمل البرّ، فعندما قال له يوحنا: “أنا محتاج أن اَعتمد منك وأنت تأتي إليّ” أجابه “اِسمح الآن. لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل برّ” (مت 4: 15).

عندما اعتمد المسيح انفتحت السماوات ونزل عليه الروح القدس مثل حمامة وتبعه صوتًا من الأعالي قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” ( مت 3: 17). إننا نجد هنا سر التثليث مميزًا بنوع ما، فالآب في الصوت والابن في الإنسان والروح القدس في الحمامة. إنه يكفينا مجرد الإشارة إلى هذا، فنشاهد سر الثالوث لأن الأمر جلي جدًا. لقد أعلن لنا سر الثالوث هنا بوضوح، لا يترك مجالاً لأدنى شك أو تردد. فبدون شك أن الرب المسيح نفسه الذي جاء ليوحنا في صورة عبد هو الابن، إذ لا يمكن أن يقال عنه إنه الآب أو الروح القدس، فقد قيل “جاء يسوع” أي ابن الله. ومن يشك في الحمامة؟ أو من يقول: ما هي الحمامة؟ إذ يشهد الإنجيل نفسه بأكثر وضوح “روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيًا عليه” (مت 3: 16). وهكذا بنفس الطريقة بالنسبة لذلك الصوت لا يمكن أن يُشك في كونه صوت الآب، إذ يقول: “هذا هو ابني” (مت 3: 17)، هكذا نجد الثالوث مميزًا.

2. لو أخذنا في اعتبارنا الأماكن التي ظهر فيها الثالوث القدوس، فإنني أقول بثقة وإن كان بخوف أن الثالوث يبدو كأنه منفصل، فقد جاء يسوع إلى النهر من مكان إلى آخر، ونزلت الحمامة من السماء من مكان إلى آخر، ولم يكن الصوت ذاته الذي للآب من الأرض ولا من الماء بل من السماء. هؤلاء الثلاثة كانوا كما لو أنهم منفصلين في الأماكن والوظيفة والعمل. ولكن رُب قائل يقول: فلتتذكر يا من تتكلم أنك تؤمن بإيمان الكنيسة الجامعة، وأنك تتحدث إلى أناس لهم الإيمان الجامع، فبالأولى أن تُظهر الثالوث غير قابل للانفصال، فهذا ما يعلمنا إياه إيماننا، أي الإيمان الحقيقي الجامعي الصحيح الذي لم يُجمع بحسب أحكام شخصية بل بشهادة الكتاب المقدس غير خاضع لأهواء الهراطقة، بل مؤسسا على الحقيقة الرسولية، هذا هو ما نعرفه وما نؤمن به. هذا ما نتمسك به بحق وبغيرة شديدة، وهو أن الآب والابن والروح القدس ثالوث غير قابل للانفصال إله واحد وليسوا ثلاثة. هذا رغم أننا لم نعاينه بعيوننا ولا بعد بقلوبنا طالما (لا نزال) نتنقى بالإيمان. إنهم إله واحد ومع ذلك فإن الابن ليس هو الآب والآب ليس هو الابن. والروح القدس ليس هو الآب ولا الابن بل روح الآب وروح الابن. هذا اللاهوت غير المنطوق به دائم إلى الأبد في ذاته، يجدد كل الأشياء، يخلق من جديد (creating a new) يرسل، يدعو، يحكم ويخلص. أقول أننا نعرف أن هذا اللاهوت غير موصوف وهو غير قابل للانفصال.

3. ففي أي شيء أتكلم؟ انظروا. فإن الابن بكونه إنسانًا جاء منفصلاً، ونزل الروح القدس من السماء منفصلاً في شكل حمامة، وصوت الآب جاء منفصلاً من السماء: “هذا هو ابني” فأين إذن الثالوث غير القابل للانفصال؟ لقد جعلكم الرب مصغين بكلماتي. صلوا من أجلي وافتحوا انطواءات قلوبكم فيهيكم الله ما يملأ قلوبكم المفتوحة.

ساهموا معي في تعبي، لأنكم ترون ما قد تعهدت به، ومن أكون أنا الذي قد تعهدت به. إنكم ترون ما أرغب الحديث عنه، وأين وما هو حالي سوى أني في “الجسد البالي يُثقل النفس، والمسكن الأرضي يُثقل العقل الكثير الاهتمام” (حك 9: 15). لهذا أجرد فكري من الأشياء العديدة، وأجمعه في الإله الواحد، الثالوث غير القابل للانقسام، حتى أستطيع أن أرى شيئًا أتحدث عنه. فليعرفوا أنني في ذلك الجسم (الذي) يثقل النفس “أستطيع أن أقول إليك يا رب أرفع نفسي” (مز 86: 4)، ذلك لكي ما أستطيع أن أحدثكم عن أمور جديرة في الموضوع. فليساعدني الرب وليرفع نفسي معي. لأنني ضعيف جدًا بالنسبة له، وهو قدير جدًا بالنسبة لي.

4. إن هذا السؤال يتقدم به أكثر الإخوة غيره كما يغلب أن يوجد بين مناقشات محبي كلمة الله، لأنه أُعتيد أن يكون هذا القرع الكثير نحو الله بينما يقول البشر “هل يمنع الآب شيئًا لا يصنعه الابن؟ أو هل يصنع الابن شيئًا لا يصنعه الآب؟

فلنتحدث أولاً عن الآب والابن. وعندما يعطينا ذلك الذي نقول له “كن عوني ولا تتركني” (مز 27: 9)، نجاحًا صادقًا في بحثنا هذا فحينذاك نستطيع أن تدرك عدم انفصال الروح القدس بأي طريقة عن عمل الآب والابن. أيها الإخوة فلتصغوا إذن فيما يخص الآب والابن. هل يصنع الآب شيئًا بدون الابن؟ نجيب بالنفي. هل تشكون في هذا؟ أي شيء لا يصنعه الآب بذاك الذي به صنعت كل الأشياء؟ يقول الكتاب المقدس “كل شيء به كان” (يو 1: 3)، وحتى نوقن من هذا تمامًا في هدوء واطمئنان كما من الناحية الجدلية أيضًا، أضاف “وبغيْره لم يكن شيء مما كان” (يو 1: 3).

5. ماذا إذن أيها الإخوة؟ “كل شيء به كان”. لقد أدركنا بهذا أنه بواسطة الابن قد صُنعت كل الخليقة. لقد صنعها الآب بكلمته، صنعها الله بقوته وحكمته. هل يمكن أن نقول إنه عند خلقه الأشياء “كل شيء به كان”، وأما الآن فلا يصنع الآب كل شيء بواسطته؟ حاشا لله! فلتطرد مثل هذه الأفكار بعيدًا عن قلوب المؤمنين. لتطرد بعيدًا عن أفكار الأتقياء وفهم المتدينين! لا يمكن أنه يكون به خلق الآب ولا تدبر الخليقة بواسطته. حاشا لله أن لا يدبر ما قد أوجده، تلك التي بواسطته خُلقت وصار بها وجودها! لترى بواسطة شهادة الكتاب المقدس ذاته إنه ليس فقط كل الأشياء به خُلقت. إذا اقتبسنا من الإنجيل “كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان”، بل أن كل الأشياء التي صُنعت تُدبر وتُنظم بواسطته أيضًا. إنكم تعرفون أن المسيح قوة الله وحكمته، فلتعلموا أيضًا ما قد قيل عن الحكمة: “وتمتد من أقصى إلى أقصى بقوة، وتدبر (باقتدار)، الكل حسنُا” (حك 8: 1). إذن فلا نشك في أن كل الأشياء تُدبر بواسطة ذاك الذي به كل الأشياء صُنعت. هكذا لا يصنع الآب شيئًا بدون الابن ولا الابن بدون الآب.

6. على أننا نلتقي بصعوبة، تلك التي قد تعهدنا بحلها في اسم الله وبمشيئته. وهي إن كان الآب لا يصنع شيئًا بدون الابن ولا الابن بدون الآب ألا يتبع ذلك القول حتمًا بأن الآب أيضًا قد ولد من العذراء مريم، وتألم من بيلاطس بنطس، وقام أيضًا وصعد إلى السماء؟ حاشا لله! إننا لا نقول بهذا لأننا لا نؤمن به “آمنت لذلك تكلمت” (مز 116: 10)، ونحن أيضًا نؤمن لذلك نتكلم. ماذا جاء في قانون إيماننا؟ أن الابن لا الآب ولد من العذراء. ماذا جاء في قانون الإيمان؟ أن الابن وليس الآب قد تألم من بيلاطس بنطس ومات. هل ننسى أولئك المدعوين patripassians الذين لم يفهموا هذا الأمر فقالوا أن الآب نفسه ولد من امرأة، وأن الآب نفسه تألم، وأنه كالابن وهما اسمان وليس شيئان؟ هؤلاء قد فصلتهم الكنيسة الجامعة عن مجمع قديسيها حتى لا يخدعوا أحدًا بل ليجادلوا وهم منفصلين عنها.

7. فلتعيد إلى أذهانكم صعوبة السؤال وهو إنه رب قائل يقول لي “لقد قلت بأن الآب لا يصنع شيئًا بدون الابن ولا الابن بدون الآب، وأتيت بشهادات من الكتاب المقدس تشهد بأن الآب لا يصنع شيئًا، بدون الابن لأن “كل شيء به كان” وأنه لا تدبر تلك الأشياء التي خلقت بدون الابن، لأنه حكمة الآب “الممتد من أقصى بقوة MIGHTILY، وتدبر الكل حسنا” والآن كما لو كنت تناقص نفسك أن تخبرني بأن الابن ولد من عذراء وليس الآب، والابن تألم وليس الآب، وأن الابن لا الآب قد قام. اُنظر فإنني أرى هنا بعض الأمور يصنعها الابن ولا يصنعها الآب. لذلك فإما أن تعترف بأن الابن يصنع بعض الأشياء بدون الآب، أو أن الآب أيضًا قد ولد وتألم ومات. لتقل بهذا أو بذاك لتختار أحد الأمرين لا. فإنني لا اَختار أي منهما، أنني لا أقول بهذا ولا بذاك. أنني لا أقول بأن الابن يعمل أي شيء بدون الآب لئلا بقولي هذا أكذب، ولا أن الآب قد ولد وتألم وقام لأنني أيضًا إن قلت بهذا أكذب. إنه يقول: كيف إذن تخلص نفسك من هذه المأزق.

8. إن عرض هذا السؤال يبهجكم. ليت الله يهبكم معونته حتى تبتهجون بإيضاحه أيضًا. انظروا، أنني اسأله أن ينقذني وإياكم (من هذا المأزق). فإننا نثبت في إيمان واحد في اسم المسيح، ونسكن في منزل واحد خاضعين لرب واحد، ونحن أعضاء في جسد واحد لرأس واحد، ونحيا بروح واحد. ليبرأنا الرب من مأزق هذا السؤال الذي هو أكثر الأسئلة صعوبة، ليبرأني أنا الذي أتكلم وأنتم الذين تسمعون.

أقول الآتي: حقًا أن الابن وليس الآب قد ولد من العذراء مريم، ولكن هذا الميلاد نفسه الذي للآبن وليس للآب من عمل كل من الآب والابن. حقًا أن الآب لم يتألم بل الابن إلا أن تألم الابن كان من عمل الآب والابن. الآب لم يقم بل الابن ومع ذلك فإن قيامة الابن كانت من عمل الآب والابن. إنه يبدو إذن أننا قد تبرأنا من هذا السؤال، لكن ربما يكون هذا بحسب كلماتي فقط لذلك فلنرى الآن إن كان هذا بطابق الكلمات الإلهية أيضًا على إذن أن أبرهن بشهادة الكتب المقدسة أن ميلاد الابن وآلامه وقيامته كانت من عمل الآب والابن بنوع ما. فبينما الميلاد واللام والقيامة للآبن فقط إلا أن هذه الأمور الثلاثة التي تخص الابن وحده لم تكن من عمل الآب وحده أو الابن وحده بل الآب والابن.

لنبرهن على كل نقطة على حدة، ولتسمعوا أنتم كقضاة. لقد فتحت جلسة القضية ليدخل الشهود الآن. ليقل حكمكم لي كما قد أُعتيد أن يقال للمدافعين في الدعاوي “فلنثبت ما قد وعدت. أنني سأقوم بهذا بالتأكيد بمعونة الرب، مقتبسًا من كتب الشريعة السماوية. أنكم كنتم تصغون لي بانتباه عن عرضي للسؤال فليزداد انتباهكم عند برهاني لهذا الموضوع.

9. ينبغي عليّ أن أعلمكم كيف أن ميلاد المسيح من عمل الآب والابن وأن ما يفعله الآب والابن يخص الابن وحده. أنني ساَقتبس من بولس ذلك الخبير الكفء في الشريعة الإلهية. أقول أنني اَقتبس من بولس هذا الذي وضع قوانين السلام لا قوانين المنازعات، لأنه لدى علماء الشريعة في هذه الأيام بولس الذي سن قوانين المحاكم لا قوانين المسيحية.

ليكشف لنا الرسول المبارك كيف أن ميلاد الابن كان من عمل الآب. إنه يقول: ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة تحت الناموس. ليقتدي الذين تحت الناموس” (غلا 4: 4-5)، هكذا لقد سمعتموه وفهمتموه لوضوحه وجلاءه. انظروا فإن الآب جعل الابن يولد من عذراء، لأنه “لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه”، فأرسل الآب مسيحه. كيف أرسله؟ مولودًا من امرأة. مولودًا تحت الناموس. إذن جعله الآب يولد من امرأة تحت الناموس.

10. هل حيّركم قولي “من عذراء” إذ قال بولس “من امرأة”؟ لا يحيركم هذا، ولا نقف هنا لأنني لا أتحدث إلى أشخاص غير متعلمين. لقد قال الكتاب المقدس بكليهما أي “من العذراء” ومن “امرأة”. أين يقول “من عذراء”؟ “ها العذراء تحبل وتلد ابنًا” (إش 7: 14)، كما تلك من امرأة، كما سمعتم الآن. إنه لا يوجد هنا تناقضًا، إذ تطلق كلمة (نساء) في اللغة العبرية ليس على اللآتي فقدن عذرويتهن بل على الإناث عامة. أنكم تجدون عبارة واضحة في سفر التكوين عندنا خلقت حواء أولاً. أخذها من آدم امرأة” (تك 2: 22). ويقول الكتاب المقدس في موضع آخر أن الله أمر أن تنعزل “النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر” (عد 31: 18؛ قض 21: 11).

ينبغي إذن أن يكون هذا قد ثبت لديكم تمامًا، ولا يعد بعد يعوقكم، وبذلك نستطيع بمعونة الله أن نوضح ما يعوقنا حقًا.

11. لقد أثبتنا أن ميلاد الابن كان من عمل الآب، لنبرهن الآن إنه من عمل الابن أيضًا ما هو ميلاد ابن العذراء مريم؟ إنه بالتأكيد هو اتخاذه صورة العبد في أحشاء العذراء. هل ميلاد المسيح هو غير أخذه صورة العبد في أحشاء العذراء؟ فلتسمع إذن كيف أن هذا كان من عمل الابن أيضًا، “الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس” (في 2: 6-7).

“لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس” (غلا 4:4)، ذلك “عن ابنه الذي صار، من نسل داود من جهة الجسد” (رو 1: 3)، ففي هذا نرى أن ميلاد الابن كان من عمل الآب، بينما في تلك نجد الابن نفسه “أخلى نفسه آخذًا صورة عبد” فترى أن ميلاده من عمل الابن نفسه أيضًا.

إذن برهنا على هذا. فلنترك هذه النقطة ونخبركم باهتمام عن النقطة التالية.

12. فلنبرهن أيضًا أن آلام الابن كانت من عمل الآب والابن. إنه يمكننا أن نرى أنها من عمل الآب إذ كتب: “الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين” (رو 8: 32). وأن آلام الابن هذه من عمله الخاص أيضًا “الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي” (غلا 2: 20). لقد بذل الآب الابن، وبذلك الابن ذاته. لقد وضعت تلك الآلام على واحد ولكن بواسطة لكيهما. هكذا آلام المسيح كميلاده لم تكن من عمل الابن دون الآب ولا الآب دون الابن، فبذل الآب ابنه وبذل الابن نفسه.

ماذا فعل يهوذا في هذا سوى خطيئته؟

فلنعبر من هذه النقطة أيضًا إلى القيامة.

13. لنرى بالحقيقة أن الابن لا الآب مقام من الأموات، إلا أن قيامة الابن من عمل كل من الآب والابن، أنها من عمل الآب إذ كتب “لذلك رفعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم” (في 2: 9). هكذا أقامه الآب إلى الحياة ثانية رافعًا ومنقذًا إياه من الموت.

هل أقام المسيح نفسه أيضًا؟ إنه بالتأكيد صنع هذا، لأنه تحدث عن الهيكل كمثال لجسده قائلاً: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه” (يو 2: 19). فكما أن تركه للحياة يشير إلى آلامه، هكذا أخذه للحياة يشير إلى القيامة. لنرى ما إذا كان الابن قد ترك حياته فعلاً وأن الآب أعادها له دون أن يعيدها هو لنفسه. إنه من الواضح أن الآب أعاد له الحياة، إذ يقول المزمور “أقمني فأجازيهم” (مز 41: 10). لكن لماذا تنتظروا مني برهانًا على أن الابن قد أعاد الحياة لنفسه؟ دعوة يتحدث بنفسه: “لي سلطان أن أضعها” (يو 10: 18). بهذا لم أف بما وعدت. لقد قلت (أنه يضعها) وأنتم تصرخون قبلاً متعجلين. انتبهوا لأجل تهذيبكم الصالح إذ أنكم كما لو كنتم في مدرسة معلمكم السماوي، ولتذكروا بورع ما قد قُرأ، إذ لا تجهلون ما قد ورد بعد ذلك. إن9 يقول “لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا”، “ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي”. “لأخذها أيضًا”(يو 10: 17-18).

14. لقد أوفيت بما وعدت، وكما أظن أنني دعمت قضاياي ببراهين وشهادات قوية فلتتمسكوا إذن بثبات بما قد سمعتم. أنني سأوجزها لكم وأودعها في أذهانكم، تلك التي هي أعظم الأمور قائد كما أظن.

لم يولد الآب من العذراء إلا أن ميلاد الابن من العذراء كان من عمل كل من الآب والابن. لم يتألم الآب على الصليب غير أن آلام الابن هو من عمل كل من الآب والابن. أنكم ترون تمييزًا واضحًا بين الأقانيم مع عدم انفصال في العمل. لهذا لا نقول أن الآب يصنع شيئًا بدون الابن، والابن بدون الآب. لكنكم قد تجدون صعوبة بالنسبة للمعجزات التي صنعها يسوع، لئلا يكون قد صنع أمرًا لم يصنعه الآب. أين إذن القول “الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال”؟ (يو 14: 10).

إن كل ما قلته الآن كان واضحًا ولا يحتاج إلى مجهود كبير لفهمه، وإنما يحتاج إلى مجرد الإشارة إليه، لذلك ينبغي فقط الاهتمام بتذكيركم به.

15. إنني أرغب في الحديث عن أمور أخرى. وهنا أطلب منكم اهتمامكم الأكثر غيرة، وإخلاصكم نحو الله. لأن الأجساد وحدها هي التي تحد في الأماكن التي تناسب طبيعتها الجسدية، أما اللاهوت فهو فوق كل الأماكن، لذلك لا ينبغي أن يبحث عنه أحد كما لو كان في الفضاء. إنه حاضر في كل مكان. غير مرئي وملازم دائمًا. فليس هو بعظيم في مكان ما وأقل في موضع آخر بل يملأ كل مكان ولا يخلو منه مكان. من يستطيع أن يراه؟ من يستطيع أن يدركه؟ ليتنا نقمع ذواتنا ونتذكر من نحن وعن من نتكلم. دعوا هذا وذاك أو كل ما يخص طبيعة الله، محتضنين إيمانًا ورعًا، مسلمين بذلك بإجلال مقدس، وبقدر ما يسمح لنا نستطيع أن ندركه بطريقة لا ينطق بها. لتسكت الكلمات وليصمت اللسان. ليصعد القلب ويرتفع إلى هناك. لأنه ليس من طبيعة اللاهوت أن يرتفع في قلب الإنسان، بل يرتفع قلب الإنسان إليه. لنتأمل المخلوقات، “لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات”( رو 1: 20). لعلنا نجد في الأشياء التي خلقها الله والتي لنا علاقة بها بعض المشابهة، بحيث يمكن أن نبرهن بها على وجود ثلاثة أشياء تظهر منفصلة إلا أن عملهم غير قابل للانفصال.

16. تعالوا أيها الإخوة وأعيروني اهتمامكم. لتنظروا ما قد وعدت به، وهو إن كان يمكن أن أجد أي مشابهة في الخليقة (للثالوث القدوس) لأن الخالق متعال جدًا علينا!! قد تكون هناك بعض ومضات نور الحق في عقول أحدنا، كما لو كان قد ضرب بشرارات ضوئه، فيستطيع أن يقول “أنا قلت في حيرتي” (مز 31: 22). ماذا تقولون أنتم في حيرتكم؟ إني قد انقطعت من قدام عينيك” (مز 31: 22)، لأنه يبدو لي أن الذي يقول هذا كأنه قد رفع روحه نحو الله ثم عاد إلى نفسه، بينما يقولون له كل يوم: أين هو إلهك؟ إنه قد وصل إلى ذلك النور غير المتغير بتلامس روحي، ولضعف بصره لم يستطع أن يحتمل النور، فسقط عائدًا إلى نفسه مرة أخرى كما لو كان مريضًا وفي حالة ضعف. وإذ قارن نفسه بذلك النور شعر أن عينيّ عقله لا تستطيعان أن تلطف(ما تشكيلها؟؟) من نور حكمة الله. وإذ حدث هذا وهو في ذهول خرج سريعًا من الاحساسات الجسدية، وانشغل في الله. وعندما استدعى من عند الله إلى البشر قال: “أنا قلت في حيرتي” لأنني رأيت في حيرتي ما لا أعرفه، ذلك الذي لا أستطيع احتماله كثيرًا، وإذ عدت إلى حالتي المميتة (البشرية)، وإلى التفكير الكثير في الأمور المميتة التي تخص الجسد الذي يثقل الروح، قلت وماذا قلت؟ “أني قد انقطعت من قدام عينيك” أنت بعيد إلى أعلى وأنا بعيد إلى أسفل.

إذن ماذا نقول عن الله أيها الإخوة؟ لأنكم إن استطعتم إدراك ما يمكن أن تقولونه، فإن ما تقولونه ليس هو الله. إن استطعتم أن تدركوا هذا فإنكم تدركون شيئًا غير الله. إن استطعتم إدراكه بتفكيركم فبتفكيركم تخدعون أنفسكم. إذن فليس هو الله ما دمتم تدركونه. ولكن إن كان هو الله فلا تستطيعوا إدراكه. كيف إذن تريدون الحديث عن ذلك الذي لا تستطيعوا إدراكه؟

17. لنبحث إذن عسى أن نجد شيئًا في الخليقة به يمكن أن نبرهن على وجود أشياء ثلاثة تظهر منفصلة، ولكن أعمالها غير قابلة للانفصال. ولكن إلى أين نذهب؟ إلى السماء فنبحث في الشمس والقمر والنجوم؟! إلى الأرض لنجادل في النباتات والأشجار والحيوانات التي تملأ الأرض؟! إلى متى يطول جولانك أيها الإنسان حول الخليقة؟ عودوا إلى ذواتكم. انظروا، تأملوا، اختبروا أنفسكم. أنكم تبحثون بين المخلوقات عن ثلاثة أشياء تظهر منفصلة ويكون عملهم غير قابل للانفصال. فإن كنتم تبحثون كثيرًا عن هذا فلتبحثوا عنها في ذواتكم أولاً، لأنكم لستم إلا من الخليقة. إنه التشبيه الذي تبحثون عنه. هل ستبحثون كثيرًا عنه بين القطيع؟ لأنكم إذ تبحثون عن هذا التشبيه فإنكم تتحدثون عن الله. لقد كنتم تتكلون عن ثالوث جلاله الفائق الوصف. وإذ تفشلون في التأمل في الطبيعة تعترفون باتضعاع بضعفكم، فتنزلون إلى الطبيعة البشرية. جدوا إذن في طلب المعرفة. هل ستبحثون بين القطعان أو في الشمس أو النجوم؟ أي منهم خلق على صورة الله ومثاله؟ ابحثوا في أنفسكم التي لها علاقة أكبر بكم وهي أسمى كل هذه الأشياء. لأن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، ابحثوا في أنفسكم لعل صورة الثالوث تحمل شبه الثالوث. وما هي هذه الصورة؟ إنها صورة تختلف تمامًا عن الأصل، ورغم هذا الاختلاف فإنها صورة وشبيه له، إنها في الحقيقة ليست صورة بنفس الطريقة التي بها يكون الابن صورة، إذ هو والآب واحد. لأن الصورة توجد بنوع ما في الابن، وبنوع آخر في المرآة. إنه اختلاف كبير بين كليهما. فصورتك في ابنك هي نفسك لأن الابن بحسب الطبيعة هو أنت، فمن حيث الجوهر واحد معك ولكن من حيث الشخصية فهو غيرك. فالإنسان ليس بصورة مثل الابن الواحد المولود، وإنما صنع بنوع أعلى صورة الله ومثاله.

ليبحث إذن في نفسه إن كان يوجد فيه ثلاثة أشياء تبدو منفصلة، ولكن عملهم غير قابل للانفصال، إنني سأبحث عن هذا، ولتبحثوا أنتم معي. إنني لا أبحث فيكم، بل أنتم تبحثون في أنفسكم، وأنا أبحث في نفسي. لنبحث معًا في اتحاد، وفي اتحاد نبحث ونناقش طبيعتنا وجوهرنا العام.

18. تطلع أيها الإنسان ولتنظر في صحة ما قلته. هل لك جسد ولحم؟

ستجيب نعم لأنه كيف أكون في هذا المكان الذي أشغله الآن، وكيف أتحرك من مكان إلى آخر؟ كيف أسمع كلمات المتحدث إلا بآذان جسدي؟ كيف أرى فم المتكلم إلا بأعين جسدي؟ ليس هناك حاجة أن أتعب أحدكم في أمر واضح إذ من الجلي أن لك جسد. لتنظروا إلى أمر آخر. تأملوا في ذلك الذي يعمل بواسطة الجسد. لأنكم تسمعون بواسطة الأذن ولكن ليست الأذن هي التي تسمع. هناك شيئًا واضحًا يسمع بواسطة الأذن. أنكم ترون بواسطة العين اختبروا هذه العين. ماذا؟ هل عرفتم المنزل ولم تهتموا بالساكن فيه وهل العين بذاتها ترى؟ أليس هناك شيئًا آخر يرى بواسطة العين؟ وأنني لا أقول أن عين الميت الذي فارق الساكن فيه لا ترى، بل أن عين الإنسان الذي يفكر في أشياء أخرى لا ترى الأشياء الموضوعة أمامها. انظروا إذن في إنسانكم الداخلي، لأنه من الأفضل أن يكون فيه ذلك التشبيه الذي نبحث عنه بخصوص الأشياء الثلاثة التي تظهر منفصلة، ومع ذلك فعملهم غير قابل للانفصال. ماذا إذن في أذهانكم؟ لو بحثتم لوجدتم هناك أشياء كثيرة، ولكن هنا أشياء قريبة لكم وإلي ويمكن فهمها بأكثر سهولة. ماذا إذن في أذهانكم؟ استدعوا أذهانكم وتأملوا فيها. فإنني لا أطلب منكم تصديقًا لما أقول، فإن لم تجدوه في أذهانكم لا تسلموا به. انظروا إذن إلى الداخل ولكن دعونا ننظر إلى ما قد هرب مني وهو أن الإنسان ليس صورة للابن وحده أو للآب وحده بل للآب والابن ويتبع هذا الروح القدس أيضًا. يقول سفر التكوين “نعمل الإنسان” نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا (تك 1: 26). لذلك لم يعمل الآب شيئًا بدون الابن ولا الابن بدون الآب.

“نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا “نعمل” وليس “سأعمل” أو “صورتي” بل على “صورتنا”.

19. إنني أسأل قائلاً اذكروا بُعد التشابه. لذلك لا يقل أحد “انظروا بماذا يقارن الله؟ لقد سبق أن أخبرتكم بهذا، ويسابق توقعي أحذركم كما أحصن نفسي. بالحقيقة تبعد الاثنان كثيرًا عن بعضهما البعض كابتعاد العمق عن العلو، المتغير عن غير المتغير، المخلوق عن الخالق والطبيعة الإنسانية عن اللاهوت، ها قد اخترتكم بهذا أولاً حتى لا يقل أحد شيئًا ضدي، لأن هناك فارق كبير بين الأشياء التي سأتكلم عنها. إنني أخشى إذ أطلب آذانكم أن يعد أحدكم أسنانه. تذكروا أن كل ما قد وعدت به هو مجرد أنه أظهر أن هناك ثلاثة أشياء تظهر منفصلة ولكن عملها غير منفصل. إنه لا يهمني حاليًا مدى مشابهة أو عدم مشابهة هذه الأشياء للثالوث القدير، بل الذي يهمني هو إيجاد ثلاثة أشياء في المخلوقات الوضيعة القابلة للتغيير، هذه الأشياء تظهر منفصلة، ومع ذلك فعملها غير قابل للانفصال.

يا له من تصوير جسدي! ضمير عنيد كافر! لماذا تشكون فيما يخص جلاله غير الموصوف ذاك الذي تكتشفونه في أنفسكم؟ أنني أسألك أيها الإنسان هل لك ذاكرة؟

إن لم يكن لكم ذاكرة فكيف تحتفظون بما قد قلته؟ لكن ربما تكونوا قد نسيتم ما قد قلته منذ لحظة إلا هاتين الكلمتين “أنا أقول” فهذين المقطعين عينهما لا يمكن أن تحفظوهما إلا عن طريق “الذاكرة”؟ لأنه كيف يمكن أن تعرفوا إنهما اثنان (كلمتان) إن كان عند النطق بالثانية تنسون الأولى؟ ولماذا أطيل في هذا؟ لماذا أتعجل هكذا؟ لماذا أحثكم على الاعتقاد؟ لأن لكم “ذاكرة” وهذا واضح لأبحث عن شيء آخر (أي غير الذاكرة)، هل لديكم فهما؟ ستقولون “لدينا فهما”، لأنه لو لم يكن لكم ذاكرة لما كان يمكن أن تحتفظوا بما قلته، وبالتالي لما فهمتم، ولما استطعتم إدراك ما قد احتفظتم به. إذن لديكم هذا (أي الفهم) أيضًا كالأخرى. أنكم تستدعون فهمكم في ما قد احتفظتم به، وبذلك ترونه، وبرؤيته تشكلون إلى تلك الحالة التي بها يقال أنكم تعرفون. ولكنني أبحث عن شيء ثالث. لديكم الذاكرة التي بها تحتفظون بما يقال، ولديكم الفهم الذي به تفهمون ما قد احتفظتم به. ولكن بتلامس هذين معًا أسألكم أليس لديكم (الإرادة) للاحتفاظ والفهم؟ بلا شك تقولون إن ذلك بإرادتنا. لذلك لديكم إرادة.

هذه هي الأشياء الثلاثة التي وعدت بإخباركم عنها. أنها فيكم، ويمكن أن نعددها دون أن نفصلها عن بعضها البعض. هذه الثلاثة إذن هم “الذاكرة – الفهم – الإرادة”. أقول تأملوا كيف أن هذه الأشياء الثلاثة تظهر منفصلة لكن أعمالها غير منفصلة.

20. والآن فإن الرب هو عوني. أنني أراه حاضرًا ليعينني ويعطيكم فهمًا لما أقول. إني أراه موجودًا ليعينني، وأدرك من أصواتكم أنكم قد فهمتموني. أني واثق تمامًا إنه لا يزال يساعدنا حتى تفهموا الكل. لقد وعدت أن أريكم ثلاثة أشياء تظهر منفصلة لكن أعمالها غير منفصلة. انظروا إذن، إنني لا أعلم بما يجول بعقولكم وقد أظهرتم لي بقولكم (الذاكرة) ولكنكم لم تعبروا عنها. لقد كانت فيكم، لكن لم تخرج بعد إليّ، ولكن لكي ما تخرج منكم إليّ فإنكم تعبروا عن ذات الكلمة التي هي (الذاكرة). لقد سمعت المقاطع الثلاث التي في الكلمة “الذاكرة” Memory، إنها اسم مكون من ثلاثة مقاطع، لقد سمعتها وقد تركت في عقلي فكرة معينة. لقد ذهب الصوت، ولكن بقيت الكلمة التي بها انتقلت الفكرة كما بقيت الفكرة ذاتها. إنني أسأل عندما ننطق كلمة “الذاكرة” فإنكم ترون إنها تخص الذاكرة فقط لأن الشيئان الآخران (أي الفهم والإرادة) لهما اسمان متمايزان، فالواحد يدعى “فهما” والآخر “إرادة” وليس “ذاكرة”، ولكن لماذا تعملوا على التعبير عن هذا لتبرزوا الثلاثة مقاطع؟ فهذه الكلمة تخص “الذاكرة” فقط. فالذاكرة تعمل على أن تحفظوا ما تقولون، والفهم يعمل على تعرف ما قد حفظتم، والإرادة على التعبير عن ما تعرفتموه.

نشكر الرب إلهنا فقد أعانني وأعانكم. إنني خشيت أن أبهج ذوي العقول الراجحة وأقلق ذوي القدرات العقلية البطيئة. ولكن بسماعكم بإصغاء أدرك أنكم قد فهمتموني بسرعة حتى أنكم لم تدركا فقط ما قلته بل أيضًا قد توقعتم ما سأقوله. إذن فلنشكر الرب!

21. انظروا فإنني أتكلم الآن مطمئنًا في ما سبق أن فهمتموه، فلست بعد أجمع ما لم تفهموه بل أجمع لما سبق أن أخبرتكم به. لقد لقبت وشرحت واحدة من هذه الأشياء الثلاثة، “فالذاكرة” اسم يطلق على واحدة فقط من الثلاثة، ومع هذا فإن الثلاثة تشترك معًا في وجودها (أي الذاكرة). إن كلمة (الذاكرة) بمفردها لا يمكن أن تفهم إلا بعمل الإرادة والفهم والذاكرة، كذلك كلمة “الفهم” لا يمكن أن تفهم بمفردها بدون عمل الذاكرة والإرادة والفهم. أيضًا كلمة (الإرادة) لا يمكن أن تفهم بمفردها إلا بعمل الذاكرة والفهم والإرادة.

أظن إنني أوضحت ما قد وعدت به. فما أنطقه الآن مجزءًا أدركه بدون انفصال، فالثلاثة يعملون معًا على إيجاد كل منهم على حدة. ومع ذلك فإن الواحد الذي ينتجه الثلاثة لا يخص الثلاثة بل واحد فقط. إن الثلاثة ينتجون معًا كلمة (الذاكرة)، ومع ذلك فإن هذه الكلمة تخص الذاكرة فقط. والثلاثة ينتجون معًا كلمة “الفهم”، ومع ذلك فلا تخص هذه الكلمة إلا الفهم فقط. الثلاثة معًا ينتجون كلمة “الإرادة”، ومع ذلك فلا تخص هذه غير الإرادة فقط. هكذا اشترك الثالوث القدوس في تكوين جسد المسيح ومع ذلك فإنه (الجسد) يخص المسيح وحده. اشترك الثالوث القدوس في تكوين هيئة الحمامة (الروح القدس) التي من السماء، ومع ذلك فهي لا تخص غير الروح القدس وحده. اشترك الثالوث القدوس في تكوين الصوت الذي من السماء ومع ذلك فهو يخص الآب وحده.

22. لا يثقل أحد عليّ لضعفي فيقول لي: “أي من هذه الأشياء الثلاثة التي أظهرتها لنا في عقلنا أو أرواحنا، أي منهما تقابل الآب أي تشابهه، وأي تقابل الابن، وأي منهم يقابل الروح القدس أنني لا أستطيع القول… إنني عاجز عن توضيح ذلك. لتصمتوا قليلاً ولتتأملوا. أدخلوا إلى أعماق نفوسكم مبتعدين عن كل ضوضاء. تأملوا في أعماق أنفسكم. انظروا إن كان هناك مكان هادئ لخلوة الضمير حيث لا ضوضاء ولا جدال ولا صراع ولا محاورات، حيث لا يوجد هناك أفكار تعصب ونضال كونوا ودعاء لسماع الكلمة حتى يمكنكم أن تفهموا. لكنكم قد تقولون لي “تسمعني سرورًا وفرحًا فتبتهج عظامي” (مز 51: 8)، العظام المتواضعة لا المتشامخة.

23. يكفي إنني أوضحت أن هناك ثلاثة أشياء تظهر منفصلة لكن أعمالها غير قابلة للانفصال. إن أدركتم ذلك في أنفسكم، إن كنتم تدركونها في الإنسان، إن كنتم قد أدركتموها في كائن يسلك على الأرض بجسد هزيل “يثقل الروح”، فلتؤمنوا إن الآب والابن والروح القدس يظهرون منفصلين برموز مرئية معينة، وفي أشكال خاصة مأخوذ عن الخليقة، ومع ذلك فإن أعمالهم غير قابلة للانفصال. إن هذا فيه الكفاية فلا أقول أن “الذاكرة” هو الآب و “الفهم” هو الابن و”الإرادة” هي الروح القدس. إنني لا أقول بهذا، ليفهم كل إنسان بحسب رغبته. إنني لا أجرؤ القول بهذا. لنترك هذه الحقائق العظيمة لمن هم أقدر عليها، وأما الضعفاء مثلي فيعلمون الضعفاء بحسب مقدرتهم.

إنني لا أقول بأن هذه الأشياء يمكن أن تتساوى بأي حال مع الثالوث القدوس أو تماثلها، أي أن تكون موضع للمقارنة. هذا ما لا أقوله ولكن انظروا ماذا أقول؟ إنني اكتشفت فيكم أشياء ثلاثة تظهر منفصلة لكن عملها غير قابل للانفصال، وكل اسم من هذه الأشياء تنتج بواسطة الثلاثة أشياء معًا، ومع ذلك فإنه لا يخص الثلاثة بل واحدًا منها.

إن كنتم قد سمعتم ورأيتم وحفظتم هذا في ذواتكم فآمنوا بالثالوث القدوس الذي لا تستطيعون رؤيته، إن الذي في ذواتكم يمكن أن تفهموه، وأما الذي في الله خالقكم فلا تعرفونه. فإنكم عاجزون مهما بلغت قوتكم. وحتى إن استطعتم فهل يمكنكم أن تعرفوا الله كما يعرف هو نفسه. يكفيكم هذا أيها الأحباء فقد قلت ما أستطيع القول به وأوفيت بوعدي كما طلبتم. أما الأمور الأخرى التي تريدون معرفتها من أجل تقدم فهمكم فلتطلبونها من الرب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى