تفسير إنجيل متى أصحاح 3 للقمص متى المسكين

ظهور يوحنا المعمدان وخدمته [1:3-12]

في الأصحاح الأول والثاني قدم لنا ق. متى مسيح التوراة ابن داود صاحب “مملكة أبينا داود” بقامته الإعجازية التي أحس بها حكماء المشرق وتضافرت جهود السماء والأرض أن تنجيه من أيدي قاتليه.

والآن يدخل في مجال المسيح البشير السابق الذي ينادي بقدوم الملك ويُعلن عن مجيئه، ويصف سمو مكانته ويتمم له مراسيم تكريسه السماوية، ويقف يشاهد حلول روح الله عليه ويشهد على بنوته الله.

ويوحنا لم يأت ومعه فكر لاهوتي يعلنه، ولا فلسفة يدعو إليها، ولا هو أعطى طقساً معيناً يلتزم به أتباعه ولا هو جاء يدعو أن يرتفع الناس إلى مستوى غير مستواهم، أو يرفضوا مبادئ يعيشون بها؛ ولكن جاء ينادي كصوت صارخ من أعماق نبوة السماء أن يتوبوا ، ولا شيء غير أن يتوبوا . والتوبة التي جاء ليعلنها ليست هي مجرد تغيير فكر ولا تغيير خاص لنوع خاص من الحياة، ولكنه جاء يدعو إلى توبة تكتسح الحياة كلها لتدخل إلى أعماق الفكر والقلب والنفس.

جاء ليدعو الشعب جميعا بكل فئاته معلميه وحكمائه كخطاته، كهنة وجنود الكل معا! ليدخلوا عهدا جديدا مع الله، ويسلموا إليه الحياة برمتها حسب مشيئة الله التي يعرفونها من الأسفار والأنبياء جيداً. بمعنى عودة إلى الأصول عن صحة وشهادة من الله والضمير. وتكون علاقتها الاعتراف بالخطايا والعماد بالماء. أما القوة الدافعة وراء سر هذه التوبة الحتمية فهو اقتراب ملكوت الله فالقديس متى هو الوحيد الذي يذكر ملكوت السموات على لسان المعمدان (2:3) والشخصية السرية وراء اقتراب ملكوت الله هو المسيا. أما ما هو ملكوت الله فهو سيادة الله كملك.

و عماد المعمدان قائم على اعتراف بالخطايا دون قبول نعمة، والموت عن حياة الخطية دون قيامة. أما ما هي الخطية في مفهومها عند يوحنا؟ فهي ترك الله وعبادة الأوثان التي سميت بالزنا وما هي حقيقة القوية عند يوحنا؟ فهي العودة إلى يهود و الخضوع لوصاياه.

 

1:3 و 2 «وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ اليَهُودِيَّةِ قَائِلاً: تُوبُوا، لأَنَّهُ قد اقترب مَلَكُوتُ السَّمواتِ».

يعطينا ق. لوقا عمر المسيح عندما بدأ خدمته إذ كان نحو ثلاثين سنة. إذن فنحن أمام مواطن يهودي يكبر المسيح بستة شهور بحسب إنجيل .ق. لوقا (لو 1: 26 و 36) وعمره ثلاثون سنة أيضاً لأنه ولد في سنة ميلاد المسيح. وبحسب حسابات عملت على أساس بيانات قدمها .ق. لوقا، تكون سنة عماد الرب هي 26 ميلادية أو بكور سنة 27م، إذ قد سبق وعرفنا أن المسيح ولد سنة 4 ق.م أو على أقصى تقدير سنة 5 ق.م. ويكون من اللائق أن المعمدان ابتدأ في أول صيف هذه السنة لكي يُعلم ويعمد على نهر الأردن.

وكان ظهور المعمدان فجأة، وكان مثيراً بشكله ذي اللبس النبوي للنساك، وشعره الطويل المسترسل وطعامه الطبيعي الذي لأول مرة نسمع عنه جراداً و عسلاً بريا وكأنه ليس من هذا العالم. فلو أضفنا إلى صفاته صفات مولده الإعجازي من أب كاهن تقي في شيخوخة مضمحلة وأم عاقر بلغ بها العمر مديداً، لعلمنا أننا أمام نبي الرب الحامل لروح إيليا حسب كل الوعود القديمة، ووراثة كهنوتية عن أب وأم. ومن إنجيل ق. لوقا نتأكد أنه قادم ليس من بيت أبيه أو عشيرته بل من برية اتخذها له وطنا ومقاماً منذ صباه (لو 80:1) ، فهو ابن الطبيعة والجبال، وكأنه انحدر من عصور سحيقة ليظهر كضيف على عالم إسرائيل الموجوع. جاء ليكرز في برية اليهودية التي تحدها مرتفعات اليهودية من غرب، والبحر الميت من الشرق ومنخفض وادي الأردن من شرق أيضاً وتمتد شمالاً حتى نهر يبوق الذي يصب في الأردن (انظر الخريطة). وهي برية شاسعة غير مأهولة، جيرية التربة مغطاة بالحصى وقطع الحجارة وصخور. ويتناثر فيها هنا وهناك مجموعات من نباتات برية وشجيرات قصيرة تحوي تحتها الثعابين (أفاعي 7:3). وتحرك المعمدان لم يقتصر على الضفة الغربية للأردن بل امتد حتى الضفة الشرقية على شاطئ الأردن. وابتدأ يعلم قائلاً: توبوا، فلم يكن نداؤه سطحياً، بل ينزل إلى أغوار النفس، لا يمالئ بل يُرعب إلى حد ما، لكي يوقظ النفوس المطروحة تحت ثقل الخطية بالبعد عن الله والمنبطحة على أرض التهاون والمهانة. وكان المعمدان معلما يكشف مواطن الهلاك داخل النفس (7،10) مبشراً ومنذراً بكارثة يمكن تلافيها بتوبة أي بعودة إلى الله بالقلب والفكر معاً. والمعنى الذي تحويه كلمة توبة هزيل بالنسبة لمطلب المعمدان، فهو يطلب تغيير القلب والفكر تحت تهديد الهلاك من جراء البعد عن الله فهو يطالب بحالة حزن وندم وخوف ورعبة من الآتي، بما تستحقه الخطية بمقتضى عقابها الذي لا يرحم. فهو يطلب وقفة نهائية مع النفس لتغيير الاتجاه والسلوك والحياة جملة، تقرباً من الله. فكلمة التوبة إزاء هذا المطلب لا تكفي، فهي كلمة باهتة، وهو يقولها فتخرج ملتهبة تفزع النفس اللاهية: «قد وضعت الفأس على أصل الشجر. فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار» (مت 10:3). هذه عينة من تحذير المعمدان … فهو يُنذر بنار تأتي على العود غير المثمر، ويطلب صدق التوبة على أساس حصيلة الثمر (مت 3: 8 و 10).

وكلمة ” توبوا ” تجيء عنده بالجمع metanoe te في الحاضر بالأمر لفعل metanosw ، وتأتي عند ق. متى خمس مرات (3: 2 ، 4: 17 ، 11: 20 و21 ، 41:12). وقد اتفق العلماء على تعريف المطانية كتابياً كالآتي: [التغيير الداخلي للفكر بأسف وحزن، وتحمل حياة مجددة]. والتوبة تنطلق ناظرة أمامها ووراءها، لذلك تحمل معنى التغيير أكثر من فكر التوبة، تغيير يتعدى العاطفة إلى الإرادة والفكر، فهو تغيير جذري لكيان النفس والفكر والقلب والجسد، وهذا الفكر نفسه منحدر من إيليا صاحب ذات الروح:
+ «ولما رأى أخاب إيليا قال له أخاب أأنت هو مكدّر إسرائيل؟! فقال : لم أكثر إسرائيل بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء البعليم !! … حتى متى تعرجون بين الفرقتين؟ إن كان الرب هو الله فاتبعوه وإن كان البعل فاتبعوه (واستدعى جميع أنبياء البعل بأمر الملك وقدموا لله ذبيحة فلم يقبلها الله ، وقدم هو ذبيحته وصلى الله) استجبني يا رب استجبني ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله، وأنك أنت حوّلت قلوبهم رجوعاً. فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة. فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا : الرب هو الله الرب هو الله . فقال لهم إيليا أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل فأمسكوهم، فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك » (1مل 18: 17-40)

وهذه هي روح إيليا: «ها أنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف فيرد قلوب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على أبائهم لئلا اتي وأضرب الأرض بلعن » (مل 4 5و6)

ولكن بالرغم من أن المعمدان عول كثيراً على العماد وعمد بالفعل كثيراً حتى سُمِّي بـ المعمدان”، ولكنه لم يعتبر هذا الطقس قادراً أن يخلص دون تغيير جذري في القلب والحياة حتى يُسلّم المسيح قلوباً جديرة مهيأة لقبول الخلاص «ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى منّي … هو سيعمدكم بالروح القدس ونار. » (مت 11:3)

3:3 «فَإِنَّ هذا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ القائل : صَوْتُ صارخ فِي الْبَرِّيَّةِ، أَعِدُّوا طريق الرَّبِّ اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةٌ».

أما قول إشعياء في زمانه فكان له ملابسات تبين الغرض الذي اقتبسه من أجله ق. متى. فإشعياء نبي السبي، فالشعب الذي عاش في السبي في أشور وبابل ذاق الذل والمرارة. وهنا إشعياء يصور أنه حل الميعاد لقدوم يهوه ليطلق الشعب من الأسر ويقوده إلى مكان وطنه وراحته، وهناك صحراء مترامية بين بابل وفلسطين عبر سوريا، فإشعياء تصور أنه يلزم أن يمهد طريقاً في البرية وسبيلا مستقيماً وسط صحراء مليئة بالمرتفعات والمنخفضات والمنحنيات «عزُّوا عزُوا شعبي يقول إلهكم طيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل (كانت مدته 70 سنة) إن إثمها (الذي بسببه تم السبي) قد عفي عنه، أنها قد قبلت من يد الرب ضعفين (سبعين سنة في ذلة الأسر) عن كل خطاياها صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب. قوموا في القفر سبيلا لإلهنا كل وطاء يرتفع وكل جبل وأكمة ينخفض ويصير المعوج مستقيماً والعراقيب سهلا . فيُعلن مجد الرب ويراه كل بشر جميعاً لأن فم الرب تكلم .» (إش 40: 1-5).

والقديس متى أخذ هذه البشارة المفرحة بعد أحزان السنين التي أكلها الجراد ليصور مهمة المعمدان في برية العالم وقفر الإنسان منادياً بفم المعمدان لكي تستقيم القلوب وينحط كبرياء وعتو الإنسان: «أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين» (لو 52:1) ، ويصير للمسيح طريق سهل إلى قلوب الناس، وكما عاد يهوذا وإسرائيل إلى وطنهم منذ 500 سنة مضت يعود شعب من أسر الخطية وظلمة الشيطان إلى الله والنور الحقيقي. أما صراخ البشير بعودة الإنسان إلى الله التي أطلقها إشعياء فكانت ولا تزال تحتاج إلى من يكملها حتى يظهر هذا الصارخ المنادي ويأتي الرب إلى شعبه. وهذا واضح أشد الوضوح وبين بلا مواربة حينما سُئل يوحنا: «مَنْ أنت لنعطي جواباً للذين أرسلونا ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب كما قال إشعياء النبي (يو 1: 22 و 23). وهكذا أثبت يوحنا المعمدان بشهادته عن نفسه أنه إنما جاء ليكمل نبوة إشعياء بعينها!! وبالتالي وبالضرورة كانت نبوة إشعياء التي قالها في زمانها ناقصة تحتاج إلى تكميل بهذا تقيم نبوة إشعياء أنها نبوة صادقة عن زمانها الآتي وأنها لم تكمل في زمانها الذي قيلت فيه. ثم على القارئ للتأكد من هذا أن يلتفت إلى : ( أ ) تحقيق البرية التي تكلم عنها إشعياء، (ب) عمل يوحنا الرسمي الذي أخذه بالميلاد (لو 1: 76 و 77) وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعد طرقه لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم بل ومن فم الملاك قبل أن يُحبل بيوحنا في البطن ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم. ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكي يهيئ للرب شعباً مستعداً (لو 1: 16 و17). وعمل المعمدان هذا بعينه سبق وتكلم عنه ملاخي النبي بكل وضوح: هأنذا أرسل ملاكي فيهيء الطريق أمامي (مل 3: 1). وملاخي جاء بعد إشعياء بحوالي 200 سنة ويزيد، أي بعد أن رجع الشعب من سبي بابل وأشور.

وسواء من نبوة إشعياء مباشرة أو شرحها في نبوة ملاخي (6:4) «فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم» أو من تنويه .ق. متى تتضح البرية ومعناها فهي قلب الإنسان ليستعد لقبول الرب دون عراقيل ولا علو ولا مكر ولا خداع، فالاستقامة هي مدخل الله إلى قلب الإنسان: أين هي قلوبكم ؟ (القداس الإلهي).

4:3 «وَيُوحَنَّا هذا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَر الإبل، وَعَلى حَقَّوَيْهِ مِنطقة مِنْ جِلْدِ. وَكَانَ طَعَامُهُ جرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيَّا».

سبق أن وصف الكتاب لبس إيليا النبي (2مل 1: 8) فهو مطابق إلى حدّ كبير بالرغم من السنين السحيقة التي عبرت من إيليا إلى المعمدان: 900 سنة ويزيد . ولباس المعمدان الخشن تحدث عنه المسيح: «هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك» (مت 8:11). وأما منطقة الجلد التي تشد الوسط فهي تجعل الإنسان مستقيم القامة حاضر العافية والنشاط، قادراً على المشي مسافات طويلة. وطعامه جاهز عند طلبه لا يحتاج إلا إلى التقاطه من على الصخور والشقوق: «أركبه على مرتفعات الأرض فأكل ثمار الصحراء وأرضعه عسلاً من حجر وزيتا من صوان الصخر» (تث 32: 13). فانتفت الحاجة إلى امرأة أو معين. فاللبس إلى سنين والطعام حاضر في كل حين، والغذاء برضع ثدي السماء، والقوة من الأعالي لحمايته من وحش أو عدو. أما الجراد فكان يُشوى على النار وهو محلل لليهود بأمر الله: «هذا منه تأكلون الجراد على أجناسه والدبا على أجناسه والحرجوان على أجناسه والجندب على أجناسه» (لا22:11). وهناك مثل لاتيني يقول للذين يهيمون في الصحراء: لا ينبغي أن نذهب وراء الطعوم. ومعروف أن طعام الضفادع المشوية أكلة شهية لدى الفرنسيين، والجمبري shrimp ما هو إلا حشرة بحرية، كذلك الاستاكوزة lobester وهي من أشهر وأغلى الأطعمة. وهناك مثل سخيف يقول: كلُّ ما هو أصغر منك كله.

والقصد من ذكر طعام المعمدان هو البساطة المتناهية والاستغناء عن عالم الأطعمة والتعقف عن المشتهيات.

5:3 و6 «حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلَّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْأَرْدُنَ وَاعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الْأَرْدُنّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ»

لقد طار الخبر عنه في كل الدائرة التي بدأ يخدم فيها أن نبيًّا ظهر، «لأن يوحنا (كان) عند الجميع مثل نبي» (مت 26:21)، وتسابق الجميع في قبول العماد من يده معترفين بخطاياهم. ولكن بدون اعتراف بالخطية لا يعطي المعمودية. فالعماد لم يكن مجرد طقس أو عمل نعمة، ولكن ختم اعتراف بالخطايا. وكان العماد يحمل فعلا سريا بعمل النعمة يحس به الإنسان فيغمره الفرح ويصير آية لغيره، فكان التسابق على الاعتراف بالخطايا أمراً مفرحاً وجماعياً بلا حرج، بل كان تسابقاً أغرى أكثر الخطاة بالإسراع بالاعتماد وواضح لنا أن معمودية يوحنا كانت أول خطوة في زعزعة الثقة بالختان كعملية كفيلة بإعطاء ميراث إبراهيم، إذ دخل العماد على الختان ليصير العماد مصدر غفران للخطايا بالاعتراف، الأمر الذي يقصر دونه الختان. وتقهقر الختان أن يكون هو البر الذي يقدم إلى المسيح للعماد بالروح القدس للخلاص، ليحل مكانه العماد الذي يطهر من خطايا بانتظار الميلاد الجديد من الروح القدس، بحيث أن إجراء العماد وحده لا يفيد شيئاً إن لم يقبل المعمد الروح القدس: «هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم، قالوا له ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس. فقال لهم: فبماذا اعتمدتم؟ فقالوا: بمعمودية يوحنا فقال بولس: إن يوحنا عمد بمعمودية التوبة قائلاً للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده أي بالمسيح يسوع. فلما سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع. ولما وضع بولس يديه عليهم حل الروح القدس عليهم فطفقوا يتكلمون بلغات ويتنبأون (أع 19: 2-6). فهناك فارق هائل بين معمودية يوحنا ومعمودية الروح القدس يقارنهما ق. بطرس في رسالته الأولى هكذا : الذي مثاله (الفلك) يخلصنا نحن الآن أي المعمودية، لا إزالة وسخ الجسد ” بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح” (1بط 21:3). فمعمودية يوحنا إلى تطهير الجسد، ومعمودية المسيح بالروح هي بقيامة يسوع المسيح لقبول خليقة جديدة قائمة من الأموات بمثابة ولادة تقديسية ثانية جديدة من الماء والروح.

والمعمدان يركز بشدة أن غاية العماد ومغفرة الخطايا بالاعتراف عنده هي التغيير في السلوك السابق للعودة من عبادة الأوثان والزنا إلى الرجوع إلى الله الحي، وإلا فإنهم سيواجهون الغضب الآتي عليهم « الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله» (يو 36:3). ومعنى “يمكث عليه غضب الله” أي يبقى تحت حكم الموت واللعنة التي وقع فيها آدم وبنوه، هذا الذي رفعه المسيح بموته وقيامته ونلناه نحن بالمعمودية من الماء والروح والإيمان بالمسيح. فوضع عماد يوحنا وحده لا يرفع غضب الله، لأن الذي رفعه هو المسيح بموته وقيامته. إذن ما هي وظيفة المعمدان؟ هي إعداد القلوب للإيمان بمن سيأتي بعده !!

7:3 و8 «فلمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الفريسيِّينَ وَالصَّدُوقِيِّينَ يَأْتُونَ إلى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: يا أَوْلادَ الأفاعي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الغضب الآتي؟ فَاصْنَعُوا أَثماراً تَلِيقُ بالتوبة».

الفريسيون هم جماعة المعتزلة – فكلمة فريسي من فرز وأفرز نفسه – فهم الذين يتممون حرفية الناموس، وهم ورثة جماعة الحسيديم أي الأتقياء وهي طبقة قديمة من القديسين المشهود لهم بمخافة الله والتقوى. أما الصدوقيون فهم أولاد صادوق الكاهن أيام داود وسليمان، وهم محترفو الكهنوت وطبقة من الأغنياء الأرستقراطيين الذين لا يؤمنون بالقيامة ولا بالأرواح والملائكة أو الحياة الأبدية، ويعتقدون أن الروح تفنى مع الجسد، بعكس الفريسيين الذين يؤمنون بكل ذلك.

فيوحنا تعجب أن يأتي هذا مع ذاك، ورأى في إقبالهم على المعمودية نوعاً من الظهور بالتقوى أمام الناس ليظلوا بين المعمدين كما هم رؤساء ومعلمون وقادة. وهذا هو رياؤهم الذي ضجر منه المسيح. وهنا نعتهم المعمدان بأولاد الأفاعي، وهي شتيمة صعبة تلبسهم دينونة التخفّي لإيذاء الناس، والغش والخداع للسيطرة والترأس.

أما نعتهم: “بأولاد” الأفاعي فهو من قبيل ضم النسل كله إلى رأس الأفعى أي الشيطان.

«من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي»، «فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة»:

المعمدان هنا ينكر عليهم صدق مجيئهم وطلبهم للعماد، فهم لم يتحركوا خوفاً من غضب آت، بل طمعا في كسب موقف الأتقياء والمتجدّدين ليتاجروا به فهم في نظر المعمدان أبناء غضب، فكيف يهربون من الغضب. وعلى كل جعل محك توبتهم وتجددهم وعودتهم الصادقة إلى الله الثمار التي يقدمونها كأتقياء حقيقيين. فالتوبة لها ثمر ولها سلوك مشهود له، فالاعتراف الشكلي بالخطية لن يفيدهم شيئا، والعماد دون نية الرجوع إلى الله من طرق الشر والزنا وعبادة أصنام المال والغنى والرئاسة والأولوية لا يفيدهم بل يثبت خطاياهم. فالأساس في معمودية يوحنا هو التغيير الداخلي بتجديد الحياة والرجوع إلى الله الحي وتمجيد الله بالقول والعمل والسلوك.

9:3 «وَلَا تَفْتَكِرُوا أنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ لنَا إِبْرَاهِيمُ أباً. لأني أقولُ لَكُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاداً لإبراهيم».

هذا الفكر يكون عوض تقديم الثمار وحياة التقوى، حيث الاتكال على كونهم أبناء إبراهيم بالختان يغنيهم عن التوبة وثمارها. فهنا يطلع المعمدان بمبدأ خطير وهو أن الانتساب لإبراهيم لا يعوض عن الاعتراف بالخطية وقبول المعمودية للتوبة وتغيير الحياة والرجوع إلى الله الحي من الأعمال الميتة، وهنا ضمناً رجعة على قيمة الختان الذي لا يصلح أن ينجي الإنسان من دينونة الخطية وغضب الله. فهنا الانتقال من الختان كطقس للجسد إلى مغفرة الخطايا بالاعتراف والتوبة، وهو أول خطوة في الإعداد لعمل المسيا، أي الانتقال من الجسد واللحم إلى تجديد القلب والحياة. وهنا يظهر وعي يوحنا المعمدان في أن الميلاد الطبيعي من إبراهيم كنسل مختتن لا يضمن لأي عبراني حالة بنوة صادقة مستحقة لإيمان إبراهيم. أما كون الله قادراً أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم فهو قد سبق وأقام من التراب آدم أباً للبشرية. وبالتالي تنتقل القدرة إلى تحويل قلب حجري إلى قلب لحمي تائب خائف الله.

والذي لا يخضع لدعوة الله بالتوبة والعماد ومغفرة الخطايا فالبلطة مسلطة على أصل الساق.

10:3 «وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ النَّاسُ على أصل الشَّجَر، فكُلِّ شَجَرَةٍ لا تَصْنَعُ ثمراً جيداً تُقطع وتلقى في النار».

بمعنى أن يد الدينونة مسلطة على الرقاب، “الآن”. فهي فرصة توبة ومغفرة خطية وعودة صادقة إلى الله بحياة ندم عما فات، وفكر جديد منفتح لعمل المسيح القادم. وقد ثبت بالفعل صدق هذا الإنذار لأن الذي اعتمد تهياً للإيمان بالمسيح، والذي رفض المعمودية باعتبارها ليست من الله لم يستطع أن يقبل المسيح.
+ «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في مريبة مثل يوم مسة في البرية حيث جربني
آباؤكم.» (مز 95 7-9)
+ «اطلبوا الرب ما دام يوجد ادعوه وهو قريب، ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره وليتب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران.» (إش 6:55 و7)

هنا تعريف للتوبة أنها توبة إلى الله أي دعوة إلى الله.

وكما يشير يوحنا المعمدان إلى الفأس والنار ، يشير إلى الثمر الجيد لحساب الله والسماء فهو لا يتنبأ للشرير فقط بل يتنبأ لصانع الثمر الجيد أيضاً، وهو يضع الإنذار موضع الاختيار بين القطع والثمر، بين الموت والحياة. وإن كان عليه أن يُنذر ويُحدّر، كان عليه أن يبشر بالخير والتجديد وروح الحياة في الآتي بعده. وإن كان قد ولد وحل عليه روح الرب ليبشر بالتوبة ومغفرة الخطايا ومعمودية الرجوع إلى الله الحي، فبشارته من السماء كما ألمح المسيح، وهي باقية ونافذة المفعول، ولا يزال صوته يردّده الروح في برية القلوب لدعوة الخطاة، لا لمعمودية التوبة فقط بل لمعمودية الروح القدس أيضاً لنوال الحياة الأبدية مجانا «آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك.» (أع 31:16)

والمعمدان ليس هو النبي الوحيد الذي بشر بالتوبة لمغفرة الخطايا والعماد لرجعة القلوب إلى الله، واضعاً الفأس على أصل الشجرة، بل وجد أيضاً يوئيل النبي الذي بشر بحلول الروح القدس على كل بشر منادياً برجعة إلى الله يصنعها الروح بالفرح والتهليل: «ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى. وعلى العبيد أيضاً وعلى الإماء أسكب روحي في تلك الأيام …» (يؤ 2 28 و 29). فكل من يقبل المعمدان يقبل يوئيل، ومن يقبل المعمودية لمغفرة الخطايا يقبل سكيب الروح للتعرف على المسيح وقبول الميلاد من فوق. فالله في المعمدان يكره الخطية، وفي يوئيل يحب الخطاة، من فم الأول يأمر بالتوبة وبفم الثاني يعطي نعمته، الأول ينذر والثاني يعزي ولا يزال يوحنا يعمد في الكنيسة ويوئيل يسربل بالنعمة، ودموع الأول يمسحها الثاني. والمسيح يعمل بهذا وذاك، وطوباك يا يوئيل نبي الروح.

11:3 «أنا أعَمِّدُكُمْ بِمَاءِ لِلتَّوْبَةِ، وَلَكِن الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أنْ أَحْمِلَ حِدَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بالروح القدس ونار».

المعمدان قال هذا لينفي عن نفسه أنه المسيح !! فاعترف ولم ينكر وأقرَّ أني لست أنا المسيح. فسألوه إذا ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال لست أنا النبي أنت؟ فأجاب لا . فقالوا له من أنت لنعطي جواباً للذين أرسلونا (كهنة ولاويين) ماذا تقول عن نفسك. قال: أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب كما قال إشعياء النبي. وكان المرسلون من الفريسيين، فسألوه وقالوا له فما بالك تُعمّد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ أجابهم يوحنا قائلاً : أنا أعمد بماء ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي …» (يو 1: 20-27)

وغاية ما يقصده يوحنا هو أن يضع مقارنة بين شخصه وشخص المسيح، وعمله وعمل المسيح. فهو كما قال عن نفسه أرضي ومن الأرض يتكلم: «أنتم أنفسكم تشهدون لي أني قلت لست أنا المسيح بل إني مرسل أمامه. من له العروس (الكنيسة) فهو العريس (الذبيح) وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه يفرح فرحاً من أجل صوت العريس. إذا فرحي هذا قد كمل ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص. الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع والذي من الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلم الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع …لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله .» (يو 3: 28-34)

من هذا نفهم لماذا يقول: لست أهلا أن أحمل حذاءه لأن عمل المعمدان لا يرقى أكثر من دائرة الجسد «إزالة وسخ الجسد» أي رفع عمل الخطية عن الجسد، أما عمل المسيح فرفع الخطية عن النفس والجسد والروح كما بنار ، ليحل محلها الروح القدس للتقديس والتبني والمصالحة مع الله وميراث الحياة الأبدية. والفرق بين التطهير بالماء والتطهير بالروح القدس كالفرق بين غسيل الماء وتطهير النار . الأول كان سمة العهد القديم والثاني هو قوة العهد الجديد، على أساس أن النار هي نار الله، نار اللاهوت فعل الطبيعة الإلهية!!

«فطار إليَّ واحد من السرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح ومس بها فمي وقال: إن هذه قد مست شفتيك فانتزع إثمك وكفر عن خطيتك » (إش 6: 6 و 7)

ونار الله هي فعل الروح القدس في الطبيعة البشرية للتطهير والتقديس، فإذا لم تتطهر الطبيعة البشرية فإنها تتعرض للإحراق والإبادة الأمر الذي كشفه المعمدان في الآية القادمة.

12:3 «الَّذِي رَفشهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنقي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخزَنِ، وَأَمَّا التَّبْنُ فيُحرقه بنار لا تطفا».

المنظر أمامنا جرن قمح وصاحب القمح يعمل بالمذراة ليفصل القمح عن التبن. وهذا هو نفسه عمل المسيح، ليس في النهاية وحسب بل ومن الآن، والمذراة هي الروح القدس وعمله في الضمير، فالذي يخضع لمذراة الله ويقبل أن ينفصل عن أعمال الخطية والمعصية حسب قمحاً وطحينا يُصنع منه قربان وتقدمة، والذي تذريه الريح ووزن بالموازين فوجد ناقصاً فهو من نصيب النار، لا يُخبز به خبر أو تقدمة.

وكلمة لا تطفأ (= اسبستس) تحمل معنى العقوبة الأبدية وهي الحرمان من الله. والمسيح نفسه يضيف على عملية تذرية القمح في الجرن عملية غربلة الشيطان لأولاد الله: «سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة» (لو 22: 31) ، حيث الحبة الضامرة (الممعوطة) تسقط من عيون الغربال ولا تدخل في الطحين وتحسب مرفوضة.

عماد يسوع المسيح من يوحنا [13:3-17]

13:3 «حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الجَلِيل إلى الأردن إلى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ».

كلمة ” حينئذ ” هنا تفيد في تلك الأيام، والقصد منها مع نهاية مباشرة المعمدان لوظيفته. أما الزمن فيعتقد بحسب الرجوع إلى التواريخ التي سبق أن عالجناها فكان في أواخر سنة 26م أو بكور سنة 27م، عندما بلغ المسيح الثلاثين من عمره. ويضيف .ق. لوقا معلومة عن حركة المسيح في التقدم للعماد إذ أخر نفسه ليكون في نهاية المتسابقين لقبول التعميد: «ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضاً» (لو 3: 21). وهي لفتة هامة لأن وظيفة المسيح تبدأ حيث ينتهي المعمدان من إعداد الطريق أمامه، وهو بطبيعة الحال سيتعامل مع الذين انصاعوا لمشورة الله وقبول العماد من يوحنا بصفته صاحب معمودية من السماء ” بحسب تعبير المسيح معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس؟ (مر) (30:11). وهنا يذكر القديس متى أن المسيح جاء من الجليل، وق. مرقس يحدّد أكثر إذ يقول: من ناصرة الجليل”. ويحدد القديس يوحنا في إنجيله المكان الذي كان يعمد فيه يوحنا: «هذا كان في بيت عبرة في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد» (يو 1: 28). وهذا المكان يبعد قليلاً شمالاً عن البحر الميت بالقرب من المكان الذي كان يتعبد فيه الأسينيون ووادي قمران.

14:3 «وَلَكِنْ يُوحَنَّا مَنْعَهُ قَائِلاً: أنا محتاج أنْ أعْتَمِدَ مِنْكَ وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ !»

من غير المعقول أن يكون يوحنا المعمدان يجهل من جاء ووقف أمامه، فهو الذي ارتكض بابتهاج في بطن أمه أليصابات لما سمعت أمه صوت العذراء وهي حامل بالمسيح وكم وعى زكريا الكاهن ابنه يوحنا برسالته بالنسبة للمسيح، وكم أسرَّت أليصابات في أذنه بأن هذا الذي وُلِدَ من العذراء هو ربي ” وأمه هي أم أم ربي”. ونشأ الشاب يوحنا وهو يعرف لماذا جاء ولمن سيخدم ويهيئ الطريق. فلما ظهر المسيح أمامه وعرفه بالروح وعرف نية المسيح بالعماد منه جزع، وهو الذي قال لتوه إنه غير أهل أن يحمل حذاءه. فكيف ينحني المسيح تحت يديه ويقبل منه العماد؟ كان هذا أمراً شاقاً للغاية على نفس المعمدان أن يقبل هذا الوضع لولا أن المسيح هون عليه الأمر.

15:3 «فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ : اسْمَح الآن، لأنه هكذا يَلِيقُ بنا أنْ تُكَمِّلَ كُلَّ بِرِّ حِينَئِذٍ سَمَحَ له».

«اسمح الآن»:

لغة المسيح هنا، ولأول مرة نسمعه، تعطينا انطباعاً ينطبق مباشرة على ما علم به وقال: «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب» (مت 11: 29). كان رد المسيح هنا ليهدئ من روع المعمدان الذي وقف مرتبكاً بإحساس من يحتاج إلى العماد من المسيح وتوضع على رأسه هو اليد التي ستخدم الخلاص. والمسيح هنا لا يرد على تصاغر المعمدان من جهته، ولكنه ينبه المعمدان إلى وظيفته التي جاء ليؤديها، سواء بالنسبة للشعب أو للمسيح ذاته.

«لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر»

والبر هنا بالمفهوم الإنجيلي هو بر طاعة الله فيما أمر ، فهو أصل الطاعة وقوتها، ذلك بالنسبة للمعمدان وله (المسيح) ولكلِّ مَنْ سيؤمن ويطيع ويعتمد . فالمسيح هنا قام بافتتاح عهد الطاعة الله وتحديد قوة البر بمقتضاها لخدمة الملكوت. واختتم بر الطاعة بقبول الموت وهو المعمودية العظمى بصبغة الموت والتي بها افتتح باب الملكوت بالقيامة من الأموات. وهكذا جعلت الكنيسة معمودية الماء كباب أول ينفذ إلى طاعة المسيح، وحمل الصليب كمدخل إلهي للدخول في سر القيامة إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه.» (رو 8: 17).

هنا ينبه المسيح على لياقة أن يكمل المعمدان بر طاعته لأداء وظيفته التي استلمها من السماء، ويقبل أن يضع يده عليه، أي على المسيح، لكي يتمّم المسيح بدوره بر اتضاعه ونوال بر العماد من يده، الذي إنما هو يكمله ليعطيه مجاناً لكل بشر يؤمن ويعترف به. فنحن نحسب أننا اعتمدنا معه” ونلنا بر اتضاعه والاغتسال من خطايانا هنا مدخل للاهوت الفداء والخلاص ونوال بر المسيح!! فالمسيح لا يعتمد لنفسه ولا يقبل ويكمل بر العماد لذاته؛ ولكن الأمر داخل في سر تقديسه لذاته من أجلنا « ولأجلهم أقدّس أنا ذاتي» (يو 19:17) وبالتالي «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني.» (يو (22:17)

‏ «حينئذ سمح له»

وبهذا الأسلوب البديع أكمل المسيح والمعمدان برين بر الطاعة للمعمدان وبر الاتضاع والاغتسال للمسيح. ونعود وننبه أن المسيح لم يغتسل في الأردن لنفسه بل للبشرية التي جاء ليهبها قداسته وبره وحياته. وبمجرد أن أكمل المسيح بر الطاعة والتعميد انفتحت السماء وحل الروح القدس عليه للاستعلان: «وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله.» (يو 1: 33و 34)

16:3 و 17 «فلمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذا السَّمَوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فرَأَى رُوحَ الله نازلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ، وَصَوْتُ مِنَ السَّمَوَاتِ قَائِلاً: هذا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُررْتُ».

واضح من قول ق. متى بأن المسيح صعد من الماء أن العماد قد تم بالتغطيس، فالصعود من الماء يعني صعود الجسم كله وليس الخروج برجليه كما يحاول العلماء لقصد العماد بالرش. فالصعود من الماء يشير إلى حالة دفن في الماء كما ينص الطقس، ليكون الخروج أو الصعود تعبيراً عن القيامة أو تعبيرا عن حدوث تغيير من حال تحت الماء إلى حال جديد بعد الخروج الذي يقوم عليه معنى العماد. فكلمة “اعتمد” تعني غطس أو انصبغ كليًّا، بمعنى أخذ شكلاً جديداً أو لوناً جديداً. وصعوده في الحال من الماء كان لتكميل فعل العماد باستعلان الروح القدس.

«وإذا السموات قد انفتحت»:

كلمة ἰδοὺ, التي بدأ بها .ق. متى الجملة تفيد الإشارة إلى شيء مشاهد منظور، وهي بالإنجليزية Look لأنها أصلا مشتقة من فعل الرؤية . لذا نجد أن ترجمتها بكلمة “وإذا ” قاصرة عن إعطاء هذا المعنى لأنها ربما تعطي انطباعاً أن السماء انفتحت في قلبه ولكن ق. متى هنا يؤكد أن السماء انفتحت برؤية عينية، وهي بحد ذاتها معجزة. ولكن ليست هي المرة الوحيدة، فقد سمعناها عند ق. استفانوس عندما رأى السموات مفتوحة ورأى ابن الإنسان جالساً عن يمين الله (أع 7 : 56) وكذلك ق. يوحنا في بطمس (رؤ 4: 1 و 11 : 19 و 19 : 11) ، والقديس بولس – ولو أنه يقول أفي الجسد أم خارج الجسد – اختطف إلى السماء ورأى هناك ما لا يُرى (2کو 12: 1- 4).

وهنا يقرر المعمدان أنه رأى الروح القدس نازلاً على المسيح مثل حمامة. هنا رؤية يوحنا المعمدان للروح النازل عليه بهيئة حمامة منظورة هام للغاية، لأنه بحسب إنجيل ق. يوحنا هذه علامة من الله لكي يتعرف المعمدان على المسيح فرأى وعرف وشهد (يو 1: 33 و34). لذلك فنزول الروح القدس بهيئة منظورة – مع أنه ليست له أي هيئة منظورة – كان أساساً لإعطاء المعمدان العلامة ليتعرف على المسيح.

وإن كان قد قيل إن المسيح رجع من الأردن وهو ممتلئ من الروح القدس فهذا يستحيل فهمه على أن المسيح كان غير ممتلئ من الروح القدس قبل العماد وقبل حلول الروح القدس عليه، لأن الصوت الذي جاء من السماء من الآب يقول إن هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت، فالابن لم يكن في وقت ما غير ممتلئ من الروح القدس. أما حلول الروح عليه فكان حلول المثيل على المثيل، لم يزد المسيح شيئاً لم يكن له وإنما كان لاستعلان حقيقة شخص المسيا، ولافتتاح زمان خدمة المسيح بعمل الثالوث وحضوره الأب بصوته من السماء، والروح نازلاً عليه بهيئة منظورة، والابن يتلقى لحظة البدء بالعمل.

وقد اعتبر المسيح نفسه أن حلول الروح القدس عليه بمثابة مسحة للانطلاق للخدمة بحسب نبوة إشعياء :
+ «وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فدفع إليه سفر إشعياء النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه روح الرب علي، لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة. ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فابتدأ يقول لهم: إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم.» (لو 4: 16-21)

وبهذا التسجيل الفريد الذي حصل عليه ق. متى يكون قد جمع النبوة وطبقها على الواقع في نهر الأردن وبشهادة المعمدان، ومشروحة بفم المسيح، كل ذلك معا إنما بوضع إعجازي فائق. نستخلص منه أن الذي حدث بعد العماد بنزول الروح القدس عليه كان مسحة بالروح من السماء للخدمة وبإعلان الأب لبدء خدمة الخلاص.

ملخص الأصحاح الثالث:

يفتتح المعمدان عصر المسيا مؤكّداً أنه مجرد صوت صارخ لإعداد طريق الآتي بعده الأقوى منه، وهو يدرك تمام الإدراك دوره الأساسي في افتتاح البشارة بملكوت السموات. ويبدأ خدمة التعميد بالماء على أساس التوبة بمفهوم العودة إلى الله بعزم القلب وتغيير الحياة لترضي وجه الله استعداداً لقبول عمل المسيا الذي سيعمد بالروح القدس ونار. ولكن يُصر أنه ليس المسيا، بل أنه أرسل ليعد الطريق أمامه، لذلك نادى بكل حزم بالتوبة لمغفرة الخطايا. وبعدما عمد الشعب جاء المسيح ليعتمد من المعمدان نائباً عن البشرية كلها، أو بمعنى أصح حاملاً في جسده البشرية كلها ليعمدها بمعموديته ویهبها بر اتضاعه وبر عماده (تمهيداً لتكميل حكم الموت بها وحمل لعنة الصليب معها ليستوفي لها في جسده حكم الموت ولعنة غضب الله ليهبها سواء بمعموديته أو بموته على الصليب حكم براءة، ويمنحها بر قيامته لنوال حياة جديدة في شركة معه). وبخروجه من المعمودية تقبل من السماء الروح القدس بهيئة منظورة لكي يكون شهادة مدعمة من السماء، ومسحة مقدّسة لبدء الخدمة بصفته الابن المحبوب. وسواء المعمودية أو نزول الروح القدس عليه فهذا وذاك هو لحساب البشرية التي جاء ليعمدها بموته ويهبها الروح القدس بقيامته لنوال حياة أبدية فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى