يو٣: ٨ الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها…
“1كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. 2هذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ». 3أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ». 4قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ:«كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟» 5أَجَابَ يَسُوعُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ. 6اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. 7لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. 8اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ».” (يو3: 1-8)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“لا تتعجب إني قلت لك: ينبغي أن تولدوا من فوق”. (7)
“الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها،
لكنك لا تعلم من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب،
هكذا كل من وُلد من الروح”. (8)
كما أنه لا سلطان للإنسان على الريح الذي يهب ونشعر به دون أن نعرف أين يبدأ تمامًا ولا إلى أين ينتهي، هكذا الولادة بالروح لها قوتها وفاعليتها. هي عطية مجانية من قبل الله، لا سلطان لنا عليها، يوجهها الله، وهي تتمم كلمته (مز ١٤٨: ٨).
عمل الروح في المعمودية كالريح القوية التي تظهر من فاعليتها وآثارها. يعمل خفية سرائريًا، لكن أثره واضح في حياة المؤمن يتلامس معه كل النهار. “كما أنك لا تعلم طريق الريح.. كذلك لا تعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع” (جا 11: 5)
v إذ تكلم المخلص نفسه إلى تلاميذه في الهيكل قال: “قوموا ننطلق من ههنا”، وقال لليهود: “هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا” (مت 38:23). إن كانت السماء والأرض تزولان (لو33:21) فواضح أن كل الأشياء الأرضية حتمًا ستزول.
v بقوله”لا تتعجب” أظهر اضطراب نفس نيقوديموس، وقاده إلي أمر أخف من الجسد. لقد قاده بالفعل بعيدًا عن الجسديات بقوله “المولود من الروح هو روح“، وإذ لم يعرف نيقوديموس معنى ما هو هذا الذي يولد من الروح وهو روح قدم له بعد ذلك مثلا آخر، فلم يأتِ به إلى كثافة الأجسام، ولا تحدث عن أمور خالية من الأجسام تمامًا (لأنه لو سمع ذلك لما قبله)، إنما وجد شيئًا في الوسط ما بين الجسم وما هو خال من الجسم، “حركة الريح“. قال: “الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب” (8). يقول إن كانت الريح تهب حيث ما يلائمها لا يقول هذا كما لو كان للريح قوة الاختيار، إنما يعلن عن حركتها الطبيعية التي لا يمكن مقاومتها، وهي بذات قوة… تنتشر في كل موضع وليس من يصدها ولا من يعوقها في عبورها من هنا إلى هناك، إنما تعبر بقوةٍ عظيمةٍ، وليس من يقف أمام عنفها. “وتسمع صوتها” (8)، أي حفيفها وضجيجها، “لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من ولد من الروح” (8). هنا النتيجة النهائية لكل الأمر: يقول: “إن كنت لا تعرف كيف تفسر حركة هذه الريح وعبورها، التي تدركها بالسمع واللمس، كيف ترتبك جدًا أمام عمل الروح الإلهي، وأنت لا تفهم هذا عن الريح مع أنك تسمع صوتها؟
تفسير الأب متى المسكين
8:3- اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ.
هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ».
في اللغة العربية يصير كلام المسيح هنا, الذي يبرهن به على عدم قدرة الإنسان على ملاحقة عمل الروح القدس ومعرفة كيفية عمله, يصير فهمه صعباً نوعاً ما، لأنه في اللغة اليونانية التي كُتب بها الإنجيل واللغة العبرية وهي اللغة الأصلية التي تكلم بها المسيح, يأتي اسم «الروح» مطابقاً لاسم «الريح» حرفياً، بل حتى كلمة «يهب» الريح تأتي من أصل كلمة الريح.
ولكن القصد العام من كلام المسيح يمكن تشبيهه بشجرة هادئة وفجأة تجد أغصانها تتحرك وأوراقها تصفق وتسمع صوت الريح يتخللها بوضوح فتعرف أن الشجرة استهدفت لعمل الريح، ولكن لا تعرف من أين أتى الريح ولا إلى أين سيذهب، هكذا كل من وُلد من الروح، تظهرعليه علامات عمل الروح القدس بغاية الوضوح والقوة, في كلامه، في تصرفه, في فهمه، في حبه, في صبره، في اتضاعه، في شجاعته، في حكمته، في رؤيته للأمور الروحية وأمور العالم الحاضر. وباختصار تجده إنساناً آخر غير الذي كنت تعرفه، فتعرف بكل يقين أنه اُستهدف لعمل الروح القدس بالميلاد من فوث.
ولكن ليس قصد المسيح أن يوضح أن الميلاد الثاني من فوق يمكن شرحه تماماً، فهذا يبقى سراً لا يمكن أن يعرفه إلا الذي أخذه, ولكن شرح المسيح هو توضيحي يعتمد على المقارنة التي تبقى في حدود الجسديات. فالرياح لا تخرج عن كونها قوة طبيعية مادية: «كما أنك لا تعلم طريق الريح… كذلك لا تعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع.» (جا5:11)
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (8): “الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب هكذا كل من ولد من الروح.”
السيد يشرح له أن الولادة من الروح لها قوة غير منظورة للتغيير، ويتغير الإنسان ويصير إنساناً جديداً. كمن ولد من جديد. في العبرية واليونانية كلمتي روح وريح هي كلمة واحدة، وكلمة تهب من نفس أصل كلمة ريح والمعنى أنه كما تتحرك أوراق الشجرة فنعرف أنها تعرضت لريح، هكذا المولود من الروح تظهر عليه علامات عمل الروح القدس بغاية الوضوح والقوة في كلامه وتصرفاته وفهمه ومحبته وحكمته..الخ. هذا هو التغيير بالروح (رو13:8) ولكن ذلك لكل من يجاهد فيعين الروح ضعفاته (رو26:8). وهذا أيضاً ما أسماه بولس الرسول ختان القلب بالروح (رو29:2) أي إزالة الشهوات الخاطئة من داخل القلب كمن يقطعها بمشرط الختان.