صلوات مقبولة
للعلامة أوريجانوس
والمسيح يصلى ، وهو لا يصلى عبثا كما قد يظن البعض لأنه ينال كل ما يطلب، بل هكذا كان ينبغي للابن وهو في الجسد أن يقدم الصلاة للآب فاذا كان المسيح نفسه يصلى ، فمن منا ـ بعد ذلك ـ لا يبالي بالصلاة؟ معلمنا مرقس يقول : وفي الصباح باكرا جدا قام وخرج ومضى الى موضع خلاء وكان يصلى هناك(مر1: 35) . وفي انجيل القديس لوقا : واذ كان يصلى في موضع لما فرع قال واحد من تلاميذه(لو11: 1) وفي موضع آخر : وقضى الليل كله في الصلاة (لو6: 12). ويسجل لنا معلمنا يوحنا احدى صلوات المخلص فيقول : تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال أيها الآب قد أتت الساعة مجد ابنك ليمجدك ابنك ايضا (يو17: 1) ويقول في نفس الانجيل : وانا علمت أنك في كل حين تسمع لي(يو11: 42) مما يكشف لنا بوضوح أن من يصلى دائماً فصلاته ايضا مستجابة دائما.
ولن نستطيع هنا أن نستعيد كل النماذج التي يقدمها لنا الكتاب الذين قدموا صلواتهم كما ينبغي فنالوا الكثير والعظيم من احسانات الرب . ولكل واحد أن يختار لنفسه الكثير من هذه الأمثلة . بالصلاة حنة نالت صموئيل الذي اقترن اسمه باسم موسى النبي (إر15: 1 و مز98: 6) لأنها كانت عاقرا ثم صلت الى الرب بايمان وحزقيا الذي كان لا يزال بلا نسل ، صلى حين عرف من اشعياء النبي أنه سيموت ، ثم أدرج في سلسلة انساب المخلص وصدر أمر رهيب بسبب مكائد هامان ومؤامراته، وصار الشعب على وشك الابادة لولا أن ارتفعت أصوام وصلوات استير ومردخای فسمعت امام عرش الله وقبلت ثم أدت الى اضافة احتفالات مردخای الى الأعياد التي نص عليها موسي وهناك أيضا يهوديت التي قدمت صلواتها المقدسة وقضت على اليفانا بفضل معونة الله ، وبذلك استطاعت امرأة واحدة من العبرانيين أن تصم بيت نبوخذ نصر بالخزي والعار . ونقرا كذلك عن حنانيا وعزارياس وميصائيل الذين استحقوا ان تستجاب صلواتهم فتحميهم هبات الريح محملة بالندي من سعير النار ، وتمنع لهيبها من ان يكون له أي أثر عليهم والأسود في جب البابليين استطاعت صلوات دانيال ان تلجمها وتكممها. ويونان أيضا لم ييأس من ان يسمعه الله . فصلى من بطن الحوت الذي ابتلعه وبذلك نجا من بطن الحوت ، ووفى ما تبقى من كرازته النبوية لرجال نینوی.
واذا أردنا أن نذكر بالحمد تلك الاحسانات التي صنعها الرب معنا لكي نشكره عليها. فإن كلا منا لن يقوى على وضعها تحت حصر ، لان اعمال بره ورأفاته أكثر من أن يتناولها العد والاحصاء . والأرواح التي طال عليها الزمن في جدب بلا ثمر ، عندما تحققت ما تعاينه اذهانها من جفاف وما حل بأفهامها من عقم . جاهدت بالصلوات المتواترة حتى استطاعت ان تمتلىء بالروح القدس واثمرت فيها كلمات الخلاص المفعمة بالمعرفة الحقيقية. ولما كان من المحتم علينا أن نواجه العدو الذي يريد أن يجردنا من ايماننا المقدس، فلا بد لنا أن نستمد شجاعتنا من هذا الايمان ونستطيع بفعل الصلاة أن نجندل قوات الخصم العنيد . قد يضع البشر ثقتهم في معدات القتال الأرضية، البعض يتكل على عرباته والبعض الآخر على خيله أما نحن فباسم الرب الهنا ندعو لأننا نعلم أن من الباطل ان نتكل على الفرس للخلاص.
وفي اغلب الأحيان ، يستطيع المؤمن أن يشتت اعظم قوات العدو وجبروته بفضل ايمانه الذي تعبر الصلاة عنه في الشكر والتسبيح . وعلى العكس مد نجد أن المناقشة والفهم الخادع الذي يبدو مستحبا ومقبولا انما يؤديان الى الضعف وذور العزيمة حتى بين المؤمنين . ان اسم يهوديت يعبر عن احساسات قلبها فان هذا اسم اذا ترجم يعني الثناء . ولا حاجة بي ان اعدد لكم أبطال الايمان الذين اعترتهم تجارب تفوق طاقتهم ، بل ولعلها أكثر احراقا من أى لهيب ، ومع ذلك لم يصبهم منها ضر ولا أذى ؟ ! لقد جازوها جميعاً دون أن تمسسهم النار بأي أذى ، ودون أن تلفحهم حتى رائحة النار. كم من الحيوانات المتوحشة والضواري الكاسرة ثارت وهاجت ضدنا ـ سواء من الأشرار أو من الأرواح النجسة ـ فواجهناها بقوة الصلاة فكبحنا جماحها حتى لم تعد لديها القدرة أن تنشب انيابها في الأخوة الذين يعيشون بيننا اعضاء في المسيح. ففي كل قصة من قصص القديسين ، نستبين كيف هشم الله أسنان الأسود وصارت هادئة كالماء المنساب. كما نقرا في امثلة أخرى عن بعض الذين ضعفوا وهربوا من وصايا الله ، عندما دفعوا الى الموت الذي شدد قبضته عليهم ، ومع هذا نجوا من هذا المصير المرعب بالتوبة والندم . فهم لم ييأسوا من امكانية خلاصهم حتى وان القوا في هـوة الموت. اذا ابتلعهم في سطوته وقوته ولكن السيد الرب مسح كل دمعة من دموعهم.
عندما عددت اسماء الذين استفادوا من الصلاة ، فلم يكن ذلك الا مجرد سرد الحقائق المقررة والمباديء الثابتة . ولكن اتجه الآن الى الساعين الى حياة الروح في المسيح ، لكي لا يطلبوا في صلواتهم الأمور الأرضية العديمة القيمة ولكني أسعى سعيا حثيثا أن ادعو الأخوة الى الدخول الى اسرار الروح التي ضربت لها هذه الأمثلة حتى يحتذوا بها ويتمثلوها في صلواتهم فالصلاة التي ترفعها الى السماء وتلتمس فيها عطايا الروح واسراره لا تستطيع أن تقدمها وأنت تحارب حسب الجسد. وانما تحصل على هذه القدرة اذا كنت بالروح تقتل أعمال الجسد، فالمواهب التي تصدر عن الفهم الروحي والحكمة الروحية لا تعادلها أي عطية مما قد يبدو انك تناله نتيجة لصلاتك حسب الحرف[1].
ولذلك فجدير بنا أن نتجنب الجفاف والعقم بأن نتعهد أنفسنا بالتدريب حتى اذا ما صرنا روحيين ، تنفتح آذاننا لقانون الروح ، وحينئذ يستجيب لنا الرب ونخلص من العقم والجفاف كما انعم على حنة وحزقيا، وننجو من شرور اعداءنا الروحيين كما حدث مع مردخای واستير ويهوديت .
ولما كانت مصر تشير رمزيا الى مكان عالمي ، فقد وصفها الكتاب بأنها فرن من حديد وكل من يهرب من شرور الحياة البشرية ، ولا يحترق بالاثم ، ولا يلتهب قلبه بنار الأتون ، لا بد له أن يقدم الشكر الجزيل الى الله ، لأنه لا يقل عن المجربين في أتون الندى اذ جعل الملاك وسط الأتون كهبوب ريح محملة بالندى ( دا3: 50 ) ومن يصلى قائلا : لا تسـلم للوحوش نفس المعترف لك تسمع صلاته وتستجاب ولا يصيبه اذى الحيات والأفاعي لأنه تمكن بالمسيح أن يمشى وأن يطأ تحت قدميه الأسد والتنين، اذ يستعين بالسلطان المجيد ، الذي يهبه المسيح للمؤمنين به ، لکی ندوس الحيات والعقارب وكل قوات العدو. ولا يمكن أن يحل به سوء بسببها . مثل هذا الانسان لا يملك الا أن يفيض قلبه بالشكر والتسبيح ولعله يزيد على دانيال كثيرا لأنه تخلص من وحوش أكثر ضراوة وأشد فتكا من أسود دانیال واذا ادرك القارىء ـ ما يشير اليه الحوت الذي ابتلع يونان ، وما يقصده أيوب حين قال : ليلعنها ( أي الليلة التي حبل فيها بأيوب ) من يلعن اليوم ( الذي ولد فيه ) ذاك الذي تهيـاً لاخضاع التنين العظيم – لعلم أن شيئا من هذا ما كان ليحدث لو لم تكن هناك خطبة ، فبدون المخالفة ما دخل يونان بطن الحوت (٢٩) وهكذ يوقن أنه لا خلاص ولا سلام له ان لم يتب عن شره ثم يتضرع حتى ينـال الغفران . وعندما يخلص ويلازم قانون الطاعة لوصايا الله ، يتمكن بصلاة الروح أن يتنبأ حتى لرجال نينوى الذين حكم عليهم بالهلاك ويصبح لهم سبب خلاص اذا لم يتبرم بصلاح الله طالبا اليه الا يرجع عن حمو غضبه على الذين تابوا عن خطاياهم.
والمعجزة الكبرى التي قيل عن صموئيل انه حققها بالصلاة ، ما زال في الامكان ممارستها وانجازها حتى الآن روحيا بل ويستطيع ان يقوم بها ای شخص يتوفر لديه الايمان الصادق بالله مما يؤدى الى استجابة صلاته لأنه مكتوب : قفوا الآن وانظروا هذا الأمر العظيم الذي يعمله الرب أمام عيونكم . اليس اليوم هو حصاد القمح ؟ سأطلب الى الله فيرسل رعدا ومطرا وبعد ذلك بقليل يقول : وصرخ صموئيل الى السيد الرب وأرسل الرب رعدا ومطرا في ذلك اليوم والرب يوجه خطابه الى كل قديسيه وتلاميذه الأمناء : ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول ، انها قد ابيضت للحصاد ، والحاصد يأخذ أجره ويجمع ثمرا للحياة الأبدية وفي وقت الحصاد هذا ، يعمل الرب عملا عظيما امام اعين كل الذين يسمعون انبياءه اما من يتزين بالروح القدس ، فمن يدعو الرب فان الله يعطيه من السماء رعدا ومطرا يسقى روحه العطشي ، فالذي كان قبلا يحيا في الشر بسلك في مخافة الله كما يخشى الخادم صلاح سيده ومحبته فيشعر في قرارة نفسه بالتقـوى والوقار بفضل النعمة التي فاضت عليه .
وفي قصة ايليا ، نرى السماء وقد أوصدت أبوابها في وجوه المستهترين والمستبيحين ثلاث سنين وستة اشهر ، ثم انفتحت أخيرا بواسطة كلمة الرب. هذه هي النعمة الغنية التي يمكن لكل انسان ان يحصل عليها ، اذ استقى من المطر الذي يفيض ريا على روحه بالصلاة بينما كانت الخطية فيما مضى تقف دونه حائلا يمنع هذه النعم والخيرات.
- يقصد أوريجانوس بهذا ، التفسير الروحي للكتاب المقدس ، وهو يستخدم الكثير من الاصطلاحات للدلالة على هذا المعنى وهو يرى ان نصوص الكتاب المقدس يمكن تفسيرها على ثلاثة وجوه :
(أ) المعنى الرمزي Allegoric ولعل اوريجانوس يعتبر من أساتذة هذه المدرسة في التفسير ، التي نجد آثارها بادية في كتابات آباء القرون الأولى الذين تتلمذوا على يديه أو على كتاباته
(ب) التفسير الأدبي او الأخلاقي وهذا يستخلص المعنى الأدبي من كل نص من نصوص الكتاب : Tropologic That interpretation of Scripture which reads moral meaning into any and every passage.
(ج ) التفسير الروح The mystical interpretation or hidden sense anagogic, of words =
اي الكشف عن المعنى الباطني أو السري الذي تتضمنه الكلمات ويرى البعض أنه يقسم التفسير الى رمزى وروحي فقط . الا ان هذه طلاح المفهومات الثلاث تتمشى مع ما توحی به الینا مدلولات الجسد والنفس والروح . وتستعمل الكلمة اليونانيـة anagogy – وهي أفلاطوني ـ يشير الى : الطريق الى اعلى او السمو . وليس معنى هذا أن كل فقرة تحتمل انواع التفسير الثلاث . فبعض النصوص لا تحتمل التأويل الحرفي اطلاقا ، والبعض الآخر ـ مثل الوصايا العشر ـ لها قيمتها الاخلاقية بحيث لا تسمح بالبحث عن معنى آخر . والتمايز بين هذين النوعين في التفسير لا يوجد بينهما حد فاصل قاطع ، لأن هناك من النصوص ما تتداخل فيها الظلال ، وأطياف رقيقة للغاية . الا ان هناك نصوص يمكن أن تتحدد فيها المفاهيم بطريقة قاطعة مما يبين لنا بالضبط ما يقصده اوريجانوس مثل حبة الخردل فهي تشير الى ( أ ) البذرة فعلا ، (ب) الايمان . ( ج ) ملكوت السموات .