تفسير المزمور 7 للقديس أغسطينوس

عظة في المزمور السابع
صمت يسوع المسيح

هذا المزمور هو نشيد الروح التي بلغت الكمال، والتي يكشف لها الإيمان أسرار الألم المغلقة على اليهود والخطأة الحاليين. وهو الصامت تجاه يوضاس، ولماذا أراد، هو الصالح، يتضمن صبر يسوع أن يتألم .

مزمور لداود رنّم به للرّب بسبب كلمات كوش البنيميني (۷: ۱)

۱ – من السهل أن نعرف من خلال رواية سفر الملوك الثاني (٢ صموئيل ١٦ و ١٧)، ما الذي أوحى بهذه النبوءة. فالرواية تُخبرنا بأنّ «كوش» صديق الملك داود، تحوّل إلى صفوف أبشالوم المتمرد على أبيه، لكي يستكشف مخططاته، ويُخبر داود بجميع المكائد التي كان يحوكها ذاك الإبن ضدّه بالتآمر مع أحيتوفّل الذي خان عهد الملك، ليدعم بكل نصائحه الابن المتمرد. وفي هذا المزمور، ينبغي النظر إلى الرواية كرواية أقل من النظر إليها كحجاب يُلقيه النبي على سرّ عظيم. 

 فلنرفع ذاك الحجاب، ما دمنا انتقلنا إلى المسيح. ولنر أولا ما تحمله الأسماء من معانٍ ؛ ذاك أنّنا لم نعدم من يُفسرها لنا، لا بالحرف وبصورة مادية، بل بمعنى مجازي نعرف من خلاله بأنّ «كوش» يعني الصمت، و«البنياميني»، «ابن اليمين»، و«أحيتوفّل»، «هلاك الأخ». وهي تسميات تعيد إلينا مشهد الخائن يوضاس الذي يُمثله «أبشالوم» الذي يعني سلام أبيه والحال فإنّ داود احتفظ في قلبه، على الدوام، بعاطفة السلام تجاه ابنه المملوء قلبه بالمكائد ومشاعر التمرّد، على ما جاء في شرح المزمور الثالث وكما رأينا يسوع المسيح، في الإنجيل، يدعو تلاميذه بالأبناء (مت ۹: ١٥)، نراه أيضًا يدعوهم إخوة. فبعد قيامته، يقول الربّ للمجدلية : «إمضي بشري إخوتي» (يو ۲۰: ۱۷) . والقديس بولس يدعو يسوع المسيح بكرا ما بين إخوة كثيرين (رو۸: ۲۹) ،وعليه ،بوسعنا، أن نشير إلى هلاك التلميذ الذي خان، وندعوه هلاك الأخ بحسب المعنى الذي سبق أن ذكرناه لـ «أحيتوفل». و«كوش» الذي يعني «الصمت» يدلّ، حقا، ، على الصمت الذي قابل به السيد المسيح غدر أعدائه، ذلك السر العميق الذي ضرب بالعمى قسما من إسرائيل ممّن كانوا يضطهدون الربّ، إلى أن دخل جمهور الأمم في الكنيسة، فنال الخلاص بعدها جميع إسرائيل. ولدى تطرّقه إلى تلك الأعماق الخفيّة، وإلى ذلك الصمت الرهيب، يصرخ الرسول كمن صعقه الهول لدى رؤية تلك الأسرار : يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه ما أبعد أحكامه عن الإدراك، وطرقه عن الاستقصاء من عرف فكرَ الربّ ومن كان له مشيرا ؟ (رو ١١: ٣٣، ٣٤) . إنّ الرسول لا يُعرّفنا بذلك الصمت العميق بقدر ما يدعونا إلى التأمل فيه. ففي صمته هذا يُخفي الربّ سرّ آلامه المقدّسة، ويُدخِلُ في آفاق عنايته الرؤوفة، هلاك الأخ الإرادي، وجريمة الخائن البشعة، لكيما بموت إنسان واحد أعدّ له الخائن يوضاس، يصير الخلاص لجميع الناس، بحكمة المخلّص التي لا يدانيها وصف. إنّ هذا المزمور هو، إذا ، ، نشید روح بلغت الكمال، وباتت مؤهّلة لمعرفة سر الله. وهي تنشد كلمات «كوش»، كلمات ذلك الصمت الذي استحقت أن تعرفه ذاك أنّه حقًّا، صمت وسر مُغلق على الكافرين وعلى مضطهدي المسيح. أما الذين قال لهم يسوع المسيح : «لا أدعوكم بعد عبيدا ، لأنّ العبد لا يعلم ما يصنعه سيّده، بل أدعوكم أحبائي، لأني أعلمتكم بكل ما تعلّمته من أبي» (يو ١٥: ١٥). فليس من صمت، بعد، على أحبّاء المسيح هؤلاء، بل كلمات الصمت، أو كشف سرّ المسيح الذي أعطاهم الله أن يلجوه ويعرفوه. هذا الصمت، أو «كوش»، هو الذي يُدعى «البنياميني» أو إبن اليمين. ذاك أنه ما كان ينبغي أن يُحجب عن القدّيسين ما صنعه من أجلهم، ومع ذلك، قيل : إنّ يسارنا يجب ألا تعلم ما صنعته يميننا» (مت ٦: ٣). إن النفس الكاملة التي أدركت ذلك السرّ، تُنشد، إذًا، هذه النبوءة: بسبب كلمات كوش أو بسبب معرفة ذلك السرّ الذي كشفه لنا، بنعمة خاصة، الله الذي هو اليمين من هنا يُدعى ذلك الصمت ابن اليمين، أو كوش البنياميني.

٢ – “أيها الرب إلهي بك اعتصمت فخلّصني من جميع مضطهدي وأنقذني” (۷: ۲) لكلّ حرب وتمرّد على الرذائل الغلبة، والنفس الكاملة التي لم يعد أمامها سوى محاربة إبليس الحاسد، تهتف: «خلّصني من جميع مضطهدي وأنقذني لئلا يختطف كالأسد نفسي» (۲:۷). ويقول لنا القديس بطرس : «فإنّ إبليس، خصمكم، كالأسد الزائر يجول ملتمِسًا من يبتلعه (۱بط ٥: ٨). كذلك النبي بعد أن يقول: «خلّصني من جميع مضطهِديَّ»، بصيغة الجمع، يتابع بصيغة المفرد فيقول : لئلا يختطف كالأسد نفسي»، لا «لئلا يختطفوا» لأنّه لا يجهل العدو الذي يبقى عليه أن يقهره الخصم المرعب لكلّ نفس كاملة. ويفترسُها ولا منقذ»، أي لئلا يختطف نفسي فلا تفتديها ولا تنقذها . ذاك أنّ إبليس يختطفنا إن لم يفتدينا الله ويُخلّصنا.

٣- والذي يُبيّن لنا أنّ هذه اللغة هي لغة النفس الكاملة، التي ليس عليها أن تخشى سوى شباك إبليس وحبائله، فهي الآية التالية: «أيها الرب إلهي، إن كنتُ قد صنعتُ ذلك (٧ : ٤). ما معنى «ذلك»؟ فهل أراد، إذ لم يُسم أي خطيئة ، أن يُسمّي الخطايا كلّها؟ إذا أقصينا هذا المعنى، فلنربط العبارة بما يليها ؛ وكما لو اننا سألنا النبي ماذا يقصد بـ «ذلك»، يجيبنا : «أو كان في يديَّ سوء ( ۷: ٤). لكنّه يُبيِّن لنا أنه يقصد أن يتكلّم عن كلّ خطيئة، لأنّه يقول: «أو جزيتُ شرًّا بشر» (۷: ٥)، وهو كلام لا صحة له إلا إذا خرج من فم الكاملين. والحال، فإنّ الرب يقول لنا : كونوا كاملين مثلما هو كامل أبوكم السماوي الذي يُشرق شمسه على الأخيار والأشرار ويُمطر على الأبرار والأئمة (مت ٥: ٤٥، ٤٨) . كامل هو، إذًا ، من لا يردّ شرا بشر. والنفس الكاملة تُصلّي وتقول : بسبب كلمات كوش البنياميني»، أي من أجل معرفة ذلك السر العميق، وذلك الصمت الذي كتمه يسوع المسيح ليُخلصنا بمحبته الرحيمة ،وبمعاناته بكامل الصبر، غدر من خانه . كما لو ان المخلّص أراد أن يكشف له أسباب ذلك الصمت بقوله : «لأجلك أنت الآثم الخائن، ولكي أغسل بدمي آثامك، صمت الصمت الأعظم، وصبرت الصبر الجميل واحتملت أن أبقي الخائن بقربي؛ أفلا تتعلّم أنت، على مثالي، ألا تقابل الشر بالشر؟. إنّ هذه النفس، إذ تُدرك وتقدر ما صنعه المخلّص من أجلها وتقتدي به وتسلك سبيل الكمال، تقول الله : «لو اني جزَيت شرًا بشرّ وسلبتُ من ضايقني على غير سبب»،  ولو اني لم أتبع في أعمالي تعاليمك المقدّسة، «فليضطهد العدو نفسي ويُدركها، وليطأ في الأرض حياتي، ويُعفّر في التراب مجدي» (۷: ٥) محق هو ألا يقول: «لو انتقمت للشرّ الذي صنعوه بي»، وأن يكتفي فيقول: «لو انّي جَزَيتُ شَرًّا بشر»، ما يعني أنه صبر على الشر. والصبر الأعظم هو على من قابل إحسانك بالإساءة، ومعروفك بالغدر والنكران. لو اني جزيتُ شرًّا بشر ، أي لو لم أقتد بك في صمتك، أو بالأحرى بطول أناتك في معاملتي، فليهو مجدي تحت ضربات أعدائي. الإنسان، كلّ إنسان يحمل في قلبه تبجحا باطلا، ويسعى إلى الإنتقام من الآخر. يُحاول أن يُخضع خصما، وهو في داخله خاضع لإبليس؛ والفرح الذي يشعر به كما لو كان امراً لا يُقهر، ينزع منه كل استحقاق . فالنبي يعلم جيّدًا ما الذي يجعل النصر أوفر مجدًا وما يُجزينا أبونا الذي يرى في الخفاء (مت ٦: ٦). ولئلّا يُجزي الشرّ بالشر، يسعى إلى قهر غضبه، لا إلى الإنتقام من خصمه، لأنه يعلم ما جاء في الكتاب : من قهر غضبه خيرٌ ممّن يسود على مدينة (أم ١٦: ٣٢ بحسب السبعينية). إذًا ، إن جزيتُ شرا بشر فليهو مجدي تحت ضربات أعدائي». ويبدو أنه وصل إلى استنزال اللعنة التي هي أخطر الأيمان التي يُطلِقُها إنسان : «الموتُ لي إن كنت مُذيبا» . غير أنّ استنزال اللعنة من فم إنسان يدعو بأغلظ الأيمان، يختلف عنه، في مفهوم نبي يُنذر بالبلايا التي ستلحق لا محالة، بالإنسان الذي يجزي شرا بشر، ولا يستمطرها لا عليه هو، ولا على الآخرين.

٤- “فليضطهد العدوّ نفسي ويُدركها” (٧: ٦). مرّةً بعد، يتكلّم النبي عن عدوّه بصيغة المفرد، ويُبيّن له أكثر فأكثر ذاك الذي كان يُمثله للوقت على صورة أسد ؛ ذاك العدوّ الذي يُلاحق النفس ويضطهدها ويسود عليها بعد أن يغويها. بوسع البشر أن يُمارسوا القمع إلى حد قتل الجسد ؛ لكنّ ذاك الموت الخارجيّ لا يُخضع لهم نفسنا، فيما الشيطان يُخضع النفوس التي يلاحقها ويُمسك بها . «وليطأ في الأرض حياتي»، أي فليجعل حياتي ترابًا يُقيتُه . لأنّ ذلك العدوّ لا يُدعى أسدًا فحسب، بل أيضًا حية؛ إذ قال لها الربّ : تأكلين التراب»، كما قال للإنسان الخاطئ: أنت تراب وإلى التراب تعود (تك ٣: ١٤، ١٩). “ويُعفّر في التراب مجدي”، في ذلك التراب الذي تذريه الريح (مز ١: ٤) ، لأنّ صلَفَ المتكبّر السخيف الباطل ، إن هو إلا ورم هش واه، وغمامة من غبار تلفحها الريح بحق يطلب النبي مجدا أصلب وأثبت، لا يستحيل ترابا ، بل يبقى راسخا في الضمير وأمام الله، ولا يُعاني من صلف. يقول بولس الرسول : من افتخر فليفتخر بالربّ» (۱كو ۱ : ۳۱). وهذا الثبات يستحيل ترابًا عندما يزدري الإنسان سرّ الضمير الذي يؤيّدنا به الله وحده ساعيًا إلى استجداء رضا الناس. من هنا كلمات الكتاب : “الله يُحطّم عظام الذين يبتغون رضا الناس” (مز ٥٢: ٦). أما الذي يعرف، لأنه اطلع أو اختبر بأي طريقة يُذلل رذائلنا ، يعرف جيّدًا أنّ رذيلة الكبرياء هي الوحيدة، أو أقله الأولى التي يخشاها الإنسان الكامل. إنها الخطيئة الأولى التي سقطت فيها النفس، والأخيرة التي تقوى على قهرها . فالكبرياء أوّل الخطايا» وأوّل كبرياء الإنسان ارتداده عن الله (يشوع بن سيراخ ١٠ : ١٤، ١٥).

ه -“قم يا ربّ بغضبك“(۷: ۷) . كيف يبلغ الأمر بذلك الإنسان الذي اعتبرناه كاملا، حدّ حثّ الله على الغضب؟ أو ليس الكمال، بالأحرى، صفة الذي يقول: يا ربّ لا تقم عليهم هذه الخطيئة»؟ (أع ٧: ٥٩). لكن، أعلى الناس تُستمطَرُ لعنة النبي تلك؟ أفلا تقع، بالأحرى، على إبليس وملائكته الذين يستحوذون على الخاطئ والظالم. بعاطفة من الرحمة، لا بشعورٍ من غضب، نسأل الله الذي يُبرّر الخاطئ أن ينتزع تلك الفريسة من فم الشيطان. لأنّ تبرير الخاطئ يكون في انتزاعه من الخطيئة إلى البرّ، وفي تحويل إرث إبليس إلى هيكل الله. ولما كان انتزاع فريسة ممّن يسعى إلى التشبث بها يُشكّل قصاصا له، فإنّ النبي يُسمّي غضب الله ذلك القصاص الذي يرشق الله به الشيطان، بانتزاعه منه من يمتلكهم . قم يا ربّ بغضبك» : «قم» أي أطل، وهو تعبير مجازي، لكنّه مألوف في كلام الناس، كما لو انّ الله ينام إذ يُخفي عنا مخططاته. “وحلّق فوق صفوف أعدائي”، أي في ما هو واقع تحت سلطان إبليس وبذا يريد النبي أن يبسط الله سلطانه عليها، أي أن يُكرم ويُمَجَّد هو، بدلا من العدو، بتبريرالخاطئ، وبإنشاده ترانيم الظفر . قم أيّها الرب إلهي ، بحسب قضائك» أي تجلَّ متضعا، ما دمت توصي بالتواضع أتِمَّ أنت قبلنا وصيتك، لكيما يقضي مَثَلُك على الكبرياء، فلا نكون تحت سلطان إبليس الذي نفخ الكبرياء ضد وصاياك، حين قال: «يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة» (تكوين ٣: ٥).  

٦- “فلتُحِط بك جماعة الأمم” (۷: ۸) إن جماعة الأمم هذه يُمكن أن تفهم على أنّها الشعوب التي آمنت، أو الأمم المضطهدة، لأن تواضع مخلصنا كان له نصيب بكليهما، إذ أحاط به المضطهدون الذي كانوا يزدرون تواضعه، وعنهم قيل ” لماذا اترتجت الأمم وهذَّت الشعوب بالباطل» (مز ۲: ۱) فالذین آمنوا بمقتضى ذلك التواضع أحاطوا به حتى أمكن أن يُقال بكثير من الحق: «إنّ قسما من اليهود قد أصابهم العمى لكي يدخُل الكنيسة جماعة الأمم” (رو ١١: ٢٥). وفي مكان آخر : “سلني فأعطيك الأمم ميرانا لك وأقاصى الأرض ملكا لك” (مزمور ۲، ۸) . ولخيرها عُدْ فوقها إلى الأعالي»، أي لخير تلك الجماعة؛ ونحن نعلم أن الربّ صنع تمجد، وهب الروح القدس الذي ما كان لينزل قبل أن يدخل يسوع في مجده، على ما جاء في الإنجيل : «إذ لم يكن الروح قد أعطي بعد، لأنّ يسوع لم يكن قد مُجد (يو ٧: ۳۹). إذًا، بعد أن ارتفع إلى السماء، لخير جماعة الشعوب أرسل الروح القدس الذي امتلأ به المبشرون بالإنجيل ،الذين بدورهم ملأوا العالم بأسره بالكنائس.

٧- إنما جملة قم ياربّ بغضبك، وحلّق فوق صفوف أعدائي»، يُمكن أن تفهم أيضًا قم بغضبك وازرع الجهل في أعدائي لئلا يُدركوك ؛ إذ ذاك، حلّق أو ارتفع تعني : حلّق إلى علوّ يستحيل معه أن يُدركوك ؛ وهذا ما يتصل بالصمت المذكور آنفًا . وهناك مزمور آخر قال بشأن ذلك الإرتفاع: “ركب على كروب وطار… وجعل الظلمة حجابًا له” (مز ۱۷: ۱۱، ۱۲) . كانت تلك الظلمة تحجبك عمّن حالت آثامهم دون أن يعرفوك فصلبوك؛ وها هي جموع المؤمنين تحيط بك. اتضع السيّد المسيح فارتفع، ولم يُدرك. كذاك يُفهم معنى جملة «إرتفع كما أمرتَ بالقضاء أي بحسب الشريعة التي أقمتها . وباتضاعك الظاهري حلّق وارتفع بحيث يعجز أعدائي عن إدراكك . لأن الخطأة أعداء البار، والأثمة أعداء الرجل التقي. ولتحط بك جماعة الأمم»، لأنّ ما يدفع من لا يعرفونَك إلى صلبك، سيدفع الأمم إلى الإيمان بك، فتعبدك جماعات الأمم. لكن، إذا كان هذا، حقًا، معنى الآية التالية، فعلينا بالأحرى أن نغتم، بفعل الشعور الذي ينتابنا ونحن على هذه الأرض، بدلا من أن نبتهج لأننا فهمناه. والحال فإنّ التتمة تقول : وبسببها عُدْ إلى الأعالي، أي لأجل جموع الناس الذين تضيق بهم كنائسك ارتفع إلى فوق او كفَّ عن أن تُعرَف. ماذا يقصد بجملة : «بسبب هذا الجمع ؟ – أي أنّ هذا الجمع مزمع أن يُهينك، مبررًا بذلك كلام الإنجيل : إذا جاء ابن البشر، فهل يجد الإيمان على الأرض (ل ۱۸: ۸) كما قيل بشأن الأنبياء الكذبة والهراطقة: ولكثرة الإثم تبرد المحبّة من الكثيرين» (مت ٢٤: ١٢). والحال، فإنه عندما تعمّ الخطيئة في قلب الكنيسة، أو في جماعة الشعوب، بصورة رهيبة، بدأنا نراها متفشية من اليوم في جزء كبير، ألن يكون الوقت قد حان لكي نشعر بالجوع إلى الكلمة التي بشر بها نبي آخر؟ (راجع عا ۸: ۱۱). أما تلك الجماعة التي عظمت آثامها، وأشاحت بعيونها عن نور الحقيقة، ارتفع الله إلى الأعالي، لكيما لا يعود الإيمان الخالي من كل شائبة ومن كل فكر منحرف، فيوجد في أي مكان آخر، سوى في العدد القليل الذي قيل عنه : «طوبي لمن يصبر إلى المنتهى، فإنّه يخلص»؟ (مت ۱۰: ۲۲). إذًا، بحق قيل : بسبب تلك الجموع، إرتفع إلى الأعالي». عُدْ إلى أعماقك الخفية، بسبب جماعة الشعوب تلك التي تحمل اسمك ولا تعمل أعمالك .

۸- سواء اعتمدنا هذا المعنى أو المعنى الأوّل أو أي تفسير يتمتع بالقيمة نفسها أو يفوقها، فإنّ النبي لا يقول من غير حق “إنّ الربّ يدين الشعوب” (۷: ۹) فإذا فهمنا بالإرتفاع إلى الأعالي أن الربّ قام ليرتفع إلى السماء، كان بوسعنا أن نقول بحق إنّ الرب يدين الشعوب، لأنه سينزل من السماء ليدين الاحياء والاموات. وإذا ارتفع إلى الأعالي، فلأن الخطيئة أعمت المؤمنين عن فهم الحقيقة، على ما قيل بشأن مجيئه : «إذا جاء ابن البشر، فهل يجد الإيمان على الأرض؟ (لو ۱۸: ۸) . الربّ يدين الشعوب فأي ربّ هذا إن لم يكن يسوع المسيح؟ لأنّ الآب لا يدين أحدًا، بل أعطى الابن سلطان الحكم» (يو ٥: ٢٢). فانظروا كيف أنّ هذه النفس الكاملة في صلاتها، قلما تهتم ليوم القضاء، وبأيّ شوقِ مطمئِنّ تقول للربّ في اضطرامها : ليأت ملكوتك (مت ٦: ۱۰) وتتابع: “فاحكم لي يا ربّ بحسب بري” (۷: ۹) في المزمور السابق كان السائل سقيما، يسأل الله أن يُنقذه، من غير أن يدعي استحقاقا ، لأنّ ابن الله جاء ليدعو الخطأة إلا ة إلى التوبة (راجع لو ٥: ۳۲) فنسمعه يقول: «خلصني يا ربّ لأجل رحمتك (٦ : ٥) ، لا لأجل استحقاقاتي. أما الآن وقد استجاب لنداء الله، وحفظ الوصايا التي تسلّمها ، فيتجاسر ويقول: «أحكم لي يا ربّ بحسب بري وعلى نحو براءتي (العلوية). البراءة الحقيقية تكون في عدم الإساءة، حتّى إلى الأعداء بوسعه، إذا ، أن يسأل الحكم عليه على نحو براءته، ذاك الذي استطاع أن يقول بحق : إذا كنت قد جَزَيت شرا بشر». إنّ صفة «العلويّة يجب أن تُلصق بالبر كما بالبراءة، بحيث يقول: «أحكم لي يا ربّ بحسب بِرّي العلوي، وبراءتي العلوية»، وهو تعبير يُبين لنا أن النفس لا تملك قط في ذاتها لا البر ولا البراءة، بل تتلقاهما من النور الذي يحسن لدى الله أن يُضيئنا به. وهكذا نراها تقول في مزمور آخر: أنت يارب تنير «سراجي» (۱۷ : ۲۹). وقيل في يوحنا المعمدان): «لم يكن هو النور ، بل كان ليشهد للنور» (يو ۱: ۸)، وأنه كان هو السراج الموقد المنير» (يو ٥: ٣٥) . إذا ، إنّ هذا النور الذي تستنير به نفوسنا مثلما تُنارُ السُرُج، لا يشع بنورٍ مستعار، بل بضياء ذاتي هو ضياء نور الحقيقة فاحكم لي يارب، بحسب بري وعلى نحو براءتي العلوية، كما لو ان السراج الموقد والمنير يقول : أحكم لي بحسب هذا النور العلوي، أي الذي ليس منّي ولكني به أُشع حين توقدني .

۹- “لينقض شرُّ المنافقين” (۷: ١٠). هذا الإنقضاء أو الإضمحلال، يكون حين يبلغ الشرّ الذروة، بحسب ما جاء في الرؤيا : “من هو بار فليبرّر بعد، ومن هو نجس فليتنجّس بعد” (رؤيا ۲۲؛ ۱۱). يبدو كأن الشرّ بلغ الذروة في الذين صلبوا ابن الله، وعظم في الذين يرفضون أن يعيشوا القداسة، ويمقتون شرائع الحق التي لأجلها صلب ابن الله . فلينقض، إذا ، شرُّ المنافقين، إذ يبلغ الذروة، يقول النبي، ولتحكم عليه بقضائك العادل وتُرفّع الصدّيق». بعد ذلك، لا يُقال فقط من هو نجس فلينجس بعد»، بل يُقالُ أيضًا : «من هو بار فليتبرَّر بعد ؛ لهذا يُتابع النبي قائلا : فتُرفع الصدّيق، إنك فاحص القلوب والكلى (۷: ١٠). لكن كيف يُمكن للصدّيق أن يُرفع إلا بطريقة خفية، من حيث أن الأعمال التي كانت تدهش الناس في الأزمنة المسيحية الأولى، عندما كانت قوى الدّهر تُخضع القديسين لسيف الإضطهاد، تُستغل اليوم في ذروة مجد المسيحيّة، في نشر النفاق والرياء عند الناس الذين يتسترون باسم المسيح، ليُرضوا الناس بدلا من أن يُرضوا الله؟ في هذه المعمعة من النفاق كيف يُرفع الصديق، إن لم يرفعه الله فاحص القلوب والكلى الذي يرى أفكارنا أي قلوبنا، وشهواتنا، أي كلانا؟ محق النبي في أن ينسب إلى كلانا الشهوة التي تزينها لنا الخيور الزمنية، فإنّها الجزء السفلي في الإنسان، ومسكن تلك الشهوة الجسدية التي تتسبب بتناسل الجنس البشري، وتبلونا بتلك الحياة الشقية المزينة بالأفراح الكاذبة. إذًا، إنّ الإله الذي يفحص القلوب ويرى أنّها موجودة حيث يوجد كنزنا، والذي يفحص الكلى ويرى ” بعيداً من أن نُصغي إلى اللحم والدم” (غل١: ١٦) نجعل مباهجن الربّ، أي في الله الذي يوجه الصديق نحو الضمير الذي هو حاضر فيه، حيث لا تنفذ عين إنسان، بل فقط عين الذي يعرف غاية أفكارنا وشهواتنا . ذاك أنّ الفرح هو غاية اهتماماتنا، ولا شيء يهتم ويُفكر فيه فوق اهتمامه وتفكيره بأن نبلغ ذلك الفرح. والله الذي يفحص القلوب والكلى يرى اهتماماتنا، ويرى أن الفرح غايتها، وعندما يرى أن اهتماماتنا أبعد أن تنحرف نحو الشهوة الجسدية وشهوة العين وأمور الدنيا (راجع ١يو ۲: ١٦، ١٧)، التي تزول كالظل، وتتوق إلى الارتفاع نحو الأفراح الأبدية التي لا تشوبها شائبة؛ إنّ هذا الإله الذي يفحص القلوب والكلى يقود البار في السراط المستقيم. إن عملا نقوم به، يُمكن أن يكون معروفًا من الناس، إذا كان كلاما أو عملا ظاهرا ؛ غير أن قصدنا من ورائه والغاية التي تدفعنا إلى القيام به، لا يعرفهما سوى الله فاحص القلوب والكلى.

۱۰ – «نصرتي العائلة عند الربّ مُخلّص المستقيمي القلوب» (۷: ١١). للطب مهمة مزدوجة : شفاء المرض أولا، ثمّ الحفاظ على الصحة. طلبًا للشفاء صرخ المريض في المزمور السابق قائلا : ارحمني يارب فإنّي سقيم (٦: ۳). ولدوام الصحة نقرأ في المزمور السابع : «إن دنّسَ الإثم يديَّ فلأقع ، بعدل، تحت سطوة أعدائي» (۷ : ٤، ٥. في الحالة الأولى يلتمس المريض الشفاء، وفي الثانية يسأل الرجل الصحيح الجسم ألا يعود فيمرض الأوّل يصرخ : «أغثني يا ربّ برحمتك والآخر : أحكم لي يا ربّ بحسب برّي». الأوّل يسأل الدواء الذي يشفيه والثاني الدواء الذي يقيه من المرض. فيقول الأول: نجني يا ربّ برحمتك، والثاني: «أرجو نصرةً عادلة الرب مخلّص المستقيمي القلوب». في كلتا الحالتين الرحمة هي التي تخلصنا : في الأولى تنقلنا من المرض إلى الصحة، وفي الثانية تحفظنا في الصحة. في الأولى إغاثة رحمة، من حيث أنه لا استحقاق يتمتع به الخاطئ الراغب فقط في أن يتبرّر بالإيمان بالذي يُبرّر المنافق (رو ٥:٤)؛ وفي الثانية إغاثة عدلٍ توهَب لمن سبق أن تبرر . فالخاطئ الذي كان يقول : إنّي سقيم، فليقل الآن : خلصني يا ربّ برحمتك؛ والبار الذي كان بوسعه أن يقول : لو اني جزيت شرا بشر، ليقُل الآن : أرجو حكمًا عادلا من الربّ الذي يُخلّص المستقيمي القلوب. فإنه إذا كان الله يُعطينا الدواء الذي يشفي مرضَنا كم بالأحرى يوفّر لنا السبيل للحفاظ على صحتنا ! وإذا كان يسوع المسيح قد مات لأجلنا إذ كنّا خطأة، فكم بالأحرى، إذ قد تبرّرنا نخلص به من غضب الربّ! (راجع رو ٥: ٨، ٩).

۱۱ – «أرجو نصرةً عادلة من الربّ مخلّص المستقيمي القلوب». الله الذي يفحص القلوب والكلى يُقوّم الصدّيق، وبنصرة عادلة يُخلّص المستقيمي القلوب على أنّه لا يُخلّص المستقيمي القلوب والكلى بالطريقة نفسها التي يفحص فيها القلوب والكلى. فالقلب المنحرف مسكن الأفكار الشريرة، والمستقيم مسكن الأفكار الصالحة. أمّا الكلى فهي مسكن الشهوات المدانة لأنها تتضمن ما هو سافل وأرضي، فيما الرغبات الطاهرة تقيم في القلب لا في الكلى. لذلك نستطيع أن نقول باستقامة القلوب، لكن لا باستقامة الكلى؛ لأنه حيث الفكر، هناك يكون الفرح، وبالتالي لا تكون الاستقامة إلا إذا فكرنا بالأمور الإلهية والأبدية. وهكذا نرى النبي يهتف: «أنشأت يا ربّ فرحًا في قلبي (٤ : ٨)، بعد أن هتف : إرفع علينا نور وجهك» (٤ : ٧). لا في القلب، بل في الكلى ينشأ بعض فرح من جراء نشوة الجنون التي تُسبّبها أوهامنا الباطلة، عندما تُدغدغ نفوسنا مباهج العالم الزائفة وتهدهدها في آمال خلّابة زائلة مصدرها سفليّ وأرضي وجسدي . من هنا أنّ الله، إذ يفحص القلوب والكلى، ويرى القلب مهتمًا بأفكار مستقيمة، والكلى ممتنعة عن كل شهوة يمد يد المعونة للقلب المستقيم الذي يعرف كيف يوحد بين الأفكار الصالحة والرغبات الطاهرة المترفعة . وأيضًا بعد أن قال في مزمور آخر : في الليل أيضًا برّحتني كليتاي (١٥ : ٧) يتكلّم النبي عن معونة الربّ ويهتف: «جعلت الربَّ أمامي في كل حين، فإنّه عن يميني كي لا أتزعزع» (١٥: ٨)، مبينا بذلك أنّ كليتيه أوحتا إليه بالشهوة، التي كان من شأنها أن تُزعزعه لو انقاد لها . لذا قال : إن الربّ عن يميني كي لا أتزعزع، وأضاف: «لذلك فرح قلبي (١٥ : ٩). كان بوسع كليتيه أن يُبرّ حاه، لكن لا أن يُفرحا قلبه . فهو، إذا لم يُحس بالفرح في كليتيه بل في ذلك القلب الذي كشف له أنّ الله يمد له يد المعونة ليواجه إيحاءات الكليتين.

۱۲- “الله ديان عادل قدير، صبور( ۷: ۱۲). من يكون ذاك الإله الديان غير الربّ الذي يدين الشعوب؟ عادل لأنه يُجازي كلّ واحد حسب أعماله (راجع مت ۱٦: ۲۷) ؛ وقدير، لأنه على الرغم من قدرته الكلية، قاسى من أجل خلاصنا اضطهادات الأشرار؛ وصبور، لأنه لم يُسلّم جلاديه إلى العذاب، بعد قيامته، بل أرجأ الحكم عليهم، لعلهم يتوبون ويمقتون آثامهم فيخلصوا ؛ وهو اليوم، أيضًا، يُرجى الحكم، محتفظاً بالعذاب الأبدي إلى يوم الدينونة، ويدعو الخطأة، كلّ يوم، إلى التوبة. لا يتوعد كلّ يوم . التوعد أبلغ من الغضب. وجاء في اليونانية : me orgen epagon  (لا يدفعني الغضب)؛ وهذا التعبير يُظهر لنا أنّ هذا الغضب الذي يدفعه إلى الإقتصاص، ليس في ذاتِه ، بل في مشاعر خدّامه الذين يسلكون بحسب شرائع الحقيقة : وهؤلاء الخدّام هم الذين يأمرون الخدّام الأدنين، الذين يسمون ملائكة الانتقام، أن يقتصوا من الخطيئة. وهؤلاء، بدورهم يخالجهم شعور بالرضى، لا لأجل العدالة، بل لأجل الأذية. إذا ، «لا يتوعد الله كلّ يوم أي لا يدعو كل يوم ملائكة انتقامه . صبره يدعونا الآن إلى التوبة؛ لكن في اليوم الأخير، عندما يكون بنو البشر، “بقساوتهم وقلوبهم غير التائبة قد ادّخروا لأنفسهم غضبا ليوم الغضب، واعتلان قضاء الله العادل” (رو ۲: ٥) ، عندئذ “على من لا يتوب يصقل سيفه” (۷: ۱۳).

۱۳ – “إن لم تتوبوا إليه، يقول النبي، سيصقل سيفه عليكم”. بوسعنا أن نقول إنّ يسوع المسيح هو سيف الله، وهو سيف ذو حدين، ورمح لم يمتشقه عند مجيئه الأوّل، بل أبقاه مخفيا في غمد تواضعه؛ لكنه في مجيئه الثاني، عندما يأتي ليدين الأحياء والأموات، فإنّ شرارة ذلك السيف ستشرق بكل بهائها، لتنير الأبرار، وتلقي الرعب في قلوب الأئمة. وفي ترجماتٍ أخرى، نجدُ عوَضًا عن «يصقل سيفه»، «يُوهِجُ رمحه» وهو تعبير ينطبق تماما، برأيي على بهاء يسوع المسيح الوهاج عند مجيئه الأخير ؛ لأنّ صاحب المزامير يتكلّم، في مكان آخر، عن اسم يسوع المسيح فيقول : «نج ياربّ نفسي من يد الشرير، وبسيفك اصرع أعداء عظمتك (راجع مز ١٦: ١٣، ١٤). «شد قوسه وهيأها» (۷ :۱۳) . لا يغب عن بالنا هذا الإنتقال في الأفعال المستقبل إلى الماضي، إذ سبق أن قيل إنّ الله «سيصقل سيفه»، والآن إنه شد قوسه وهيّأها. ويُتابع النبي النشيد بصيغة الماضي. 

١٤ – «سدّد إليه آلة الموت: صنع سهامه جمرا ملتهبا» (٧ : ١٤). في القوس، أرى الكتب المقدّسة، حيث قوّة العهد الجديد الشبيهة بالوتر المشدود، لوت بوطأتها تزمت العهد القديم. ومثل سهم من نار، أطلق القوس الرسل والمبشرين القدّيسين. تلك السهام التي صنعها الله من جمرٍ ملتهب أشعلت الحبّ الإلهي في من أصابتهم. أي سهم آخر تُراه جرح النفس التي تُنشد: «قدني إلى كهف الخمر، أقمني بين الطيوب، أغرقني في العسل، فقد جرحني الحبّ»؟ (نشيد الأناشيد ٢ : ٤ بحسب السبعينية) ؛ وأي سهم آخر يمكن أن يُضرم قلب الذي يُريد أن يرجع إلى الله، ويتخلّى عن سلوك سبيل المنفى، ويلتمس المعونة في مواجهة الألسنة الكاذبة، ويسمع الجواب : «ماذا يُعطى لك؟ وكيف تُنقذ الألسنة الكاذبة؟ نبال الجبّار مسنونة وهي من جمرٍ ملتهب (مز ۱۱۹ : ۳ ،٤) أي أنها إذا اصابتك، سوف تحترق بحب لملكوت الله، تزدري معه كلّ الذين يقاومونك، ويجهدون ليحرفوك عن أهدافك، فتهزأ من اضطهاداتهم وتقول : «من يفصلني عن محبة المسيح؟ أشدّةً أم ضيق أم جوعٌ أم عري أم خطر أم سيف أم اضطهاد؟ إني لواثق بأنّه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رئاسات ولا قوّات ولا أشياء حاضرة ولا مستقبلة تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي هي في المسيح يسوع ربنا». (رو ٩: ٣٥-٣٩). هكذا صنع سهامه بجمر ملتهب. هذا ما جاء في النص اليوناني. أما في النص اللاتيني فنقرأ : ويصنع سهاما ملتهبة ؛ ولكن سواء أكانت السهام ملتهبة، أو ملتهب فالمعنى هو إيّاه لأنّها في الحالين حارقة .

١٥ – لا يتكلّم النبي فقط عن سهام هيّأها الله لقوسه، بل أيضًا عن آلات موت وبوسعنا أن نتساءل عما إذا كانت آلات الموت لا تُشير إلى الهراطقة، لأنّهم هم أيضًا ينطلقون من قوس الربّ إيّاه، أي من قوس الكتب المقدّسة، لا ليُضرموا النفوس بالمحبّة، بل ليُهلكوها بسمومهم، ما لا يحدث إلا للنفوس التي استحقت الهلاك بخطاياها ؛ وهذا القرار هو أيضًا من عمل العناية الإلهية، لا بمعنى أنها تدفع الناس إلى الخطيئة، بل لأنّ بيدِها أمر الخطأة بموجب تدبير حكمتها . تدفعهم الخطيئة إلى قراءة الكتب المقدّسة بنيّة سيئة، فيصير المعنى المنحرف الذي يُضفونه عليها عقابًا للخطيئة وموتهم المفجع مثل حافز يُنعش أبناء الكنيسة الجامعة، ويُقيمهم من سباتهم فيتعلمون حقيقة الكتب المقدّسة. يقول الرسول : «إذ لا بدّ من البدع في ما بينكم، ليُعرف فيكم من اختبرت فضيلته (۱كو ١١: ١٩). أي لكي يُعرفوا في الناس، لأنّ الله يعرفُهم وهذه السهام وآلات الموت، أليست مهيأة للقضاء على الكافرين؟ ألم يصنعها الله ملتهبة، أو من جمرٍ ملتهب ليُضرم فيها قلوب المؤمنين؟ فليس كاذبا كلام الرسول: لهؤلاء، نحن نفحة حياة للحياة، ولأولئك نفحة موت للموت» (٢كو ١٦). لا عجب، إذًا، في أن يكون الرسل أنفسهم آلات موت للذين يضطهدونهم، ونبالا من نار ليضرموا قلوب الذين آمنوا .

١٦- بعد أن الله ما صنع صنع، سوف يُظهر عدل قضائه الذي يُكلّمنا النبي عنه بشكل يُفهمنا فيه أنّ عذاب كلّ واحدٍ إنما يكون في خطيئته، وعقابه في شرّه إيّاه. ويُزوّدنا بما يقينا من التفكير في أنّ الله، في سكونه العميق، وفي نوره الفائق الوصف، يُخفي رغبة في معاقبة الخطايا. على أنّه يُرتّب الأمور بحكمته الفائقة بحيث أن الإنسان الذي يستمتع بخطيئته، يصير هو نفسه آلة لانتقام الرب الديان. إنّه يتمخض بالإثم (٧: ١٥) ، يقول النبي . لكن بِمَ حَبِل ليتمخض بالإثم؟ – حبل بالعناء الذي قيل فيه : بمشقة تأكل خبزَك» ؛ كما قيل في مكان آخر : تعالوا إلي أيها المتعبون والمثقلون إنّ نيري لين وحملي خفيف (مت ۱۱: ۲۸، ۳۰). فالعناء للإنسان لا ينتهي ما دام لن يرغب في ما لا يُمكن أن يُرفع عنه رغم أنفه. والحال فإنّنا ما دمنا نحبّ ما يُمكن أن ننجو منه على الرغم من إرادتنا فسنبقى خاضعين للمشقة والعناء.

ولما كانت مصاعب الحياة تُطبق علينا، فإننا نسعى لامتلاك خيور الدنيا، فنجتهد، تارة في منافسة الآخرين عليها، وتارة في اغتصابها من أصحابها، فيستحيل علينا أن نحصل عليها إلا بطرق ملتوية. إذا، إن طبيعة الأمور أن يتمخض الإنسان بالإثم بعد أن يكون قد حبل بالعناء. وماذا بوسعه أن يلد غير ما حمله في أحشائه، على الرغم من أنه لا يلد ما حبل به؟ لأنّ من سيولد ليس من حبل به. الحبل بذار يُزرع، لكن الكائن الناتج من البذار هو الذي يولد. فالعناء، إذًا، هو بذار الإثم والحبل بالعناء هو الحبل بالخطيئة، تلك الخطيئة الأولى التي فصلتنا عن الله (راجع يشوع بن سيراخ ١٠: ١٤). إذًا، حبل بالإثم ذاك الذي حبل بالعناء فوَلَدَ الإثم. ولما كان الإثم هو الظلم، فإنّه أزهر ما كان حمل. فماذا يقول بعد؟ 

 ۱۷ – “كرى بئرا وحفرها” (٧: ١٦) . الحفر في الأمور الأرضية، كما هو في التراب، تحضيرٌ لشَركِ يُمكن أن يسقط فيه من أراد الإنسان الشرير أن يخدعه الخاطئ يحفر البئر عندما يُشرع روحه على مغريات الشهوات الدنيوية. إنّه يحفرها عندما ينشغل في نسج الخديعة. لكن كيف يمكن أن يطعن الصدّيقَ الإثمُ الذي ينقض عليه، قبل أن يجرح قلب الآثم الذي اقترفه؟ فالسارق يتلقى طعنة من الطمع، عندما يسعى إلى إلحاق الأذى بمُلك الآخرين أي أعمى لا يُميز المسافة التي تفصل بين رجلين، واحدٌ يخسر ماله والآخر براءته؟ إذا ، يسقط هذا الآخر في الحفرة التي حفرها . قال صاحب المزامير في مكان آخر : قد عُرف الرب وأمضى القضاء، وفي عمل يديه اصطيد المنافق (مزمور ۹: ۱۷)

۱۸ – وارتد ضرره على رأسه، وعلى هامته هبط جوره» (۷: ١٧). هو الذي لم يُرِد أن يتفادى الخطيئة، فصار طائعا لها وعبدا، على ما جاء في كلام الربّ : كلّ خاطئ يُصبحُ عبدا لخطيئته» (يو ٨: ٣٤). فتقع خطيئته عليه لأنّه أخضع نفسه للخطيئة، فبات عاجزا عن أن يقول الله ، مثل كلّ نفس مستقيمة طاهرة: «أنت مجدي ورافع رأسي» (مز ۳: ٤)، إذ ذاك يُحَطُّ ، فيسود عليه الإثم ويهبط على هامته، فيكون عليه حملا ثقيلا يمنعه من الإنطلاق إلى حيث يستريح القديسون. هذا ما يحدث للخاطئ عندما تُضحي النفس مستعبدة وتسود عليها الشهوات .

۱۹ – «أعترفُ للربّ على حسب عدله» (۷: ۱۸) هذا الإعتراف ليس قط إقرار الخطأة. فالذي يتكلّ على هذا النحو كان يقول، بصوت أعلى، بكثير من الحق: «لو كان في يديَّ سوء» (٧: ٤). إنها شهادة على عدل الله ، كما لو كان يقول : حقًا أنت عادل يا ربّ، عندما تعضد الأبرار فتنيرهم بنورك، وعندما يجد الخاطئ، بحكمتك، قصاصه في مكره لا في مشيئتك هذا الإعتراف يرفع مجد الربّ فوق تجديف الأئمة الذين يطلبون أعذارًا لآثامهم ويرفضون أن ينسبوها إلى سوء طبعهم، أي أنهم يرفضون تأثيم الآثم. يردّون الخطيئة إلى القدر وسوء الطالع، أو إلى الشيطان الذي أراد الله أن نقوى عليه ونقاومه، أو إلى طبيعة ليست من الله يهيمون في تقلّبات بائسة، بدلا من أن يستحقوا المغفرة من الله باعتراف صادق لأنه ما من غفران إلا لمن يقول : خطئتُ والحال، فإنّ الذي يُدرك أنّ الله ، بحكمته، يهب كل نفس ما تستحق، من دون أن يُشوّه جمال الكون، يُسبّح الله على كل أعماله؛ وهذه الشهادة لا تأتي من الخطأة، بل من الصديقين. ليس قط إقرارًا بالخطايا، أن يقول الإنسان للربّ : أعترف لك يا ربّ السماوات والأرض، لأنّك أخفيت هذه الأسرار عن الحكماء وكشفتها للأطفال (مت ١١: ٢٥). كذلك نقرأ في الكتاب : «إعترفوا الله في جميع أعماله، وقولوا في اعترافاتكم : جميع أعمال الربّ تُذيع بحكمته». إذا ، فإنّ الإعتراف الذي يتكلّم عنه داود هنا يقوم على أن نفهم، بمعونة الله ، وبتقوى منا صادقة، كيف أنّ الربّ الذي يُكافئ الأبرار، ويُجازي الأشرار بعدالته القويمة، يُبقي كلّ خليقة صنعها ويرعاها، في روعة لا يفهمها إلا القليلون فيهتف قائلا : أعترف للربّ على حسب عدله»، مثلما يهتف ذلك الذي أدرك أنّ الربّ لم يصنع الظلمات، ولو انه يتصرّف بها بحكمة والحال فإنّ الله يقول : (لیکن نور، فكان نور (تك ۱: ۳) ؛ لكنّه لم يقل : لتكن ظلمة، فكانت ظلمة؛ على أيّ حال، فإنّه نظّمها من حيث أنّه كُتِب : وفصل الله بين النور والظلمة، وسمّى النور نهارًا والظلمة ليلا . تك ١: ٤، ٥). ثمّة، إذًا ، فرق أن يصنع النور ويُنظمه، وبين ألا الظلمة، ويُنظمها . والظلمة يصنع تمثل الخطيئة، وهذا ما تُعلّمنا إياه كلمات النبي: ويكون ديجورك كشمس الظهيرة (راجع إش ۵۸: ۱۰)؛ وهذه الكلمات للقديس يوحنّا : من أبغض أخاه فهو في الظلمة ( يو ۲: ۱۱)؛ وخاصةً كلمات القديس بولس : فلنخلع عنّا أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور (رو ۱۳: ۱۲) . هذا لا يعني أنّ هناك طبيعة مظلمة، لأنّ كلّ طبيعة موجودة بالضرورة كطبيعة . أمّا الوجود فهو ميزة النور، وعدم الوجود ميزة الظلمة. إذا ، إنّ تخلّينا عمّن خلقنا لنميل نحو ذلك العدم الذي أخرجنا منه، يعني تلحفنا بظلمات الخطيئة ؛ هذا لا يعني هلاكًا كليا ، بل الإنحدار إلى الدرك الأسفل. لذلك، عندما يقول النبي : «أعترف للربّ»، نراه يهتم بأن يُضيف، لينزع منا الإعتقاد باعتراف بأثامنا : أرنّم لاسم الربّ العلي (۷: ۱۸) . والحال، فإنّ الترنيم وليد الفرح فيما التوبة عن الخطايا تُعزّز الألم. 

٢٠ – بوسعنا أن نطبق هذا المزمور على الإنسان الإله، بأن نعزُوَ إلى طبيعتنا السقيمة التي تنازل ولبسها، كل ما قيل لخزينا .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى