كتاب قصة الإنسان - القمص متى المسكين
قصة الإنسان – حول الخطية والخلاص
قصة الخليقة :
حينما نقرأ قصة الخليقة، نجد أنه بعد الإنتهاء من خلقة النور والسماء والماء والأرض والبحار، يردف الوحي بفم الكاتب أن الله هذا حسناً : « ورأى الله ذلك أنه حسن». ثم بدأت خلقة النبات من عشب وشجر و بقول، ورأى الله أيضاً أن ذلك حسن . ثم بدأت خلقة الأجرام السماوية المضيئة، الشمس والقمر والنجوم، ورأى الله أن ذلك حسن. ثم خلقة زحافات المياه، والتي تدبّ على الأرض وكذلك طيور السماء، وهذه بالذات خصّها الله بالبركة لتكثر وتملأ المياه والأرض، ووجد أيضاً أن ذلك حسن. ثم بدأ بخلقة حيوانات الأرض من بهائم ودبابات و وحوش، ورأى الله أن ذلك حسن.
خلقة الإنسان على صورة الله :
بعد ذلك كله قال الله : «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا . فخلق الله الإنسان على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى ، وباركهم الله وقال لهم : أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها وتسلّطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض» – أي أن الله سلّط الإنسان على كل الخليقة ــ و يقول الكتاب هنا بالذات أن الله رأى ذلك أنه «حسن جداً» .
وهكذا خص الله خليقته العامة بالجودة والحسن، أما خلقة الإنسان الذي خلقه على صورته كشبهه، فيقول أنها حسنة جداً. وبذلك تكون خلقة الإنسان ـ أو الخليقة البشرية – في نظر الله متقنةً جداً، وهذا يرجع بالطبع إلى كونه مخلوقاً على صورة الله كشبهه ؛ هذه الصورة التي بلغت حدودها العظمى ووضوحها الإلهي في شخص يسوع المسيح. أي أن طبيعة الإنسان، وإن كانت تتساوى مع باقي الخليقة الأرضية في شيء، إلا أنها تفوقها جميعاً في شيء آخر أعلى من الطبيعة كلها ، وأعظم من كل ما خلق الله في عين الله نفسه. بسبب هذا نكاد نجزم أن الله خلق الإنسان على صورته لكي يدرك الله وتُدرك صفاته من خلال الإنسان و يعبر عنها إدراكاً وتعبيراً واقعياً من واقع خلقته ـ أي الإنسان ــ دون جميع مخلوقات الله طُرا.
بالسقوط تشوهت صورة الله في الإنسان، وأعاد المسيح صياغتها بتجسده :
وهكذا نستطيع أن نقول باختصار، إن الإنسان مخلوق من عنصر طبيعي هو التراب، ومن عنصر آخر غير طبيعي، فائق على الطبيعة، ذي صلة بالله نفسه كخالق على صورتنا كشبهنا . أما هذه الصلة العجيبة والسرية للغاية فيقول الكتاب إنها جاءت إثر نفخة : « ونفخ في أنفه نسمة حياة… فصار آدم نفساً حية » . هذه النفس، في خصائصها الجيدة وفي حالة سموّها ، كانت تعطي ، بحال ما ، صورة الله وشبهه في آدم ، ولكن بعد السقوط فـقـدت هذه الصورة كثيراً من خصائصها ولكن دون أن تُمحى . وهذا يفسر لنا بصورة تطابقية أكيدة كيف أن الإنسان في النهاية – بواسطة المسيح – أعيدت صياغة نفسه بتجديد خلقتها، عندما نفخ المسيح في تلاميذه بعد قيامته نفخة الروح القدس لإعطائهم حياة جديدة، يتجه مركز تجديدها وقوتها تجاه الخطيئة بسلطان إلهي : «فقال لهم يسوع أيضاً سلام لكم؛ كما أرسلني الآب أرسلكم أنا . ولما قال هذا نفخ وقال لهم أقبلوا الروح القدس؛ من غفرتم خطاياه تُغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت» (يو 20: 21-23). هكذا استعادت الصورة الإلهية، التي شوهتها الخطيئة، سابق براءتها.
وترون، أيها الأحباء، أن التركيز في الخليقة الأولى كان على النفس البشرية، فهي التي اقتبلت الروح من الله بنفخةٍ مباشرة فصارت نفساً حية تحس بوجود الله وبإرادته ، وكانت حسنة في كل شيء لأنها كانت تعكس صورة الله وصفاته !! وواضح من كلمة الله الله نفسه . بسببفصار الإنسان نفساً حيّة » ، أن النفس البشرية قبلت روح الحياة من الله . فالنفس مخلوق بشري ، والروح روح من الله خالد، كما جاء في القداس الباسيلي باللغة اليونانية هكذا : « يا الله العظيم الأبدي الذي خلق الإنسان على الخلود» ( ويلاحظ أنه حين تُرجم إلى اللغة القبطية لم يكن فيها كلمة واحدة تفيد الخلود، فاستبدلت لفظة الله نفسه . بسببالخلود» بالنص الذي ترجم إلى العربية: «على غير فساد»).
وهكذا فإن النفس البشرية المخلوقة شيء ، وروح الحياة الخالد الذي فيها شيء آخر؛ فالنفس حيَّةٌ بروح الله ، والجسد حيَّ بالنفس، والنفس في الدم (أنظر 1كو 15: 44 و46 و 2 : 14 ، يه 19 ، يع 3: 15).
لهذا يؤكد القديس بولس الرسول أن كلمة الله قادرة أن تخترق المفرق بين النفس والروح، وهو أدق وأرق فاصل في الخليقة كلها ، لا يحثه الإنسان إلا في نور الكلمة الإلهية. هذا الفاصل يكون هيئة الضمير من هنا ومن هناك . فإذا انجاز الضمير إلى جزئه المضيء بالكلمة صار ضميراً روحياً مدركاً لله إدراكاً متسعاً ؛ أما إذا انحاز إلى جزئه النفسي البشري ، صار ضميراً نفسانياً معتماً متأثراً بالجسد أشدَّ التأثر، لا ينفذ إليه نور الله إلا بصعوبة بالغة .
فليحترس القارىء، إذا كان ممن لا يفهمون الإنجيل ولا يحسون بكلمة الله ولا بتأنيب الضمير، من جهة الخطيئة أو الإبتعاد عن الله ، لأن ذلك يعني انحياز الضمير إلى النفس والعطف عليها ، وبالتالي إلى الجسد وشهوات العالم وغرور الدنيا.
كذلك إذا انحازت النفس برمَّتها إلى الروح الحي الإلهي المضيء فيها ، صارت نفساً روحانية متأثرة وخاضعة لله بسهولة. أما إذا انحازت إلى الجسد، صارت نفساً معتمة متأثرة بالعالم خاضعة لمجاذباته بسهولة ؛ والآية التالية توضح وجود الجسد والنفس والروح معاً : « … وإله السلام يقدّسكم بالتمام، ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح.» ( 1تس 5: 23)
أما التركيز الثاني، الذي قام به المسيح ، فنجده يجيء بنفس القوة على النفس البشرية، بعد أن أفسد الإنسان صورتها وجمالها بعصيانه ـــ في آدم ـــ أمر الله وسقـوطـه مـن مـسـتـواه، وفقد وجوده مع الله ، وقبوله حكم الموت بسبب الخطيئة، حيث صارت نفسه متأثرة بحكم الموت الذي شمل الجسد أيضاً ، فاقدةً قدرتها على الحياة مع الله : فالجسد ينتن و يضمحل في التراب، والنفس تبقى على حالها في شقاء مقيم . فقد خُلق الإنسان وله كلتا الإمكانيتين في طبيعته عدم الخطأ، وبـ ، وبالتالي عدم الموت أو عدم الفساد، كقول القداس : … الذي خلق الإنسان على غير فساد»، وكذلك في نفس الوقت له قابلية الخطأ، وبالتالي قبول الموت والفساد، وقد أُعـطـي الإرادة الحرة أن يختار. فلو كان الإنسان رفض الخطيئة ونجح في صدّ الشيطان وقاوم تشكيكه محتفظاً بسيادة الله، لكان سيعطى الغلبة و يتوج بعدم الموت «قاوموا إبليس فيهرب منكم » (يع 4: 7) ، ولأصبحت حياته ارتقاء من مجد إلى مجد، كما يقول القديس أغسطينوس وبحسب قول الرسول : «اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم» (يع 4: 8). ولكن الإنسان باختياره أن يكون كالله وقبوله أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر مخالفاً أمر الله ، قبل الخطيئة في كيانه، وبالتالي حكم الموت، وهكذا انكفأ في طريق طويل مرير، هو طريق التوبة والتطهير لقبول الفداء في النهاية، للخلاص من سلطان الخطيئة وحكم الموت .
الموت لم يكن ضرورة حتمية في طبيعة الإنسان :
إذن، لم يكن الموت ضرورة حتمية في طبيعة الإنسان، لذلك ومن هنا وضع الله الخطة لإنقاذه على أساس وجود إمكانية عدم الموت فيه كعنصر في طبيعته، جنباً إلى جنب مع إمكانية الموت: «من آمن بي ولومات فسيحيا » (يو 11: 25). ففي الآية بالذات يكشف المسيح بنور إلهي أنه بقي في صميم كيان الإنسان، بعد أن سقط، عنصر قابل للإلتحام بالحياة الأبدية مرة أخرى بواسطة الإيمان بالمسيح، باعتبار المسيح هو هو الحياة الأبدية : «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو 14: 6)؛ «أنا هو القيامة والحياة» (يو 11: 25) . و يكفي على ذلك دليلاً، قول بولس الرسول: «… لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع» (أف 2: 10)؛ «كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم» (أف 1: 4) . وهكذا يتضح أن شخصية الإنسان لم تتحطم تماماً بالسقوط ، بل بقيت شامخة ممتدة في المسيح، نحو الخلود الذي . خُلقت لتعيشه بمسرة الله الشديدة نحو الإنسان. فالذي فقده الإنسان بالسقوط ، يسترده بالفداء ؛ أما الذي لم يفقده فهو أعز ما يملكه من صورة الله ، وهوا استعداده للخلود بحرية اختيار وفهم ومعرفة ، وقدرة على الإقتداء بالمسيح نفسه. وهكذا سنظل نتغير من مجد إلى مجد حتى تتطابق صورتنا على صورته إلى أن نصير مثله ، كما يقول يوحنا الرسول ( 1يو 3: 2).
أما إذا أخفق الإنسان في الإيمان بالمسيح وقبول روح القيامة من الموت منذ الآن، فإن الجسد يخفق في أن يتغير في القيامة العتيدة ليأخذ صورة جسد مجد ، بل إنه يتغير ليأخذ في القيامة جسد العار والفضيحة على شبه الشيطان معداً المسيح . مسبقاً للدينونة والهلاك : «… وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون ، هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للإزدراء الأبدي» (دا 12: 2)؛ «فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة.» (يو 5: 29)
نفخة المسيح القائم من الأموات أعطت الإنسان سلطاناً ضد الخطية والشيطان:
وهكذا تجيء نفخة المسيح القائم من بين الأموات لإعطاء النفس حياة جديدة بالروح القدس ذات قوة جديدة، أولاً لإلغاء سلطان الخطيئة في ذاتها ، وثانياً ذات سلطان المغفرة خطايا الآخرين. هنا العمل الذي عمله المسيح بنفخه الروح القدس، بعد قيامته، في وجه تلاميذه هو على مستوى تجديد خلقة الإنسان الأولى، فقد وهب النفس حياةً جديدة لها قدرة واستمرارية الحياة مع الله كآدم أولاً ، لكن هذه الحياة الجديدة للنفس أعلى وأقوى من الحياة الأولى، إذ صار لها سلطان على الخطيئة والقيامة من الموت.
والملاحظ ، ضمناً ، أن إعطاء الإنسان حياةً جديدة للنفس غالبةً للخطيئة وذات سلطان غالب وغافر للخطايا، يتسحب ويمتد حتماً بسلطان على الشيطان نفسه الذي غرس الخطيئة في طبيعة الإنسان الأول . فالخليقة الجديدة أصبحت مـتـفـوفـةً على الخطيئة «فإن الخطيئة لن تسودكم ، لأنكم لستم تحت الناموس ، بل تحت النعمة» (رو 6: 14)، وقادرةً على قبول روح القيامة من الموت. كما يلاحظ أن حدود صورة الله وشبهه في الإنسان، التي جبلت عليها النفس بنفخة الله، وتجددت بنفخة المسيح ، تمثل أرقى ما في الإنسان من مواهب ومشاعر وعواطف وشرف وتعفف، وهي قوى الضمير الأدبية والروحية التي تحاكي الله في أعماله وتعكس توجيهاته بواسطة الصلة التي بين الله والإنسان، فيتسنى للإنسان معرفة الله وفهمه وحبه وخشيته، وهي نفس القوى التي من خلالها يتبادل الإنسان مع الله العواطف : فالإنسان يشكر و يفرح ويسبح الله من خلال هذه الهبات الإلهية التي فـيـه، والله يوحي بالخير ويهتف بالضمير للسلوك الفاضل والسمو الأخلاقي، فينفعل الإنسان بهذه الأحاسيس، ويستجيب بكل قواه العقلية والنفسية والجسدية، بل ويتمادى في الإستجابة بالإستزادة، لأنه يحس مقابل ذلك برضى الله !! وهكذا تركزت صورة الله وشبهه في الإنسان بواسطة المسيح، بعد التجديد بالروح القدس، في ضمير نقي حساس، يأتى العجائب ويتصرف بسمو لا يمكن أن ترقى إليه الطبيعة البشرية العادية الأولى.
ولا يـفـوتـنا هنا ـــ ونحن بصدد الخليقة – أن نعرض للخليقة الروحانية في قول الله : «فأكملت السموات والأرض وكل جُنْدِها» (تك 2: 1) ؛ هنا الإشارة إلى خلقه جند السماء تجيء طبعاً قبل خلقه الأرض « أنَّ السموات كانت منذ القديم، والأرض بكلمة الله قائمة» (2بط 3: 5) . لكن عبارة « وكل جندها » تشير إلى الكثرة الهائلة والدقة والترتيب في الجنود ، كما يجيء الإنسان في مسلسل الخليقة الأرضية في الـقـمـة كمخلوق يحاكي الله في داخله من جهة المعرفة وحرية الإرادة وسلطان الضمير المميّز بين الخير والشر، بين اللائق وغير اللائق : « هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر» (تك 3: 22) . لذلك كان تجديد هذه القوى النفسية، التي يعبر أحياناً عنها بالضمير والإرادة – ولو أنها في الخليقة الجديدة تشمل ما هو أكثر وأوسع من الضمير بعمل الروح القدس الذي يمتد ليشمل كل قوى الإنسان حتى كأنه صار بالفعل خليقة أخرى غير التي كانها ، وغير التي كنا نعرفها في ذواتـنـا ــ هـذا الـتـجـديد بالروح يعطينا بدوره فكرة واضحة عن صدق ودقة رواية الخليقة حينما قيل إن الإنسان خُلق على صورة الله كشبهه؛ لأننا وإن كنا قادرين أن نمـتـد ونـتـغـيـر إلى صورة الله، فكم بالحري سيكون تغيرنا بعد القيامة بالجسد الجديد الروحاني، على صورة جسد مجد المسيح؟
| كتب القمص متى المسكين | ||
كتاب قصة الإنسان | |||
المكتبة المسيحية |