تفسير سفر الرؤيا اصحاح 4 لابن كاتب قيصر
الإصحاح الرابع
الفصل الخامس
18- (1) وبعد هذا رأيت هوذا باب مفتوح في السماء والصوت الأول الذي تكلم معى الذي سمعته مثل صوت بوق يتكلم معی قائلا اصعد هنا فأعلمك بما سيكون بعد هذه
هذه هي الرؤيا الثانية ، وقد جاءت بعد الأولى بقوله : « وبعد هذا رأيت» ، وأما «الباب المفتوح في السماء» ، فقد ورد في مواضع كثيرة من الكتب الإلهية ، منها رؤيا يعقوب إسرائيل لما رأى السماء انفتحت قال : «وإن هذا هو باب السماء» . ومنها قول حزقيال النبي في أول رؤياه : «إنني رأيت السماء قد انفتحت » . ومنها ما ذكر في ثلاث بشائر من الإنجيل المقدس ، وهي بشارة متى ومرقس ولوقا عند معمودية سيدنا من يوحنا بن زكريا ، إنه لما صعد من الماء انفتحت له السموات . ومنها قول هذا الرسول في الفصل الثالث من بشارته عن سيدنا : «إنكم ترون أبواب السماء مفتوحة ». وقدماء الفلاسفة ينكرون جواز الخرق والرقع والفتق والرتق على جوهر السماء ، فلا فرق بحسب هذا المعنى بين كونه بابا واحدا أو أبوابا كثيرة أو في مكان معين أو غير معين ، ولهم على ذلك أدلة منها : لو قدر أن السماء فصل جزء منها كما يفصل من الأرض أو من الماء ، وكان هذا التقدير محالا ، لأن هذا الجزء لا يصح عوده إلى الكل لأن عوده يكون بحركة مستقيمة : والشيء الواحد لا يكون مبدءا لحركتين ، مستقيمة ومستديرة ولا يصح سكونه في موضع غريب ، لأن طبيعته لا تقتضى الكون فيه ؛ ونتج عن ذلك إن السماء يمتنع خرقها ورفعها.
والجواب عن هذا : إن هذا الدليل تضمن العلة في امتناع الاتصال بعد الانفصال ، وهو محال ، لأن ما بعد لا يكون علة لما قبل إلا فيما يكون فعله بالرؤية الناظرة في عواقب الأمور فتقدم بحسبها أو تحجم.
وما جاء في المقدمة الأولى من أن الشيء الواحد لا يكون مبدءا لحركتين ليس بصحيح ، لوجود ذلك في العناصر ، ومنها إن السماء إذا انخرقت ، فإما أن تبقى على حالها أو تتحرك إلى الالتحام والالتئام ، وكلاهما محال لأنه بحركة مستقيمة . أما في الجزء الذي انفصل ، فبالقسر . وأما في الجزء المنخرق ، فإن حركته إلى الالتئام تكون بطبيعته ، فالخرق محال.
والجواب : إن هذا أيضا لا يقبل ، لأن صورة الفلك التي تقتضى مقداره وشكله الكروي وحركته الدورية تقتضى أيضا التئامه ، وتمنعها حركته لذلك وسائر أحواله . ومنها إن السماء لا تنخرق إذ لا خارق لها لأن العناصر لا يمكن أن تصل إليها فتخرقها ، ولا وراءها شيء ينزل إليها فيخرقها.
والجواب : إن المراد ليس وجود خارق لها ، بل هل تقبل في نفسها الخرق أم لا ؟ فإنا يكفينا إنه لا مانع لها في ذاتها من ذلك ، سواء وجد خارق أو لم يوجد.
وأما قولهم إنه لا يوجد خارق لها ، فلم لا يجوز خرق الكواكب لها کخرق شعلة النار في الهواء ؟ ولكنهم ، لأجل عدم الخرق عندهم ، امتنعوا عن القول بحركة الكواكب في أفلاكها ، وقالوا بحركة أفلاكها لها . وتكلفوا في ذلك تخمينا بقبولها الخرق ، لأن الجسم لا يمتنع من الخرق إلا لصلابته بالنسبة إلى خارقه . والشفاف البالغ لا صلابة فيه من حيث هو كذلك قياسا على ما رأينا . فأما المها والبلور وما أشبههما فإنما نبعت الصلابة مما فيهما من كثافة أرضية بدليل ثقلهما . ولما كان الهواء لا كثافة فيه ، لم يكن صلبا وكان إشفافه أبلغ ، لكن إشفاف السماء أبلغ إلى الغاية القصوى ، لأنها لا تحجب أبعد بعد . ولعل كواكبها هي الصلبة لكونها مستنيرة السطوح عن ذاتها وعما يقابلها ، وهي غير مشفة . فقد بان بأن الخرق في السماء لم يقم على امتناعه دليل ، وبذلك صدق الوحى.
وإنما أردنا بيان هذا الجواز وعدم الامتناع في الوجود الخارجي ليصح صعود أخنوخ وإيليا بجسديهما ونزولهما . ولا يقال : لم لا يجوز أن يكون جسديهما قد صارا روحانيين فينفذان في الجسم ولا يحتاجان إلى خرق لنفاذهما ؟ لكننا نقول : لو كان جسديهما قد تروحنا ، لما كانا يقبلان الموت الطبيعي عند نزولهما مستأنفا . فأما العقول المجردة والنفوس والأجسام الروحانية ، فلا تمانعها الأجسام ولا تعوقها عن النفاذ والسلوك.
وأما الرؤيا ، فيجوز فيها ما لعله يمتنع في الخارج لكونها رؤيا . ولأن حلها الرمز بالتشبيه والتمثيل . فإذا عرفت ذلك ، فالرمز هنا بالباب المفتوح في السماء على المكان الذي كشف عن بصيرته فأدرك منه ما أدرك في السماء ، لأن الباب في الشاهد منفذ للمشاهدة والعبور.
قوله : «والصوت الأول الذي تكلم معي الذي سمعته مثل صوت بوق قائلا اصعد هنا فأعلمك بما سيكون بعد هذه » ، الصوت الأول هو يتكلم معى الذي ذكر أولا إنه سمعه خلفه صوتا عظيما مثل بوق ، وقد علمت كمية هذا التأكيد بالتكرار . وقوله : اصعد هنا ، أي إلى السماء والصعود غير جسمانی.
19- (2) فصرت بالروح ورأيت وإذا عرش هو في السماء (3) والجالس على العرش كان نور يصب وياقوت والشفق محدق بالعرش وهو نور زبرجد (4) وهناك أربعة وعشرون كرسيا كائنون حول العرش وأربعة وعشرون شيخا جالسون على الكراسي متدرعون بثياب بيضاء وعلى رؤوسهم أكاليل من ذهب (5) وكان ينبثق من العرش بروق وأصوات ورعود وسبعة مصابيح نار محدقة بالعرش وهي سبعة أرواح الله (6) وكان أمام عرش الله مثل بحر من زجاج وهو جليد وفي وسط العرش أربعة حيوانات مملوءة عيونا من أمام ومن خلف.
قوله : « فصرت بالروح» ، وهذه الرؤيا أجلى من قول بولس الرسول : « أعرف إنسانا خطف إلى السماء الثالثة ، ولا أدرى أكان ذلك بالروح أم بالجسد » لأنه – يوحنا هنا بين إنه بالروح . أما إشارته أن يعلمه بما يكون بعد هذه ، أي بعد هذه الأمور ، المتلوة في الرؤيا الأولى ، وفي قوله بما يكون ، دليل ثالث على أنه يخبر بالمزمعات لا بالماضيات . وما بقى من الفص فهو بين بنفسه.
قوله : « وإذا عرش هو في السماء» ، لفظة العرش ترادف لفظ الكرسي لغة ومعناهما واحد . لكن العرف كثير ما يخص لفظ العرش بالإله تعالى ذكره ، ولفظ الكرسي لعظماء الناس ، وقد يعم الجهتين معا ، وقد يستعمل هذا مكان هذا كعرش بلقيس وغيره ، والمنبر كذلك.
وقد ورد ذكر عرش وكرسي الله تعالى في مواضع كثيرة من الكتب الإلهية ، ففي المزمور يقول : «كرسيك يا الله إلى أبد الأبد ». وأشعياء قال : « رأيت الرب جالسا على كرسى عال». وموسى في موقف سيناء قال : « وتحت قدميه شبه لبنة من حجر السنفير وكرونق أديم في السماء في النقاء»، وأراد باللبنة الكرسي ، فوافق في اللون وخالف في الصورة ودانیال قال : «کرسیه کشبه لهب نار» ، وهذا هو الشفق المحيط بالكرسي . وأما يعقوب إسرائيل فرأى سلما منصوبا على الأرض وطرفه لاحق بالسماء والرب واقف فوقه، ويراد إنه كرسي بدرج كالمنبر . وحزقيال قال : «کشبه کرسی» فأحسن العبارة ، ثم قال : « ومثل منظر النار من داخل محيط ، وهو الشفق الذي ذكر ، وقد بينا المراد به قبل هذا إنه قد يستعمل لغة على وضعه ، وقد يستعمل باللغة الروحانية إما بالإضافة إلى الآب والابن ، ويراد به الجلالة والأبهة والعظمة والملك وما يجرى مجرى ذلك ، وإما بالإضافة إلى نبي أو رسول أو غيرهما من الأبرار ، ويراد به الرفعة والكرامة المعطاة من الله سبحانه وتعالى.
وذهب بعض قدماء حكماء العبرانيين إلى أن العرض هو الفلك الأطلس ، فقالوا : «الراكب على عروبوث [لفظة عبرانية] » ، واستشهدوا بقول المزمور : «السماء كرسى الله » ، وهو نص ما قاله الإنجيل : «ولا تحلف بالسماء فإنها کرسی الله »، وهو عين ما قاله أشعياء في الإصحاح الثلاثين : «هكذا يقول الرب السماء كرسي والأرض موطأ قدمی»
وههنا موضع نظر في سؤالين ، أحدهما : إن كان الكرسي هو فكيف قال في هذه الرؤيا : «وإذا عرش هو في السماء» ، والشيء لا يكون في نفسه ؟
والجواب : إن حروف الجر قد تتعاقب وينوب بعضها عن بعض ، ولفظة في هنا مقدرة بـ من ، والسماء التي رأى فيها أو منها غير السماء التي هي الكرسي المرئي وهو الأطلس ؛ فكأن تقدير القول : إنني رأيت السماء العليا من السماء الدنيا . لكون الأفلاك لا تحجب الإبصار.
والسؤال الآخر : أنتم تأولتم الكرسي بأنه السماء ، وبأنه الجلالة والعظمة ، والمفهوم من السماء ليس هو المفهوم من الجلالة والعظمة !
والجواب : إن كل رمز فهو مباين للمرموز عليه من جهة ، ومناسب له من جهة أخرى . فهذا المرئى من جهة ذاته سماء ، ومن جهة كونه منصبا للقدرة كرسي ومن جهة أن الكرسي مجلس الأجلاء والعظماء ، كان رمزا على الجلالة والعظمة إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم . ويكون تقدير القول : رأيت ما دلني على عظمته وجلالته في السماء.
قوله : « والجالس على العرش كان نور يصب وياقوت والشفق محدق بالعرش وهو نور زبرجد» ، اعلم أن الله لم يره أحد قط ، إنما رؤى لأنبيائه بأنواع كثيرة وأشكال شتى كما قال الرسول ليتبين من اختلاف المرئى أن الحقيقة ليست كذلك.
وفي هذا الفص عدة مسائل :
المسألة الأولى : ثبت في العلم الإلهي أن خالق العالم ليس بجسم ولا جسماني بعدة أدلة من جملتها : إن كل جسم ممكن ، وكل ممكن فعله مؤثر فكل جسم له مؤثر ، وكلما كان مؤثرا في جسم لم يكن جسما ، وإلا لكان مؤثرا في نفسه ، فالإله ليس بجسم ولا جسمانی وإذا كان كذلك ، فما السبب في رؤيا الأنبياء له بهذه الصور الجسمانية ؟
والجواب : إن هذه الصور ليست بجسمانية ، لأن الأنبياء أدركوها بصريح العقل ، وليست منتزعة من مادة في الخارج . ولا يدرك بالعقل إلا ما له وجود فيه ، وكل ما له وجود فيه وليس بمنتزع من مادة ، وليس هو مقارن لمادة ، فليس بجسم ولا جسمانی.
المسألة الثانية : ما الفائدة الحاصلة من هذه الرؤيا ؟ والجواب : إن الفائدة منها عظيمة ، لأن بها إدراك شريف من الإدراكات الإلهية ، تكمل به نفس المرئى ، وتفيض من كمالها على نفس السامع بحسب استعداده وإدراكه . أما ذلك الإدراك الإلهي فعلى قسمين :
القسم الأول : أن النفس الإنسانية لها إدراك بذاتها ، مجردة عن آلاتها بإلقائها عنها إلى ذاتها ، وإدراك آلاتها وهي الحواس التي جعلت لإعانتها من مبدأ النظر وعند خلوها من تحقق الأشياء . وإذا رامت أن تدرك ما دونها ، أدركته بتوسط الحواس لكونها أقرب منها إلى هذه المدركات ، وإن تشوقت لإدراك ما فوقها ، فإنما تدرك ذلك بتوسط ما فوقها من المبادىء التي هي أقرب منها إليه ، وهي أعلى رتبة . ولما كانت هذه الصور المرئية ليست من أجساما ولا جسمانية كما بينا ، جعلتها النفس وسيلة في التوصل إلى إدراك ما لا تدرك بها . وكما أن النفس تستعين بالنور على إدراك العين لأنها تبصره أولا ثم تبصر به ، كذلك هذه تجرى مجرى النور للبصر . وأما الحواس فإنها حجاب يستعان بتركها لا بها على إدراك الإلهيات ، لأن الذات الإلهية أبعـد أن ترى ، وأحق بأن ترى لظهورها لولا ضعف طبيعة البشر عن ذلك ، فهذا هو القسم الأول.
وأما القسم الثاني : فإن الإدراكات الإلهية عسرة الفهم بطبيعتها فلذلك جعلت القدرة العالية التخيل في هداياتها بالأمثال والتشبيهات ، حتى أن المدرك إذا أدرك شيئا منها ثم حاول تعريفه ، يصير مثل من خانته العبارة وضاقت به ذرعا، وعجز المتفهم أيضا عن الإدراك ، وهذه الصور هي الأمثال والرموز المتوسل بها ، فهذا هو القسم الثاني.
المسألة الثالثة : فائدة هذا الإدراك ، هل هي للنبي أو للسامعين ما حكاه منها أو للمجموع ؟ والجواب : إنها للمجموع ، لكن طبقاتهم تختلف اختلاف العيان والخبر إذ ليس العيان كالخبر، والفرق بينهما بين.
المسألة الرابعة : فالرموز التي تشتمل عليها هذه الصور ، ما هي ؟ والجواب : إنه يظهر من قوله أن : « الجالس على العرش كان نور يصب وياقوت» ثلاثة معان : أولها نور ، وثانيها لون ، وثالثها جوهر . فالنور يستدل به على اللون ، واللون يستدل به على الجوهر . والنور رمز على الوجود لظهوره بظهور آثاره . واللون رمز على الصفات للزومها الجوهر وكونها خارجا عن حقيقته والجوهر رمز على الذات الإلهية المقدسة العالية عن الإدراك ، كما أن الجوهر الملون إنما يدرك منه البصر لونه . وهذا غاية إدراك البشر المنسب لضعفهم . وذكر يصبا وياقوتا كما ذكر حزقيال «نارا ولازوردا » ، لأنه لما قال : «وفوق الكرسي كمنظر الإنسان» ، قال : « ومن ظهره إلى فوق مثل اللازورد ومن ظهره إلى أسفل مثل النار»، وأشار بها جميعا إلى أنه من الوسط إلى أسفل عميق خفى ، ومن الوسط إلى أعلى أعمق وأخفى وأبعد.
فتأمل كم بين رؤيا هذا الرسول وبين رؤيا حزقيال من جهتين ، أولاهما: صفاء لون ما رآه الرسول من البصب والياقوت ، وعمق لون ما رآه حزقيال من النار واللازورد . فإن ذلك دليل على أن التجلى للرسول أجلى وأصفى ولذاك أعمق وأخفى . وثانيتهما : إن حزقيال قال: «ومن ظهره إلى فوق مثل اللازورد ومن ظهره إلى أسفل » ، فدل على أنه لم يتجل له إلا الظهر الذي هو رمز على الأفعال والآثار . وما لي أقول حزقيال وحده ، فقد تجلى لموسى رأس الأنبياء ورئيسهم ، فإن الرب قال له : « هذا مكان قدامي فقم على الصخر وإذا عبر مجدى جعلتك في نقب الصفاء وأغطى عليك بيدى حتى أعبر وعند ذلك تنظر ما خلفى فأما وجهى فإنه لا يظهر لك » ، ولا ينبغي أن يغلطك قول التوراة : إن الله تعالى خاطب موسى وجها لوجه كما يخاطب الرجل صاحبه، فإنما أراد بهذه المواجهة عدم الوسيط بينهما ، وإلا لكان مناقضا لقوله : «فأما وجهى فإنه لا يظهر لك» . وأما هذا الرسول العظيم فإن رؤياه هي ما يشعر بأنه رأى على طريق المواجهة والمقابلة ، وهو قوله بعد ذلك : « وكان ينبثق من العرش بروق» ، ولو كانت الرؤيا مما يلي الظهر لاستترت عنه البروق فلم يرها ، وكذلك البحر الزجاج الذي أمام العرش وسجود الأربعة والعشرين شيخا أمام العرش وأكثر من ذلك ، فقد بان الفرق . وأما التمثيل بهذه الأحجار الجوهرية فليتميز هذا المثل وينفرد عما سواه ، إذ لا يوجد حي ، وهو من هذه الأحجار الجوهرية ؛ فكأن ذلك رمز آخر على أنه لا يشبههه شيء . وأما مناظر بقية الأنبياء في هذا المعنى الشريف الدقيق الجليل ومناسبتها ومباينتها لرؤيا هذا الرسول ، فإنا نقول في ذلك : إن يعقوب إسرائيل لما رأى السلم قال : « والرب واقف عليه» ، فلم يتبين شيئا من هذا سوى الوقوف . وذكرت في التوراة أربعة مواضع في موقف سيناء أولها : في الفصل الثاني عشر من السفر الثاني ، قال : « والجبل يدخن لأن الرب هبط عليه بالنار فارتفع لهيبه كالأتون» ، فالذي يتبين من هذا هو النار . وثانيها : «ودنا موسى من الضياء الذي اعتلن الله فيه » تبين من هذا ضياء وهو قريب مما ذكر . وثالثها في الفصل الخامس عشر قال : «ورأى موسى وهرون وسبعون شيخا من بني إسرائيل إله إسرائيل » فذكر اسم الإله ، ورابعها ، وهو والعمدة: وقد تقدمنا وقلناه من قبل.
وحزقيال قال أيضا لما وصف الحيوانات ، وقال الصوت الذي يعلوهم مثل حجر الفرفير، أي من حيث مجيء الصوت ، رأى كلون الياقوت العميق الحمرة ، وهو قريب من قوله الذي قدمنا المقايسة به ، بل ذلك أبين . وقال أيضا : « وفوق الكرسي كمنظر الإنسان»، وقال : «عليه من فوق كمثل الإله» ، ومراده كإنسان في الجلوس وحاله في الجلالة والعظمة كإله ، والهاء في «عليه» عائدة على الكرسي لا على الإنسان ، فاعلم ذلك.
أما دانيال فقال : «وعتيق الأيام جلس » ، ثم قال : « ولباسه كالثلج الأبيض وشعر رأسه كالعهن » ، وهذا أخفى لأنه إنما رأي اللباس ، وبياض الشعر قد نبهنا على تأويله.
وقد جرت عادة الواصفين للأشياء التي يتكلمون عنها بالوصف والتشبيه كالخطباء والشعراء وغيرهم ، إن شبهوها في معرض المدح بما هو أجل منها في ذلك المعنى ، أو في معرض الذم شبهوها بما هو دونها فيه . وإذا وصفوها وصفا مطلقا لا يريدون به مدحا أو قدحا ، شبهوها بما هو مشابه لها في الشبه . والحال هنا ليست على نحو من هذه الأنحاء الثلاثة ، فإنه لا شيء يضاهي هذه الذات وأوصافها ، فضلا عن أن ينسب إليها بأنها أعلى منها أو مثلها . ووصف الشيء بما هو دونه قدح وليس من الغرض ، وإنما التشبيه والتمثيل هنا يوصف بوصف لا في معنى أدنى شبه في أحدهما أو فيهما ، بل إن لكل منهما ذاتين ، ووصف وجود[1] ، وهذا القدر الذي تشابها فيه هو لكل منهما لا غير . وعلى ذلك إذا قلنا إن الذاتين أو الوجودين أو الوصفين تشابها ، فليس ذلك على الحقيقة لأن هذا يضيق عنه نطاق النطق وتقصر عنه العبارة ، فليمجد بالصمت.
قوله : « والشفق محدق بالعرش وهو نور زبرجد» ، هذا يدل على مزج الشفق وهو أحمر بنور الزبرجد وهو شفاف ولونه أخضر عميق الخضرة ، فتارة يرى الكل كالشفق ، وتارة يرى الكل كالزبرجد ، ولذلك قال : «وهو نور زبرجد » أي الذي يرى شفا هو الذي يرى زبرجد ، وهو كما حكاه حزقيال في رؤياه لما ذكر الكرسي والجالس عليه ، فقال : « والأزهار محيطة به كمنظر قوس السحاب يوم المطر» وهي عين الألوان التي في الرؤيا ، وقد أبدعا في التشبيه وتطابقا فيه.
والرمز يدل على عهد الله في إكمال سره بتجسد ابنه الوحيد وإرثه للكل ، وإرث من آمن به وعمل بأوامره سعادة أبدية لا تحول ولا تزول ، كما أظهر تعالى قوس السحاب من بعد الطوفان علامة ودليلا وأمارة لعهده وميثاقه الذي جعله بينه وبين نوح ونسله أن لا يعود طوفان يهلكهم ويهلك الأرض كما جرى ، وكما جعل الألواح علامة لعهده مع بني إسرائيل ، وكما قال أرميا : «اسمعوا هذا الكلام ميثاق الرب »
وقد ذهب بعض علماء العبرانيين في تفسيرهم لهذا المكان من نبوة حزقيال إلى أن الأزهار التي كقوس السحاب هي لون الجالس على العرش لأنه قال : إنها محيطة به . وهذا ليس صحيحا ، فدل على أن الإشارة إلى غيره . وليس هو العرش ، لأن العرش نقى البياض كحجر السنفير ، كما في رؤيا موسى بسيناء ؛ فليس إلا ما أشرنا إليه.
قوله : « وهناك أربعة وعشرون كرسيا كائنون حول العرش وأربعة وعشرون شيخا جالسون على الكراسي متدرعون بثياب بيضاء» ، أما الكراسي فقد تقدم إنها رمز على الرفعة والمنزلة ، وكونها حول العرش رمز على القرب والاختصاص . وأما الأربعة وعشرون شيخا فهم النبياء الكبار والصغار ، أما الكبار فموسى ويشرع وصموئيل وناثان وداود وأشعياء وأرميا وحزقيال ودانيال وإيليا وأليشع وعزرا ، وأما الصغار فيوشع ويوئيل وعاموص وعوبديا ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا وحجي وزكريا وملاخی. والشيخوخة رمز على الوقار والعلم لا على تقدم السن ، فإن كثيرا منهم شباب ، وجلوسهم رمز على كرامتهم وتدرعهم بالثياب البيضاء قد قدمنا تفسيرها بأنها رمز على ثلاثة أشياء بكورية العفة ، والشهادة ، والتشريف بالرسالة والنبوة . وهؤلاء الأنبياء ، حسب ما بلغنا من قصصهم وأخبارهم ، على ثلاث طبقات :
الطبقة الأولى : من جمع بين بكورية العفة والشهادة، ويقال لهم أولو العزم الصابرون كأشعيا البكر الذي نشره منسى الملك لما وبخه ثم أحرقه وكحزقيال البكر الذي وبخ رئيس اليهود في السبي فقتله ، كذلك ذكر عنهما فردوس البيعة لابن الطيب[2] ، وكذلك دانيال أيضا بكر ، وهو في حكم شهيد من أجل إلقائه للسباع.
الطبقة الثانية : من له بكورية العفة ولم يستشهد ، كإيليا العظيم الذي صعد إلى السماء حيا وإن كان سيستشهد أخيرا ، ومثل أليشع تلميذه ، وصموئيل وأرميا وغيرهم ، بل أكثرهم ، متمسكون بالعفة.
الطبقة الثالثة : من ليس له بكورية عفة ولا شهادة كموسى ويشوع وداود ، ومن يجري هذا المجرى.
فهذه طبقاتهم بحسب هذا الاعتبار الاستقرائي ، لا بحسب ما اقتضته القسمة الحاضرة ، ولا بحسب ما اقتضاه ترتيب منازلهم ، وجميعهم متوجون لتشريفهم بالنبوة والرسالة ، بدليل قوله في بقية الفص إن الأربعة حيوانات إذا أعطوا المجد يخر الأربعة وعشرون شيخا على وجوههم ويضعون تيجانهم أمام الكرسي .
قوله : «وكان ينبثق من العرش بروق وأصوات ورعود » ، هذا الفص يدل على معنيين :
أولهما : إنه كان رمز بالشفق ونور الزبرجد المحيط بالعرش على ميثاقه تعالى مع المؤمنين بسيدنا المسيح على السعادة الأبدية ، هكذا رمز هنا بالبروق والأصوات والرعود على ما يصدر من انتقامه تعالى من الشيطان اللعين وخدامه التابعين له وما يحل بهم من المصائب دنيا وآخرة . ولذلك أدلة كثيرة من الأنبياء ، فإنهم كثيرا ما يذكرون بروقا ورعودا وأصواتا وتغييرات سماوية ، ويشيرون بها على آفات ترد مثل انقراض دولة ، أو ملاحم عظيمة ، أو غلاء ، أو جلاء ، أو وباء ، أو حصار ، وما أشبه ذلك ، لا سيما أشعياء فإنه ذكر من ذلك كثيرا ، فقال عن انقراض الدولة البابلية عن الله تعالى : « أسخط على السماء وتهتز الأرض من مكانها » ، وكما قال حزقيال في إدبار الدولة الإسرائيلية : «في ذلك اليوم تكون الزلزلة العظيمة في بني إسرائيل » ، وذكر في هذه الرؤيا مواجع كثيرة تأتي تدل على مثل هذا كما في الفصل السادس [فص 38] لما طرح الملاك النار من المجمرة على الأرض ، والفصل الحادي عشر [فص 58) عندما ظهر تابوت العهد ، وفي الفصل السادس عشر [فص 77) عندما سكب الجام ، وسيأتي بيان هذه في أماكنها.
والمعنى الآخر : لتخشي النفوس هول هذا المقام المرعب المخوف المعظم الإلهي ، فإنه قد جاء أيضا كثير من ذلك ، فمنه موقف سيناء ، فإن التوراة قالت : «في الثالث باكرا إذ أصوات وبروق وسحابة مظلمة حلت على الجبل واشتد صوت القرن والجبل تدخن» ، ثم قال : « وتزلزل الجبل» . وقال أشعياء في رؤياه : «وتزلزلت معاقم الأبواب من الصوت الذي هتف وامتلأ البيت دخانا»، وهذه الأصوات من الضرب الثاني من الاعتبار الأول حسبما بينا ذلك في شرح الفص الثامن
قوله : «وسبعة مصابيح نار محدقة بالعرش وهي سبعة أرواح الله» ، اعلم إن الذات الإلهية ، تقدس اسمها ، ليست هي الخفية عنا فقط ، بل والملائكة والشياطين ونفوس البشر والحيوانات والنبات ، فإن جميعها يعمها الخفاء عنا. وإن تفاضلت طبقاتها وتفاوتت درجاتها في ذلك ، فنحن لا نعرف شيئا من ذلك إلا بالمعرفة الاستدلالية العرضية ، بواسطة صفاتها وأفعالها وآثارها ، كما سبق وبينا قليلا من ذلك ولهذا لم يدرك الرسول من هذه الأرواح السبعة إلا أنها مصابيح نار . والرمز يدل على أربعة معان ، الأول : الإضاءة على إنهم نورانيون والثاني : القوة ، فإن قوة النار شديدة جدا والثالث : السرعة ، فإن حركة النار لسرعتها لا تحتاج إلى زمان والرابع : ما فيها من حدة . والمعنى أن هذه لم يكن لها شكل يظهر ، لكن صفاتها كصفات مصابيح النار ، وخصص المصابيح بالذكر ، ولم يقل بأنها نار لأن نور المصابيح أصفي من النار الملتهبة بالوقود ، وبالجملة فقد وصفها بما وصفها به المزمور في قوله : «خلق ملائكته أرواحا وخدمه لهيب نار واقدة» ، وقد تقدم كلام في هذه الأرواح في تفسير قوله : «ومن السبعة أرواح الكائنة أمام العرش» . والإنباء في كونها أمامه.
وقال عن كراسي الأربعة والعشرين شيخا إنها حول العرش ، ولا شك أن المحدق بالشيء أقرب إليه مما حوله ، وإضافتها إلى الله إضافة تخصيص بالخدمة والتنفيذ.
قوله : «وكان أمام عرش الله مثل بحر من زجاج وهو جليد » ، قد ذكر البحر والنهر في عدة مواضع . والقرائن والقياس والاستقراء يدل على أنه تارة يشير به إلى أورشليم السمائية التي هي خير الرضى ، وتارة يشير به إلى جهنم التي هي الغضب والسخط . أما الإشارة الأولى فدل على معناها ما قاله بعد ذلك في الفص الرابع والسبعين ، إذ قال « ورأيت مثل بحر من زجاج مختلط بنار وجميع الذين غلبوا الوحش وصورته وعدد اسمه واقفين على بحر الزجاج » ” ، ثم ذكر بهجتهم وسرورهم وتسبيحهم بقياثيرهم ، فاستدللنا بذلك على أنه خير الرضى ، ومكان راحة الأبرار وبهجتهم ونعيمهم . وذكر أيضا نهر ماء الحياة الذي في أورشليم السمائية ، لكن ليس بداخل في هذه الإشارة.
وأما الإشارة الثانية ، فإن دانيال النبي قال في رؤياه لما ذكر الكرسي : «إن بحر نار يجرى من قدامه » فاستدللنا بكونه نارا على الغضب ومحل العذاب . وقال الرسول في هذه الرؤيا إن الشيطان وجنوده يعذبون في بحر النار والكبريت، فكان هذا الدليل الثاني على الإشارة الثانية . وإذ بان ذلك ، فيظهر لي أن هذا الفص يدل على الإشارة الأولى ، لأنه كالعنوان لذكر أورشليم السمائية ، فإنه لما وصفها في الفص المائة وواحد وعشرين ، قال : « وضوءها يشبه نور حجر الجوهر الكريم كحجر الزبرجد البلوري » ، وقال أيضا إن أساسها الأول كيصب ، والذي تضمنه هذا الفص قريب من قوله بحر زجاج ، ويقصد بذلك الجليد وهو كلون السماء المشفة ، لأنه قيل في أوائل التوراة : « وقال الله ليكن جلد »، والجلد والجليد والنصب والثلج والزجاج يجمعها الإشفاف ، وأما تشبيهه لها بالبحر ، فإن الأشياء الشاخصة التي لها سمك ، إذا رؤيت من بعد أو من علو ، رؤيت كالمسطحة ، وخفى سمكها فلذلك جاز أن يرمز عليها بالبحر . وأما ما قاله في الفص الرابع والسبعين من كون البحر الزجاج مختلطا بنار ، فسيأتي بيان ذلك فيه بمشيئة الله تعالى.
قوله : « وفي وسط العرش أربعة حيوانات مملوءة عيونا من أمام ومن خلف» ، ينبغي لنا أن نشير إلى المعقولات السمائية ليتبين حال هذه الحيوانات من جملتها ولصعوبة الكلام في هذا الفن لعسر إدراكه وقلة المتكلمين فيه ، ننقل عن ديونوسيوس ، قاضی مجلس الفلاسفة بأتناس قاله فيها ، وهو : إن المعقولات السمائية ، على سعة أقسامها وكثرة صورها ، ما المشاهدة من الأنبياء ، مشتركة بالجوهر متميزة بالخواص ، ولها ثلاث مراتب وكل مرتبة تنقسم إلى ثلاث طغمات ، فتلك تسع طغمات طباقا. وكل طغمة ربوات ربوات وألوف ألوف لا يحصيها إلا بارئها الذي لا نهاية لقوته وحكمته : فطغمات المرتبة الأولى الكاروبيم والسارافيم والكراسي ، وطغمات المرتبة الثانية الأرباب والقـوات والسلاطين ، وطغمات المرتبة الثالثة الرؤساء ورؤساء الملائكة والملائكة ؛ فهذه أقسام المعقولات .
وأما تفسير الفص ففيه مسائل ، منها قوله : في وسط العرش أربعة حيوانات ، وهل في وسط العرش إلا الجالس ؟ إلا أن يكون العرش كرسي ، فتكون هذه الحيوانات تحت مقعرة من داخله كالحملة ، والمرئى جالسا ان فوقه على محدبة وهو عين ما قيل «الراكب على عروبوث» . وأما تسميه لهذه الأربعة الحيوانات ، لأنه رأى من أوجهها الكثيرة ما يشبه أوجه البهائم على ما سيذكره بعد . وأما من أية طغمة ، فأقول إنها من الطغمة الثالثة من المرتبة الأولى وهي طغمة الكراسي . وهذه المرتبة ، كما تقدم القول ثلاث طغمات : أما السارافيم فقد وصفها أشعياء النبي في رؤياه ، فقال : « والسارافيم قيام بين يديه ستة أجنحة لكل واحد منهم فباثنين منها يستر وجهه وباثنين منها يستر رجليه وباثنين منها يطير » ، ولم يذكر أن لها وجوه تشبه الحيوانات ، ولا أن لها عيونا . ولم يذكر يوحنا أن لها ستة أجنحة ، فليست هذه الحيوانات إذن من طغمة السارافيم . وأما الكروبيم فقد وصفها حزقيال في رؤياه ، فقال : «إن لكل واحد منها أربعة وجـوه وأربعة أجنحة» ، وإن يديها من تحت أجنحتها كأيدي الناس ، وكذلك أرجلها منبسطة كأرجل الناس ، لا ذات عرقوب كالبهائم ، وإن لها أظلافا كالعجول ، وإن بجانبها البكرات وربما ترجمت اللوالب وترجمتها ابن ميمون[3] الوجوه وترجمتها قوم من اليونانيين الجرايات ووصفوها بأوصاف كثيرة تخصها . ولم يذكر عن الحيوانات التي في رؤيا يوحنا إن لكل منها وجوه أربعة ولا أجنحة أربعة ، ولا وصف أيديها وأرجلها ولا بكرات تحتها . فليست هذه أيضا طغمة الكروبيم ، بل ذكرت الرؤيا بعد ذلك أن تسبيحها تسبحة المرتبة الأولى وهي : قدوس قدوس قدوس الرب الإله ضابط الكل وما يتلوه.
ولم يبق في هذه المرتبة سوى الطغمة الثالثة منها وهي طغمة الكراسي . وقد سمعت إن كلمة طغمة لا يحصى عددها لكثرتها ، فهذه الأربعة من جملتها ولعلهم مقدموها . أما كونها أربعة فليعتدل حمل المركبة لأن حمل الأربعة أمكن . وأما كونها مملوءة عيونا ، فالعيون رمز على ثاقب المعرفة والاطلاع ، لأن العين فينا أقوى حاسة للإدراك . وأما كونها من أمام ومن خلف ، فالتي من أمام رمز على الاطلاع على الحاضرات ، والتي من خلف رمز على المغيبات لأن ما هو خلفنا هو مغيب عنا .
20- (7) فالحيوان الأول يشبه الأسد والحيوان الثاني يشبه العجل والحيوان الثالث يشبه وجه ابن إنسان والحيوان الرابع يشبه النسر طائرا (8) ولكل من الحيوانات الأربعة ستة أجنحة ومن حولها ومن داخلها مملوءة عيونا ولم تفتر في النهار ولا في الليل قائلين قدوس قدوس قدوس الرب الإله ضابط الكل الكائن والذي كان والذي يأتي.
قوله : «الحيوان الأول يشبه الأسد ، والحيوان الثاني يشبه العجل والحيوان الثالث يشبه وجه ابن إنسان ، والحيوان الرابع يشبه النسر طائر» ، كل ما تذكره الكتب الإلهية فله معنى ، وكل ما تتركه فلغرض . فمن ذلك أنه قال في الحيوان الأول إنه يشبه الأسد ، وفي الحيوان الثاني إنه يشبه العجل ، ولم يقل إنه يشبه وجه الأسد ولا وجه العجل تنبيها على أن التشبيه يعم جميع شكل ذلك الحيوان ، بدليل قوله في الحيوان الرابع : إنه يشبه النسر طائرا ، ومعلوم أن وجه النسر الطائر لا يتميز عن وجه غير الطائر ، فدل بقوله طائرا على شكل بقية الطائر . ففهمنا من هذا أن الحيوان الأول صورة أسد بجملته ، والثاني عجلا بجملة هيئته ، وكذلك الرابع . فأما الحيوان الثالث فلم يقل فيه كما قال عن البقية ، بل قال : « والحيوان الثالث يشبه وجه ابن إنسان» ، فخصص الوجه خاصة بشبه ابن إنسان، ليدل على أن بقية شكله للرائي ليس كشكل إنسان ، بل كهيئة بهيمة أو طائر وهو الأقرب ، لأنها كلها يعمها الطيران فلهذا لها أجنحة . ولعله إنما ترك ذكرها لكونها معلومة والطيران رمز على سرعة الحركة ، لأن الطائر يقرب ويبعد ويظهر ويختفى بسرعة ، وكذلك الملاك . وفي قوله النسر طائرا إشعار بطيران الثلاثة الأخرى بطيران ضرورة . فأما لم وهي عقول مجردة رؤيت بأشكال وأشباه ؟ فلترشد برؤيتها إلى وجودها وحياتها وكمالها ، وإنما خصت بأشكال غير ناطقة للإرشاد إلى أن طبقتها في الوجود دون طبقة وجود بارئها تعالى . كما أن وجود الإنسان أكمل من وجود بقية الحيوانات غير الناطقة . فأما لم خص كل منها في ظهوره بشكل رؤى به ؟ فإن هذه الأشكال رموز على القوى ، كما أن القوى بواسطتها تصدر الأفعال ، وإذا أمعنت النظر وجدت في كل نوع من أنواع الحيوانات المحسوسة حكمة اقتضت شكله ومزاجه وطبعه وكماله بنفسه لنفسه ، فالأسد إنما استعد لقبول القوة الغضبية وشدتها فيه كشكله الذي هو تابع لصورته ، ومزاجه الذي هو تابع لمادته ، ولذلك صدرت عنه القوة والبطش والشجاعة والفتك والثور إنما استعد لقبول القوة الشهوانية وقوتها فيه بشكله ومزاجه كما قلنا ، ولذلك صدرت عنه الأفعال الخاصة به ، والنسر إنما استعد لبول الحركة المسرعة والسمو بشكله ومزاجه ، فصدرت عنه أفعاله الخاصة به . والإنسان إنما استعد لقبول نفسه المتميزة بسعة المعرفة بشكله ومزاجه وحكمته . ومن هذه الأشكال ، وباختصاصها بنوع ، يستدل على قوة كل واحدة من هذه القوى في كل واحد من أشخاص الناس ، وما يغلب عليه بسببها من الأخلاق والأحوال والأفعال ، واستنبطوا منها علم الفراسة ومهر فيها فيليمون وأرسطو وغيرهما . وكذلك الأرواح القدسية ، وإن كانت عقولا مجردة ، فلها قوى تناسبها وتلزمها ، وفيها تصدر أفعالها عن ذواتها . ولما كانت هذه القوى يلزمها أشكال كما بينا ، وكانت هذه الأرواح القدسية وليست هي فقط ، بل والأرواح الشريرة ، بل والقوة المفكرة التي في الإنسان ، فإنها تؤلف أشكالا غريبة في مدركاتها ، بل والقوة المصورة فينا ، فإنها تصور أشكالا تخصها بحسب ما وهبت ؛ قد منحت في خلقها من خالقها أن تتصور بأشكال متعددة وصور متفننة ، تظهر في كل واحد من هذه الأرواح بشكل يدل على على قوة تصدر بها عنه أفعاله . فبالقوة الناطقة أظهرت للأنبياء تسبيحها لبارئها ليلا ونهارا ، وبها أفهمتهم وغيرهم ما وقفوا عليه من الأسرار الإلهية والعلوم الغيبية وبالقوة الغضبية دلت على بطشها وتنفيذها للانتقام الإلهي في الشياطين والأشرار كما ورد أن كاروبا معه حربة من نار جعل حارسا لشجرة الحياة في الفردوس ، وورد أن ملاكا كان معه سيف يقلبه في الهواء فكان الوباء العظيم في أيام داود النبي . كما قيل إن ميخائيل رئيس الملائكة قتل أكثر عسكر سنحاريب الملك في ليلة واحدة وكثير من هذا سيرد في هذه الرؤيا . وبالقوة الشهوانية أيضا دلت على شوقها لبارئها وعلتها وشهوتها للتشبه به في الصالحات ، وبها تاقت إلى الجمالات الفائضة منه تعالى ، وبها تراءفت على كثير من البشر ، كما ورد في رؤيا دانيال وحزقيال وزكريا.
وبالقوة التي بها السرعة في الحركة والظهور والخفاء والقرب والبعد وطلب العلو والسمو اللائق بفضائل هذه الأرواح الطاهرة ، ترفعت عن الرذائل والخسائس التي هوت إليها الأرواح الخبيثة.
وكما أن هذه القوى ، وإن كانت موجودة في جميع الأنواع المحسوسة ، فهي في بعض الأنواع أقوى من بعض.
كذلك الأرواح القدسية ، وإن كانت هذه القوى في جميعها ، إلا أنها في البعض أقوى وأظهر.
وقد ذهب العظيم ديونوسيوس عند كلامه على هذه الأشكال إلى القول بالمثل ، حيث قال في الصدر الخامس عشر من الميمر الأول ما هذه خلاصته : كل حواس الحيوانات البهيمية وقواها وأشكالها ترتقي في أفهامنا إلى أشياء معقولة تدل عليها . وقال : فأما ما قيل إن منها ما يشبه الأسد ، فإنه مدبر لما هو دونه ، وشديد غير دليل . وأما الثور ، فلأنه صلب القوة حفوظ لا يكل الفلاحة العقلية ، وأما النسر ، فإن له الملك والحركة العلوية والارتقاء وسرة السلوك.
وذهب قوم من العلماء إلى أن صور الأنواع المحسوسة إنما أففيضت عليها بتوسط أشكال هذه الأرواح القدسية ، واستدلوا بقول أيوب : « أما عملت رسوم السماء أو تجعل رسما في الأرض ، وقول الإنجيل : «كما في السماء كذلك على الأرض» . والحق أن الخلق والإبداع لا واسطة فيه فهذا ما حصلناه في هذا الفص.
قوله : «ولكل من الحيوانات الأربعة ستة أجنحة ، ومن حولها ومن داخلها مملوءة عيونا » ، هذا مثل القول المتقدم ، وقد فسرت رموزه .
وقوله : « ومن حولها ومن داخلها » ، فالمعنى أن ظاهر هذه الصور كلها عيون ما خلا المخالب والأظفار والرأس . ولم يرد بداخلها عمقها ، بل ما يلى الأظفار من سطوح الصور وهو رمز على أنها كلها بجملتها مدركة لا جزء دون جزء كما فينا ، بل هي عقول كلها مدركة عالمة منبسطة.
قوله : «ولم تفتر في النهار ولا في الليل قائلين قدوس قدوس قدوس » وما يليه ، التسبيح والتقديس غذاء الروحانيين ولذتهم ، وهي لذة لا يشبعون منها ولا يملون ، بل يزيد طلبهم لها كلما كثر استعمالها . وكذلك كل لذة عقلية . فلهذا لا يفترون في النهار ولا في الليل . وليس هو تسبيح في الحقيقة بصوت يسمع ولا بحروف تقطع لأن القائلين والسامع غير محتاجين إلى ذلك . لكنه أدرك من مرئى النبوة ، كما أنه رمز على العشق الذي هو المحبة المفرطة والشوق الغالب إلى تلك اللذات المقدسة المعظمة ، ولكل مرتبة شعار كما سمعت ، وبقية الفص معلوم وقد مضى مثله.
21- (9) فإذا أعطت هذه الأربعة الحيوانات هذا المجد وهذه الكرامة وهذا الشكر للجالس على العرش الحي إلى أبد الأبد (10) يخر الأربعة والعشرون شيخا على وجوههم أمام العرش ويسجدون أمام الحي إلى أبد الأبد ويضعون تيجانهم أمام العرش قائلين (11) أنت المستحق أيها الرب إلهنا أن تقبل المجد والكرامة والقوة لأنك خلقت كل شيء وإرادتك كانت فخلقوا .
في هذا الفص عدة مسائل ، منها أن هؤلاء الشيوخ لم تلبس نفوسهم أجسادهم إلى الآن . فيصح ركوعهم وسجودهم ووضعهم التيجان أمام العرش ؟ والجواب : إن الرمز بالتيجان قد مضى ذكره وتفسيره . و ما كونهم يخرون بوجوههم فرمز على خضوعهم بنفوسهم . وأما سجودهم فرمز على تعبدهم لبارئهم ووضعهم التيجان رمز على خشوعهم ، لأن من وضع كرامته فقد خشع لبه ومنها إنه قال أن هذه الأرواح لا تفتر من قول هذا التقديس ، وهو اثنتا عشر لفظة ، وإذا قالته خر الشيوخ بوجوههم وسجدوا ووضعوا تيجانهم وقالوا وهو سبعة عشر لفظة ، يلحقون أن يفعلوا ويقولوا ما يفعلونه ويقولونه آخر كل تسبحة ، مع أن الحيوانات لا تفتر ؟ والجواب : بحسب ظنى إنهم يفعلون ويقولون على الوجه المذكور إذا لت الحيوانات تسبحتها ثلاث دفعات ، بدليل قوله أولا : «هذا المجد وهذه الكرامة وهذا الشكر» ، وبدليل قول الشيوخ ثانيا : «أنت المستحق أن تقبل المجد والكرامة والقوة» ، فكأنما شبهت تسبحة الحيوانات كمرة مجدا ، ومرة کرامة ، ومرة شكرا وتعبير الشيوخ بالقوة إشارة إلى ذكر ضبطه للكل فيها . وحينئذ يتم تصور ما رؤى إذ لا يرى ما لا يتصور . ومنها تكرير التقديسات ثالثا ، وهو إشعار بالثالوث المقدس .
ومنها قوله : «أنت المستحق أن تقبل» ، والاستحقاق يدل على الشرف . فأما القبول فإنه انفعال ، فكيف يعرف به أو كيف يجوز إطلاقه عليه تعالى ؟
الجواب : إن القبول يفهم على معنيين : أحدهما للتأثر والانفعال كما يقبل الخشب الاحتراق ، وليس هو المراد هنا . والآخر فعل صادر ، وهو أن يسمح بالرضى بقربان التسبحة والتواضع ، لأن ذبائح الله أرواح منسحقة ويكون تقدير القول : فنحن في رتبة من يقدم وأنت في رتبة من يقبل لأنك مستحق ذلك بخلقك للكل.
- يريد الشارح أن يقول إن لكل من المشبه والمشبه به والممثل والممثل به ذاتين ووصفين ووجودين ، أي أن ذات المشبه هي غير ذات المشبه به ، ووصف المشبه غير وصف المشبه به ، ووجوه الشبه هي غير وجوه الشبه هي غير وجوه المشبه به وهكذا عن التمثيل.
- هو القس عبد الله أبو الفرج ابن الطيب المعروف بالمشرقي ، وهو بغدادي الأصل نسطوري المذهب ، توفي سنة 1043م ، وكان من أشهر كتاب عصره وفلاسفة زمانه وضع كتبا عديدة أدبية ودينية
فمن الأدبية : 1- مجموعة مقالات مهمة في الولادة والنبات والعطور والشعر والعطش على طريقة جالينوس وبقراط ۲-تفسیر کتاب جالينوس لحيلة البرء 3- تدبير الصحة ، شرح كتاب جالينوس ٤- تفسير مقالات أرسطو
ومن كتبه الدينية : 1- فردوس البيعة وفيه شروح على العهدين في جزءين ، وهو الذي أشار إليه ابن كاتب قیصر 2- مقدمة على المزامير في 11بابا 3- تفسير المزامير ، وقد طبع منه جزءين المرحوم يوسف بك منقريوس ناظر المدرسة الإكليريكية الأسبق ، والأستاذ المحترم حبيب أفندى جرجس ناظرها الأسبق ، إلا أن الجزء الثاني فقد قبل أن يباع 4- تفسير تسابيح موسى وأشعباء 5 – مقدمة على الإنجيل 6- تفسير الأربعة الأناجيل ، وطبعه المرحوم يوسف بك منقريوس سنة 1908
7- مقالات لاهوتية في التوحيد والتثليث والأقنـوم والطبيعة في 14 بابا 8- كتاب في التوحيد 9- كتاب في فقه النصرانية الجامع للقوانين البيعية والمجامع الشرقية والغربية 10- مقالة ينكر فيها على مريم العذراء كونها أم الله على رأيه النسطوري ، وقد رد عليه يحيي بن عدیردا حسنا جدا 11- مقالة في شريعة العدل وفي شريعة الفضل ، كتبها العلامة أبو اسحق ابن العسال في كتابه « أصول الدين »
- موسى بن ميمون : هو طبيب وفيلسوف يهودي ، ولد وتعلم في قرطبة ، وتنقل مع أبيه في مدن الأندلس . أتقن علم الرياضيات والمنطق والطب . ولما أنذر عبد المؤمن بن على الكومي البربري اليهود والنصارى على أن يسلموا أو يتركوا بلاده ، فتظاهر موسى بالإسلام حتى تمكن هو وأهله من الهروب من الأندلس إلى مصر وسكن بمدينة الفسطاط بين يهودها ومكث بها 37 عاما كان فيها رئيسا روحيا للإسرائيليين وطبيبا للبلاط الأيوبي . وكان عالما بشريعة اليهود وأسرارها ، وشرح التوراة . ، ووضع مختصرا لأحد وعشرين كتابا لجالينوس في ستة عشر كتابا . وهذب كتاب الاستكمال في الهيئة لابن أفلح الأندلسي ، وكتاب الاستكمال في الرياضة لابن هود . توفي في مصر ونقل جثمانه إلى طبرية بفلسطين عن كتاب «الأعلام» للزركلي ، ص 1085 و « أخبار الحكماء» للقفطي ، ص 209 و 210]
تفسير سفر الرؤيا – 3 | سفر الرؤيا – 4 | تفسير سفر الرؤيا | تفسير العهد الجديد | تفسير سفر الرؤيا – 5 |
ابن كاتب قيصر | ||||
تفاسير سفر الرؤيا – 4 | تفاسير سفر الرؤيا | تفاسير العهد الجديد |