تفسير سفر الرؤيا اصحاح 7 لابن كاتب قيصر

الإصحاح السابع

31- (1) وبعد هذا رأيت أربعة ملائكة قائمين على أربع زوايا الأرض يضبطون أربعة الرياح كي لا تهب الرياح على الأرض ولا على البحر ولا على الأشجار .

هذه أربعة ملائكة الريح لها الرئاسة عليه ، والتوكل به ، والتصرف فيه وتوزيع منافعه ومضاره في عالم الكون والفساد . ولكل منهم جهة من الجهات الأربع التي هي المشرق ويقابلها المغرب ، والجنوب ويقابلها الشمال . وتصرف كل واحد منهم في ثلاثة أرباح : ريح وسطى مبدؤها نقطة مهب اعتدال تلك الجهة ، وريح عن جانبها الأيمن مما يلي الجنوب ، وريح عن جانبها الأيسر مما يلى الشمال ؛ فتلك اثنا عشر ريحا.

أما ملاك جهة المشرق فله الرئاسة على ثلاثة أرباح : الأولى الصبا ويقال لنقطتها مشرق الاعتدال ، وعن يمينها نقطة هي رأس الجدى وهي مهب الريح المعروفة بالأزيب(الجنوب من الرياح) ، وعـن يسـارها نقطة رأس السرطان وهي مهب الريح المعروفة بالقشبع(اسم من اسماء الرياح).

وأما ملاك جهة المغرب فله الرئاسة على ثلاثة أرياح : الأولى الدبور(الريح الغربية) ومبدؤها نقطة المغرب الاعتدال ، وعن يمينها مما يلي الجنوب نقطة مهب الريح المعروفة بالحيزبون(أصل معناها في اللغة : العجوز ، وأطلقت هنا على اسم من أسماء الرياح .) ، وعن يسارها نقطة مهب الريح المعروفة بالآخرة.

وأما ملاك جهة الجنوب فله الرئاسة على ثلاثة أرباح : الأولى المعروفة بالجنوب ، وعن يمينها مما يلي الجنوب وهي مهب الريح المعروفة بالهير(ريح الشمال)، وعن يسارها نقطة مهب الريح المعروفة بالنعامي(اسم ريح نقيض ريح الشمال)

وأما ملاك جهة الشمال فله الرياسة على ثلاثة أرباح : الأولى ريح الشمال ومبدؤها نقطتة شمال الاعتدال ، وعن يمينها نقطة مما يلي المشرق هي مهب الريح المعروفة بالقشع ، وعن يسارها مما يلي المغرب نقطة مهب الريح المعروفة بالجربياء.

 فهذا ذكر الملائكة ورياساتها والرياح التي سلطان كل منها ومهابها . وهم وقف على الأمر الإلهي ، إن أمروا بهبوب هذه الرياح على قانون مستقيم صحت الكائنات وصلحت ، وإن أمروا بغير ذلك أنهوا الأمر الذي لا محيص لهم عنه. وبهذه الرياح تكون الزلزلة الأخيرة التي تقدم ذكرها ، فكان النسق يقتضى أن يتقدم هذا الفص على الذي قبله ، ولكن كذلك اقتضت الرؤيا .

وأما قوله إنهم «يضبطون أربعة الرياح» ، فكأنه ذكر أمهات الريح وضم إلى كل منها ما على جنبيها.

وأما قوله : «کی لا تهب الرياح على الأرض ولا على البحر ولا على الأشجار » ، فلم يرد متسع هبوبها بالكلية ، ولو تأخر هبوبها لحظة واحدة لهلك كل ما على وجه الأرض . ولكنه أراد وجهين ، أحدهما : أن لا تهب هبوبا قويا مفرطا فتهدم ما تمر به وتفسد ما تهب عليه والثاني : لا تهب كل ريح من الأرباح الاثنتي عشر إلا في زمانها ومكانها ، الهبوب المقتضى لصحة الوجـود وما فيه هبوبا مستويا ، فليعمل في زيادة البحار ونقصها وجزر الأنهار ومدها ، وليتأتى الرى وانكشاف الأرض للفلاحة ولتعطى الأرض قوة الإنبات ، ليستمد النبات من المياه ما ينشأ به وينمو ويزهر ويثمر ، ولتستمد المعادن ما يتصرف في استكماله ، والحيوان قواه الروحانية والنفسانية وتعديل مزاجه ؛ كل ذلك وأضداده بحركات الريح الذاتية والعرضية .

32- (2) وتأملت فنظرت ملاكا آخر قد خرج من مشارق الشمس وكان خاتم الله معه فصرخ بصوت عظيم قبالة أربعة الملائكة الذين أعطي لهم أن يعذبوا الأرض والبحر (3) قائلا لهم لا تضروا الأرض ولا البحر ولا الشجر حتى توسم عبيد الله على جباههم .

 التأمل تجويد النظر وتحقيقه . وهذا الملاك أظنه من طغمة السلاطين ، وهو المرسوم له بهذا الأمر ، أن يوسم عبيد الله على جباههم ، بدليل قوله : «وكان خاتم الله معه» ، ولعله هو الملاك الذي وصفه حزقيال النبي فقال : «إن رجلا مطقسا وهو لابس فرفير ومنطقة مشدود بها ظهره قال له الرب من داخل في مدينة أورشليم فارسم رسوما بين أعين الرجال الذين لم يتنجسوا ».

وذكر ديونوسيوس إن هذا من طغمة السلاطين . فهناك وصف النبي طقسه وملبسه وهيئته ، وهنا ذكر الرسول الخاتم الذي به يختم ، ولم يذكر إنه أعطى هذا الخاتم الآن ، بل قال وكان معه خاتم الله فدل على أنه ذلك المرسوم لخدمة الوسم في كل حين ويجوز أن يكون غيره من طغمته أو من غيرها فإن مثل هذا لا يدرك إلا بالوحي ؛ وأما المتأول فيتعلق بأمور على أمور تناسبها أدنى مناسبة.

وخروج هذا الملاك من مشارق الشمس فرمز بذلك على أن المشرق مصـدر الأوامر الإلهية . والخاتم رمز على الإذن الإلهى له وتوليته ذلك والوسم والختم هو التمييز والعلامة ، بدليل قول هذا الرسول في الفصل السابع من بشارته عن سيد الكل : «ومن يقبل شهادته هذا ختم نفسه بأن الله حق هو»، أي من قبل الإيمان المحق فقد وسم ذاته وختمها بعلامة تدل على إيمانه بأن الله حق هو . وكون الختم على الجبهة بحيث لا يخفى ويتميز بذلك عن سواه.

 وأما قوله : «فصرخ بصوت عظيم قبالة أربعة الملائكة» ، فذلك لمعان : منها أن يظهر هذا الأمر ويشهره ليعلمه صاحب الرؤيا ويعلم به ، ومنها ليدرك الملائكة قبل أن يفرط منهم صدور ضرب على الأرض وما فيها قبل أن يميز الأبرار من الأشرار ، ومنها ليكمل الموسـومون إلى انتهائهم . وهذه الملائكة الأربعة هي ملائكة الريح المذكورون في الفص المتقدم ، وقوله : «الذين أعطي لهم أن يعذبوا الأرض والبحر» ، أي العذاب المتعلق بالريح ، إما في الحيوان : كالأمراض الشديدة من النزلات والبحوحة والقرحات والسل والوباء وموت الفجأة إلى غير ذلك . وإما في النبات : كعدم النمو وعطب الثمار وهيف المزروعات . وإما في المعدن والجماد : فبفساده لهما.

واعلم أن هذه الرؤيا أتت الإنباء بها على ثلاثة ضروب ، الأول : يخبر فيه بالأمر فإنه كان ومضى كما قال في الفص الثلاثين : «فكانت زلزلة عظيمة والشمس اسودت مثل مسح شعر والقمر كله صار دما والنجوم تساقطت من السماء على الأرض» إلى غير ذلك والثاني : يخبر فيه بصيغة المستقبل كأنه لم يكن بعد وسيكون كما ذكر في هذه الرياح ، لا سيما وهذا الفص [۳۱] في الاعتبار المعنوى قبل ذاك [۳۰] والثالث : يخبر فيه بصيغة الحال الحالة والأمر الحاضر كما قال : «هوذا فرس أبيض» [فص ٢٥] ، «هوذا فرس أدهم» [فص ٢٧] ، وما يشبه ذلك . والكل موجه نحو الاستقبال ولم يجر بعد ، فاعلم ذلك فإنه من أسرار التأويل.

 33- (4) وسمعت عدد الذين وسموا على جباههم مائة ألف وأربعة وأربعون ألفا الذين وسموا من جميع قبائل بني إسرائيل (5) من سبط يهوذا اثنا عشر ألفا من سبط رأوبين اثنا عشر ألفا من سبط جاد اثنا عشر ألفا (6) من سبط نفتالیم اثنا عشر ألفا من سبط دان اثنا عشر ألفا من سبط شمعون اثنا عشر ألفا (7) من سبط لاوى اثنا عشر ألفا من سبط يساكر اثنا عشر ألفا سبط زابلون اثنا عشر ألفا من سبط أشير اثنا عشر ألفا من سبط يوسف اثنا عشر ألفا سبط بنيامين اثنا عشر ألفا هؤلاء الذين وسموا.

قد تقدم أن السماع في الرؤيا إدراك عقلى . والوسم وكونه على الجبهة قد مضى تأويلهما . وأما جملة المتميزين بالوسم مما لا يحصى كثرة ، ولكنهم ينقسمون قسم متداخلة بحسب ملكات وأحوال وأعمال . وكل من هذه ، إما نفسانية : كالإيمان والرسالة والنبوة والمعجزة والكهنوت والعلم وغير ذلك ؛ وإما جسمانية : كالبكورية والشهادة والصبر على الأذى والنسب الإسرائيلي – ولابد من اعتبار الإيمان في الجميع لأنه الأساس – وأما العمل فقد يدرك الفوز بغيره كاللص اليمن . فجملة الذين ميزوا بالوسم على جباههم ينقسمون أولا إلى مؤمنين بالمسيح في هذا العالم كشهداء العتيقة وأنبيائها وأبرارها ، وغير مؤمنين به في هذا العالم . القسمة الثانية إلى رسل وغير ذلك الثالثة إلى أنبياء وغير أنبياء . الرابعة إلى أبكار وغير أبكار . الخامسة إلى شهداء ومعترفين وغيرهم . السادسة إلى أصحاب شدائد وغيرهم . السابعة إلى كهنة وغيرهم الثامنة إلى معلمين وغيرهم التاسعة إلى مجتهدين ومقلدين . العاشرة إلى علماء وغير علماء . الحادية عشر إلى أصحـاب معجـزات وغيرهم . الثانية عشر إلى أصحاب أشفية ومواهب . الثالثة عشر إلى أصحاب لغات وغيرهم . الرابعة عشر إلى رهبـان وسـواح وغيرهم . الخامسة عشر إلى عبرانيين وشعوبيين وغيرهم.

فأما هذه المائة ألف وأربعة وأربعون ألفا فهم الأبكار في العفة والطهارة الذين لم يعرفوا امرأة بالجملة من جملة المؤمنين بالسيد المسيح من جملة بني إسرائيل خاصة ، هذا مع فضائلهم وبرهم ، ولكن اعتبر لهم هنا ثلاث خواص : إحداها الإيمان ، والثانية البكورية ، والثالثة النسب العبراني.

فأما إيمانهم فظاهر ، وأما كونهم أبكار فلقول هذه الرؤيا الرؤيا في الفص الخامس والستين لما رأى الحمل واقفا على جبل صهيون ومائة ألف وأربعة وأربعين ألفا معه ، قال : « هؤلاء هم الذين لم ينجسوا ثيابهم مع امرأة لأنهم أبكار »

وأما كون نسبهم عبراني ، فهو بين بما فصل من أسباطهم ، ولا تنكرن أن يكون أكثر هذه العدة أبكارا جملة المؤمنين بالدعوة المسيحية من أسباط بني إسرائيل ، فإن كتاب الإبركسيس يقول : «إن القسوس الذين بأورشليم قالوا لبولس لما عاد إليها من جهات البشرى أرأيت يا أخانا كم من ربوة من اليهود قد آمنوا » ، فإن كان هذا في أورشليم المدينة الواحدة ، فما ظنك بالعالم كله الذي كان الأسباط تفرقوا فيه ، بدليل قول يعقوب في أول رسالته : « إلى الاثنى عشر سبطا المتفرقين في العالم»؟ ولكن تعجب من اتفاق عدة هؤلاء الأبكار من كل سبط حتى لم يزد عدد سبط على آخر فسبحان المحيط بهذه الغوامض من الأزل. 

وقد ذهب أيبوليطس أسقف إحدى بلاد رومية في تفسيره هذا الفص من الرؤيا إلى هذا الرأى وهو الصحيح.

فأما ذهب من المفسرين إلى أن هذه العدة هم الأطفال الذين قتلهم هيرودس فهو بعيد ضعيف ، ووهم من قائله أولا : لأن هؤلاء الأطفال لم يؤمنوا بالدعوة المسيحية ثانيا : لأن الدعوة المسيحية لم تكن قد ظهرت بعد  ثالثا : لأن القتلى من الأطفال لم يبلغوا هذه العدة ولا أهل تلك النواحي بجملتهم . رابعا : لأن الإنجيل يخبر أن الذين قتلوا هم أطفال بيت لحم ويهوذا وتخومها ، وذلك من قسمة سبط يهوذا لا غير . أما هذه العدة فمن الأسباط الاثني عشر على التساوى ، وقد ذكرت الرؤيا أن هذه العدة أبكار أعفاء أطهار أهل المضايق والشدائد ، وفي الفص الخامس والستين إنهم صادقون لم يوجد أحد كاذب فيهم ، والله أعلم.

وأما قوله : « هؤلاء الذين وسموا » فإن لفظة هؤلاء محذوفة هنا في النص القبطي وهي المبتدأ لدلالة خبره عليه ، والمعنى أن هؤلاء الذين وسموا هم الأبكار ، ومن جملتهم الأبكار المؤمنين بالمسيح من بني إسرائيل خاصة .

34- (9) ومن بعد هؤلاء رأيت جمعا عظيما لا استطاعة لأحد أن يعده من كل شعب ومن كل لغة ومن كل قبيلة ومن كل لسان واقفين أمام العرش وأمام الحمل لابسين حللا بيضاء وسعف نخل في أيديهم (10) يصرخون بصوت عظيم قائلين الخلاص لإلهنا الجالس على العرش والحمل (11) والملائكة جميعهم واقفين أمام العرش والشيوخ وأربعة الحيوانات فخروا بوجوههم أمام العرش وسجدوا لله قائلين آمين (12) السبح والمجد والحكمة والشكر والكرامة والعز لإلهنا إلى أبد الآبدين آمين .

 هذا الجمع العظيم ، بحسب ما فسره بعد ذلك ، هم أصحاب المضايق والشدائد ، كالذين سبوا أو نهبوا أو عوقبوا أو هجوا من البلايا التي أدركتهم أو قتل أهلوهم أو من يعز عليهم . كل ذلك من أجل الإيمان أو البر أو ظلما أو من وقع في أدواء معضلة فيصبر عليها كالعازر المضروب بالقروح الممثل به في الإنجيل المقدس ، ومن بلى بالفقر الشديد المدقع وهو صابر محتسب، إلى غير ذلك من مصائب هذا العالم.

فأما : هل أهل هذا الجمع أبكار أيضا من الشعوب أم لا ؟ ففيه نظر لأنهم ذكروا بعد الأبكار الذين من بني إسرائيل ؛ ومن الضرورة أن يكون من الأمم أيضا أبكار . ولا شك إنهم يكونون أكثر بكثير ، لأنه لا نسبة لبنى إسرائيل إلى كثرة الأمم ، فتكون أبكارهم بهذه النسبة كذلك . ويحتمل أن يكون الأبكار الذين من الأمم من جملة هؤلاء . لكن يخرج من هؤلاء أبكار الأمم الذين لم يقعوا في الشدائد . لأنه ليس من الضرورة أن يقع كل بكر في الشدائد ، بل فيهم من وقع فكان من جملة أصحاب الشدائد ، ومنهم من لم يقع في شدة. ومن جملة التقسيمات المتقدمة يتبين لك هذا.

 قوله : « من كل شعب ومن كل لغة ومن كل قبيلة ومن كل لسان » الشعب عدة قبائـل والقبيلة أصـل وضعها للقطعة من عظم الرأس والجمع قبائل وبذلك سميت الجماعة إذا كانوا بنى أب واحد واللسان هو في الأصل مخرج الكلام وقد كنى به عن الكلام . واللغة معروفة وهي أخص من اللسان كما نقول لسان حبشي ، وإن كانت تحته عدة لغات مختلفة تجمعها الحبشية وكذلك الرومية والتركية وغير هذه الألسنة.

قوله : « واقفين أمام العرش وأمام الحمل» ، وقوفهم خدمة منهم ولذة لهم وكونه – الوقوف – أمام العرش وأمام الحمل ، تقريبا لهم ورفعة لدرجتهم قوله : « لابسين خللا بيضاء» قد مضى تفسيره ، وحملهم السعف في أيديهم دلالة على انتصارهم لأنه علامة الظفر ، ولأن السعف لا يذبل طوال أيام السنة ، فهو إشارة إلى نضارة فضائلهم وخلودها . وكونهم « يصرخون بصوت عظيم» رمز للشعور بالأمن والطرب والعزاء.

قوله «قائلين الخلاص لإلهنا الجالس على العرش والحمل» ، على سبي لالتسبيح للآب والابن.

 قوله : « والملائكة جميعهم واقفين أمام العرش» ، وقوف الملائكة أمام العرش طاعة وخدمة.

قوله : « والشيوخ وأربعة الحيوانات فخروا بوجوههم أمام العرش وسجدوا لله» ، تقدير هذا القول : عندما سبحت الجموع والملائكة وقوف ، خر الشيوخ وأربعة الحيوانات وقالوا « آمين » ، بمعنى حق ، تقريرا لتسبيح الجموع . ثم سبحوا هم ومجدوا فقالوا : «السبح والمجد والحكمة والشكر والكرامة والعزة لإلهنا إلى أبد الآبدين آمين» ، الأبد هو الدهر لغة والجمع آباد ، وأبد الآبدين : دهر الدهور، واستعماله شرعا معناه عدم النهاية ، ولفظة آمين هنا بالمعنى المتقدم ، أي حقا.

35- (13) فأجاب واحد من الشيوخ وقال لي من هم هؤلاء الذين لبسوا ثيابا بيضاء عليهم ومن أين أتوا (14) فقلت له يا سيدی أنت العارف بهم فقال لي هؤلاء هم الآتون من المضايق الشديدة فابیضت حللهم وزهت بدم الحمل (15) فمن أجل ذلك يكونون أمام عرش الله ويخدمونه في هيكله النهار والليل والجالس على العرش هو يظلل عليهم (16) فلا يجوعون ولا يعطشون بعد ولا يتعبون ولا حر عليهم ولا السموم كلها (17) لأن الحمل الكائن أمام العرش هو يرعاهم ويهديهم إلى ينبوع ماء الحياة ويمسح كل دمعة من عيونهم .

 قوله : «فأجاب واحد من الشيوخ وقال لي» ، الجواب لا يكون إلا لسؤال متقدم ، ولم يتقدم ذكر سؤال من الرسول فيكون هذا الجواب عنه. والجواب عن هذه المسألة أن ذلك الشيخ رأى الرسول مندهشا ، متشوقا تشوق سائل مستفهم عما رآه من حال هؤلاء الجمع اللابسين البياض وسبب هذا الملبس ، فقام هذا مقام السؤال ، وحينئذ ساغ له أن يقول فأجاب واحد من الشيوخ وقال لي.

وأما هذا الشيخ المجيب من هو ؟ فيجوز أن يكون أشعياء النبي ، لأن كثيرا من هذا الفص يطابق ما قاله في نبوته ، فإنه قال في الإصحاح الثاني عشر[1] « ويبتلع الموت بالغلبة إلى الأبد ويصرف الله القوى الدمعة من جميع الوجوه» ، وقال في الإصحاح الرابع والعشرين : « ويكون مرعاهم في جميع السبيل لا يجوعون ولا يعطشون ولا يضرهم السموم والشموس لأن رأسهم يسوقهم وإلى ينابيع الماء يأتى بهم ».

وأما استفهامه من الرسول بقوله : «من هم هؤلاء الذين لبسوا ثيابا بيضاء عليهم ومن أين أتوا » فليس استفهام عن جهل منه بهم ، لكن لينبهه على أن يسأله عنهم ويستفهم منه عن حالهم إذ رآه متشوقا لذلك كما قلنا فاستفهم منه استفهاما بالتعريض الحافظ لنظام الأدب وضبط الاحتشام ؛ ولذلك قال : « يا سيدي أنت العارف بهم» ، فأفصح له عن ثمانية أمور لهم :

أولها : سبب تجملهم بهذه الملابس البهية والإنعام بها عليهم ، فقال إن ذلك ما قاسوه من المضايق الشديدة من أجل الإيمان والبر . وقد حللنا الرموز بالثياب البيضاء حلا مستوفيا في تفسير الفص الخامس عشر الذي أوله : «اكتب إلى الملاك الذي لكنيسة سرديس» ، والمراد من أقسامه هنا الطبقة الرابعة من القسم الثاني وثانيها : سبب قبول جهادهم ، وهو إهراق دم الحمل عنهم وعن غيرهم ، وذلك لحسن قبولهم وشرف محلهم ، فكانوا كالأضحية الطاهرة الزكية ، بدليل قوله : «حللهم وزهت بدم الحمل» ، وإلا فالثياب لا تبيض بالدم بل تحمر ، ولا تزهى بل يكبو لونها . وإنما تقدير القول إنه بإهراق دم الحمل عن البشر قبل جهادهم واجتهادهم على البر والإيمان فكانت مجازاتهم بالمدح والنعمة الإلهية المرموز عليها بالثياب البيضاء وثالثها : كونهم أمام العرش المرموز به على الزلفي. ورابعها : خدمتهم المرموز عليها بالاختصاص والتمييز وخامسها : كون الجالس على العرش يظلل عليهم المرموز به على عدم تأثرهم بالأعراض المؤلمة بالجسم كالتعب والحر والبرد . وسادسها : كونه تعالى يرعاهم والرمز بذلك على تأثرهم بالجوع وسابعها : كونه يهديهم إلى ينبوع ماء الحياة والرمز بذلك على العطش وثامنها : كونه يمسح كل دمعة من عيونهم والرمز به على عدم الخوف والهم والغم والحزن والألم ، فإن هذه مقتضية للبكاء والدموع. 

  1.  قوله الإصحاح الثاني عشر هو بحسب التقسيم القبطى ، وأما بحسب التقسيم الحديث فهو إش 25: 8.

 

تفسير سفر الرؤيا – 6 سفر الرؤيا – 7 تفسير سفر الرؤيا تفسير العهد الجديد تفسير سفر الرؤيا – 8
ابن كاتب قيصر
تفاسير سفر الرؤيا – 7 تفاسير سفر الرؤيا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى