تفسير سفر الرؤيا أصحاح 11 للقس مكسيموس صموئيل
الأصحاح الحادي عشر
إرسال النبيين
برز في هذا الأصحاح اهتمام الله بإرسال الشاهدين لمقاومة ضد المسيح
1. إحصاء المؤمنين
2. إرسال النبيين
3. البوق السابع
1. إحصاء المؤمنين 1-2
” ثم أعطيت قصبة شبه عصا، ووقف الملاك قائلاً لي: قم وقس هيكل الله والمذبح والساجدين فيه. وأما الدار التي هي خارج الهيكل فاطرحها خارجًا ولا تقسها، لأنها قد أعطيت للأمم، وسيدوسون المدينة المقدسة اثنين وأربعين شهرًا”.
سينادي ضد المسيح بنفسه إلها “حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله، مظهرًا نفسه أنه إله” (2تس 2: 4) ، وسيأخذ مدينة أورشليم “المدينة المقدسة” مركزًا لبث أفكاره الشيطانية. ويرى القديس كيرلس الأورشليمي أن اليهود الأشرار يتقبلونه مسيحا لهم، ويتعبدون له ظانين أنه يقدر أن يبني لهم هيكل سليمان ويعيد إليهم مجدهم القديم، منخدعين وراءه بسبب الآيات والعجائب التي يصنعها.
وسينخدع وراءه أيضًا بعض المسيحيين الذين ينتظرون ملكوتا أرضيًا، فيحسبونه السيد المسيح جاء ليملك على الأرض المادية. لهذا يحذرنا الرب قائلاً: “حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا” (مت 24: 23)
وهنا يطمئنا الرب يسوع أن أولاد الله الحقيقيين الذين تعلقت نفوسهم بالرب منتظرين ملكوتا أبديًا سماويا هؤلاء محفوظون ومعروفون لديه.
لقد سبق أن أعطى لحزقيال قصبة قياس (حز 40: 5) ، وهنا أخذ الرائي قصبة شبه عصا، أي قصبة قوية وثابتة ليقيس أولاد الله “هيكل” الله ” ، هؤلاء الذين يسجدون بالروح والحق ليس ابتغاء مجد زمني مادي، بل حياة أبدية خالدة مع ربنا يسوع. أما الذين هم خارج الهيكل، أي غير المؤمنين، فلا يقسهم، لأن برفضهم السكنى مع الله لا يعرفهم الرب كأبناء أخصاء.
ويرى الأسقف فيكتورينوس أن الهيكل يشير إلى المؤمنين الثابتين في الكنيسة، والدار الخارجية هم الخارجون عن الكنيسة. أما مدة الاثنين والأربعين شهرًا فهي المدة التي يضلل فيها المخادع “ضد المسيح”.
2- إرسال النبيين ”
وسأعطي لشاهدي فيتنبان ألفًا ومائتين وستين يوما لابسين مسوحًا”.
في الوقت الذي فيه يظلم العالم بسبب مجيء ضد المسيح وانتشار أضاليله يرسل الله شاهديه “إيليا وأخنوخ” اللابسين مسوحًا، الزاهدين في أمور هذا الزمان، ليُقاوما ذاك الذي يُنَصّب نفسه ملكًا وهو مترفه مع أتباعه. وقد نادى الآباء الأولون بأن الشاهدين هما إيليا وأخنوخ وفي مقدمتهم يوستينوس الشهيد وهيبوليتس وأغناطيوس النوراني والعلامة ترتليان وأغسطينوس ومار أفرام السرياني والأب يوحنا الدمشقى.
يقول الأسقف هيبوليتس : [إنه لأمر طبيعي أن يظهر أولاً قبل الدينونة سابقاه كما قال على لسان ملاخي: “أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن” (4: 5-6)].
يقول العلامة ترتليان “لقد انتقل أخنوخ (تك 5: 24 ،عب 11: 5) وأيضًا إيليا (2مل 2: 11) دون أن يذوقا الموت. لقد أرجئ موتهما إذ هما محفوظان ليحتملا الموت حتى أنه بدمهما يسحقا ضد المسيح” (رؤ 11: 13)
هكذا يهب لهما الرب روح النبوة “فيتنبان” وتكون لهما القدرة على صنع المعجزات والوعظ ومحاورة ضد المسيح وشيعته. أما فترة شهادتهما فهي 1260 يومًا إلى يوم إستشهادهما. أما فترة ضد المسيح فهي 42 شهرًا أو ثلاث سنين ونصف أي 1278 أو 1279 يومًا، فيبقى 18 أو 19 يوما بين إستشهادهما وموت ضد المسيح وانتهاء مملكته.
أما النبيان فيصفهما الوحي هكذا:
1. صانعا السلام: “هذان هما الزيتونتان”، إذ يشير الزيتون إلى السلام والبناء، لا إلى التخريب والهدم. فكما جاءت حمامة نوح معلنة بغصن الزيتون نهاية الطوفان هكذا يعلن الروح القدس خلال الشاهدين عن حفظه للكنيسة وفرحها الداخلي وسلامها الذي لن ينزع من قلبها. وكما حمل الشعب أغصان الزيتون متهللين بالرب داخل أورشليم ليذبح عن عروسه، هكذا يتقدم إيليا وأخنوخ كغصني زيتون تتهلل بهما الكنيسة المنتصرة التي تذبح من أجل عريسها.
2- شاهدان للنور الحقيقي: “المنارتان” القائمتان أمام رب الأرض”. في شهادتهما له لا يفارقهما الرب بل يكونان على الدوام قائمين أمامه. وهذا يعطيهما الشجاعة والحكمة في خدمتيهما. يكونان كمنارتين، ونحن نعلم أن المنارة كانت في الهيكل تضاء بالزيت الذي يشير إلى الروح القدس. هكذا لا يشهد إيليا وأخنوخ من ذاتهما، بل ينير فيهما الروح القدس روح أبيهم الذي يتكلم فيهما (مت 10: 20) أنهما بروح الرب يعينان الكنيسة في عملها الإلهي، أي الشهادة للرب. فنتأكد من وعد الرب أنه ليس بالقدرة ولا بالقوة لكن بروحه (زك 4: 6) تشهد له.
3- غيوران: “وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما، تخرج نار من فمهما، وتأكل أعداءهما، وإن كان أحد يريد أن يؤذيهما فهكذا لابد أنه يُقتل”.
هذا يذكرنا بما صنعه إيليا مع قائدي الخمسين وجنودهما حين طلب نارًا من السماء فأحرقتهم(2مل 1: 10-12). سيتكلم الشاهدان بكلمة الله النارية التي تحرق قش البدع والهرطقات التي يبثها ضد المسيح وأتباعه، وذلك كوعد الرب لإرميا النبي: “أليست هكذا كلمتي كنار يقول الرب وكمطرقة تحطم الصخرة؟” (إر 23: 29) هأنذا أجعل كلامي في فمك نارا وهذا الشعب حطبًا فتأكلهم” (إر 5: 14). هكذا تتسلح الكنيسة دومًا بكلمة الله النارية التي تحرق في داخلنا قش الخطية وتبدد أيضا كل قوات إبليس وتلاشي كل ظلمة.
4. يصنعان معجزات: “هذان لهما السلطان أن يغلقا السماء، حتى لا تمطر مطرًا في أيام نبوتهما. ولهما سلطان على المياه، أن يُحوّلاها إلى دم، وأن يضربا الأرض ضربة كلما أرادا”.
يهبهما الله سلطانا واسعًا لا كإبراز قوة أو سلطان، لكن لأجل رد النفوس وخلاص الذين انحرفوا وراء ضد المسيح. إنهما يصنعان ما فعله إيليا مع الشعب المرتد إلى عبادة الأصنام (1مل 17-18) وما صنعه موسى بسبب قسوة فرعون.
شهادتهما :
” ومتى تمما شهادتهما، فالوحش الصاعد من الجحيم سيصنع معهما حربًا، ويعذبهما ويقتلهما”.
الحرب قائمة طوال مدة شهادتهما، والرب حافظهما. وفي الوقت المحدد الذي يرى فيه أنهما قد تمما رسالتهما، وبقي أن يثبتاها بالاستشهاد، يسمح لضد المسيح الصاعد من الجحيم إذ يسكنه إبليس أن يغلبهما ويقتلهما. وفى قتلهما لا تموت شهادتهما بل تتأكد أكثر فأكثر، لأنهما شهدا للحق حتى الموت. وفي قتلهما تستكين نفوس المجدفين ظانين أنه قد مات اللذان كانا يعذبان ضمائرهم وقلوبهم بكلمة الحق.
” وتكون جثتاهما على شارع المدينة العظيمة، التي تدعى روحيًا سدوم ومصر حيث صلب ربنا أيضًا”.
يستخدم ضد المسيح حيلاً شيطانية للتنكيل بهما فيترك جثتهما في الشارع لمدة ثلاثة أيام ونصف. وجاء النص اليوناني “جثتاهما” بصيغة المفرد، إشارة إلى أن ما يحدث بجثتيهما ليس عن عداء شخصي بل هو عداء ضد الكنيسة الواحدة، فإذ عملا بروح واحد نالا نصيبًا واحدًا، هو نصيب الشاهد الأمين للحق أن يُهان ويُرذل من الأشرار. لكن الله يحوّل الشر إلى خير، فيجعل من هذا التصرف الصبياني فرصة لإعلان شهادتهما حتى يتمجد فيهما بعد قليل.
والعجيب أن شهادتيهما تكونان في أورشليم التي تمتعت بوجود الرب بالجسد، فإنها:
1. تدعى عظيمة لا في قداستها، لكن في الشر الذي يبثه ضد المسيح هناك.
2. تدعى روحيًا سدوم، إشارة إلى شدة انحطاطها وفسادها (إش 1: 10) ، ومصر بسبب القسوة التي أظهرها فرعون.
3. وهي التي صلب فيها ربنا، فإذ سبق أن احتقرت الرب، ها هي تحتقر أولاده.
” وينظر أناس من الشعب والقبائل والألسنة والأمم جثتيهما ثلاثة أيام ونصف، لا يدعون جثتيهما توضعان في قبور. ويشمت بهما الساكنون على الأرض، ويتهللون ويرسلون هدايا بعضهم لبعض، لأن هذين النبيين كانا قد عدبا الساكنين على الأرض”.
إنهم يهينون جثتيهما بتركهما منظرًا للشماتة. وإذ يكون في مملكة ضد المسيح مندوبون من كل الشعوب والقبائل والألسنة والأمم في مدينة أورشليم مركز بث أفكاره الشيطانية، يسرعون بالتطلع إليهما في شماتة ويمتلئ قلب الأشرار تهليلاً وتشفرًا لأنه كان معنا يتمييخهما ستستكين قلم بهم ويتبادلون الهدايا والتهاني ولكن إلى حين!
إقامتهما وصعودهما:
“ثم بعد الثلاثة أيام والنصف دخل فيهما روح حياة من الله، فوقفا على أرجلهما، وقع خوف عظيم على الذين ينظرونهما”.
لا يقوما بسلطانهما الشخصي، لأنهما مخلوقان عاديان وليس كالإله المتجسد الذي له سلطان أن يضع نفسه وأن يقيمها، بل ذاك الذي سمح باستشهادهما وترك الناس يشمتون فيهما حول هذا لتأكيد رسالتيهما، إذ وهب لهما “روح حياة”.
هذا العمل أعاد الرجاء في النفوس التي خارت وانحرفت، لأن رجاء الكنيسة المفرح يتركز في القيامة (1تس 4: 16-18) إذ تختم دستور إيمانها بالقول: ” وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي”. بهذا العمل تترنم الكنيسة قائلة ” عند المساء يبيت البكاء وفي الصباح الترنم” (مز 30: 5).
لكن لكي لا يجترئ أحد فيظن أنهما يقومان بفعل شيطاني، سمع الواقفون صوتًا عظيمًا من السماء قائلاً لهما اصعدا إلى ههنا فصعدا إلى السماء في السحابة ونظرهما أعداؤهما”.
وزاد التأكيد بأنه “في تلك الساعة حدثت زلزلة عظيمة، فسقط عشر المدينة، وقتل بالزلزلة أسماء من الناس سبعة آلاف، وصار الباقون في رعبة وأعطوا مجدًا لإله السماء”. تؤكد الزلزلة سمائية رسالتهما، ويشهد بذلك بقية الناس الذين لم يُقتلوا بالزلزلة، لكنهم للأسف لا يتوبون، بل يرهبون ويعطون مجدًا “لإله السماء” دون أن يقبلوه “إلها لهم”. سيشهدون له، لكنهم لا يريدون الانتساب إليه، يعرفون قوته، لكنهم لا يختبرونها، يرهبونه لكنهم لا يحبونه.
بهذا يختتم الشاهدان رسالتيهما، وقد بقى لنا أن نعرف عنهما:
أولاً: أنهما اثنان لأنه ” على فم شاهدين تقوم كل حجة”.
ثانيًا: جاءا بروح السيد المسيح فاديهما، متمثلين به في أمور كثيرة
- أن مدة خدمتهما حوالي ثلاث سنين ونصف، وهي مدة خدمة السيد المسيح العلنية.
- صلب الرب من أجل الحق، ووهب لهما أن يستشهدا في نفس المدينة.
- قام الرب بسلطانه ووهب لهما “روح” حياة” لتأكيد رسالتهما.
- صعد الرب أمام الكنيسة ليعلق قلبها بالسماء، لأنه حيث يكون الرأس تكون الأعضاء أيضا، أما النبيان فيصعدهما الرب والكنيسة كلها مشتتة في البراري، لكنه يصعدهما أمام أتباع ضد المسيح والمنحرفين لكي يبكتهم.
- عند صلب الرب حدثت زلزلة، فقام قديسون في المدينة فرحين متهللين بالخلاص. وعند إصعاد الشاهدين تحدث زلزلة يموت فيها عُشر الناس المعروفين بغلاظتهم لتقديم فرصة لتوبة البقية.
وهكذا يكون “الويل الثاني مضى، وهوذا الويل الثالث يأتي سريعًا”.
3. البوق السابع: مجيء الرب للدينونة:
يعلن البوق الأخير عن الأحداث الأخيرة الخاصة بمجيء ربنا يسوع على السحاب، أي بعد ضد المسيح مباشرة.
“ثم بوق الملاك السابع، فحدثت أصوات عظيمة في السماء، قائلة، قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه، فسيملك إلى أبد الآبدين. والأربعة والعشرون قسيسا الجالسون أمام الله على عروشهم خروا على وجوههم وسجدوا له، قائلين: نشكرك أيها الرب الإله القادر على كل شيء، الكائن والذي كان والذي يأتي، لأنك أخذت قدرتك العظيمة وملكت. وغضبت الأمم، فأتى غضبك وزمان الأموات ليدانوا ، ولتعطى الأجرة لعبيدك الأنبياء والقديسين والخائفين اسمك، الصغار والكبار، وليهلك الذين كانوا يُهلكون الأرض”.
ما أن ارتفع إيليا وأخنوخ حتى سادت السماء أناشيد النصرة التي لا يكف الأربعة وعشرون قسيسا وكل السمائيين عن التسبيح بها. لقد بلغت مقاصد الله غايتها، وكل شيء قد تم لكي يظهر الرب منتصرا بعد ما تزول السماء والأرض الماديتان لهذا نطق الأربعة والعشرون قسيسا بتسبحة الشكر، كما ينطق الأربعة المخلوقات الحية بالشكر أيضًا (رؤ 4: 9).
لهذا لا تكف الكنيسة عن أن تعلمنا تسبحة الشكر” في كل وقت وفي كل مناسبة، فنصلي بصلاة الشكر في صلواتنا الفردية والعائلية والكن سيّة، في القداسات، وفى الأفراح وفى الأحزان، وبهذا نتدرب على لغة السماء “التسبيح والشكر”!
والعجيب في التسبحة المذكورة أنها تنسب للرب على ما يهبنا إياه، فإذ ننال نحن القدرة العظيمة ونملك معه إلى الأبد، تسبحه الملائكة: “لأنك أخذت قدرتك العظيمة وملكت”.
والجميل أيضا أن الله يجازي خائفيه “الصغار والكبار”، مبتدئًا بالصغار (مز 115: 13)، إذ هو لا ينسى أحدًا !
أما غضبه على الأشرار وإهلاكه لهم فليس إلا ثمرة طبيعية لفعلهم الذي يرتد عليهم إذ “كانوا يهلكون الأرض”. ليس في الله بغضة ولا حب انتقام بانفعالات بشرية، لكنه في عدله يترك الأشرار فيهلكهم شرهم الذي اختاروه وأحبوه وارتبطوا به.
منظر آخر
” وانفتح هيكل الله في السماء وظهر تابوت عهده في هيكله”
كلمة “هيكل” في اليونانية تعني هنا “قدس الأقداس”، الموضع الذي لا يدخله إلا رئيس الكهنة مرة واحدة في السنة.
لأول مرة ينفتح بيت العرس ويدخل الإنسان ليرى الله وجها لوجه في كمال أمجاده وعظمته، ويرى تابوت عهد الرب، أي يدرك وجود الله في أروع صورة. ويبقى هناك متأملاً هائمًا من لحظة إلى لحظة – إن صح التعبير – كأنه لأول مرة يراه ويبقى هكذا إلى الأبد.
ليقف القلم وليبكم اللسان ولتنته التعبيرات، ولنتأمل وعد الله الأمين، أن ندخل إلى فرح سيدنا ويكون لنا الله إلها، ونحن نكون له أبناء.
هذا هو الجانب المفرح للدينونة، أما بالنسبة لدينونة الأشرار فيقول: “وحدثت بروق وأصوات ورعود وزلزلة وبرد عظيم”. إنها ثورة عارمة يراها الأشرار ويلمسونها بسبب شرّهم وإثمهم فلا يطيقونها.