تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا اصحاح 13 للقديس كيرلس الكبير
الأصحاح الثالث عشر
عظة 96 مثل شجرة التين لو13: 6-9
(لو13: 6-9): ” وقال هذا المثل: كانت لواحد شجرة تين مغروسة في كرمه فأتى يطلب فيها ثمراً ولم يجد. فقال للكرام: هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرا في هذه التينة ولم أجد. اقطعها. لماذا تبطل الأرض أيضا؟. فأجاب وقال له: يا سيد اتركها هذه السنة أيضا حتـى أنقب حولها وأضع زبلاً. فإن صنعت ثمراً وإلا ففيما بعد تقطعها “.
يظهر المرنم اللطف الفائق للمسيح مخلصنا كلنا بهذه الكلمات: ” يا رب من هـو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده” (مز 4:8). لأن الإنسان من جهـة طبيعتـه الجسدية هو تراب ورماد، ليس من جهة هيئته الجسدية بـل بـالأحرى بـسبب أنـه يستطيع أن يكون بارا وصالحا ولائقا لكل فضيلة. لذلك يعتني به الخالق لكونه خليقته وكي يزين به الأرض لأنه كما يقول إشعياء النبي: “لم يخلقها باطلا (بـل) للسكن صورها ” (إش 54: 18)، فهي مسكونة بالطبع بكائن حي عاقل يمكنه بعينـي الـذهن أن يدرك خالق الكون وصانعه وأن يمجده مثل الأرواح العلوية. ولكن بسبب أنه انحرف بعيدا نحو الشر بسبب حيل الحية الخادعة، وبسبب أنه قيد بسلاسل الخطيـة وابتعـد تماما عن الله، فالمسيح لكي يمكنه أن يرتفع مرة ثانية إلى فوق؛ جاء لكي يبحث عنه ويشكله من جديد على الصورة التي كان عليها في الأول، ومنحه التوبة كطريق يقوده للخلاص.
لذلك فهو يقدم مثلاً حكيما، لكن ينبغي علينا أولاً أن نشرح ما هي المناسبات التي أدت إلى ذلك، أو ما هي الضرورة التي دعت الرب أن يقدم هذا المثل. فقد كان هناك البعض الذين أخبروا المسيح مخلصنا كلنا أن بيلاطس قتل ـ بطريقة وحشية وبـلا شفقة – بعض الجليلين وخلط دمهم بذبائحهم. وآخرون أخبروا عن برج سلوام الـذي سقط وقتل ثمانية عشر شخصا تحت أنقاضه. ويشير المسيح بعد ذلك لهـذه الأشياء بقوله لسامعيه: ” الحق أقول لكم انكم ان لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون”. هذا هـو أساس وأصل المثل الحالي، وما يهدف إليه.
والآن فالمعنى الظاهري لهذه الفقرة لا يحتاج إلى كلمة واحدة لتفسيره، لكن عندما نفحص في المغزى الداخلي والخفي، فإننا نؤكد ما يلي: كان حقا على الإسرائيليين بعد صلب مخلصنا أن يقعوا في البلايا التي يستحقونها، فحوصرت أورشليم وذبح السكان بسيف العدو ولم يهلكوا هكذا فقط، بل أحرقت بيوتهم بالنار، وحتى هيكل الله قد ثمر. لذلك فمن المحتمل أن الرب يشبه مجمع اليهود بشجرة تين، لأن الأسفار المقدسة تشبههم أيضاً بنباتات مختلفة، مثلاً بالكرمة وبالزيتونة وحتى الغابة، لأن هوشع النبي يقول مرة عن أورشليم أو بالأحرى عن سكانها: “إسـرائيل كرمـة ممتـدة” (هوشـع 10: 1 س)، ويقول إرميا النبي أيضا: “زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الـصورة دعـا الرب اسمك. بصوت ضجة عظيمة، أوقد ناراً عليها فانكسرت أغصانها” (إر 16:11). ويقارنها أحد الأنبياء القديسين بجبل لبنان فيتكلم هكذا: “افتح أبوابك يا لبنان فتأكـل النار أرزك” (زك 11: 1)، لأن الغابة التي كانت في أورشليم والناس الذين كانوا هنـاك وكانت أعدادهم كبيرة أبيدوا كما بنار. لذلك فكما قلت، فإن الرب يأخذ شجرة التـين التي تكلم عنها في المثل كرمز للمجمع اليهودي أي للإسرائيليين. ويقـول: ” هـوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمراً في هذه التينة فلم أجد”. وأنا أرى أن الرب يشير لنا بهذه الثلاث سنوات إلى ثلاث فترات متعاقبة لم يأت أثناءها المجمع اليهودي بأية ثمـار. ربما يمكن للمرء أن يقول إن الفترة الأولى منها كانت تلك التي عاش فيهـا موسـى وهارون وأبناؤه الذين خدموا الله متقلدين وظيفة الكهنوت بحسب النـاموس. الفتـرة الثانية كانت فترة يشوع ابن نون والقضاة الذين جاءوا من بعده، والفترة الثالثة كانت تلك التي ازدهر فيها الأنبياء المباركون إلى زمن مجيء يوحنا المعمدان. أثناء تلـك الفترة لم تأت إسرائيل بأي ثمر.
ولكنني أتخيل أن البعض يعترضون على هذا قائلين: ” ولكن انظر، فإنها قد أكملت الخدمة التي أمر بها الناموس وقدمت الذبائح التي هي عبارة عن دم الضحايا وحرق البخور”. ولكن على هذا نجيب: أنه في كتابات موسى كان هناك فقـط ظـل للـحـق (وليس الحق ذاته)، وخدمة مادية وبدائية. لم تكن هناك بعد خدمة بسيطة نقية وروحية مثل التي نؤكد أن الله يحبها أصلاً والتي تعلمناها من المسيح الذي قـال: “الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يو 4: 24). لذلك، فإن ما يعتبـر أنه المشيئة الحسنة للآب، التي هي أيضا مشيئة الابن، فإن العبادة التي كانت تتكـون من ظلال ورموز هي غير مقبولة وخالية تماما من الثمر من جهة ما يختص بالرائحة الروحانية الحلوة، ولذلك رفضت هذه الخدمة، لأن المخلص يعلمنا هكذا عندما يقـول لله الآب في السماء: “بنبيحة وتقدمة لم تسر، محرقة ونبيحة خطية لم تطلـب” (مـز 39: 6 س). وأيضا يقول الرب نفسه بفم إشعياء لمن كانوا يريدون إتمام الذبائح: “لأن من طلب هذا من أيديكم؟ لا تدوسوا دوري بعد، لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة، البخور هو مكرهة لي” (إش 1: 12 -13). لذلك هو يقول: ” هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرا في هذه التينة ولم أجد، أقطعها، لماذا تبطل الأرض أيضا ” (لو 7:13)، كما لو كان يود أن يقول: دغ موضع شجرة التين العقيمة فارغا، لأنه سيزرع مكانها فيما بعـد أشجار أخرى، وهذا أيضا قد تم لأن جموع الأمميين قد دعوا ليحلوا محلهم ويمتلكوا ميرا الإسرائيليين. إنهم صاروا شعب الله، زرع الفردوس، نبتة صالحة ومكرمـة تعـرف كيف تثمر ثمرا ليس في ظلال ورموز، بل بالأحرى بخدمة طاهرة وكاملة بلا عيـب أي تلك التي تقدم بالروح وبالحق الله الذي هو كائن غير مادي.
لذلك قال صاحب الأرض إن شجرة التين التي لم تأت بثمر على مدى فترة لذلك طويلة يلزم إن تقطع. لكن الكرام توسل إليه قائلاً: ” يا سيد أتركها هذه السنة أيضا حتى أنقب حولها وأضع زبلا، فإن صنعت ثمرا وإلا ففيما بعد تقطعها ” (لو 13: 8 ،9)
يحق لنا إن نتساءل الآن: من يكون الكرام؟ إن قال أحد إنه الملاك الذي عينه الله كحارس لمجمع اليهود، فإنه لن يكون قد جانب التفسير المناسب، لأننا نتذكر أن زكريا النبي كتب أن أحد الملائكة القديسين وقف يقدم توسلات لأجل أورشليم فقال: ” يا رب الجنود إلى متى أنت لا ترحم أورشليم ومدن يهوذا التي غضبت عليها هذه السبعين سنة؟ ” (زك 1: 12)، ومكتوب أيضا في سفر الخروج أنه عندما كان فرعون ملك مصر وجنوده يسرعون في أثر الإسرائيليين وكانوا على وشك الالتحام معهم في معركة؛ أن ملاك الرب وقف بين معسكر الإسرائيليين ومعسكر المصريين ولم يقترب أحدهما من الآخر طوال الليل. لذلك لا يوجد ما يمنع أن نفترض هنا أن الملاك المقدس الذي كان حارسا للمجمع اليهودي قدم توسلات لأجله وطلب مهلة، فربما يأتي المجمع بثمار لو أنه أذعن وخضع لله.
لكن لو كان لأحد أن يقول إن الكرام هو الابن، فوجهة النظر هذه لها ما يبررها، لأنه هو شفيعنا لدى الآب (انظر 1يو 2: 1)، أي” كفارتنا”، وراعي نفوسنا الـذي يـشـذب نفوسنا دائما مما يضرنا، ويملأنا ببذار عقلية ومقدسة لكي نأت له بثمر وهكذا تكلـم عن نفسه قائلاً: ” خرج الزارع ليزرع زرعه” (لو 8: 5). ولا ينقص من مجد الابن أنه يتخذ صفة الكرام، لأن الآب نفسه أخذ هذه الصفة أيضا دون أن يتعـرض لأي لـوم ذلك، لأن الابن قال للرسل القديسين: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان، وأبي الكرام” (انظر يو 15: 1)، لأنه يلزم استخدام التعبير اللفظي من حين لآخر مع الافتراضات الموضوعة.
لذلك، فلنعتقد أنه هو الشفيع لأجلنا وهو يقول: “اتركها هذه السنة أيضا حتى أنقب حولها وأضع زبلا”. فما هو المقصود إذن بهذه السنة؟ من الواضح إن هـذه الـسنة الرابعة هي الزمن الذي يأتي بعد تلك الفترات السابقة أي هي تلك التي فيهـا صـار كلمة الله الوحيد إنسانا، يستحث بنصائحه الروحية الإسرائيليين الذين ذبلوا بالخطية، وينقب حولهم ويدفئهم ليجعلهم حارين في الروح، لأنه توعـدهـم مـرارا بـالخراب والدمار والحروب والمذابح والحرائق والأسر والسخط الذي لا يخمد، بينما من الناحية الأخرى، فقد وعد أنهم إن آمنوا به وصاروا في النهاية أشجارا مثمرة فسوف يعطيهم الحياة والمجد ونعمة التبني، وشركة الروح القدس وملكوت السموات. لكن إسـرائيل كان عاجزا عن أن يتعلم حتى من هذا أيضا. لقد ظل شجرة تين عقيمة ويستمر هكذا. لذلك قطعت الشجرة لكي لا تشغل الأرض باطلاً ونبت عوضا عنها ـ كنبات خصيب ـ كنيسة الأمم، الجميلة وحاملة الثمار والمتأصلة بعمق، والتي لا يمكن أن تتزعـزع لأنهم قد حسبوا كأولاد إبراهيم، وطعموا في شجرة الزيتـون الجيـدة الأصـل، لأن الأصل قد حفظ، وإسرائيل لم يهلك تماما.
أما كونها استحقت القطع لأجل عقمها التام، فهذا أعلنه أيضا يوحنا المعمدان بهذه الكلمات: ” والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمـرا تقطع وتلقي في النار” (لو 3: 9).
عظة 97، 98
شفاء المرأة التي بها روح ضعف لو13: 10-13
(لو13: 10-13): ” وكان يعلم في أحد المجامع في السبت. وإذا امراة كـان بـهـا روح ضعف ثماني عشرة سنة وكانت منحنية ولم تقدر أن تنتصب البتة. فلما رآها يسوع دعاهـا وقال لها: يا امرأة إنك محلولة من ضعفك. ووضع عليها يديه ففي الحال استقامت ومجدت الله”
كان هناك في المجمع امرأة منحنية لم تقدر أن تنتصب لمدة ثماني عشرة سـنة بسبب روح ضعف، وربما تبرهن حالتها على منفعة ليست بقليلة لمن لهم فهم، لأنـه ينبغي لنا أن نجمع ما هو مفيد لنا من كل جانب، إذ مما حدث نرى أن الشيطان غالبا ما ينال السلطان على بعض الأشخاص، منهم مثلاً الـذين يسقطون فـي الخطيـة فيصيرون متراخين في بذل الجهد لأجل التقوى. لذلك فكل من يمسك به الشيطان في نطاق سلطانه يصيبه بأمراض جسدية، إذ إنه يفرح بالعقوبة وهو عديم الرحمـة. الله الحكيم جدا الذي يري كل شيء يمنحه هذه الفرصة حتى إذا ما تضايق الناس جدا من ثقل بؤسهم يصممون في أنفسهم أن يتغيروا إلى الطريق الأفضل. لأجل ذلـك سـلم القديس بولس للشيطان أحد الأشخاص في كنيسة كورنثوس كان قد اتهم بالزنا “لهلاك الجسد، لكي تخلص الروح” (1کو 5: 5). لذلك قيل عن المرأة التي كانت منحنيـة إنهـا عانت هذا من قسوة الشيطان بحسب كلمات ربنا إذ قال: “ربطها الشيطان لمدة ثمانية عشرة سنة”. وكما قلت فإن الله سمح بهذا، إما بسبب خطاياها، أو بسبب قانون عـام وشامل، لأن الشيطان الملعون هو سبب مرض أجساد البشر، كما نؤكد أن تعدي آدم، كان بتأثير الشيطان، وبواسطة هذا التعدي صارت هياكلنا البشرية معرضة للمـرض والانحلال. ومع أن هذا كان حال البشر فإن الله الصالح بطبعه لم يتخل عنـا ونحـن نعاني من عقوبة مرض مستعص طويل الأمد، بل حررنا من قيودنـا، مظهـرا ـ كعلاج مجيد لأتعاب البشرية ـ حضوره الذاتي وظهوره في العالم، لأنه جاء ليعيـد صياغة طبيعتنا إلى ما كانت عليه في الأصل، لأنه كما هو مكتوب: ” إن الله لم يصنع الموت وهو لا يسر بهلاك الأحياء. لأنه إنما خلق البرايا لتكون موجـودة، وصـنع أجيال العالم معافاة وليس فيها سم التهلكة” (حكمة 13:1، 14 س)، لكن ” بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم” (حك 2: 24 س).
إن تجسد الكلمة وأخذه لطبيعة بشرية تم لأجل دحر الموت وملاشاة ذلك الحسد الذي ألهبته الحية الشريرة التي كانت العلة الأولى للشر. وهذا يتبرهن لنا من الحقائق نفسها. ولذلك حرر ابنة إبراهيم من مرضها المزمن، فدعاها قائلاً: ” يا امرأة إنـك محلولة من ضعفك”. وهذا كلام يليق جدا بالله، وهو مملوء قوة فائقة للطبيعـة، لأنـه بالسلطان الإلهي لمشيئته طرد المرض. وهو أيضا وضع يديه عليها، وفـي الحـال استقامت. ومن ثم يمكننا أيضا أن نرى أن جسده المقـدس يحمـل داخلـه قـوة الله وفاعليتها، لأنه هو جسده الذاتي وليس جسد ابن آخر بجانبه، مميزا ومنفصلاً عنه كما يتخيل بعض عديمي التقوى.
(لو13: 14) ” فأجاب رئيس المجمع، وهو مغتاظ لأن يسوع أبرأ فـي الـسبت، وقـال للجمع: هي ستة أيام ينبغي فيها العمل، ففي هذه ائتوا واستشفوا، وليس في يوم السبت!”.
ولكن ألم يكن من الواجب عليه بالحري أن يندهش لكون المسيح حرر ابنة إبراهيم هذه من قيودها؟ إنك رأيتها تتحرر من بليتها على غير ما كان متوقعا، وكنت شاهد عيان بأن الطبيب لم يتوسل، ولا نال ـ كمنحة من آخر ـ شفاء المرأة المريضة، بل إنه فعل هذا بفعل قدرته. وبحكم كونك رئيسا للمجمع أفترض أنك تعرف كتب موسى. لقد رأيت موسى يصلى في كل مناسبة، ولم يعمل شيئا بقوته الذاتية، فعندما أصيبت مريم بالبرص لمجرد أنها تكلمت ضده بشيء من اللوم ـ وذلك عن حق لأنـه أخـذ لنفسه امرأة كوشية ـ لم يستطع موسى أن يقهر المرض بل على العكس سقط أمـام الله قائلاً: “اللهم اشفها” (عـدد 12: 13). ولكن رغم تضرعه هذا، لم ترفع عنها عقوبـة خطيتها. كما أن الأنبياء القديسين عندما كانوا يصنعون أية معجزة، فإننا نرى أنهـم صنعوها بقوة الله. أتوسل إليك أن تلاحظ هنا أن المسيح مخلص الكل لم يقـدم أيـة صلاة بل تمم الأمر بقوته الذاتية وشفاها بكلمة وبلمسة يده. لأنه بسبب كونه ربا وإلها أظهر أن جسده الخاص له فاعلية مساوية مع نفسه؛ لتحرير البشر من أمراضهم، ومن ثم كان يقصد أن يدرك البشر فحوى السر المختص به. لذلك لو كان رئيس المجمـع رجلاً ذا فهم لكان أدرك من هو المخلص وكم كان عظيما بسبب هذه المعجزة العجيبة جدا، ولما كان قد تكلم بنفس الطريقة الجاهلة كالجموع، ولا كان قد اتهم من يقومون بشفاء المرضى، بكسر الشريعة، من جهة الامتناع التقليدي عن العمل يوم السبت.
لكن من الواضح: ” أن تشفى هو أن تعمل”. فهل تنكسر الشريعة عندما يظهر الله رحمة حتى في يوم السبت؟ من هو الذي أمر الله أن يكف عن العمل؟ هل أمر ذاتـه؟ أم لم يكن بالأحرى أنتم؟ لو كان قد أمر ذاته، لجعل عنايته الإلهية بنا تتوقـف يـوم السبت .. إذن لتسترح الشمس من مسارها اليومي، ليتوقف المطـر عـن الهطـول، لتتوقف ينابيع المياه وكذلك الأنهار الدائمة الجريان، وكذلك تتوقف الريح. لكـن لـو أمركم أنتم بالراحة فلا تلوموا الله لأنه بسلطان أظهر رحمة حتى في يـوم الـسبت. ولماذا هو أوصى البشر أن يستريحوا في يوم السبت؟ إنه كان ــ كما قيل لكم ـ لكي يستريح عبدك وثورك وحصانك وماشيتك. لذلك فعندما يريح هو البشر بتحريرهم من أمراضهم وأنتم تمنعون ذلك، يتضح أنكم تكسرون السبت في عـدم سـماحكم لمـن يعانون تحت ثقل الألم والمرض والذين ربطهم الشيطان، أن يستريحوا.
لكن عندما رأي رئيس المجمع غير الشكور المرأة المنحنية والتي كانت أطرافهـا كسيحة، وقد نالت رحمة من المسيح فانتصبت في استقامتها، بمجرد لمسة مـن يـده وأنها تسير بخطوات منتصبة تليق بإنسان، وتعظم الله لأجل شفائها، اغتـاظ جـدا واشتعل بغضب ضد مجد الرب، وتورط في الحسد، وافترى على المعجـزة، ولكنـه تحاشى الحديث مع الرب ـ لأنه كان سيفضح رياءه ـ ووبخ الجمع لكـي يبـدو أن اغتياظه كان لأجل حفظ يوم السبت. لكن هدفه كان في الحقيقة هو أن يسيطر علـى من كانوا متفرقين على مدى الأسبوع ومنشغلين بأعمالهم، لكي لا يكونوا مـشاهدين ومعجبين بمعجزات الرب يوم السبت لئلا يؤمنوا هم أيضا به.
ولكن أخبرني ـ يا من أنت عبد الحسد ـ أي نوع من الأعمال يمنعه الناموس عندما يوصيك بأن تكف عن كل عمل يدوي في يوم السبت؟ هل يمنع عن عمل الفـم والتكلم؟ إذن فامتنع عن الأكل والشرب والتحادث وترتيل المزامير في يوم لكن لو امتنعت عن هذه الأعمال بل وامتنعت أيضا عن قراءة الناموس، فما هی منفعة السبت لك؟ لكن لو قصرت المنع عن العمل اليدوي فكيف يكون شفاء امـرأة بكلمـة نوعا من العمل اليدوي؟ لكن لو دعوته عملاً لأن المرأة قد شفيت بالفعل فأنت أيـضـا قد أديت عملاً في لومك لشفائها، لكن رئيس المجمع يقول إن المسيح قـال: “أنـت محلولة من ضعفك فانحلت منه” حسنا! ألا تحل أنت منطقتك في يوم السبت ألا تخلع حذاءك وترتب فراشك وتغسل يديك عندما تتسخ بالأكل؟ فلماذا أنت غاضب هكذا من مجرد كلمة ” أنك محلولة”؟ وما العمل الذي عملته المرأة بعد قول هذه الكلمـة؟ هـل شرعت في عمل النحاس أو النجار أو البناء؟ هل ابتدأت في هذا اليوم ذاته في النسج أو العمل على النول؟ سيجيب لا، إنها صارت منتصبة، كأن مجرد الشفاء هو نوع من العمل.
لكن لا، فأنت لست غاضبا بالحق لأجل السبت، بل إنه يوجد شيء مخفي في قلبك وأنت تنطق وتتعلل بشيء غيره، ولهذا السبب فإنك إذ رأيت المسيح يكرم ويعبد كإله اغتظت واهتجت وأكلك الحسد. فأنت مدان تماما من قبل الرب الذي يعرف حججـك الباطلة، وتنال اللقب الذي يليق بك إذ دعاك: “مرائي” ومتصنع وغير مخلص.
(لو ١٥:١٣): “يا مرائي ألا يحل كل واحد منكم في السبت ثوره أو حماره مـن المـذود ويمضي به ويسقيه؟ “.
يقول الرب: أنت تندهش لأني حللت ابنة إبراهيم من مرضها، بينما تريح ثـورك وحمارك وتحله من أتعابه وتقوده ليشرب، لكن عندما يعاني كائن بشري من مرض، ويشفي بطريقة عجيبة ويظهر له الله رحمته، فإنك تلوم كليهما كمتعـديين: أي ذلـك الذي أجري الشفاء والأخرى التي تحررت من مرضها.
أتوسل إليكم أن تنظروا كيف أن رئيس المجمع يعتبر أن كائنا بشريا له في نظره اعتبار أقل من الحيوان، إذ أنه على الأقل يعتبر أن حماره وثوره جديران بالرعايـة في يوم السبت، لكنه ـ في حسده ـ ما كان يريد أن المسيح يحرر المرأة المنحلة، ولا أن يراها وقد استعادت شكلها الطبيعي، ولكن الرئيس الحسود كان يفضل أن تظل المرأة التي استقامت، منحنية دائما مثل الحيوانات ذات الأربع، عن أن تستعيد الشكل الذي يليق بالبشر، ليس لهدف آخر سوى أن لا يتعظم المسيح ولا ينادي به کاله بسبب أعماله، لذا فقد أدين هذا الإنسان كمرائي، لأنه على الأقل ـ يقود ماشيته الخرساء لتشرب في يوم السبت، ولكنه يغتاظ بسبب أن هذه المرأة ـ التي كانت ابنة إبـراهيم بالجسد، وبالأكثر أيضا بواسطة إيمانها، تتحرر من قيود مرضها. لأنـه يعتبـر أن – خلاصها من مرده و تعد على شريعة السبت.
(لو ۱۷:۱۳): ” وإذ قال: هذا أخجل جميع الذين كانوا يعاندونه وفرح كل الجمع بجميـع الأعمال المجيدة الكائنة منه “.
خزي إذن جميع الذين نطقوا بهذه الآراء الفاسدة، الذين تعثروا أمام حجر الزاوية الأساسي، وانكسر الذين قاوموا الطبيب، الذين تصادموا مع الفخاري الحكــم أثنـاء انشغاله في تقويم الأوعية المعوجة، لم يكن هناك جواب يمكن أن يجيبوا به. لقد أدانوا ذواتهم بطريقة ليس فيها جدال، ودفعوا إلى الصمت، وتشككوا فيما ينبغي أن يقولوا. وهكذا أغلق الرب أفواههم المتجاسرة، لكن الجموع الذين ربحوا فائـدة المعجـزات كانوا فرحين. لأن مجد وعظمة أعماله لاشت كل تساؤل وشك عند أولئك الذين سعوا إليه بدون نية سيئة.
عظة 98 بقية
ملكوت الله (وحبة الخردل والخميرة) لو13: 18-21
(لو13: 18-21): “فقال: ماذا يشبه ملكوت الله وبماذا أشبهه؟. يشبه حبة خردل أخذها إنسان وألقاها في بستانه فنمت وصارت شجرة كبيرة وتآوت طيور السماء في أغصانها . وقال أيضا: بماذا أشبه ملكوت الله؟. يشبه خميرة أخذتها امرأة وخباتها في ثلاثة أكيال دقيق حتي اختمر الجميع “.
هذه المقارنة هي من النوع الممتاز وهي مناسبة لكي يضع أمامهم ما حدث وما تمّ عند الكرازة الإلهية والمقدسة بالإنجيل، هذه الكرازة بالإنجيل يعطيها هنا اسم ملكوت السموات، لأنه عن طريق الإنجيل نقتني نحن حق الاشتراك في ملكوت المسيح. ففي البداية كرز بالإنجيل لأشخاص قليلين، وعلى نطاق ضيق، لكن فيما بعد اتسعت دائرة تأثير الإنجيل وانتشر ووصل إلى كل الأمم، لأنه في البداية كرز به الرب في اليهودية فقط حيث كان التلاميذ المباركين قليلين جدا في العدد، لكن بعد أن عصى إسرائيل، ورفضوا الإنجيل أعطيت الوصية للرسل الأطهار أن ” يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمـم” (انظر مت 28: 19). فكما أن حبة الخردل هي أصغر في الحجم من جميع البذور لكنهـا تنمو وترتفع إلى علو عظيم، أكبر جدا عما هو معتاد بين الأشجار، حتى أنها تـصير مأوى لطيور السماء. كذلك أيضا ملكوت السموات الذي هو الكرازة الجديدة والمقدسة بالخلاص، والتي بها ننقاد إلى كل عمل صالح ونعرف ذلك الذي هو الله بالطبيعـة وبالحق، تلك الكرازة قد تم توجيهها في البداية إلى أشخاص قلائل، وبينما كانت تلـك الكرازة صغيرة ومحدودة أولاً فإنها نمت وانتشرت بعد ذلك انتشارا سريعا. وصارت هذه الجماعة النامية ملجأ لكل من يهرب إليها طالبا الخلاص. هـؤلاء لأنهـم بـشـر صغار بالمقارنة بالله، يمكن تشبيههم بالطيور.
إن ناموس موسى قد أعطى للإسرائيليين، ولكن حيث إن سكان الأرض لم يكـن ممكناً إنقاذهم بواسطة الظل الذي كان يحتويه الناموس بعبادته المادية، لذلك كان أمرا ضروريا أن يكرز ببشارة الإنجيل الخلاصية. وهكذا انتشرت سريعا هذه الكرازة إلى كل من يحيا تحت السماء. وهذا ما أشار به إلينا حرف الناموس الموسوي فـي لـغـز لأنه هكذا يقول: ” وكلم الرب موسى قائلاً: اصنع لك بوقين من فضة مسحولين تعملهما فيكونان لك لمناداة الجماعة ولارتحال المحلات ” (عد 10: 1 ،2 ). وقال بعد ذلك في الحال: وبنو هارون الكهنة يضربون بالأبواق، فتكون لكم فريضة أبديـة فـي أجيالكم” (عدد ٨:١٠). والقصد بهذا الكلام هو أن نفهم كلا مـن التـدريب الإعـدادي للناموس والكمال الذي يتم الوصول إليه في المسيح بواسطة طريقة الحياة بالإنجيـل والتعليم الذي يفوق الظلال والرموز.
إذن فالناموس هو بوق، وكذلك أيضا بشارة الإنجيل المخلصة هي بوق، لأنه بهذا الاسم أيضا يذكرها (البشارة) إشعياء النبي فيقول: ” يكون في ذلك اليوم أنه يـضرب ببوق عظيم” (إش 27: 13). لأنه قد انطلق في الواقع بوق عظيم بواسطة صوت الرسل القديسين دون إلغاء البوق الأول، بل احتووه أيضا في كرازتهم، لأنهم كانوا دائمـا يبرهنون على كل ما يقولون بخصوص المسيح، من الناموس والأنبياء، مستخدمين شهادات الأزمنة القديمة.
إذن كان هناك بوقان مسحولان مصنوعان من الفضة، حيث الفضة تشير إلـى البهاء، لأن كل كلمة من الله هي مجيدة وليس فيها شيء من ظلمة العـالم. وطـرق المعدن أظهر أن البوق المقدس والإلهي، أي كلا مـن الكـرازة الجديـدة والقديمـة ستتقدمان وتنميان إلى الأمام لأن ما يطرق يمتد، كما لو كان امتداده باستمرار إلـى الأمام كما يمتد في العرض والطول.
الآن عندما جاء المسيح لأجل سكان الأرض، فإن الناموس القديم تقدم ونما إلـى تفسيره الروحي لأننا نكرز به نحن الذين قد بلغنا إلى الاستنارة الروحية في المسيح، وهكذا كان لابد لرسالة الإنجيل أن تنتشر إلى أن احتضنت العالم كله.
إن الناموس قد أعطى الكهنة أن يستخدموا الأبواق ليأمروا الشعب، أما المسيح فقد أعطى لخدام البشارة الجديدة ـ أي الرسل القديسين ـ الوصية بـأن يكـرزوا بـه وبتعاليمه. لأنهم يعلنون سره مستخدمين ـ كما لو كان ـ بوقين، والبوقان يكـرزان به، لكونهم: ” منذ البدء معاينين وخداما للكلمة ” (لو 1: 2)، حيث إنهم أضافوا ـ تأكيدا لكلماتهم ـ الشهادات الصادقة للناموس والأنبياء.
وليس من العسير أن نرى رسالة الكرازة بالإنجيل، مع كونها صغيرة في البداية، لكنها قفزت حالاً، إلى ازدياد عظيم، حيث إن الله قد سبق وأخبر عن هذا بصوت إشعياء فقال: ” لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطى المياه البحر” (إش 11: 9). لأن كرازة الخلاص تنفجر في كل موضع مثل بحر، وسيرها إلى الأمام لا يمكن مقاومته. وهذا أيضا أخبرنا به إله الكل بوضوح بصوت النبي: ” والحق سيتدفق كمياه والبر كفيضان لا شيء يعيقه” (عا 5: 24 س). لأنه يعطى اسمي الحق والبر لرسالة الإنجيل، ويمنحنا تأكيدا أنه سيتدفق على العالم كمياه وفيضان، والذي تندفع مجاريه بقوة لا يمكن للإنسان أن يوقفها.
ملكوت الله والخميرة :
ونفس طريقة التفسير تنطبق حسنا على ملكوت الله عندما يقارن أيضا بـالخميرة، لأن الخميرة مع أنها صغيرة في الحجم لكنها تمسك بالعجين وتنتشر فيه كله وتنقـل إليه بسرعة كل خواصها. وكلمة الله تعمل فينا بطريقة مشابهة، لأنه حينما نقبلها فـي داخلنا، فهي تجعلنا مقدسين وبلا لوم، وتغزو ذهننا وقلبنا وتجعلنا روحيين كما يقـول بولس الرسول: “لتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح” (1تس 5: 23). وكون أن الكلمة الإلهية تنسكب إلى عمق ذهننا، هذا يظهره إله الكل، حيث يقول بواسطة أحد الأنبياء القديسين: ” ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا، ليس كالعهد الذي قطعته مع أبـائهـم يـوم أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر، حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب، بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقـول الـرب، أجعـل شرائعي في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم” (إر 31: 30-33 س).
لذلك نحن نقبل في أذهاننا وأفهامنا الخميرة العقلية والإلهية، لكي بهـذه الخميـرة الثمينة والمقدسة والنقية نوجد روحيا غير مختمرين بالشر إذ ليس فينا شيء من شـر العالم لأن القوة المحيية التي لتعليم الإنجيل إذ تدخل إلى الذهن فهي تحـول الـنفس والجسد والروح إلى خواصها الذاتية (انظر اکو ٧:٥)، ولذلك نكون أنقياء ومقدسـين وشركاء للمسيح الذي به وله مع الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهـر الدهور. آمين.
عظة 99 الباب الضيق 13: 22-30
(لوقا 13: 22-30): ” واجتاز في مدن وقرى يعلم ويسافر نحو أورشليم. فقال له واحد: يا سيد أقليل هم الذين يخلصون؟ فقال لهم: اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق فإلى أقـول لكم: إن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون. من بعد ما يكون رب البيت قد قام وأغلق الباب وابتداتم تقفون خارجا وتقرعون الباب قائلين: يا رب يا رب افتح لنا يجيب ويقـول لكم: لا أعرفكم من أين انتم. حينئذ تبتدئون تقولون: أكلنا قدامك وشربنا وعلمـت فـي شوارعنا، فيقول: أقول لكم لا أعرفكم من أين أنتم! تباعدوا عني يا جميع فـاعلي الظلـم. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان متى رأيتم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وجميع الأنبياء فـي ملكوت الله وأنتم مطروحون خارجا. ويأتون من المشارق ومن المغارب ومـن الـشـمال والجنوب ويتكون في ملكوت الله. وهوذا آخرون يكونون أولين وأولون يكونون آخرين”.
تنقاد السفينة إلى الميناء المطلوب التوجه إليه بواسطة الدفة، أما كلمة الله فترشـد نفس الإنسان بدون خطأ إلى كل ما هو ضروري للخلاص لأنه هكـذا تحـدث أحـد الأنبياء القديسين فقال: ” خذوا معكم كلاما” (هو 14: 2). أي ذلك الكلام الموحى به مـن الروح القدس، لأن لا أحد له فهم سيقول إن المقصود هو كلام حكماء هذا العالم، لأن كلماتهم تقود الناس إلى هوة الهلاك بإدخال تعدد الآلهة إلى العالم، وبتحريضهم علـى اللذة الجسدانية، وإلى اشتهاء ملاهي العالم الباطلة. أما كلام الله فيشير إلى الطريـق المؤدي إلى حياة أفضل ويولد فينا جدية تجعلنا نتقدم ببهجة إلى تأدية كل الأشياء التي بواسطتها نصير شركاء في الحياة الأبدية.
لذلك فلننصت لكلمات المخلص التي وجهها لمن أرادوا أن يعرفوا إن كان الـذين يخلصون هم قليلون، والذين أجابهم الرب قائلاً: “اجتهدوا أن تـدخلوا مـن البـاب الضيق”.
والآن ربما تبدو هذه الإجابة أنها خرجت عن مجال السؤال، لأن السائل أراد أن يعرف إن كانوا قليلين هم الذين يخلصون، لكنه وصف له الطريق الـذي بواسـطته يمكن أن يخلص بقوله: “اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق
فبماذا نجيب على هذا الاعتراض؟
نحن نجيب كما يلي: إنها كانت عادة المسيح مخلصنا كلنا أن يجاوب سائليه، ليس بما يمكن أن يبدو حسنا بالنسبة لهم، بل كمن وضع في اعتباره ما هو نافع وضروري لسامعيه. وهذا فعله على الأخص عندما كان أي شخص يسأله عن مـا هـو عـديم الأهمية وما هو غير بناء، لأنه أي خير يوجد في رغبة التعرف عما إذا كان الـذين سيخلصون كثيرين أو قليلين؟ فما المنفعة الناتجة من هذا للسامعين؟ على العكس كان من اللازم والمفيد أن يعرفوا بأية طريقة يمكن للإنسان أن يبلغ الخلاص. لذلك نجـده قد صمت عن عمد من جهة السؤال العقيم الذي سئل عنه. لكنه يتكلم عن مـا كـان أساسيا، أي عن المعرفة الضرورية لممارسة تلك الواجبات التي بها يمكن للنـاس أن يدخلوا من الباب الضيق لأن هذا قد علمه لنا أيضا في موضع آخر إذ قال: ” ادخلـوا من الباب الضيق لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه” (مت 13:7 ،14).
إنني اعتبر أن من واجبي أن أذكر لماذا أن الباب الذي يمضي منه إنـسـان إلـى الحياة هو ضيق، فمن يود الدخول يلزمه بالضرورة أولاً قبل كل شيء آخر أن يقتني إيمانا مستقيما وغير فاسد. وثانيا أن تكون له أخلاق بلا عيب فلا تكون معرضة لأي احتمال للوم بحسب معيار البر البشري، لأنه هكذا يتكلم أيضا داود النبي في موضـع ما، فصاغ بطريقة ممتازة توسلاته إلى الله قائلاً “أقض لي يــا رب حـسـب بـري وبحسب براءتي جازني” (مز 7: 8 س). لأن براءة وبر الملائكة القديسين الذي يتناسـب مع طبيعتهم ومجدهم هو متميز تماما عن بر سكان الأرض، لأن طبيعة الأرضـين هي من نوع أدنى وأقل من كل جهة كما أنهم أقل منهم في الطبيعة أيضا. لكن الـذين يريدون أن يحيوا في قداسة، لا يمكنهم أن يفعلوا بدون مشقة: لأن الطريق المـؤدي إلى الفضيلة هو دائما صعب وعسير جدا لغالبية الناس أن يسيروا فيه، لأن الأتعاب تنشأ أمامنا، ونحن نحتاج إلى ثبات وصبر وسلوك نبيل، بل وما هو أكثر من هذا نحن نحتاج إلى ذهن لا يمكن أن يسود عليه الانحلال ليشترك في الملذات الدنيئـة، أو أن تقوده دوافع غير عاقلة إلى الشهوة الجسدانية. فذلك الذي قد وصل إلى هذا المستوى في ذهنه وثباته الروحي سيدخل بسهولة من الباب الضيق، ويركض فـي الطريـق الكرب. لأنه مكتوب اسمه ” بالمشقات يتعب الإنسان لأجل ذاته، وبتغـصب ينتـ على هلاكه ” (أم 16: 26 س).
أنت تسمع كيف يقول النبي بوضوح أنه ينتصر على هلاكه بالتغصب، لأنـه هكذا يقول الرب نفسه: ” ملكوت السموات يغصب، والغاصبون يختطفونـه”(مت 11: 12).
لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي بكثيرين إلى الهلاك.
وما الذي ينبغي أن نفهمه من رحابة الطريق؟ إنه يعني ميلاً مفرطـا للـشهوة الجسدية، يعني حياة دنيئة ومحبة للذة، وتلذذا بـالولائم الفخمـة المترفـة، والمـرح الصاخب والعربدة، وانعطافا غير مكبوح إلى كل ما يدينه الناموس وإلى ما هو غير مرض الله. إنه يعني ذهنا صلب الرقبة لا ينحني لنير الناموس، حياة ملعونة ومتراخية في كل فجور، وطاردة للناموس الإلهي من ذاتها وغير مكترثـة تمامـا للوصايا المقدسة: إنه يعني الغنى والرذائل التي تنبع منه، الازدراء والكبرياء والتخيل الباطل للشهوات الزائلة، وعلى الذين يريدون الدخول من الباب الضيق لكـي يكونـوا مـع المسيح وأن يفرحوا معيدين معه أن يبتعدوا من كل هذه الأمور.
وقد أظهر في الحال بمثل واضح أن الذين ليس لهم هذا الاهتمام لا يمكنهم الـسير في هذا الطريق. لأن الذين جاءوا متأخرين جدا ـ ولم يصلوا إلى الوليمة ـ كـان نصيبهم أن يرفضوا في الحال، إذ يقول: ” من بعد ما يكون رب البيت قد قام وأغلـق الباب وابتدأوا يقفون خارجا ويقرعون الباب قائلین یا رب یا رب افتح لنـا، يجيـب ويقول لهم: لا أعرفكم من أين أنتم” لأن في هذا التصوير كما لو كان رب بيـت قـد جمع كثيرين من جيرانه في بيته وعلى مائدته، وفيما بعد دخل مع ضيوفه وأغلـق الباب، بقول إن أولئك الذين يقرعون بعد ذلك سيكون الرد عليهم هكذا: “لا أعـرفكم من أين أنتم..”، ويقول: ولو أنكم تلحون قائلين: “أكلنا قدامك وشربنا وعلمـت فـي شوارعنا”، فإنكم سوف تسمعون القول: “لا أعرفكم من أين أنتم، تباعدوا عنـي يـا جميع فاعلي الظلم “. لأنه ليس هناك شركة للنور مع الظلمة، ولا يمكن لأي واحد أن يكون قريبا من الإله الكامل النقاوة وهو ملوث بأدناس الخطية ولم يغتسل من نجاسته بعد. لكن يلزمنا بعد ذلك أن نسأل عن من هم الذين قالوا للمسيح: ” أكلنـا قـدامك وشربنا وعلمت في شوارعنا “؟ فمثل هذا التأكيد يناسب الإسرائيليين الذين قـال لـهـم المسيح أيضا: سترون إبراهيم واسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وأنـتم مطروحون خارجا “.
لكن كيف كانوا يأكلون ويشربون أمام الله؟
أجيب: بأدائهم الخدمة التي شرعها الناموس، لأن عند تقديمهم ذبـائح الله بـسفك دمها، أكلوا وطاب قلبهم، وهم سمعوا أيضا في مجامعهم كتابات موسى تفـسـر لـهـم رسائل الله، لأنه كان دائما يستهل كلامه دائما: ” هكذا يقول الرب”. إذن هـؤلاء هـم الذين يقولون: “أكلنا قدامك وشربنا وعلمت في شوارعنا”. لكن العبادة بـسفك الـدم ليست كافية للتبرير، ولا أيضا يغتسل الإنسان من خطاياه حقا إن كان فقـط مـستمعا للشرائع الإلهية دون إن يفعل شيئا مما أوصي به.
وبطريقة أخرى، فطالما أنهم رفضوا قبول الإيمان الذي يبرر الأثيم، ولم يتبعـوا الوصايا الإنجيلية التي يمكن بواسطتها ممارسة الحياة الممتازة والمختـارة، فكيـف يمكنهم الدخول إلى ملكوت الله؟ لذلك فالرمز لا يفيد لأنه لا ينفع أي إنسان، ويستحيل على دم الثيران والعجول أن ينزع خطايا.
يمكنك أن تعدد مع الذين سبق ذكرهم بعض أناس آخرين يمكنهم أن يقولوا أيـضـا لديان الكل: “أكلنا قدامك وشربنا وعلمت في شوارعنا”. فمن هم هؤلاء أيضا؟ کثیرون آمنوا بالمسيح ويحتفلون بالأعياد المقدسة إكراما لـه ويـتـرددون علـى الكنائس ويسمعون أيضا تعاليم الإنجيل، لكنهم لا يختزنون في ذهنهم أي شـيء مـن حقائق الكتاب بالمرة، وبمشقة يأتون إلى ممارسة الفضيلة، بينما قلبهم يكـون عاريـا تماما من الثمر الروحي. هؤلاء أيضا سيبكون بمرارة ويصرون بأسنانهم لأن الـرب سينكرهم أيضا لأنه قد قال: “ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يـدخل ملكـوت السموات، بل للذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات ” (مت 7: 21).
لكن كون اليهود على وشك السقوط تماما من رتبتهم كأهل بيته بالمعنى الروحي، وأن جموع الأمميين سيدخلون عوضا عنهم فهذا أظهره بقوله سـوف يـأتون مـن المشارق ومن المغارب ومن الشمال والجنوب أي يأتي كثيرون ممن قبلـوا الـدعوة ويتكلمون مع القديسين، أما اليهود سيطرحون خارجا لأنه بينما كانت لهم قبلا المرتبة الأولى، فإنهم سوف يأخذون الآن الموضع الثاني بسبب أن الآخرين صاروا مفضلين عليهم. وهذا حدث فعلاً، لأنه تم إكرام الأمميين أكثر جدا من القطيع اليهودي، لأنهـم كانوا مدانين بالعصيان وبقتلهم للرب، بينما أن الأمميين أكرموا الإيمان الـذي فـي المسيح الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمین.
عظة 100
الرب يفضح الفريسيين 13: 30-35
(لو13: 30-35): ” في ذلك اليوم تقدم بعض الفريسيين قائلين له: اخرج واذهب من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك. فقال لهم: امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أخرج شياطين وأشفي اليوم وغدا وفي اليوم الثالث أكمل، بل ينبغي أن أسير اليوم وغدا وما يليه لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجا عن أورشليم. يا أورشليم يا اورشليم يا قاتلة الأنبيـاء وراجمـة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيهـا ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابا! والحق أقول لكم: إنكم لا تروتني حتى يأتي وقت تقولون فيه: مبارك الآتي باسم الرب “.
إن جماعة الفريسيين كانوا أشرارا ومصممين ومتلهفين إلـى الخداع والغـش، ويصرون بأسنانهم على المسيح وتشتعل قلوبهم بنيران الحسد حينما يـرون النـاس يبدون إعجابهم به، مع أن واجبهم كان بالأولى ـ بصفتهم قادة للشعب ويرأسـون جموع العامة ـ هو أن يقودوهم إلى الاعتراف بمجد المسيح، لأن هـذا كـان هـو الغرض من سن الشريعة وكرازة الأنبياء القديسين، ولكنهم في شـرهم العظيم لـم يتصرفوا هكذا، بل بالعكس فإنهم بكل طريقة، أثاروا سخطه باستمرار، ولـذلك قـال المسيح لهم: “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة، ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم” (انظر لـو 11: 52). لأنه يمكن للمرء أن يرى أنهم قد سقطوا في حالة الخبث هذه، وفي وضع مضاد تماما لمحبة الله، حتى أنهم لم يكونـوا يرغبون أن يقيم في أورشليم خوفا من أن يفيد الناس، سواء بملئهم بالدهـشـة بـسبب معجزاته الإلهية أو بإنارتهم بنور الرؤية الصحيحة الله بواسطة تعليم الحقائق التي هي أعلى من تعاليم الناموس. هذه هي الأفكار التي تقودنا إليها الدروس الموضوعة أمامنا الآن، إذ يقول النص: “في ذلك اليوم تقدم بعض الفريسيين قائلين له: “اخرج واذهب من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك “.
تعالوا لنثبت عين الذهن الفاحصة على ما قالوه هنا، لنفحص بتدقيق لكي نرى هل الذين قالوا هذا الكلام هم من بين الذين يحبونه أم هم ضمن من يقاومونه. ولكن كمـا هو واضح فمن السهل أن ندرك أنهم كانوا يقاومونه بشدة. فمثلاً أقام المسيح الميـت من القبر مستخدما في ذلك قوة هي قوة الله، لأنه صرخ: “لعازر هلم خارجـا” (يو 43:11)، وقال لابن الأرملة: “أيها الشاب لك أقول قم ” (لو 14:7)، أما هم فقد جعلـوا المعجزة وقودا لحسدهم، بل إنهم قالوا حين اجتمعوا معا: ” ماذا نصنع فـان هـذا الإنسان يعمل آيات كثيرة، إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا. فقال لهم واحد وهو قيافا ـ الذي كان يخطط لقتله ـ ” أنـتـم لـستم تعرفون شيئا، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد ولا تهلك الأمـة كلهـا” (انظر يو 47:11-50).
وهم قاوموه أيضا بطرق أخرى، أحيانا بمعاملتـه بـازدراء والاستهزاء بقوتـه المعجزية، بل والتجاسر على سلطانه الإلهي قائلين إن كل ما يعملـه هـو بواسـطة بعلزبول، بل وفي مرة أخرى سعوا في تسليمه إلى سلطات القيصر، فلكي يتهموه أنه يمنع الإسرائيليين من دفع الجزية لقيصر، اقتربوا منه بخبث ومكر قائلين: “أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا ؟” (لو ٢٢:٢٠). فهل يمكن إذا لكل من وضعوا له أنواع الفخاخ هذه، الذين في وقاحتهم وقساوتهم لم يتورعوا حتى عن القتل، الذين لكونهم بـارعين في الشر، هاجموه بعنف شديد القسوة، ومارسوا باجتهاد كل هذه الحيل لأنهم يكرهونه كراهية مطلقة، هل يمكن أن نعتبرهم ضمن من أحبوه؟
فلماذا إذا تقدموا إليه قائلين: ” اخرج واذهب من ههنا لأن هيرودس يريـد أن يقتلك؟”، وما هو غرضهم من هذا الكلام؟
إن البشير يخبرنا عن هذا بقوله: “في ذلك اليوم (تلك الساعة) تقدم إليـه”، ومـا معنى هذه اللهجة المدققة؟ لماذا كان هذا الإتقان (في التحديد)؟ أو أي يـوم (حرفيـا ساعة) يقصد أن الفريسيين قالوا فيه هذا الكلام ليسوع؟ كان يسوع منشغلا في تعلـيم جموع اليهود، عندما سأله أحدهم إن كان كثيرون هم الذين يخلصون، ولكنه عبر على السؤال كأمر غير مفيد، واتجه إلى ما كان مناسبا أن يخبرهم بـه إذ أخبـرهم عـن الطريق الذي ينبغي للناس أن يسيروا فيه ليصيروا ورثة لملكوت السموات إذ قـال: ” اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق” وأخبرهم أنهم لو رفضوا أن يفعلوا هذا، فإنهم “سیرون إبراهيم واسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكـوت الله وهـم يطرحـون خارجا” وأضاف بعد ذلك قوله: ” حيث إنهم كانوا أولين، فسيصيرون آخرين” بـسبب دعوة الوثنيين.
أثارت هذه الملاحظات غضب الفريسيين إذ رأوا الجموع تتوب بالفعـل، وتقبـل الإيمان به بحماس، وأنهم لم يعودوا يحتاجون سوى قليل من التعليم أيضا ليعرفـوا مجده وعظمة سر تجسده الذي يستحق السجود، لذلك إذ كان من المحتمـل أن يفقـد (الفريسيون) وظيفتهم كرؤساء للشعب، بل وإذ كانوا قد سقطوا بالفعل وطردوا مـن سلطانهم على الشعب، وحرموا من المنافع التي يجنونها منه، لأنهم كانوا محبين للمال وجشعين وباعوا أنفسهم للربح الحرام ـ نراهم وقد تظاهروا بالمحبة له، فتقدموا إليه قائلين: “اخرج واذهب من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك “.
لكن أيها الفريسي صاحب القلب الحجري، لو كنت حكيما، لو كنت علـى درايـة حسنة بشريعة موسى الحكيم جدا، لو أنك ثبت ذهنك على إعلانات الأنبياء القديسين، لما غاب عنك أنه مادام ذهنك مملوءا مرارة وحقدا، فلابـد أن تتكـشـف مـشاعرك الكاذبة. إنه لم يكن مجرد إنسان وواحد من الذين يشبهوننا حتى يكون بذلك معرضـا للخداع، بل هو الله في شبهنا، هو الله الذي يفهم كل شئ، كما هو مكتوب: “يعـرف الأسرار وفاحص القلوب والكلى” (مز 43: 21 س، مز 1:7)، وهو الذي “كل شيء عريان ومكشوف له ” (عب 13:4)، والذي لا يخفى عليه شيء، لكنك لم تعرف هذا السر الثمين والعظيم، وظننت أنه يمكنك أن تخدع حتى ذلك الذي قال: ” من الذي يخفي عني فكره ويغلق على الكلمات في قلبه ويظن أنه أخفاها عني؟” (أي 38: 2 س).
فكيف أجاب المسيح عن هذه الأشياء؟
إنه أجابهم برفق وبمعنى خفي كما هي عادته، إذ قال: ” لمضوا وقولـوا لـهـذا الثعلب”.
أصغوا بانتباه إلى قوة التعبير، لأنه يبدو أن الكلمات المستخدمة كانـت موجهـة لشخص هيرودس، لكنها بالحري تشير أيضا إلى دهاء الفريسيين، لأنه بينما كان من الطبيعي أن يقول: “قولوا لذلك الثعلب”، فإنه لم يفعل هكذا، بل استخدم بمهارة فائقة نوعا وسيطا من التعبير، وأشار إلى الفريسي الذي كان بالقرب منـه وقـال: ” هـذا الثعلب”، وهو يقارن الإنسان بثعلب، لأنه من الثابت أنه حيوان ماكر جدا، ولو كان لي أن أقول، فهو خبيث تماما كما كان الفريسيون، لكـن مـاذا أوصـاهم أن يقولـوا (لهيرودس)؟: ” هاأنا أخرج شياطين وأشفي اليوم وغدا وفي اليوم الثالث أكمل”. أنتم ترون أنه يعلن قصده في أن يعمل ما يعرف أنه سيحزن معشر الفريسيين، الـذين يريدون طرده من أورشليم لئلا بعمل الآيات يربح كثيرين إلى الإيمان به، لكن حيـث إن هدفهم هنا لم يخف عليه لكونه الله، فإنه يعلن قصده في عمل ما يبغضونه ويقـول إنه: سينتهر الأرواح النجسة ويخلص المرضى من أتعابهم وأنه سيكمل، والتي تعنـي أنه بمشيئته سوف يحتمل الآلام على الصليب لأجل خلاص العالم. لذلك كما يبدو، فإنه عرف كيف ومتى سيحتمل الموت بالجسد.
لكن الفريسيين تخيلوا أن سلطان هيرودس سيرعبه، وسوف يخـضعه للمخـاوف رغم أنه رب القوات الذي يولد فينا شجاعة روحية بكلماته التي تقول: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها ” (مت 10: 28)، وأوضح أنـه لا يضع اعتبارا لعنف الناس، بقوله: ” بل ينبغي أن أسير اليوم وغذا وما يليه”. وبقوله: ينبغي لي” فإنه لا يعني بأنها ضرورة حتمية ـ قد وضعت عليه، بل بالحري تعنـي أنه بسلطان مشيئته الخاصة، وبحرية وبدون تعرض للخطر فإنه سيمضي إلى حيـث أراد أن يمضي ويجتاز اليهودية دون أن يقاومه أحد أو يتأمر ضده، إلـى أن يقبـل نهايته بإرادته الخاصة بالموت على الصليب الثمين.
لذلك فليمتنع قتلة الرب هؤلاء عن التباهي بأنفسهم أو أن يتشامخوا بعجرفة عليه. أنت أيها الفريسي، لم تحرز النصرة على شخص هارب من الألم، أنت لـم تمـسكه رغما عنه، ولم تبسط سيطرتك على من رفض أن يضبط في شباك مكرك، بل هـو الذي بمحض إرادته ارتضى أن يتألم لأنه متيقن جدا أنه بموت جسده سیلاشی الموت ويعود ثانية إلى الحياة، فإنه قام من الأموات وقد أقام معه الطبيعـة الإنسانية كلهـا وأعاد صياغتها من جديد إلى حياة لا تفسد.
لكنه يظهر أن أورشليم ملوثة بدماء كثير من القديسين فيقول: “لأنه لا يمكـن أن يهلك نبي خارجا عن أورشليم” وما الذي ينتج من هذا؟ ينتج من هذا أنهم كانوا علـى وشك أن يسقطوا من عضويتهم في عائلة الله الروحية، وأنهم كانوا علـى وشـك أن يرفضوا من رجاء القديسين ويحرموا تماما من ميراث تلك البركات المذخرة لمن قد خلصوا بالإيمان. أما عن كونهم كانوا ناسين تماما لعطايا الله وجامحين ومتكاسلين من جهة كل شيء يمكن أن ينفعهم، فهذا أظهره بقوله: “يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلـة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجـة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم يترك لكم خرابا ” (لو 34:13-35). لأن الله علمهم بواسطة موسى الحكيم جدا ورتب لهم ناموسا ليوجههم في سلوكهم ويكـون قائدهم ومرشدهم في حياة جديرة بالإعجاب، والذي رغم أنه ليس سوى ظلال لكنـه كان يحوي رمز العبادة الحقيقية. فالله قد نصحهم بواسطة الأنبياء القديسين، وكـان سيجعلهم تحت الحماية أي تحت سلطانه، لكنهم فقدوا هذه البركات الثمينـة بكـونهم أردياء في دوافعهم وغير شاكرين ومستهزئين.
ثم يقول الرب: ” إنكم لا ترونني حتى يأتي وقت تقولون فيه مبارك الآتـي بـاسـم الرب ” (تابع لو 13: 35).
فماذا يعني هذا أيضا؟ الرب ينسحب من أورشليم، ويترك أولئك الذين قـالوا لـه اخرج واذهب من ههنا، لأنهم غير مستحقين لحضوره بينهم. وبعد ذلـك إذ اجتـاز اليهودية وخلص كثيرين، وأجرى معجزات كثيرة يعجز الكلام عن وصفها بدقة، عاد ثانية إلى أورشليم، هذا حدث عندما دخل جالسا على أتان وجحش ابن أتـان، بينمـا الجموع المحتشدة والأطفال يحملون في أيديهم سعف النخيل وساروا أمامـه وهـم يسبحونه قائلين: “أوصانا لابن داود، مبارك الآتي باسم الرب” (مت ۹:۲۱). لذلك إذ قد تركهم بسبب أنهم غير مستحقين، يقول إنهم لن يروه إلا حينما يكون وقت آلامه قـد حل، لأنه مضى أيضا إلى أورشليم ودخلها وسط التهليل، وفي تلك المرة ذاتها كابـد آلامه المخلصة نيابة عنا، لكي بالآلام يخلص ويجدد ــ إلى عدم فساد ــــــ ســـان الأرض. لأن الله قد خلصنا بالمسيح، الذي به وله مع الآب والروح القدس التسبيح والسلطان إلى دهر الدهور. آمين.
تفسير إنجيل لوقا – 12 | إنجيل لوقا – 13 | تفسير إنجيل لوقا | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل لوقا – 14 |
القديس كيرلس الكبير | ||||
تفاسير إنجيل لوقا – 13 | تفاسير إنجيل لوقا | تفاسير العهد الجديد |