يو10: 11 أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف

 

“أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ.” (يو10: 11)

+++

تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

 

“أنا هو الراعي الصالح،

والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف”. )11)

تطلع أنبياء العهد القديم إلى ربنا يسوع بكونه الراعي (إش ٤٠: ١١؛ حز ٣٤: ٢٣؛ ٣٧: ٢٤؛ زك ١٣: ٧)، واختبره الرسل كأسقف لنفوسنا (١ بط ٢:٢٥)؛ ورئيس الرعاة (١ بط ٥: ٤)؛ والراعي العظيم (عب ١٣: ٢٠).

لهذا اللقب “الراعي الصالح” جاذبيته الخاصة لدى المسيحيين عبر الأجيال حتى الذين لم يشاهدوا رعاة غنم في حياتهم، فإنهم يشعرون فيه بنوعٍ من دفء الرعاية. كما أن قطيع الغنم لا يقدر أن يواجه الحياة بدون راعيه، هكذا يشعر المسيحيون في مواجهة الشر والعالم الشرير إلى الراعي الإلهي الذي يحفظهم من الشر ويشبع كل احتياجاتهم، ويقودهم إلى المراعي الفردوسية.

بقوله “أنا هو” يستخدم السيد المسيح لغة اللاهوت “أنا يهوه”، فهو الراعي الوحيد الإلهي الفريد.

الكلمة اليونانية المترجمة هنا “صالح” هي kalas، وهي تختلف عن غيرها من الكلمات اليونانية التي تُترجم أيضًا “صالح”، مثل: agathos إذ تشير إلى السلم الداخلي، و dikaios التي تشير إلى الشخص الذي يبلغ مستوى عالٍ من الاستقامة. أما kalas فجاء في Abbot Smith’s lexicon ٍ أنها تشير إلى الصلاح معلنًا شكل معين، بمعنى آخر تشير إلى الصلاح مع الجمال. وقد قام E. V. Rieu بترجمة العبارة: “أنا هو الراعي“، الراعي الجميل“. على أي الأحوال فإن تعبير الراعي الصالح تعبير محبب للنفس، يحمل فيه الصلاح الجذاب للرعية. فمع صلاح رعايته تتمتع الرعية بجاذبية شخصه، أو انجذابهم إليه.

رعاية “الراعي الصالح” فريدة من نوعها، ليست فقط رعاية صالحة، حيث ينشغل الراعي بالقطيع، كمن ليس ما يشغله في السماء وعلى الأرض غيره، ولا من حيث اهتمامه بالنفس الواحدة، خاصة الخروف الضال، وإنما ما هو أعظم انه “يبذل نفسه عن الخراف“.

في منطقة فلسطين كان الرعاة يتعرضون لمخاطر اللصوص كما لمخاطر الحيوانات المفترسة. فداود النبي واجه أسدًا ودبًا وهو شاب في رعاية غنمه (١ صم ١٧: ٣٤-٣٦). ويحدثنا عاموس النبي عن الراعي الذي يخلص من فم الأسد قدمي حمل أو قطعة أذن له (عا ٣: ١٢). وفي عصر الآباء نسمع يعقوب يقول لخاله: “فريسة لم أحضر إليك. أنا كنت أخسرها. من يدي كنت تطلبها، مسروقة النهار أو مسروقة الليل” (تك ٣١: ٣٩). هكذا لعمل الرعاية مخاطر، لكننا لا نسمع قط عن راعٍ يلقي بنفسه في الموت بإرادته من أجل قطيعه. حقًا قد يتعرض الراعي للموت، لكنه ليس لأجل مصلحة قطيعه، إنما من أجل مصلحته الشخصية كمالكٍ للقطيع. أما الراعي الصالح فبإرادته وحسب مسرته واجه الموت ليفدي كل حملٍ من قطيعه.

بذل الراعي الصالح ذاته ليقدم لنا دمه الثمين، تغتسل به نفوسنا، فنطهر من الخطايا، ونشربه سرّ حياة أبدية. والعجيب فيه أنه يهب خدامه الأمناء أن يجدوا مسرتهم في البذل فينفقون ويُنفقون (2 كو 12: 15) لحساب الشعب كما فعل الرسول بولس.

بين السيد المسيح والراعي

اختيار السيد المسيح للراعي لتشبيه له لم يأت جزافًا، إنما يحمل معانٍ هامة:

أولاً: الراعي، وإن كان صاحب القطيع مهما بلغت أعداده يرتدي ثيابًا رخيصة أثناء رعايته للغنم، إذ كثيرًا ما يجلس على الأرض وحوله غنمه، ويحمل على منكبيه الغنمات المجروحة أو المتعثرة، وقد تكون متسخة بالوحل. هكذا لبس الكلمة الإلهي جسدًا لكي يشاركنا أرضنا، ويحملنا على منكبيه، بل ويحتل مركزنا يحمل آثامنا للتكفير عنها.

ثانيًا: في الرعاية يتحرك الراعي أمام الخراف لكي تتبعه، وهكذا فتح لنا مسيحنا طريق السماء بعبوره خلال الصليب، كي نشاركه آلامه فننعم بشركة أمجاده.

ثالثًا: كثيرًا ما يمسك الراعي بعصا الرعاية، مقدمتها على شكل حرف U، لكي ما إذا سقط خروف في حفرة يرفعه بها. هكذا يمسك مسيحنا بصليبه الذي يحمل كل نوع من الحنو الإلهي البناء مع الحزم والتأديب بما فيه تقدمنا المستمر.

رابعًا: كثيرًا ما يجلس الراعي بستظل في الظهيرة ويضرب بمزماره وحوله الخراف فإن سمة الراعي هو الفرح وسط المتاعب وحرّ التجارب. هكذا نجد في راعينا مصدر الفرح الحقيقي.

خامسًا: يهتم الراعي بالخروف الضال أكثر من التسعة والتسعين الباقين، ولا يستريح حتى يرده إلى القطيع (مت ١٨: ١٢-١٤؛ لو ١٥: ٣-٧).

v “أنا هو الراعي الصالح”. يتحدث هنا عن الآلام، مظهرًا أنها هي خلاص العالم، فإنه لم يأتِ إليها قسرًا. عندئذ يتحدث عن نموذج الراعي مرة أخرى وعن الأجير.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لقد قال أنه هو “الراعي“، كما قال أنه هو “الباب“. تجد الاثنين في نفس الموضع، كلاً من “أنا هو الباب” و “أنا هو الراعي” (٧، ١١). في الرأس هو الباب، وفي الجسد هو الراعي… الذي يدخل من الباب هو الراعي، أما الذي يطلع من موضعٍ آخرٍ فذاك سارق ولص، يبدد ويشتت ويهلك. من هو الذي يدخل من الباب؟ ذاك الذي يدخل بالمسيح. من هو؟ ذاك الذي يتمثل بالآم المسيح

v هل كان (الرسل) رعاة؟ بالتأكيد كانوا هكذا. فكيف يوجد راعي واحد؟ كما سبق فقلت أنهم كانوا رعاة لأنهم أعضاء في الراعي. لقد فرحوا في هذا الرأس، وتحت رئاسة هذا الرأس كانوا في انسجام معًا، عاشوا بروحٍ واحدٍ في رباط جسدٍ واحدٍ. لذلك فجميعهم ينتمون للراعي الواحد.

v ماذا تعني إذن إنك تقدم للرعاة الصالحين الراعي الصالح وحده إلاَّ أنك تعلم الوحدة في الراعي الصالح؟ وقد أوضح الرب نفسه ذلك بأكثر وضوح في خدمتي، إذ أذكركم أيها الأحباء بهذا الإنجيل القائل: “اسمعوا ماذا وضعت أمامكم، لقد قلت أنا هو الراعي الصالح، لأن كل البقية، الرعاة الصالحين، هم أعضائي”. رأس واحد، جسم واحد، مسيح واحد. هكذا كل من راعي الرعاة ورعاة الراعي والقطيع برعاته الذين تحت الراعي.

ما هذا كله إلاَّ ما يقوله الرسول: “كما أن الجسم واحد، له أعضاء كثيرون، وكل أعضاء الجسم بكونهم كثيرون جسم واحد، هكذا المسيح” (١ كو ١٢: ١٢). لذلك إن كان المسيح هو هكذا، فبسبب صالح يحوي المسيح في ذاته كل الرعاة الصالحين، يقيمون الواحد القائل: “أنا هو الراعي الصالح”. أنا وحدي وكل البقية معي واحد في وحدة.

من يرعي بدوني يرعى ضدي. “من لا يجمع فهو يفرق” (مت ١٢: ٣٠). لتسمعوا هذه الوحدة قد وضعت أكثر قوة، إذ يقول: “ولي قطيع آخر ليس من هذا القطيع” (١٦).

v أسألكم، أتوسل إليكم بحق قدسية مثل هذا الزواج أن تحبوا الكنيسة، حبوا الراعي الصالح، فالعروس جميلة للغاية، هذه التي لا تخدع أحدًا، ولا تطلب هلاك أحد. صلوا أيضًا من أجل القطيع المبعثر، لكي يأتوا، ويتعرفوا عليه، ويحبوه، ويصيروا رعية واحدة وراعٍ واحدٍ.

القديس أغسطينوس

v كيف لا أحبك يا من أحببتني بشدة؟ رغم أني سوداء، فقد وضعت حياتك من أجل خرافك (يو 13:15)، أنت راعيهم.

ليس لأحدٍ حب أعظم من هذا، لأنك بذلت حياتك لتمنحني الخلاص.

قل لي إذًا أين ترعى؟

عندما أجد مرعى خلاصك، حينئذ اشبع بالطعام السماوي؛ الذي بدونه لا يدخل أحد إلى الحياة الأبدية. وحين أجري إليك أيها الينبوع سوف أشرب من الينبوع الإلهي الذي جعلته يتدفق ليروى كل من يعطش إليك.

إذ ضُرِب جنبك بالحربة للوقت خرج دم وماء (يو 34:19). ومن يشرب منه يصبح ينبوع ماء حيّ للحياة الأبدية (يوحنا 14:4).

إذا رعيتني ستجعلني أستريح بسلام خلال منتصف النهار في الضوء الخالي من الظلال. لأنه لا توجد ظلال في منتصف النهار، عندما ترسل الشمس أشعتها عمودية فوق الرأس. وستجعل ضوء منتصف النهار يُريح كل من أطعمته، وتأخذ أطفالك معك في فراشك (لو 7:11).

لا يستحق أحد أن يأخذ راحة منتصف النهار إلا ابن النور والنهار (1 تس 5:5). الشخص الذي فصل نفسه من ظلمة الليل إلى الفجر، سوف يستريح في منتصف النهار مع شمس البرّ (ملا 2:4).

القديس غريغوريوس النيسي

فاصل

تفسير القمص متى المسكين

 

11:10- 13 أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ أَجِيرٌ وَلَيْسَ رَاعِياً الَّذِي لَيْسَتِ الْخِرَافُ لَهُ فَيَرَى الذِّئْبَ مُقْبِلاً وَيَتْرُكُ الْخِرَافَ وَيَهْرُبُ فَيَخْطَفُ الذِّئْبُ الْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا. وَالأَجِيرُ يَهْرُبُ لأَنَّهُ أَجِيرٌ وَلاَ يُبَالِي بِالْخِرَافِ.

‏نلاحظ في تحليل الآيات السابقة أن الرب يقدم نفسه في الآيات (1-10) باعتباره الباب، حيث الباب إما أن يكون هو التعليم الصحيح عن الآب الذي يدخل منه الرعاة المستأمنون على الخراف من قبل راعي الرعاة الأعظم، وإما أن يكون هو الإيمان الذي تدخل به ومنه الخراف وتخرج. وبذلك يكون المثل قد انتهى عند العدد 6‏: «هذا المثل قاله لهم يسوع, وأما هم فلم يفهموا ما هو الذي كان يكلمهم به». ثم أكمل المسيح شرح المثل لهم من عدد 7-10.
‏ثم ابتداء من عدد 11 يكمل المسيح شرح وتوضيح استعلانه لنفسه, من داخل المثل حيث لا يزال المثل مستمراً, فبالإضافة إلى: «أنا هو الباب» يقول: «أنا هو الراعي الصالح»، حيث يوضح الرب معنى الراعي الصالح ومؤهلاته:
1- الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف (11-13).
2- الراعي الصالح يعرف خرافة الخاصة وخرافه تعرفه (14).
3- الراعي الصالح يضع نفسه عن الخراف (15).
4- الراعي الصالح لا يلتزم بحظيرة معينة، بل يجمع خرافاً أخرى لتكون له رعية واحدة وليست لحظيرة واحدة (16).
1- بذل نفس بنفس لإعطاء حياة: يبدأ الرب استعلانه عن نفسه بأنه الراعي الصالح بقوله: «أنا هو». وهنا تقع ( ) في موضع التعريف أو الا ستعلان, وكأن الرد على سؤال: «ومن أنت بالنسبة للآخرين». فهنا الرب يعرف نفسه على أساس النسبة التي بين الراعي الصالح والأجير, حيث يقصد بالأجير كل طبقة الكهنوت والكتبة والفريسيين.
‏وكما هو معلوم أن ( ) هو التعريف الخاص جدأ باسم الله. وكأن المسيح يقول لهم: «أنا, الحامل لاسم الله, هو الراعي». ويلزمنا هنا أن نوضح أنه قد سئل الرب فعلاً عن من هو بالنسبة لكل من جاءوا ويجيئون باسم المسيا. ولكن تأجل السؤال في هذا الأصحاح حتى عدد 14: «فاحتاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تعلق أنفسنا، إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً».
‏فقول المسيح «أنا هو» فيه, بحد ذاته, كشف لا يُستهان به عن من هو بالنسبة لله نفسه. ولكن بسبب ضعف الأذن وعمى البصيرة، اضطر الرب أن يُعرف نفسه بالنسبة للآخرين أيضاً الذين أخذوا وظيفته خلسة, أو بالإيجار(أي بالأجرة)، والمتكلمون معه هم عينة من هؤلاء الأجراء الذين يعتبرون أنفسهم رعاة الشعب: فـ «أنا هو الراعي الصالح» تجيء في مقابل: أنتم رعاة مستأجرون.
‏وكلمة «الصالح» لا تفيد معنى الصلاح، وهي تجيء في اليونانية ( ). فهي لا تفيد صلاح الله كطبيعة. وبحسب أسلوب إنجيل القديس يوحنا كان يلزم أن تجىء «الحقيقى» لتتمشى مع الاستعلانات السابقة كـ «النور» و«الخبز» واللاحقة كـ «الكرمة». ولكن وظيفة الراعي هي وظيفة مؤقتة مستمدة من التشبيه بالبشر، وتجيء داخل مثل، فهي ليس لها وجود دائم في المطلق الإلهي كالخبز الحقيقي والنور الحقيقي، ولكنها صفة لله منسوبة للبشر، وهي تنتهي (أى الرعاية) بانتهاء الدينونة، لذلك فـ «الحقيقي» لا تتمشى مع الراعي.
‏كذلك كان من المنتظر أيضا أن تجيء الصفة بالكلمة المعروفة بـ «الصالح»» فيما يخص الله، وهي ( ). ولكن صلاح الله هو طبيعته المطلقة فيه. أما الرعاية فلأنها صفة منسوبة للبشر، بسبب جهلهم وعوزهم، فهي وظيفة تطلبتها الحاجة، لذلك جاءت كلمة ( ) التي تفيد «الحسن» وهي صفة عمل وليست صفة شخص، كما هي في الآية: «فليضىء نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة» (مت16:5). لذلك، فبسبب قصور كلمة «حسن» (صالح) عن ‏أن تفيد صلاح المسيح الشخمي (الداخلي)، وضع لها الرب تكملة لتغطي معنى صلاح العمل، قال : «والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف».
‏وهنا يلزم أن نعود إلى مستوى «صلاح الرعاة» في تاريخ إسرائيل، لنرى موقع المسيح منهم. فالله سبق أن أقام موسى راعياً: «أصعدهم من البحر مع راعي غنمه» (إش11:63)، «هديت شعبك كالغنم بيد موسى وهارون» (مز20:77). كما أقام داود أيضاً: «اختار داود عبده، وأخذه من حظائر الغنم، من المرضعات أتى به ليرعى يعقوب, شعبه, واسرائيل, ميراثه.» (مز70:78-71)
‏ولكن هؤلاء الرعاة جميعاً لم يزيدوا عن أنهم كانوا بدورهم خرافاً، كان الله يرعاهم، ويهدي لهم رعيتهم. فداود يعترف بذلك: «الرب راعى فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني، إلى مياه الراحة يوردني، يرد نفسي، يهديني إلى سبل البر من أجل اسمه» (مز1:23-3). ولا يمكن أن ننسى أن داود، كراع، رعى رعية الله حسناً، ولكنه افترس نعجة من قطيعه.
‏وموسى، الذي ضُربت به الأمثال في القيادة والأمانة، نجده يقف مرة واحدة عن القيادة والمسئولية ويطلب, مستصرخاً, أن يعفيه الرب: «فقال موسى للرب: لماذا أسأت إلى عبدك؟ ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي. ألعلي حبلت بجميع هذا الشعب؟ أو لعلي ولدته حتى تقول لي احمله في حضنك، كما يحمل المربي الرضيع إلى الأرض التي حلفت لآبائه… لا أقدر أنا وحدي أن أحمل جيع هذا الشعب، لأنه ثقيل علي. فإن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلاً إن وجدت نعمة في عينيك, فلا أرى بليتي» (عد11:11-15). وبسبب هذه العثرة التي عثرها موسى عين الله, مضطراً, سبعين شيخاً يشاركون في القيادة والمسئولية، الأمر الذي لم يكن في أصل تدبير الله، وهذا هو منشأ السنهدريم الذي اجتمع ضد المسيح وقتله! …
‏فبالنسبة لهؤلاء الرعاة, قادة وحكاماً, وهم أفضل الرعاة في تاريخ البثرية، يقول المسيح ويعلن نفسه: «أنا هو الراعي الصالح». و يكمل معنى الرعاية والصلاح بقوله: «والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف».
‏ويلاحظ أن المسيح لم يقدم نفسه للموت عرضاً، بل نزل من السماء خصيصا من أجل ذلك، بل إنه تجسد ووُلد ليموت: «أيها الآب نجني من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة» (يو27:12)، ليس عن خراف حظيرة إسرائيل وحسب، بل وعن الخراف الأخرى من جميع أنحاء العالم وفي كل الأجيال.
‏على أن كل راع, سواء كان قائدا أو حاكما أو كاهنا أو أيا من كان, إذا مات دفاعا عن خرافة فهو لن يمنحها من حياته شيئا، بل وعلى أقص تقدير يحفظها حية، أما الراعي الصالح فهو يبذل نفسه ليعطي حياته لكل من يؤمن به, فهو بذل نفساً بنفس، أو بكل النفوس على وجه الأصح. وهذا هو الخلاص في أعلى مفهوم له وقمة معناه. فالخلاص ليس خلاصاً من ذئب أو موت وحسب، بل للفداء واعطاء حياة: «أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة, وليكون لهم أفضل».
‏فبذل يسوع «لحياته» ليعطيها لأخصائه، يرفع من مفهوم «الراعي» بكل أبعاده البشرية، حتى يكاد يلغي معنى الراعي بالمفهوم البشري ويجعله الإله الفادي. لأنه هكذا انتهت وظيفة المسيح المنظور, كراع, على الأرض بالموت، ليظهر بحقيقة الإله. وزكريا النبي يرى هذه الصورة ويصفها بدقة عجيبة: «استيقظ يا سيف على راعي, وعلى رجل رفقتي، يقول رب الجنود. اضرب الراعي فتتشتت الغنم …» (زك7:13). ويعود المسيح ويٌحيي هذه النبوة ويطبقها على نفسه: «حينئذ قال لهم يسوع: كلكم تشكون فّي في هذه الليلة لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية. ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل» (مت31:26-32) وهكذا ينتهي موت الراعي إلى قيامته واستعلان لاهوته.
‏والملاحظ أن كلمة «تتشتت» أو «تتبدد» الرعية أو الغم، التي هي مقصد الشيطان الأول في موت المسيح، أي الراعي، والتي تأتي باليونانية ( ) في نبوة زكريا كما استشهد بها المسيح في إنجيل متى، هي نفس الكلمة التي يستخدمها إنجيل يوحنا في نبوة رئيس الكهنة التي تتضمن أن موت الراعي سينشىء بالتالى تجمع المتفرقين أو المتبددين مرة أخرى: «تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد» (يو51:11-52) حيث جاءت كلمة «المتفرقين» على نفس أصل الكلمة ( ).
‏بهذا ينتهي خط هذه النبوة العجيبة بأن «موت الراعي» الذي يقصد منه تبدد الرعية، أنشأ بذاتو تجمع المتبددين من الرعية إلى واحد!! بهذا الإحساس النبوي الفريد، كان يسوع يتكلم حينها قال: «والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف»، لأنه عالم أن بموته، تتجمع الخراف إليه لتصير رعية واحدة لراع واحد. لهذا قلنا ونقول إن وظيفة الراعي التي أخذها المسيح لنفسه، إنما استعارها استعارة ليقارن بها نفسه بالآخرين الذين أرادوا أن يتشبهوا به، ليظهر مدى الفارق المستحيل تصويره. فرعاية المسيح لخرافه فى المثل الذى قاله, لمجرد المثل, ان هى إلا عملية موت وخلاص بالدرجة الاولى وبالأساس, فهي ليست مثلاً! فإن كانت هذه هي الرعاية الصالحة فمرحبأ بالراعي الصالح، بل برئيس الرعاة الأعظم, الإله الذي تجسد واتحذ صورة الراعي، بل والحمل المذبوح ليُذبح عوض خرافة، إن صح الكلام والتعبي:
«وأما الذي هو أجير وليس راعيا, الذي ليست الخراف له, فيرى الذئب مقبلاً, ويترك الخراف ويهرب, فيخطف الذئب الخراف ويبددها. والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالى بالخراف »: المقارنة هنا تتركز في العلاقة بين الخراف والراعي، والراعي والخراف، علاقة مشتركة تكشف الصاحب من الأجير, فصاحب الخراف يرعى خرافة, لأنه يمتلكها ويحبها, ويطلب صلاحها، فهو صالح لأنه يطلب لها الصلاح. أما الأجير فهو قد توظف, ليرعى الخراف من أجل نفسه. فأولا هو يطلب الأجرة ثمنا للرعاية. وثانيا وبصورة شاملة، هو يطلب تأمين حياته. فهو يرعى الخراف لكي يرتزق، ويرتزق لكي يؤمن معيشته هو. فالمنطق على هذا الوضع يجعله غير مستعد أن يموت من أجل الخراف. والذي يفضح هذا الموقف هو حدوث خطر مفاجى، الذي يمثله ظهور الذئب. والذئب هنا لا يرصده المسيح أنه الشيطان، بل أي ضيقة أو اضطهاد يفرضه العالم. فهو في الحال يهرب، لأنه يباىل أولأ واخراً بحياته، ولا يبالى بالخراف. وهكذا يجد الذئب الفرصة ليفتك بالخراف ويبددها. وهنا تصوير أليم لتفكك الجماعة، وفقدان الأفراد، عند انهزام الراعي، واكتشاف عدم كفاءته.
‏والرب هنا لا يهدف إلى فضح فئة معينة، لأنه يثسرح حقيقة لا يمكن تعديلها أو تصحيحها، فالأجير لا يمكن تحويله إلى صاحب، ولكن الرب هنا يستعلن نفسه أنه الراعي الوحيد والفريد في نوعه, لأنه الابن إلوحيد, ولن يكون له مثيل، لأنه «صاحب الخراف»، بمعنى الامتلاك الكلي. وبالتطبيق لا يوجد إنسان, ولن يوجد قط، من يمكن أن يمتلك أرواح ونفوس البشر، إلا خالقها ومخلصها الرب يسوع. فالرب هنا يضع هذه المقارنة بين الصاحب والأجير، لكي يستعلن نوعية رعايته للنفوس التي تفوق قامات الملوك والآباء والأنبياء والكهنة والخدام، في كل زمان ومكان. لذلك جاءت النبوة واضحة : «وأقيم عليها راعياً واحداً فيرعاها, عبدي داود, هو يرعاها وهو يكون لها راعياً.ء» (حز23:34)
‏والراعي الواحد هو الذي يكلف آخرين للرعاية من تحته، وهؤلاء لا يكنون بعد غرباء ولا أجراء، بل مستأمنين ومختارين حسب قلب الله: «واقيم عليها رعاة يرعونها، فلا تخاف بعد ولا ترتعد ولا تُفقد، يقول الرب» (إر4:23‏)، لأنها تحت رعاية الراعي الأعظم بالدرجة الأولى: «وأعطيكم رعاة حسب قلبى, فيرعونكم بالمعرفة والفهم»(إر15:3). هؤلاء الرعاة لسيوا أجراء بعد، لأنهم يرعون بالمعرفة والفهم وليس للمال والمنفعة، ولا هم غرباء أيضاً ولا نزلاء، بل هم رعية مع القديسين وأهل بيت الله، فهم أبناء للراعي الصالح وليسوا عبيداً, لا يعملون لحسابهم بل حباً في الذي فداهم، وهم أيضاً شركاء للراعي، وشهود، سواء في موته أو في مجده، مستعدين أن يفدوا الرعية بأرواحهم، لأن مستوى حبهم هو حب قلب الله. هذا واضح في قول الرب لبطرس: « يا سمعان بن يونا أتحبني … ارع غنمي» (16:21). وهذه هي إستجابة بطرس ومنهج رعايته: «أطلب إن الشيوخ الذين بينكم, أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح, وشريك المجد العتيد أن يُعلن, ارعوا رعية الله, التي بينكم، نظارا لا عن اضطرار بل بالاختيار، ولا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كمن يسود على الأنصبة, بل صائرين أمثلة للرعية. ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون ‏إكليل المجد الذي لا يبلى.» (ابط1:5-4)
‏ولينتبه كل قارىء وكل راع، فالرعية هي رعية الله من الألف للياء، أما الراعي هنا فيتحتم أن يكون مثلاً أعلى للرعية بشبه المسيح، وإلا فليمتنع. والربح القبيح ممنوع, والتجبر والسيادة علامة فساد، والاجرة ليست مالاً، بل إكليلاً لا يفنى، من فوق، وليس هنا بالذهب الفاني، وحساب الوكالة سينشر علنا عند ظهور رئيس الرعاة.
«والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالى بالخراف»: ‏هو لا يبال كما تأتي باليونانية, بمعنى «لا يعتني», لأن االخراف ليست له. ولكن شكرا لله رئيس الرعاة الأعظم، لأنه، وإن كان الرعاة الاجراء لا يعتنون بالرعية، فالله يعتني وسيظل يعتني بكل من يصرخ إليه، كما يقول بطرس الرسول الذي تعين راعياً من فم الرب: «ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم.» (1بط7:5)

فاصل

تفسير القمص أنطونيوس فكري

 

الآيات (11-13): “أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف. وأما الذي هو أجير وليس راعياً الذي ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف ويهرب فيخطف الذئب الخراف ويبددها. والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالي بالخراف.”

هنا نرى تحقيق نبوات أرمياء (1:23-8) + حز (34). فحينما فشل الرعاة الذين أقامهم الله في رعاية شعبه أتي هو الراعي الصالح ليرعى شعبه. والصالح هنا في أصلها اللغوي تعنى (جميل/ طيب/ حسن/ جيد). والمعنى أنه راعي له شخصية جميلة النفس. هو يحب خرافه محبة شديدة ويبذل نفسه عنها. وهو له شخصية جميلة محببة عند خرافه، وإذا تعرفه خرافه تحبه تاركة الرعاة الغرباء.

أنا هو= إسم الله، فالمسيح هو الراعي الصالح وهو الحامل لإسم الله. والله كان له رعاة كثيرون مثل داود، ولكن داود كراعٍ إفترس نعجة من قطيعه (التي لأوريا) وموسى كان راعٍ ولكنه تذمر من حمل المسئولية (عد11:11-15) وبالنسبة لهم يصير المسيح هو الراعي الصالح صلاحاً مطلقاً عدا أن موسى وداود كانوا أيضاً خرافاً عند الراعي الأعظم. وأفضل الرعاة لم يقدم نفسه للموت عن رعيته والمسيح فعل ليعطي حياة لخرافه (زك7:13+ مت31:26،32) وصاحب الخراف يرعاها لأنه يمتلكها ويحبها. وهو صالح لأنه يطلب لها الصلاح. أمّا الأجير فهو يرعى الخراف لأجل نفسه ويأخذ أجرة وهو غير مستعد أن يموت لأجل الخراف. ولو ظهر خطر مفاجئ كظهور ذئب (الذئب هناهو أي ضيقة أو أي آلة يستخدمها الشيطان أو الشيطان نفسه أو أي إضطهاد في العالم) فهو يهرب بحياته فيفتك الذئب بالخراف ويبددها، لأن الخراف إذ ترى الذئب يخطف واحداً واحداً منها تجري وتهرب فتتبدد الرعية. والراعي الصالح يكلف رعاة أمناء لرعاية رعيته (أر4:23+ 15:3+ 1بط1:5-4). ولنلاحظ أن الأجير ليس هو من يتقاضى أجراً عن خدمته فالفاعل مستحق أجرته وخادم الإنجيل من الإنجيل يعيش. ولكن الأجير هو من يفضل الأجرة على الخدمة وعلى محبته لرعيته.

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى