بسطاء.. أم جهلاء؟

 

ينتشر من وقت لأخر قول للقديس أغسطينوس يقول “بينما يتباحث اللاهوتيون في أمورهم اللاهوتية, يتسرب البسطاء إلى ملكوت السموات” ودائماً ما يُستخدم للرد على أي نقاش لاهوتي أو عقيدي ، ولا أفهم إن كان الغرض من أستخدام هذة المقولة هي الدعوة للجهل أم لتصغير دور رجال اللاهوت في المسيحية؟

وهل البساطة هي الجهل بأمور اللاهوت والعقيدة المسيحية؟

أولاً دعنا نستعرض مفهوم البساطة:

 البساطة لا تعني مطلقاً السذاجة وضحالة التفكير. والبسطاء ليس هم الناس السذج الذين لا يفهمون شيئاً، و الذين لا عمق لهم في التفكير ولا في التدبير. فالبساطة في المسيحية هي بساطة حكيمة “فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ” (متى10: 16) .

فالبساطة المسيحية بساطة حكيمة، والحكمة المسيحية بسيطة، أي لا تعقيد فيها. 

يقول القدّيس يوحنا الدرجي: [الإنسان البسيط هو ذو النفس التي في نقاوتها الطبيعيّة التي خُلقت عليها والتي تشفع من أجل الجميع. الحقد هو فساد البساطة، طريق ماكر للتفكير تحت ستار مزيّف من البساطة.]

ويقول القديس جيروم: [أن المسيحي في وداعته يكون كالحمامة التي لا تحمل حِقدًا ولا تلقي فخاخًا لأحد، لكنّه يلتزم بحكمة الحيّات، فلا يعطي لأحد مجالًا أن يلقي له الفخاخ. إنه يقول: كن بسيطًا كحمامة فلا تلقي فخًا لأحد، وكن حكيمًا (بارعًا) كحيّة فلا تسمح لأحد أن يلقي بالفخ أمامك. المسيحي الذي يسمح للآخرين أن يخدعوه يكون مخطئًا تمامًا كمن يحاول أن يخدع الآخرين.]

ويقول الأب يوحنا من كرونستادت: [اِِسْتَعر من الحيّة حكمتها فقط، ولِيبق قلبك بسيطًا نقيًا غير فاسد. كن وديعًا ومتواضعًا كما أنا، ولا تسلّم نفسك للغضب والهياج، “لأن غضب الإنسان لا يصنع برّ الله” (يع 1: 20).]

ويقول القدّيس أغسطينوس: [تمثل بالحمامة وأنت مطمئن. انظر كيف تبتهج الحمامة بوجودها وسط الجماعة. فالحمام يبقى دوماً كجماعات، أينما طاروا أو أكلوا، ولا يحبّون الانفراد. إنهم يبتهجون معًا في وحدة، يحتفظون بالمحبّة، فهديلهم ما هو إلا صرخات حب واضحة…. حتى عندما يتنازع الحمام على عشّه – كما نلاحظ ذلك غالبًا – إنّما يكون أشبه بنزاع سلمي. هل ينقسمون على أنفسهم أثناء نزاعهم؟ كلاّ، بل يطيرون معًا ويقتاتون معًا، ويبقى نزاعهم ودّيًا. تأمّل نزاع الحمام الذي يتحدّث عنه الرسول، قائلاً: وإن كان أحد لا يطيع كلامنا بالرسالة فسِموا هذا ولا تخالطوه لكي يخجل أي أقيموا المعركة، لكن فلتكن معركة حمام لا ذئاب، لهذا أردف يقول: “ولكن لا تحسبوه كعدوّ بل اِنذروه كأخ (2 تس 3: 14-15) إن الحمامة تحب الآخرين ولو في نزاعها، أمّا الذئب فيبغض الآخرين ولو تلّطف.]

ولا يوجد أي تعارض بين البساطة والعلم فكما قراءنا في تاريخ الكنيسة أن أباء الكنيسة رغم علمهم وتعمقهم في اللاهوت والعقيدة، كانوا يحيون حياة البساطة في كل شئ.

وهولاء اللاهوتين – أمثال القديس اثناسيوس وكيرلس وغريغوريوس وباسليوس وذهبي الفم وديونسيوس و…- وبعمل الروح القدس فيهم حفظوا لنا الايمان المسلم مرة للقديسين، وبفضل جهادهم العظيم انتهت بدع كُبرى مثل الغنوسية والاريوسية والنسطورية

فهل سيدخل الجهلاء(البسطاء بحسب مفهوم البعض) الملكوت قبل أباءنا اللاهوتيين العظام؟

ولكن على اللاهوتي والباحث وكل إنسان ان يتبع روح الإنجيل المقدس في كل شئ “من هو حكيم وعالم بينكم فَلْيُرِ أعماله بالتصرف الحسن في وداعة الحكمة (يع 3: 13).

كما يقول الأب نسطور: 

[إن كنتم مشتاقين إلى الحصول على نور المعرفة الروحيّة، معرفة ليست خاطئة, لأجل كبرياء فارغ, لتكونوا رجالاً فارغين، يجدر بكم أولاً أن تلتهبوا بالشوق نحو هذا التطويب الذي نقرأ عنه طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله (مت 5: 8). وبهذا تنالون ما قاله الملاك لدانيال “والفاهمون يضيئون كضياء الجَلَد، والذين ردّوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور(دا ١٢: ٣)… وهكذا يَلزم المثابرة بالجهاد في القراءة مع السعي بكل اشتياق لنوال المعرفة العمليّة الاختبارية أولاً أي المعرفة الأخلاقيّة.

إذ المعرفة الحكيمة هي المملوءة وداعة وتواضعًا بلا كبرياء أو عجرفة.

ثانياً : خطورة الجهل

علمنا الكتاب المقدس أن السقوط في الشر، وهلاك النفس، يعود لأسباب كثيرة على رأسها الجهل وعدم المعرفة وعدم الرغبة في فهم التعليم الروحي السليم، أو رفض السؤال. فيضل الإنسان بالجهل، “هلك شعبي من عدم المعرفة” (هوشع 4: 6). ومثال ذلك شعب نينوى الذين قال عنهم اللهلايعرفون يمينهم من شمالهم” (يونان4: 11). 

وكثيرون يهلكون، لأنهم لا يفهمون التعليم السليم، فالجاهل يسهل تضليله وخداعه وإقناعه بأفكار خاطئة، وبالتالي يقودون غيرهم أيضاً إلى الضلال، مثل الطوائف المنحرفة (شهود يهوة – السبتيين… إلخ). ويقول رب المجد بفمه المبارك: “أعمى  يقود أعمى، كلاهما يسقطان في حفرة” (مت15: 14).ولذلك يدعونا الكتاب المقدس إلى مداومة التعليم الكتابي السليم (1تي4: 16) لأن كل الكتاب المقدس “نافع للتعليم والتقويم والتأديب” (2تي3: 16). وتذكر الدسقولية (تعليم الرسل) المبدأ الحكيم “إمحُ الذنب بالتعليم”

و الله أعطانا الضمير ، والوحي المقدس، واستنارة القلب والذهن بالروح القدس. كلها تنير لنا الطريق“سراج لرجلي كلامك، ونور لسبيلي” (مز119: 105). “لو لم تكن شريعتك هي تلاوتي، لهلكت حينئذ في مذلتي” (مز119: 92).

لذلك عند قراءة الإنجيل تضاء الشموع، لأن الإنجيل يضيء لنا الطريق إلى الأبدية بتعاليمه، وبه الحكمة الروحية العالية. و الروح القدس يرشدنا للحق (يو16: 13).. وهو “يعلمنا كل شيء، ويذكركنا بكل ما قاله المسيح” (يو14: 26).

+++

المراجع

  1. كتاب خبرات في الحياة للبابا شنودة الثالث
  2. تفسير إنجيل القديس متى للقمص تادرس يعقوب ملطي
  3. تفسير رسالة القديس يعقوب للقمص تادرس يعقوب ملطي

كما يمكنك أن تقرأ أيضاً

أنواع الإيمان للمتنيح الأنبا غريغوريوس

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى