تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 15 للاب متى المسكين
الأصحاح الخامس عشر:
( و ) توبة الخاطئ وفرح الله
إنجيل الابن الضال والخروف والدرهم
(32-1:15)
يقع الأصحاح الخامس عشر بين الأصحاحات الأربعة والعشرين موقع الفاصل الموسيقي الأنيق في انسجامه واختيار مكوناته. فهو يدور حول موضوع واحد يتحدد من أوله، إذ لما عيّر الكتبة والفريسيون المسيح كونه يحتفي بالخطاة ويسعدهم بتقربه إليهم وأكله معهم، بدأ المسيح يعطي فلسفته هذه كـون الخطاة المنبوذون من المجتمع أحوج إليه وإلى محبته من الأبرار الراضين بأنفسهم القانعين بأفضليتهم. وأعطى في هذا المضمار ثلاثة أمثلة متناسقة ومتصلة اتصال النغمة الواحدة في مقطوعة موسيقية. فاختار أولاً مثل الخروف الضال الذي خرج من الحظيرة ولم يعد، وأثر ذلك على الراعي الذي جد في إثره حتى وجده، ومن فرحه به حمله على كتفه ليهون عليه وعورة الطريق. ثم امرأة مقترة وفقيرة جمعت عشرة دراهم من كدها وتعبها، ضاع منها درهم واحد فقامت بالليل وأسرجت سراجها وأخذت تبحث عنه في كل أركان بيتها وهي تكنسه كنساً باجتهاد حتى عثرت عليه، فمن فرحهـا دعـت الجـارات والصديقات ليشاركنها فرحها. ثم رجـل كـان لـه ابنـان، كان الأصغر مدللاً فطالب أباه بنصيبه مـن الميراث، وأبوه حي بعد، فمن عطفه أعطاه مناه، فأخذه وانطلق إلى كورة بعيدة يبذر المال بعيش مسرف حتى نفذ عن آخره . وحدث أن تُكبت الأرض بجوع شديد فاشتغل كـأجير يرعى الخنازير، فاشتهت نفسه أن تأكل من أكلها فلم تُغط. فتذكر عز أبيه والعيشة في أحضانه، فقام في الحال وأخذ يرتب في قلبه كلمات الاعتذار التي سيرد بها على عملته هذه. ولكن ما أن قرب من الدار حتى لمحه أبوه من بعيد فقام وكان يجري نحوه من فرحته. وأخذ الابن يعتذر بأعذاره ويعترف بخطيته والأب مشغول كيف يحييه بعمل وليمة فاخرة ويلبسه أجمل لباس. وأحضر خاتماً مرصعاً في يده وحذاء جديداً في رجليه وقال: اذبحوا العجل المسمن لنأكل ونفرح. فجاء الأخ الأكبر من الحقل وسمع صوت الوليمة فاستخبر من العبيد عن الخبر فقالوا له رجع أخوك سالماً فذبح أبوك العجل المسمن. فغضب الابن ولم يشأ أن يدخل الدار، فقام أبوه يطلبه، ولكنه احتج على أبيه كيف أنه قضى كل أيام خدمته هذه السنين طائعاً، وجدياً صغيراً لم تعطني لأفرح مع أصدقائي، وهذا الذي عصاك وبدر أموالك على الزواني تذبح له العجل المسمن؟” فقال الأب متباسطاً: يا ابني أنت كنت معي وأموالي كلها لك، ولكن أخاك هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد، أفلا نفرح به؟
قصة جميلة خاصة الجزء الأخير منها، تحيي التوبة وتمجدها وترفعها إلى مستوى فرحة العيـد عنـد الناس وفرحة الآب السماوي بعودة الشركة مع الإنسان، وخاصة أن المسيح نفسه هو قائلها ليرد على وقاحة الفريسيين الذين يلومونه على كونه يحب الخطاة ويأكل معهم. فرفع المسيح تذمرهم إلى أخطر قضية بين الله والإنسان: فالإنسان الذي جره الشيطان من حضن الله أصبحت عودته التي أكملها المسيح تمثل أعظم نصر للمسيح وأعظم فرحة عند الآب!
1 – مقدمة (2,1:15)
1:15و2 «وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه. فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين: هذا يقبل خطاة ويأكل معهم».
واضح أن المسيح هو المسئول عن دنو الخطاة إليه والجلوس والأكل معهم، لأنهم وجدوا أنفسهم الضائعة فيه، وضميرهم المعذب وجد راحة وسلاماً عنده، أحبوه لأنهم شعروا بمحبته. فالمسيح تحشد ليبحث عن الإنسان الذي خرج من لدن الله مطروداً ولم يعد. حينما يشعر الإنسان بخطيته يكون قد انفتح أمامه باب العـودة. هؤلاء الخطاة الذين التفـوا حـول المسيح أدركوا أن فيـه هـو وحـده تختبئ سعادتهم، وأحشوا أن مفتاح حياتهم الجديدة معه. وهؤلاء أقنعوه بقربهم منه أنه يلزم أن يعمل شيئاً من أجلهم، أقنعوه أن رسالته من عند الآب التي جاء من أجلها يتحتّم أن يسرع بها.
كانت لهم آذان تسمع وعيون تبصر وقلب رقيق يحس، أما الفريسيون فلو أن خطيتهم أكبر إلا أنهم كانوا لا يحشون بها، بل بالعكس كانوا يحثون أنهم أبرار أمام الله، لذلك لم يحسوا بالمسيح ولا قبلوه ولا قبلوا كلامه. سدوا آذانهم بإرادتهم فانسدت غصباً عنهم. لم يشعروا بالحاجة إليه فتباعدوا عنه وتباعد هو عنهم، ا لأنه لم يجد فيهم الخطيـة الـتـي جـاء ليحه عـن الإنسان. وجـد الخطيـة في العشارين والزواني وبقية الذين جاءوا والتفوا حوله لأنهم شعروا بخطيتهم فشعر بهم. وزينوا بقربهم منه الصليب، وبسببهم اقتنع أنه لابد أن يحمل خطاياهم في جسده ويفديهم بدمه.
وقد أبدع القديس لوقا في تقديم هذه المقدمة أيما إبداع، لأنها تنطق نطقاً بمن هو الابن الأصغر الذي عاش مع الزواني وقام وذهب إلى أبيه معترفاً بخطيته، كذلك تكشف من هو الابن الأكبر الذي احتقر أخاه لأنه أخطأ واحتقر أباه لأنه قبله وهو خاطئ. إنه حبك مبدع.
2 – الخروف الضال (3:15-7)
(مت 12:18-14)
النقطة المحورية في هذا المثل هي فرحة الراعي بخروفه الضال. واحد بين مائة، ترك التسعة والتسعين وجرى نحوه يبحث في التلال والوديان وينادي حتى بع صوته. وأخيراً وجده وكانت فرحته عارمة. هذه الفرحة عينها يقول المسيح إنها تكون عند الآب حينما يعود إليه خاطئ واحد. المثل يحمل كذلك رئة أسف كيف خرج الخروف من الحظيرة وانسل من وراء الراعي هكذا وضل، هي : نفسها رئة الحزن عند المسيح والله بالنسبة لخاطئ واحد يضل. أمر يحزن قلب الله والمسيح الذي سفك دمه من أجل هذا الخاطئ الذي ضل. إنها دعوة لرعاة البشر أن يصونوا رعيتهم لأنهم سيسألون عمّن يخرج ويضل:
+ «أطلب إلى الشيوخ (الكهنة) الذين بينكم، أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يعلن، ارعوا رعية الله التي بينكم نظاراً (أساقفة)، لا عن اضطرار بل بالاختيار، ولا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كمن يسود على الأنصبة، بل صائرين أمثلة للرعية. ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يبلى.» (1بط 5: 1-4)
+ «احترزوا إذا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة، لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه.» (أع 28:20)
علماً بأنه حسب أصول رعاية الغنم أن الخروف الذي يضيع يحسب على الراعي.
3:15و4 «فكلمهم بهذا المثل قائلاً: أي إنسان منكم له مئه خروف، وأضاع واحداً منها، ألا يترك التسعة والتسعين في البرية، ويذهب لأجل الضال حتى يجده؟»
صوت المسيح هنا مسموع لأن هذا هو أسلوبه: توجيه مع توبيخ، مع تعليم. مائة خروف تعبر عن ملكية صغيرة في فلسطين. وواضح من الكلام أن المسيح يخاطب أناساً منهم رعاة غنم. فالمنظر كأنه أمامنا الآن، فالراعي قبل أن يدخل غنماته الحظيرة يضع عصاته بعرض الباب حتى تدخل الغنمات من تحت العصا ليعدها ويفرز المريضة أو المجروحة. ومن هنا جاء قول الله بالنسبة لشعبه: «وأمركم تحت العصا وأدخلكم في رباط العهد» (حز 37:20)، بمعنى عدهم وفتشهم عناية . منه بهم، بعكس ما يظن أنه للتأديب. أخيراً، وقد ابتدأ نور النهار يقل للغاية اكتشف الراعي أن خروفاً قد ضاع، ففي الحال يترك الغنمات ويعود يبحث عن الخروف الضال حتى يجده. ولكن هل يا تُرى الآن يوجد راع واحد يعرف المؤمنين وعددهم ويكتشف مـن ضـل منهم ومن خرج ولم يعد؟ يبدو الآن أن المثل لم يصبح الخروف الضال بل الشعب؛ ولكن هذا عند الإنسان وليس عند الله، فقد نقش الله أسماءنا على كفه ولكل واحد منا مكان عنده محجوز ومحفوظ، وهو لا يزال يسعى وراء الخروف الضال.
7-5:15 «وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم: افرحوا معي، لأني وجدت خروفي الضال. أقول لكم إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارا لا يحتاجون إلى توبة».
هذا هو عمل الله إلى الآن: «كراع يرعى قطيعه، بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها ويقـود المرضعات.» (إش 11:40)
وكما يفرح الراعي بخروفه الضائع، يفرح الله والسماء كلها بخاطئ واحد يتوب . أما الخاطئ التائب فهو يستمد قوة من فرح الله: «فرح الرب هو قوتكم» (نح 10:8). أما الأصدقاء والجيران فواضح أنه يقابلها فرح في السماء، أما التسعة والتسعون فهم الذين يشعرون أنهم غير محتاجين إلى التوبة. والاعتقاد السائد عنـد الآباء أنه لا يوجد في الحقيقة إنسان واحد لا يكون محتاجاً إلى التوبة مهما كان بره. ولكن لأن الجزء الأخير من الآية (7) يقول إنه: «يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين لا يحتاجون . »يدخل في المعنى أنهم لابد أبراز حقيقيون تفرح بهم السماء. ولكن تظل فرحة السماء بالخاطئ الراجع إلى الله حافزاً شديداً لتعمل الكنيسة باهتمام بالغ كل الوسائل لتشجيع التوبة ومحاصرة الخاطئ حتى لا يبتلع من اليأس أو يرتمي في يد الشيطان. ويكفينا أن هذا الحديث كله سببه معايرة المسيح بسبب حبه للخطاة والأكل معهم. فهذا يعني أن الكنيسة يلزم أن يكون من واقع عمل المسيح. علماً بأن منهج محبة الخطاة وملاطفتهم والأكل معهم كان يأخذ من
هذا وبسبب هي وقت المسيح ليس أقل من 90%، والباقي للرد على مناوأة الفريسيين بسبب هذه المحبة، التنازل والأكل مع الخطاة. فرسالة المسيح الأولى الخطية أينما وجدت والخاطئ بالضرورة. فموائد الأغابي يلزم أن تعود كمنهج منسّق لأنها تعتبر وسيلة هامة للتعرف على المساكين والفقراء والخطاة، الذي يلزم أن يكون شغل الكنيسة الشاغل. أما الحادث الآن فبيوت الأغنياء وذوي الجاه والسلطان هي التي تأخذ أكثر من 90% من وقت الكنيسة. صحيح أ أن الأغنياء وذوي الجاه هم في حاجة إلى التوبة وربما أكثر من الفقراء، ولكن الفقراء والضعفاء والمساكين توبتهم جادة وصادقة وهي أمانة في عنقنا، إذ ليس لهم من يؤمن لهم حياتهم ضد الخطية. والفقر يشجع على ارتكاب الخطية خاصة إذا كانت من جهة المال، والخوف من ضياع الخاطئ الفقير هو الذي يحتم علينا التعرف عليه وعلى مشاكله، هذا كان منهج الكنيسة.
3 – الدرهم الضائع (8:15-10)
10-8:15 «أو أية امرأة لها عشرة دراهم، إن أضاعت درهماً واحداً، ألا توقد سراجاً وتكنس البيت وتفتش باجتهاد حتى تجده؟ وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات قائلة: افرحن معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته. هكذا أقول لكـم يكـون فـرح قـدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب».
هذا المثل يختلف عن مثل الخروف الضائع، حيث ضياع الخروف كان يمثل الخاطئ الذي ضل الطريق إلى الله، وبحث الراعي عنه باهتمام شديد يكشف عن اهتمام الله الشديد بالخطاة، فلما وجده فرح فرحاً عظيماً وهذا يمثل فرح الله بالخاطئ التائب أو العائد إليه. أما هنا في مثل الدرهم الضائع فضياع الدرهم أنشأ حزناً شديداً للمرأة الفقيرة، الذي يمثل حزن الله على الخاطئ الضائع. هنا بحسب القياس البشري يبدو أن الخسارة في ضياع الدرهم صغير جداً ولا قيمة لها على الإطلاق في نظر الإنسان، ولكن حزن المرأة الشديد على عشر ماليتها الضائع يعطينا من خلاله إحساساً مهيباً، فإن الله يحزن هذا الحزن على الخاطئ الضائع! فهو في نظرنا كنظرنا إلى الدرهم، شيء تافه من وجهة تقييم الإنسان، ولكن ظهر أن هذا الفقدان عند الله شيء مهول لأنه جزء أساسي في ملكوته. على أن فرحة المرأة مع جاراتها بعودة الدرهم يبدوا لنا شيئاً سخيفاً، ولكنـــه في نظر الله شيء مهيب تشاركه فيه الملائكة! والمثل يفضح الإنسان في تقديره للخاطئ وضياعه وعودته، الذي يحسب في تقدير الله هاماً وخطيراً كعودة الدرهم للمرأة الفقيرة. المسيح هنا يقارن بين حساسية الإنسان لموضوع الخاطئ” الذي هو نفسه تماماً عند الكتبة والفريسيين شيء تافه لا قيمة له ضاع أو وجد، مع أن أحاسيس الله من جهته تساوي أحاسيس المرأة لما ضاع منها الدرهم ولم تهدأ حتى وجدته. ولهذا يحسب هذا المثل من أبدع التصاوير الحسية التي ضربها المسيح ليزگي مجيئه من السماء من أجل الخاطئ، والذي به ببكتنا حتى يرتفع معيار اهتمامنا بالخاطئ.
فمثل الخروف الضائع يمثل حساسية الإنسان من جهة الخاطئ الذي ضل عن طريق الله، أما مثل الدرهم المفقود فهو يمثل حساسية الله من أجل الخطاة!!
4 – الابن الضال (11:15-32)
القديس لوقا وحده
مثل المسيح المشهور الذي قدمه بعد المثلين السابقين، حيث أوضح في الأول أهمية الخاطئ عند الله واعتناءه بتوبته أي رجوعه إلى حضن الله. والمثل الثاني يوضح حزن الله على ضياع الخاطئ ويرفع من قيمة الخاطئ عنده أكثر بكثير مما هو عند الإنسان. ويجيء هذا المثل الثالث وهو يأخذ خط المثلين السابقين فموضـوعه هو الخاطئ وعودته، ولكن يقع التركيز الكبير والنهائي على الله في هذا المثل بالذات، وفيه تظهر التوبة كيف تفرح قلب الله الآب وتحقق عودة العلاقات بين الإنسان والله. وكأن المسيح يخاطب الفريسيين الناقدين على علاقته بالخطاة: أي إنسان منكم لا يفرح بخروف أنقذ مـن الموت أو مال ضائع فوجد أو نجاة إنسان الهلاك؟
أما علاقة المسيح بالعشارين والزواني والخطاة فكانت الفرح بهم لأنهم تابوا وآمنوا به وتبعوه، ولكي يظهر لهم منتهى حبه كان يقبل الأكل معهم، لأن في كسر الخبز” كان يستعلن سر المسيح ودون أن يدروا كانوا ينالون منه قوة ونعمة لتنفتح أعينهم ويدركوا خلاصهم.
11:15و12 «وقال: إنسان كان له ابنان. فقال أصغرهما لأبيه: يا أبي أعطني القسم الذي يصيبني من المال. فقسم لهما معيشته».
يلاحظ أن الابن الأصغر طالب أباه بنصيبه من المال فأخذه كله، بحيث لم يعد له عند أبيه أي أحقية شرعية أن يرعاه لأنه طلب الانفصال وحققه. هذا نفهمه من قوله وهو في الغربة المرة: «أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقاً بعد أن أدعى لك ابناً. إجعلني كأحد أجراك» (لو 15: 18و19). أي لم يعد له نصيب الابن بسبب القسمة التي طلبها وبددها. ومعروف أن البكر يأخذ نصيباً مضاعفاً في الميراث، ويبدو أنه فعلاً أعطى الابن الأكبر ما يخصه من مال، لذلك احتج لميا ذبح الأب للابن الأصغر العجل المسمن قائلاً إنه لم ينل منه حتى جدياً بنوع من الهدية، لأن كلا الأخين أخذ ميراثه، والمطالبة هنا بالجدي في مقابل العجل، وهذان ليس من حقهما. كذلك يحتج الابن الأكبر أنه كان يعمل مع أبيه في الحقل أمّا الأصغر فكان حرا وفصل نفسه ولم يعد يخدم أباه. نخرج من هذه التفاصيل أنه كانت هناك محاباة واضحة من الأب للابن الأصغر. والواضح . هنا أن الأصابع تشير إلى الجزء الأصغر والأحقر في شعب الله، أي العشارين والخطاة الذي تحول وأصبح الأمم فيما بعد. وهذه نظرة المسيح البعيدة في المثل. ولكن لا ننسى أن الناموس كان يحابي الابن الأكبر لأنه بكر بأن يأخذ ضعف الأصغر !! لذلك يظهر الابن الأكبر أنه حاقد على أخيه مع أنه مميز، والأصابع هنا تشير إلى الجزء الأرستقراطي في الشعب: كتبة وفريسيين وناموسيين وكهنة ورؤساء كهنة، الذي سيتحول في العهد الجديد إلى عظماء الأمم.
13:15 «وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الإبن الأصغر كل شيء، وسافر إلى كورة بعيدة، وهناك بذر ماله بعيش مشرف».
«جمع … كل شيء»:
جمع كل شيء في اللغة اليونانية بحسب العلامة كريد تفيد أنه حول كل الممتلكات إلى نقود، وفي هذا الإجراء نوع من الجفاء في حق الأب أخلاقياً، فكأنه اعتبره أنه قد مات. وهذا كله يضاف لحساب احتمال الأب ومحبته وعطفه على الأصغر. وهذا التصرف في عرف اليهود كان يمكن قبوله ومدحه لو كان قد ذهب إلى مدينة وتاجر وربح. ولكن للأسف ذهب وبذر معيشته (كل ما يخصه) بعيش مسرف”. وهنا أيضاً هذا الاصطلاح يجيء في اليونانية باحتمال الصرف على الخطية أي بصورة غير أخلاقية. وهي كلمة مشتقة من كلمة .. التي تعني: “الخلاعة” كما في أفسس 18:5.
14:15و15 «فلما أنفق كل شيء، حدث جوع شديد في تلك الكورة، فابتداً يحتاج. فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة، فأرسله إلى حقوله ليرعى خنازير».
حبك القصة هنا نادر وجميل، فالمسيح افتعل الجوع الذي سيؤدي حالاً إلى عودة الابن إلى أبيه، وهذه اللفتة البديعة تُضاف إلى عين الأب الساهرة على الخطاة كيف يفتعل الأزمات والضيقات في وجههـم ويضيق عليهم حتى يشعروا بخطئهم، ثم يستثير عواطفهم في التعب والجوع ليدركوا أن هذا بسبب خطيتهم فيفكروا في العودة والتوبة. وهذا ما تم في هذه القصة العجيبة.
هنا تأتي المقارنة في ضمير الابن الأصغر بين رفاهية الحياة مع أبيه وبين حياة المهانة والجوع والعوز بعيداً عن أبيه (الله). بعد كرامة البنوة صـار عبـدأ يخدم النجاسة. والخنازير كناية عن عيشة الخطية. ويلاحظ هنا أن الخنازير نجسة عند اليهود (لا 7:11)، ورعاية الخنازير خدمة ملعونة عند اليهود وهي تفيد خدمة الخطية وبالذات النجاسة: [ملعون الرجل الذي يربي خنزيراً وملعون الرجل الذي يعلم ابنه حكمة اليونان].
16:15 «وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلم يعطه أحد».
«الخرنوب»: Pods of carob. Ceratonia siliqua
وهو ثمرة الخروب العادية التي يصنع منها شراب الخروب، ولكن الخروب الجبلي لا طعم له إذ هو فاقد السكر وقاس في جفافه. ومن الكلام يفهم أ أنه اشتهى ولم يجد! منتهى المذلة، إلى هذا الحد تنتهي خطية الزنا بالإنسان العاق. وهو مثل يهودي حبكه المسيح في هذه القصة أن فلاناً إبتلي بالفقر والجوع حتى إلى أكل الخروب. الخطية قادرة أن تذل كبرياء العاصي والمتمرد، لأن عين الله سهرانة كيف وإلى أي حد تؤدب.
17:15 «فرجع إلى نفسه وقال: كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعاً!»
وهكذا حسب المثل حينما يجوع الإنسان وتحفى (من الحفا أي الرجل العارية) قدمه يفيق إلى نفسه! فابتدأ يذكر عن أبيه وراحة أجرائه وهو يهلك جوعاً. إلى هذا الحد تقسو يد الله على الخاطئ المكابر حتى يعود إلى صوابه، ولكنها قسوة الرحمة والعين الساهرة.
18:15و19 «أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقا بعد أن أدعى لك ابنا. إجعلني كأحد أجراك».
وهكذا الابن إذا تمرد على أبيه يذهب ويعود سائلاً أن يصير أجيراً. وهكذا احتقر الإنسان بنوته لله وخرج من لدنه إلى اللاعودة، وبممارسة الخطية فقد صورة البنوة واسمها وكرامتها وصار عبد وهكذا لزم أن ينزل الابن” من لدن الآب ويتغرب مع الإنسان ويذوق معه البعاد ولو إلى لحظة: « إلهي إلهي لماذا تركتني» (مت 46:27)، ليعود إلى الآب حاملاً الإنسان وقد استعاد له عند الله مكاناً عن يمين الآب وفي قلبه، ولكن بتكلفة باهظة كلفت الآب أن يموت الابن على الصليب ليحيا الإنسان كابن من جديد ـ وصارت هذه التكلفة عينها رصيداً دهرياً أبدياً يصرف منه الخطاة، كل الخطاة، حق العودة إلى الآب، لا كأجراء بعد ولكن كأبناء لهم كل ما للابن من حب وميراث. فإذا فتشنا في قصة الابن الضال تفتيشاً واعياً فإننا نجد أن عودة الابن تصح أن تكون عنواناً لها وليس ضلالة الابن، لأنه لولا الجلجثة ما عاد ابن وما غفرت خطية وما فهم الإنسان معنى أبوة الله. لأن المسيح لم يرفع الإنسان من ضلاله بل من الهلاك «كان ميتاً فعاش».
20:15 «فقام وجاء إلى أبيه. وإذ كان لم يزل بعيداً رآه أبوه، فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله».
أخطر آية في هذه القصة المثيرة: «فقام وجاء إلى أبيه». هذه الحركة احتاجت من الابن أن يموت على الصليب بالجسد (البشرية) لكي “يقوم ويذهب إلى الآب” فتقوم فيه البشرية وتجيء إلى الآب. وهي أعظم حركة إيجابية في القصة كلها وعليها يدور الحديث والوصف وكل التعبيرات !
إن أحوج درستحتاجه المسيحية الآن هو الدرس الذي يعلم الخاطئ كيف يقوم ويذهب إلى الآب. هنا نتعجب أن المسيح لم يذكر أن الأب قام وفتّش عنه وأرسل المنادين وقصاصي الأثر، بل ظل جالساً في بيته يحتل بكل رزانة سلطانه الأبوي. صحيح أن المسيحية تحتاج إلى المعلم والواعظ والأب الروحي والرئيس، ولكن كل ذلك اختفى من هذه القصة. فهذه القصة تقوم على أساس أن الابن عرف اللحظة الحرجة التي فيها يقوم ويذهب إلى أبيه. وهنا ينبغي أن نقف ونقول: إذا لم يتأسّس الإنسان على معرفة روحية صحيحة فلن يعرف متى يتوب ويعود إلى الله. وأجمل ما في هذه القصة أن في اللحظة التي تحرّك فيها الابن نحو أبيه واطمأن لها الأب قام الأب وركض لاستقباله بكل عطف وحنان الأبوة.
23-21:15 «فقال له الابن: يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقا بعد أن أدعى لك ابنا. فقال الأب لعبيده: أخرجوا الحلة الأولى وألبسوه، واجعلوا خاتماً في يده، وحذاء في رجليه، وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح».
لما ابتدأ الابن أن يتلو ما حفظه لنفسه طول الطريق من اعتذار وتأسف شديد، لم يسمع له الأب وانشغل خصيصاً كيف يعد له الوليمة، والخاتم والحلة والحذاء والعجل المسمن. هنا الابن العائد إلى أبيه يحكي قصة خجله وما عمله وما تأتى من عمله، والأب يحكي قصة حبه وأبوته وحنانه المذخر له في قلبه. هنا المصالح كأنه غائب؛ ولكن العجب العجاب أنه هو هو الذي يحكي هذه القصة حيث رجعة الإنسان إلى الله قامت على دم صليبه. وهكذا تماماً «إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه »(2کو 19:5). ولذلك فإن هذه القصة المتقنة على المستوى البشري يتركز سرها الأعظم في عمل المسيح كمصالح أخفى نفسه في القصة، ولكن القصة تقوم كلها عليه إذ لا يمكن أن يفوت علينا أن القصة في اصلها هي عن المسيح وحبه للخطاة.
أما الحلة والخاتم والحذاء والعجل المسمن فكلها تنتهي بعبارة: «لنفرح» هذا فرح الله والملائكة والسماء. كما قالها ق. لوقا في بداية الأصحاح: «أقول لكم إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب» (لو 7:15)، «هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب.» (لو 10:15)
24:15 «لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوجد. فابتدأوا يفرحون».
«كان ميتاً فعاش» جملة خطيرة تخفي في طياتها حقيقة كانت مختفية، وهي التي جعلت قلب الأب يخرج هكذا عن رزانته في شدة فرحه وإظهار عاطفته وإقامة الحفلة الكبيرة. يبدو أن الابن الأصغر كان على خلاف مع أبيه فقرر أن يخرج ولا يعود، هذا هو التفسير الوحيد وراء قول الأب إن ابني هذا كان ميتاً فعاش، بجوار انغماس الابن في الإسراف وفي الخطية حتى جاع وتعرى، فهي أيضاً حالة موت أدبي وروحي معاً. ولكن هذا وذاك يعطينا صورة باهتة عن حالة الإنسان عموماً في بعده عن الله الذي كان بشبه طرد من أمام وجهه وتجريده من الميراث السماوي، ثم بعد ذلك الانغماس في الخطية والعصيان حتى ابتعد نهائياً عن العلاقة الأولى مع الله. فالمسيح أنقذ الإنسان من الموت الأدبي والروحي الذي هو الهلاك بعينه لدى الله، بل ومضاف إلى الموت حكم لعنة.
فعودة الابن بهذه الصورة كان وراءها مصالح، كما سبق وقلنا، لم يظهره المسيح في القصة لأن زمانه لم يجيء بعد.
«فابتدأوا يفرحون» من هم؟ واضح أنه أسلوب شفاف يكشف عن جوقة سماوية من الملائكة، باستعداد أمر الأب للتسبيح والفـرح بجوار الخدم، بجوار العجل المسمن والمطهي أيضاً. هكذا تفـرح السماء والأرض بالإنسان العائد إلى أبيه السمائي!!
27-25:15 «وكان ابنه الأكبر في الحقل. فلما جاء وقرب من البيت، سمع صوت آلات طرب ورقصاً. فدعا واحداً من الغلمان وسأله: ما عسى أن يكون هذا؟ فقال له: أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن، لأنه قبله سالماً».
والآن وبفم المسيح المبارك يحاول أن يختم القصة، فظهر الابن الأكبر في الأفق وقرب من البيت وسمع ما سمع. وهنا يستشف القارئ من هو الابن الأكبر الآتي بغضبه، إذ ليس إلا هؤلاء الكتبة والفريسيين الغاضبين على كيف يأكل المسيح ويفرح مع العشارين والخطاة. ولكن السؤال الماكر هل الابن الأكبر لم يكن في سلام مع الأب حتى يهمله هكذا دون أن يرسل لـه الخـبر المفـرح للمجيء؟؟ نقصـد هنـا الفريسيين الذين يجهلون ويتجاهلون لماذا يحب المسيح الخطاة ويقيم معهم وليمة حب وعودة؟ و «سمع صوت آلات طرب» (غالباً آتية من فوق)! «ورقصاً» (ذا صفين كما في نشيد الأنشاد 13:6) = corin (خوارس)، ومن الخدم علم القصة كلها وأدرك أن الفرح والرقص والطرب لأن الابن الأصغر حضـر سالماً. وهنا والمسيح يقص القصة والفريسيين يصرون بأسنانهم!! لأن القصد مكشوف.
28:15و29 «فغضب ولم يرد أن يدخل. فخرج أبوه يطلب إليه. فأجاب وقال لأبيه: ها أنا أخدمك سنين هذا عددها، وقط لم أتجاوز وصيتك، وجدياً لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي».
واضح هنا عداوة رابضة في القلب تجاه الابن الأصغر، جعلته يعترض على هذا الاحتفال بقدوم ابن عاق لم يصنع مع أبيه ما يستحق هذا كله، وكان غاضباً. ولكن الأب يبدأ بالسؤال والملاطفة حتى يدخل ولكنه كان غير مهذب في الحديث مع أبيه. وابتدأ يعدد حسناته بجوار مساوئ أخيه، وكيف كان يخدم طائعاً وصايا أبيه ومع ذلك لم يفز : بجدي واحد. المسيح هنا يعكس مشاعر الفريسيين كما كان يراها المسيح والكنيسة الأولى، والمسيح حاد في أوصافهم لكي يفهموا ويتحركوا ليأخذوا موقفاً صحيحاً قبل أن تضيع عليهم الفرصة. لقد رفضوا الفرح بالمسيح كالزناة والعشارين فخرموا منه في السماء.
30:15 «ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني، ذبحت له العجل المسمن».
وكأنه ليس أخاه إذ دعاه: «ابنك هذا» باحتقار الفريسيين المعهود للعشارين والخطاة، ولم يجد في أخيه ما بالأخوة بل اعتبره قد بدد معيشة الأسرة وأتلف أموالها على الزواني، وهو لا يملك يسمح برهاناً واحداً على ادعاءاته بعيشة الزواني هذه.
31:15و32 «فقال له: يا بني أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك. ولكن كان ينبغي أن نفرح ونُسر، لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوجد».
الأب يوضح حقيقة أراد الابن الأكبر أن يتجاهلها لكي يصب غضبه على أخيه وأبيه، وهي بما أنه هو الابن الأكبر فالثوابت في الأرض والملكية كلها ستؤول إليه لأنه الابن البكر: «كل ما لي فهو لك قانونياً، لذلك وضح ادعـاء الابن الأكبر. ولكن بالرغم من أن كل شيء هو لك أما كان يتحتّم وأخوك هذا كان في حكم الأموات وها هو يحيا، أن نفرح ونسر؟ لأنه كان الأوجب على الابن الأكبر أن يفرح بعودة أخيه ويسر. ولكن السؤال الخطير يبقى في النهاية هل يدخل الابن الأكبر ؟؟
تفسير إنجيل لوقا – 14 | إنجيل لوقا – 15 | تفسير إنجيل لوقا | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل لوقا – 16 |
القمص متى المسكين | ||||
تفاسير إنجيل لوقا – 15 | تفاسير إنجيل لوقا | تفاسير العهد الجديد |